الرئيسية / الاستشراق والسيرة النبوية.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : الاستشراق والسيرة النبوية.

الكاتب(ة) : د. مصطفى المسلوتــــي

الاستشراق والسيرة النبوية

الدكتور مصطفى بن عمر المسلوتي
جامعة ابن زهر ، أكاير

مقدمة:

  توجد بين شعوب العالم أمم تركت حضارة عظيمة وتراثا خالدا مثل شعوب الشرق الأقصى كالصين والهند وغيرها. وقد اهتم بها الغربيون وكتبوا عنها وحولها، غير أن عنايتهم بالعربية والإسلام كانت أكثر وأغزر. وهذا من الدلائل على عظمة هذا الدين وصلاحيته حيث قيض الله له أناسا من غير أهله يحفظون تراثه ويعتنون بكتبه وينشرونها محققة مترجمة بعد أن كانت في عداد المفقود أو مظنونا بها على أهلها.
  وما دامت مجالات الاستشراق متسعة جدا تتضمن قرونا من الدراسات وأجيالا من الدارسين وخليطا من المناهج يصعب حصره، كان من اللازم حصر الموضوع في جانب السيرة النبوية من اهتمامات المستشرقين، وسأكتفي بإيراد بعض النماذج طلبا للاختصار.

  وعليه، فهذا البحث المتواضع يتضمن قسمين:

  الأول حول الاستشراق: التعريف والجدوى، والثاني حول جذور الدراسات الاستشراقية عن السيرة النبوية والعقبات التي واجهت المستشرقين في دراسة حياة الرسول . وأختم ببعض الملاحظات التي تعين الباحث في دراسات المستشرقين حول السيرة النبوية.

1 – الاستشراق وأشكال المصطلح:

  لقد كثر الحديث عن الاستشراق إلى درجة صرفت الدارسين عن التمعن في المصطلح حيث أصبح حقلا معرفيا مشهورا بمواصفات وشخصيات مألوفة لم تعد تحوج الدارسين إلى التمعن فيها والتدقيق في هويتها.

  ونحن نؤكد على العكس من ذلك أن الاستشراق ليس مصطلحا واضح الملامح دالا على معنى محدد، حيث عبر عنه كثير من الباحثين والدارسين بتعابير شتى بعضها غامض وهذا ما دفع بعض الدارسين إلى القول بأنه ليس هناك تحديد واضح لمفهوم الاستشراق بل تعتمد قوة الحديث عنه عن منطلقات المتحدث نفسه وهذه المنطلقات متعددة ومتفاوتة.

  إن كلمة “استشراق” مأخوذة من أصل عربي هو “شرق” ومصوغة على وزن عربي هو “استفعال” غير أنها لم ترد في القواميس العربية كما لم تذكر في كتب التراث وحتى بعض المعاجم العربية الحديثة أغفلتها ورغم ذلك فقد أخذت هذه الكلمة مكانها ضمن المفردات العربية المستعملة بسبب أهمية الحقل الذي تمثله.

  لن نستعرض تعاريف الدارسين الغربيين والعرب للاستشراق فهي كثيرة متشابهة تتميز باختلاف الرؤى وغلبة العموميات وانعدام الدقة المطلوبة في القضايا العلمية الصرفة مثل هذا الموضوع وهذا ما جعل الدكتور إدوارد سعيد يقول عن حق “بأن مصطلح الاستشراق غائم وعام إلى درجة مفرطة”، ولا أدل على ذلك من تعاريف المستشرقين أنفسهم فقد ورد في معجم لاروس”، بأنه “مجموعة المعارف المتعلقة بالشعوب الشرقية ولغاتها وتاريخها وحضارتها”، كما يقول عنه رودي باريت بأنه “علم الشرق أو علم العالم الشرقي”.

  وهذان التعريفان يكفيان وحدهما للتدليل على التضارب الحاصل في هذا المجال بين المعنى العام والمعنى الخاص للاستشراق وبيان العموم الغالب على جل التعريفات وهذا ما جعل الاستشراق فضفاضا يتقبل إشكالات من المعارف وأخلاطا من المناهج وألوانا من الكاتبين والكتابات حتى أصبحنا نجد ضمن الدراسات الاستشراقية دراسات الأدباء والفلاسفة والمؤرخين والرحالين والمغامرين الذين كتبوا عن الشرق بشكل عابر بعد صدمة حادة أو شعور مؤقت بالإعجاب.

  وقد فطن رضوان السيد في مقاله التمهيدي حول ملف الاستشراق في مجلة الفكر العربي إلى هذه القضية عندما تساءل قائلا: “ويفضي بنا هذا كله إلى طرح التساؤل الكبير المضمر والظاهر في الوقت نفسه: ما هو الاستشراق؟ ومن هم المستشرقون؟ إن المهتمين بالمشرق قديما –لنقل منذ القرن 18– كان منهم الرحالة والمبشرون والضباط ورجال الإدارة الاستعمارية واللغويون واللاهوتيون والانتربولوجيون ومؤرخو الحضارات والرومانسيون والأركيولوجيون وأضيف إليهم منذ مطلع هذا القرن التربويون ورجال المخابرات والمؤرخون الاقتصاديون ومتدربوا الشركات وخبراء الأسواق التجارية والسياسيون وذوو النيات الطيبة من المهتمين بحوار الشرق والغرب وعلاقات المسيحية بالإسلام وطبيعي ما دامت زوايا الاهتمام ودوافعه متباينة أن تتباين نتائج الدراسات ووجوه استغلالها”.

  وما يمكن استنتاجه من هذه القولة هو تباين زوايا الاهتمام بالشرق وتنوع دوافعه مما يؤثر على نتائج الدراسات، كما أن كل من درس الشرق لا يعد بحال مستشرقا ما دام لا يستجمع الأدوات الضرورية لذلك، كما أن بعض الدارسين العرب للاستشراق مخطئون لأنهم يسوقون كل من درس الشرق بعصا واحدة ما دامت المعايير والمقاييس التي تحدد المستشرق من غير المستشرق منعدمة.

  وفيما يلي بعض الضوابط والمعايير التي تنير السبيل وتعين على تحديد دقيق لمصطلح الاستشراق، ويمكن استخراجها من خلال تأمل الدراسات الاستشراقية نفسها، ومن خلال الرجوع إلى القوائم البيبليوغرافية للمستشرقين مثل أعمال “ديربلو” و”دوغا” و”جول مول”، وأعمال الدارسين العرب أمثال “العقيقي” و”عبد الرحمان بدوي” و”صلاح الدين المنجد”، ومن هذه المعايير:

أ– أن يكون المستشرق غربيا لا شرقيا، وإلا فقد المصطلح مدلوله اللغوي على الأقل فالشرقي لن يكون مستشرقا مهما استعار من المناهج الغربية، فليس هناك شيء اسمه استشراق عربي والحيثيات التي يبنى عليها بعض الدارسين انتساب بعض المفكرين العرب لحقل الاستشراق متهافتة.

  لهذا نجد الدكتور عمر فروخ ينتقد العقيقي لإدخاله ضمن قوائمه كثيرا من العرب والمشارقة قائلا بأن “المستشرق هو الغربي الأوربي أو الأمريكي غير المسلم ومن كانت لغته غير العربي، ونحن لا نتفق معه في معياري التدين واللغة حين يخرج كثيرا ممن أسلموا من زمرة المستشرقين من أمثال “عبد الكريم جرمانوس” و”علي محمدوف” و”ليوبولد فايس” وآخرين، ذلك أن إسلام المستشرق من عدمه لا يغير من الأمر شيئا، فكثيرون ممن أسلموا لم يغيروا من مناهجهم وطرق تفكيرهم، كما أن في دراسات كثير من المستشرقين موضوعية وعلمية رغم عدم إسلامهم، وفيما يتعلق بمعيار اللغة فهو واسع جدا يدخل ضمنه كثير من الدارسين الشرقيين المهتمين بحضارة فارس والصين والهند وغيرها وما أكثرهم…

ب – المعيار الثاني : التخصص.

  ومعناه الدراسة الأكاديمية للشرق في جميع المجالات تلك الدراسة التي تأخذ من وقت الباحث وجهده حظا وافرا وتجعل لقب المستشرق يغلب على وصفه من بين الألقاب الأخرى.

  وقد نبه على أهمية التخصص كثير من الدارسين، فإدوارد سعيد يؤكد أن لفظ الاستشراق لفظ أكاديمي صرف وأن الدلالة الأكثر تقبلا للاستشراق دلالة جامعية، بحيث يكون كل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه وبحثه في شتى المجالات مستشرقا وما ينتجه استشراقا”. كما يقول الدكتور سالم حميش عن المستشرق بأنه “العالم المتخصص في معرفة الشرق ولغاته وآدابه”.

  ومن الطبيعي أن يكون لكل تخصص أدوات معرفية ضرورية تتجلى بالنسبة للاستشراق في التوغل في الآداب والتقاليد الشرقية والإلمام باللغات وجوانب المواضيع المدروسة حتى إذا ذكر الباحث يكون اسمه مقترنا بسلسلة من المقالات والبحوث والدراسات الرصينة ويكون بذلك مستحقا للقب مستشرق جنبا إلى جنب مع البارون سلفستر دوساسي وكارل بروكلمن ونولد كه ولويس ماسنيون وآخرين.

  وليس المقصود بالتخصص تحديد كم معرفي يصبح من تجاوزه في عداد المستشرقين فكثيرون هم المستشرقون المقلون في إنتاجهم ورغم ذلك فهم جديرون بهذا اللقب لإلمامهم بمواضيع دراساتهم وكفاءاتهم العلمية المشهود بها.
ومعيار التخصص هو الذي يمكننا من معرفة المستشرق من غير المستشرق فلا يمكن أن نقبل ضمن الدراسات الاستشراقية تلك البحوث التي كتبت عن عجل أو جهل مطلق بالشرق ولغاته وعاداته وقيمه، إذ لا يكفي أن يتحدث غربي عن الشرق بشكل عابر ليأخذ مكانه ضمن لائحة المستشرقين مع هنري كوربان الذي شغله السهروردي قرابة ثلاثة عقود وبلغت أثاره مائة وسبعة وتسعين عنوانا، ولويس ماسنيون الذي أفنى عمره في دراسة الحلاج وتربو أعماله عن ستمائة وخمسين عملا، وشارل بيلا الذي كتب أربعمائة وعشرين دراسة عن الحلاج أغلبها في كتب كما نشر أحد عشر نصا من نصوصه. وهو تسما وفنسك الذين أمضيا عقودا في إعداد وإنجاز الموسوعة الإسلامية والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي وغيرهم كثير.

ج – المعيار الثالث: وهو تاريخي يهتم بتحديد تاريخ بداية الاستشراق.

  فقد عرف هذا العلم مثله مثل بقية العلوم زمن الولادة والنشأة ثم القوة إلى أن أصابه اليوم ما أصابه من ضعف وفتور وتأزم.

  والدارسون مختلفون حول هذه القضية فإدوارد سعيد “يلمح بشكل غير مباشر إلى توغل الاستشراق في القدم عندما يتحدث عن هيرودوت والأسكندر وزيارتهما للشرق”.

وهذا الرأي يخالفه فيه بعض من ناقشوا كتابه وهم كثيرون ومنهم جلال صادق العظم الذي يؤكد أن الاستشراق ظاهرة حديثة حقا وفعلا أفرزتها القوى الحية لتاريخ أوربا البورجوازية في العصر الحديث وأنه كغيره من الحركات الحديثة المشابهة لجأ في جملة ما لجأ إليه إلى المادة الفكرية والأدبية والشعبية المتوارثة منذ القدم في أوربا حول الشرق.

  وإذا كان كلام “إدوار سعيد” موغلا في المبالغة ويكرس شوفينية الغرب فإننا كذلك نخالف الأستاذ “جلال صادق العظم” فيما ذهب إليه من أن الاستشراق ظاهرة معرفية حديثة ذلك أنه لم يأت من فراغ، فرغم تأخر الاعتراف بالمصطلح إلى عام 1779م و1799 بالفرنسية وتبني الأكاديمية الفرنسية له بشكل رسمي عام 1838م، فقد كان موجودا وفرض نفسه إلى أن تم الاعتراف به، ولم يكن العقيقي بعيدا عن الحقيقة عندما جعل الاستشراق يمتد في مسيرة طولها ألف عام وسمى أوائل الغربيين الذين اهتموا بالشرق طلائع المستشرقين.

  هذا عن الدراسات الشرقية عامة أما الدراسات العربية الإسلامية، فالبعض يرجع بها إلى زمن البعثة النبوية ومحاججة اليهود للنبي ، بينما يؤرخ البعض بدايتها بظهور القديس يوحنا الدمشقي وتآليفه السجالية مع المسلمين في العهد الأموي، وما نتحدث عنه نحن بعيد عن هذا وذاك لأن محاولات اليهود والنصارى في فجر الدعوة الإسلامية وكذا مؤلفات يوحنا الدمشقي وغيره لا تخرج عن كونها سجالا شرقيا لا علاقة له بحقيقة ما نحن بصدده.

د – المعيار الرابع : مجال الدراسة.

  فالإضافة الهامة التي جاء بها الاستشراق كونه نقل أوربا بعد عصر النهضة من التوغل في الماضي اليوناني إلى الاهتمام بالشرق الشيء الذي فتح أمامها آفاق جديدة في العلم والمعرفة.

  ولم يتحدد حقل الاستشراق دفعة واحدة حيث بدأ بسيطا لا يعني أكثر من معرفة عدد محدود من لغات الشرق مثل العربية والعبرية والتركية والفارسية، ثم أخذ في الاتساع ليشمل شعوب آسيا وحضاراتها وشمال إفريقيا وأجناسها وأديانها وطبائعها، وهذا التوسع المفرط هو الذي جعل الأصوات ترتفع وتدعو إلى نشأة مصطلح أضيق وأدق داخل حركة الاستشراق وهو مصطلح “الاستعراب”، ويطلق على الدارس في إطاره اسم مستعرب (Arabisant ) أي مهتم بالدراسات العربية والإسلامية، وقد تلون الاستعراب بألوان المستعربين وخلفياتهم الدينية والعرقية والإديولوجية وأصبح مصنفا تصنيفات مختلفة بعضها موضوعي وبعضها جغرافي والبعض الآخر عقدي إيديولوجي وكلها لا تخرجهم عن دائرة الاستشراق.

   2 –  هل انتهى عصر الاستشراق:

  لقد ارتفعت في الآونة الأخيرة بعض الأصوات منادية بالتخلي عن نقد الاستشراق متعللة بتضاؤل مؤسساته وتخليه عن سالف أهدافه ومناهجه وأصحاب هذا الرأي يعتبرون أن نقد المستشرقين يعتبر سجالا في الفراغ ومناوشة مع الأشباح ومضيعة للوقت وهم يتصورون عن يقين أن الاستشراق يوشك على الانقراض والزوال.

  لقد كتب روزماري صايغ في مجلة العربي مقالا تحت عنوان “نهاية الاستشراق”، كما صدر في عام 1978 في لندن كتاب تحت عنوان “ماركس ونهاية الاستشراق” لبراين تورنر. وأعلن من قبل في مؤتمر المستشرقين التاسع والعشرين المنعقد بباريس صيف 1973 عن موت الاستشراق وحلول العلوم الإنسانية المعنية بالشرق بديلة عنه، حيث كان هناك إجماع على إسقاط هذا الوصف، وأراد بعض المستشرقين وضع حد لسلسلة المؤتمرات على أساس أن هذه المهنة لم يعد لها وجود وأن المؤتمر بالتالي قد استنفذ أغراضه غير أن إرادة الاستمرار في البقاء المألوفة بالنسبة للمؤسسات كانت من القوة بحيث حالت دون حل المؤتمر، غير أن التحرك الذي استهدف إلغاء اصطلاح مستشرق كلل بالنجاح.
وعوض مصطلح النهاية والموت يفضل آخرون مصطلحات الأزمة والركود والانحسار، حيث أصبح الاستشراق في نظرهم جزءا من تركة الماضي أكثر منه مشروعا للمستقبل وأنه أعطى أحسن ما عنده خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

  وقد وقف الدارسون العرب من هذه القضية مواقف متباينة، فطائفة تقول بنهاية حتمية للاستشراق وتورد الدلائل على أنه في حالة احتضار ومنهم “محمد أركون”  والدكتور “حسن حنفي”، و”هشام جعيط”، و”سالم حميش” الذي يشعرنا بذلك من خلال العنوان الذي اختاره لكتابه وهو: “الاستشراق في أفق انسداده”، فكل هؤلاء يجمعون على أن الاستشراق ماض إلى زوال ويهونون من أمره ويرون أنه من العبث الاستمرار في نقده وبيان أخطائه… ومن بين هؤلاء من يقول بانتهاء الدراسات العربية والإسلامية كعلم وتخصص وحلول معاهد البحوث السياسية والاجتماعية والاقتصادية محله ويؤكد على أن مفهوم الاستشراق بمعناه الكلاسيكي التقليدي قد زال لصالح مفهوم الشرق الأوسط بمعناه الأمريكي، وهذه النظرة يشاركهم فيها بعض المستشرقين الذين ينعون باللائمة على المتخصصين الجدد الذين لا يعرفون لغات الشرق ولا تاريخه ويسمون بخبراء الشرق الأوسط دون أن يعرفوا شيئا وينعتونهم بمستشرقي برميل النفط الذين يجدون مع ذلك من يصدق خبرتهم ويطبع دراساتهم ويقرؤها.

  وهناك طائفة أخرى لا تصدق بما تقوله الطائفة الأولى وتؤكد على أن تغيير الأسماء لا يغير من الواقع شيئا، والدليل على ذلك هو استمرار المستشرقين في عقد مؤتمراتهم مع توسيع العضوية فيها وزيادة عدد المجلات الاستشراقية الصادرة في كل البلدان الأوربية، وازدياد نشاط أقسام الدراسات الشرقية في الكثير من الجامعات الغربية والارتباط الوثيق مع الدوائر السياسية والاقتصادية والتبشير واحتفاظ كثير من هذه الدراسات بالروح العدائية للإسلام والرؤية الاستعلائية. ومن أبرز أصحاب هذا الرأي “عبد الحليم عويس” والأستاذ “أنور الجندي”، والدكتور “محمود حمدي زقزوق”، والدكتور “حسن الأمراني” الذين يرون أن القول بنهاية الاستشراق لا معنى له بل يوجد في مرحلة تجديد يحاول فيها أن يغير من أساليبه وطرق عمله، وأنه قد ينتهي مصطلحا لكنه لا ينتهي فكرة لأن مصالح الغرب في العالمين العربي والإسلامي كثيرة منها الرغبة في الهيمنة الاقتصادية والثقافية والتمكين لدولة إسرائيل وإيقاف الصحوة الإسلامية…

3 – تطور نظرة الغربيين للسيرة النبوية:

  لم يحتفظ لنا التراث الإسلامي في زمن البعثة بآثار مهمة عن تصور المسيحيين للرسول  سوى ما جاء في القرآن الكريم وروايات الحديث، وبعد وفاة الرسول  استمر الإسلام في الانتشار بينما شهدت المسيحية انحسارا متواصلا وهنا ظهرت تصورات جديدة عن الرسول  في البلاد المفتوحة تغذيها كتابات علماء الكلام المسيحيين الشرقيين مع الرهبان ورجال الكنيسة وكلها حقد وتشويه لحياة الرسول الكريم والإسلام. ومن أبرز هؤلاء الكتاب: يوحنا الدمشقي وعبد المسيح الكندي وتيودور أبي قرة وإيليا النصيبي وقد تركوا كتبا ورسائل تنسب إليهم لم تكن سيرا مكتملة بمعنى السير ولم يكونوا مستخبرين بما يكفي عن حياة الرسول ، ولم تخرج كتاباتهم عن الحرب الكلامية والغمز واللمز في الإسلام والرسول، وعلى هذه الكتابات سوف يعتمد كتاب القرون الوسطى المسيحيون.

  إلى جانب الكتابات المسيحية الشرقية هنالك الكتابات البيزنطية التي تنسب إلى بعض المؤرخين الذين عاشوا في كنف بيزنطة قبل أن يفتحها المسلمون ومن أبرز هؤلاء تيوفان وسدرنوس وهامرتلوس وبارتلمي الأديسي ولهم كذلك كتب أشاروا فيها إلى كثير من وقائع السيرة غير أن هدفهم الأساس هو بيان أن الرسول  ليس نبيا حقيقيا وأن الإسلام لا يمكن أن يكون بحال بمثل السمو والرفعة المسيحية وبالتالي فلا يمكنه أن يخلفها أو يحتل مكانها، وكانت صورة الرسول  فيها هي صورة الكذاب والدعي والمسيح الدجال ومجالا لاختلاق القصص الكاذبة والتهم التي لا أساس لها من الصحة.

  بعد الكتابات البيزنطية تأتي كتابات الرهبان والقساوسة في القرون الوسطى هنا سوف يزداد الأمر سوءا حيث تزامنت مع فترة الحروب الصليبية حيث تأجج العداء بين المسلمين والنصارى ورغبة رجال الكنيسة في التشنيع على المسلمين من أجل إثارة حماس الجيوش الجرارة. وتتسم هذه الكتابات بالجهل التام عن الإسلام والرسول ويغلب عليها الطابع الأسطوري والخرافي وأغلب كتابها يجهلون العربية ولا يعودون إلى مصادر إسلامية. ومن أبرز الوقائع التي نجدها تتكرر بكثرة قصة بحيرا الراهب أو الراهب الذي حرم من البابوية فرحل إلى بلاد العرب لإغواء محمد بالنبوة من أجل الطعن في المسيحية…

  ومن أشهر الكتاب المسيحيين في القرون الوسطى عن السيرة، جيبردينوجنت وبطرس المبجل وفانسان دو بوفي وجيوم الطرابلسي وآخرون، وتوجد أخبارهم في مقدمات كتبهم المترجمة عن اللاتينية إلى الفرنسية والإنجليزية وأورد هنري دوكاستري قائمة طويلة بأسمائهم وكتاباتهم في كتابه الإسلام خواطر وسوانح وكذا عبد الرحمان بدوي في كتابه الحافل دفاع عن السيرة النبوية ضد المنتقصين من قدرها.

  ونجمل القول بأن هذه الكتابات كانت سلاحا دعائيا ضد الإسلام تستهدف النصارى قبل المسلمين لبعث الثقة في قلوبهم بأن المسيحية هي الدين الحقيقي الذي لا ينبغي الخروج عنه. لذلك وقع التركيز فيها بشكل لافت على أسطورة بحيرى مع اختلاف يسير في التفاصيل والغرض هو إظهار الإسلام في صورة دين مارق انتسخ جل أصوله عن المسيحية.

  ولم تقف هذه الحملة بعد انصرام الحروب الصليبية بل استمرت قرونا بعد ذلك وأثرت في أجيال من الكتاب مع فرق واضح حيث نقصت حدة الهجوم وازداد الإطلاع على المصادر الإسلامية…

4- السيرة النبوية في دراسات المستشرقين الأوربيين:

  مع ظهور الاستشراق انتقلت أوربا إلى طور جديد من أطوار تصورها للرسول ، من أبرز سماته التخفيف من نبرة العداء والتعصب دون أن تنقطع، وبداية التعامل مع المصادر الإسلامية بجد، مع تنوع في المناهج وتراكم كبير وغزير في الإنتاج.
وقد اهتم المستشرقون بالسيرة النبوية اهتماما كبيرا جدا يفسره كثرة ما صنفوه فيها، لأنها تجسد قيم الإسلام بصورة عملية وشاملة، تفسر القرآن الكريم وتجلي العقيدة السليمة وتشرح أسباب ورود الحديث الشريف، وتتضمن أصول التربية والاقتصاد والسياسة وأمور المجتمع والمعاملات والأخلاق والسلوك. ثم لأنها نواة التاريخ الإسلامي الذي يتسلسل في حلقات متواصلة مبهرة إذا نجحوا في التشكيك في أساسها هانت عليهم بعد ذلك بقية الحلقات، كما أن طعونهم المتواصلة في ربانية القرآن تدفعهم إلى التشكيك في حياة من يزعمون أنه مؤلفه وهو الرسول .

  لهذه الأسباب وغيرها نجدهم يولون عناية بالغة للسيرة النبوية ويؤلفون فيها المقالات والكتب بالمئات.

  ومن حسنات المستشرقين في مجال السيرة النبوية أنهم جمعوا مخطوطاتها ووثائقها الأصلية واعتنوا بها وفهرسوها وعرفوا بها ونشروا أصولها، مثل تهذيب ابن هشام، وطبقات ابن سعد، ومغازي الواقدي، وأنساب الأشراف للبلاذري. ولولا الجهد الذي بذلوه لضاع كثير من هذه الأصول.

  كما قاموا بترجمة كثير من نصوص السيرة إلى لغاتهم، وكتبوا دراسات نقدية جيدة حول كثير من مواضيع السيرة تعج بها المجلات والنشرات الاستشراقية المختلفة.

  ومن أبرز النماذج في هذا المجال المستشرق الألماني “وستنفلد” الذي أمضى في علم الاستعراب ستين عاما إلى أن كف بصره، وأعماله تربو على مائتي عمل، وقد قدم خدمات جليلة للعلم بنشره للعديد من الكتب محققة مقابلة، خاصة في مجال اللغة العربية والجغرافية والتاريخ الإسلاميين، ومن أبرز ما نشره من كتب في السيرة النبوية سيرة ابن هشام مع تعليقات بالألمانية، والمُوَفَّقِيَات للزبير بن بكار، وكتاب عن مكة بالألمانية، وأخبار مكة للأزرقي، وأخبار مكة للفاكهي، وشفاء الغرام للفاسي، والجامع اللطيف لابن ظهيرة، والإعلام بإعلام البلد الحرام للنهرواني مع مقدمة بالألمانية، وتاريخ المدينة للسمهوري، وتاريخ أشراف مكة… إلخ

  والخلاصة أنه قل أن تجد مستشرقا بالمعنى الصحيح للكلمة ليست له دراسة أو دراسات عن السيرة النبوية مهما كان اهتماماته واختصاصاته.

  5 – لماذا لم يستطع المستشرقون فهم السيرة النبوية؟

لقد اعترضتهم العديد من الحواجز نجملها في:

  أ – الحاجز العقدي :

  فقد تشكلت الخلفية الفكرية للمستشرقين عبر الظروف التي مر منها الفكر الغربي في علاقته بالعالم الإسلامي في السلم والحرب، وكانت رواسب الحروب الصليبية والأحقاد المتراكمة جيلا بعد جيل هي التي تحدد اتجاهات المعرفة بين الجانبين.

  وقد ساهمت خلفيات كثيرة في تشكيل صورة الرسول ، وأغلبها ديني قد يكون مسيحيا أو يهوديا، وبعضها الآخر علماني أو مادي، وبعضها يرجع إلى نزعة التفوق والاستعلاء التي سيطرت على الفكر الغربي في الأزمنة الأخيرة.

  ونحن لا ننكر أن هناك طائفة من المستشرقين انطلقت بالفعل من خلفية علمية، لكنهم قليلون لا يكادون يذكرون، لأن سوقهم كاسدة لا يؤبه بهم ولا بدراستهم.

  ومع تعدد هذه الخلفيات والنزعات نجدها تجتمع أحيانا في دراسة واحدة، حيث نجد الاتجاه العلماني جنبا إلى جنب مع الاتجاه المادي أو المسيحي أو اليهودي أو الوثني كما هو الشأن عند “جوستاف لوبون” و”بلاشير “و”ماكسيم رودنسون”.
ونحن في هذا العرض لا نريد أن نفصل في هذه الخلفيات التي ينطلق منها المستشرقون لدراسة السيرة النبوية وسنكتفي ببعض الإشارات الدالة:

  ففيما يتعلق بالخلفية المسيحية، أول ملاحظة تسترعي الانتباه هي كون أغلب المستشرقين من المسيحيين الممارسين وبعضهم من الرهبان المتطرفين الذين يتسم موقفهم من الإسلام بالتكذيب والاتهامات والطعون، ويتجاوزون ذلك أحيانا إلى الافتراء والشتم والتجريح، وأسباب موقفهم هذا واضحة تعود إلى شعورهم بأن الإسلام قد أوقف زحف المسيحية وحال دون انتشارها في العالم، وخوفهم من امتداد أشعته إلى بلدانهم لبساطته ويسر أحكامه.

  ومن طعون المستشرقين ذات الخلفية المسيحية دعوى استمداد الرسول  من النصرانية فيما يتعلق بالتحنت وقصة بحيرى ورعي الغنم والقصص القرآني وفكرة يوم القيامة، وكمثال على ذلك ما يذكره “كارا دو فو” (Carra de vaux) صاحب كتاب “مفكرو الإسلام” من نقل الرسول أصول دينه عن الأناجيل المنحولة عن طريق يهود اعتنقوا المسيحية، ويستدل على ذلك بتشابه القصص القرآني.  ويقول في مكان آخر بأن الرسول  عرف جبريل من خلال البشارة الواردة في الإنجيل، وبما أنه لم يكن بمقدوره أن يعرف الإنجيل من غير واسطة فقد سمعه من أفواه بعض الفلاسفة أو الباحثين في الأديان أو أحد المتحنفين الذين وصلهم الخبر مشوها. نفس الشيء نجده عند “لويس ماسينون” و”إميل درمنغهم”. والغرض الأساس لهؤلاء كلهم أن يجعلوا القارئ الغربي يوقن بأن الإسلام ليس سوى نسخة مزيفة من المسيحية، وأن رسول الإسلام ليس سوى رجل شهواني كذاب سارق نياق، على عكس المسيح المتعفف الروحي والمتحكم في غرائزه.
وفيما يتعلق بالخلفية اليهودية، فمن المعلوم أن الاستشراق موجه في عمومه من طرف اليهود الذين تغلغلوا في أوربا منذ وقت طويل وسيطروا على ميادين المال والأعمال والسياسة والإعلام.

  والشبهات ذات الخلفية اليهودية كثيرة في دراسات المستشرقين منها الأصل التوراتي للقرآن، وادعاء استمداد الرسول  من الأحبار، والتشابه بين الإسلام واليهودية في التشريعات والصيام وطقوس الحج، والتوقف مليا عند العلاقة بين الرسول  والقبائل اليهودية في بلاد الحجاز.

  ومن أبرز المستشرقين ذوي النزعة اليهودية في كتاباتهم نذكر “جودفروى دومومبين” و”ادوارد مونتيه” و”كلود كاهين” وآخرين.

  وبالنسبة للاتجاه العلماني فقد ظهر مع انتشار الإلحاد في أوربا عندما تمادى المفكرون في الاعتماد على العلم، ورغم الإنصاف والالتزام بالروح العلمية والموضوعية التي تدعي دراسات المستشرقين العلمانيين فإنها جاءت انعكاسا للأهواء وتجسيدا للنظرة الذاتية ولم تساهم في تغيير نظرة الغربيين إلى الرسول  والإسلام، وذلك بسبب عدم إيمانها إلا بما هو محسوس، ولا تعير بالا للغيب والوحي وتنكر البعث والجنة والنار والملائكة والقدر.

  إن كل الدراسات العلمانية للسيرة النبوية تصور النبي  بمظهر الزعيم القومي أو المصلح الاجتماعي أو القائد العسكري، لكنها لا ترقى به أبدا إلى مقام النبوة ولا ترفعه إلى درجة الرسالة أسوة ببقية الأنبياء.

ومن أبرز القضايا التي نجدها تتكرر بكثرة في الدراسات الاستشراقية القول ببشرية القرآن الكريم وإنكار المعجزات النبوية، حيث لا تخلو منهما دراسة غربية للسيرة النبوية.

  يقول الدكتور “رشدي فكار”: «إن محاولة المستشرقين تحقيق مخططاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبوية والتعامل معها كتراث بشري دنيوي لا كمعبر لوحي السماء باءت بالخسران المبين، وكانت تهدف إلى إخضاع السيرة النبوية لعالم الفكر وقدراته الذهنية باسم الفضول العلمي»..

  أما الخلفية المادية فتعود إلى المد الاشتراكي الذي غزى العالم بعد الحرب العالمية الأولى، والذي تأثر به المستشرقون كثيرا حيث كان كثير منهم ينطلقون من منطلقات مادية في دراسة التراث الإسلامي، وكانت السيرة النبوية ميدانا فسيحا لتجاربهم حيث وجدوا فيه ضالتهم الكبرى للقول بأن الرسول  كان اشتراكيا وأن الإسلام دين شيوعي بامتياز.

  ومن أبرز المستشرقين الذين يمثلون هذا الاتجاه “مكسيم رودنسون” الذي يجمع في كتبه بين عيوب العلمانيين وأخطاء الماديين مع ضغط ايديولوجي واضح.

  ب – الحاجز اللغوي :

  لقد شكلت اللغة العربية حاجزا منيعا في وجه المستشرقين وحالت دون معرفتهم بكثير من أسرار القرآن الكريم وبلاغة الحديث النبوي وأحكام الفقه الإسلامي، هذا بالإضافة إلى الضغط الإيديولوجي الجارف الذي لا يمكن تغافله في هذا الجانب.

  ومن المعلوم أن اللغة العربية من أغنى اللغات العالمية، لها علومها وفنونها وأسرارها الخاصة، وهي تستعصي على من لم يتبحر فيها وتظن بكنوزها على من لم يكن من أهلها، فإذا عرفنا أن أغلب المستشرقين مستواهم اللغوي في العربية ضعيف جدا حيث أخذها بعضهم عن بعض، وبعضهم لا مستوى له على الإطلاق، من هنا نفهم كثيرا من الأخطاء التي وقعوا فيها والتي ترجع إلى هذا القصور، فهم مثلا لا يرجعون إلى معاجم اللغة لشرح الألفاظ العربية التي تصادفهم بل يغلبون استنتاجاتهم الشخصية ويستعرضون أقوال سابقيهم من المستشرقين حول الموضوع، مما فيه تنكب عن الحقيقة وبعد عن المنهجية العلمية.

  فـ”بلاشير” مثلا عند شرح كلمة “حنيفية” يقول بأنها من أصل مشكوك فيه، ثم يستدل بقول “هاليفي” الذي يدعي بأنها من أصل آرامي، ثم يرجح في الأخير أنها تطلق على بعض الإسرائيليين الذين لا يمارسون دينهم بجد، ويزعم أن الحنيفية ذات أصول مسيحية مانوية”، كما يفسر الضلال الوارد في قوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى) بالشرك والوثنية، وهي أمور تتنافي مع عصمة الأنبياء قبل النبوة وبعدها كما تتعارض مع ما عرف عن النبي  في سيرته من بعد عن أمور الشرك وآثام الوثنية.

  وهذه الأمثلة تغني عن التفصيل في هذه القضية، المهم عندنا أن نعرف أن جهل المستشرقين باللغة العربية وعدم تمثلهم للثقافة العربية الإسلامية من أبرز المداخل التي أوقعتهم في أخطاء علمية ومنهجية كثيرة.
ج –  الحاجز المنهجي:

  لقد سلك المستشرقون في دراسة السيرة النبوية مسالك متعددة أغلبها بعيد عن الموضوعية والعلمية التي يتبجحون بها، فمن ذلك إسرافهم في استخدام المناهج الغربية في البحث، وإخضاع السيرة النبوية لها تعسفا وقسرا، والاكتفاء بالقرآن الكريم مصدرا للسيرة النبوية لأنه في زعمهم من تأليف الرسول . أما تعاملهم مع روايات الحديث فيتم بتجاهل كتب الصحاح والسنن وتقديم كتب الأدب والشعر عليها مع اعتماد الروايات المكذوبة والضعيفة والإسرائيلية ما دامت تجاري وجهة نظرهم وترك الروايات الصحيحة الواضحة والمستفيضة. هذا بالإضافة إلى تغليب الهوى والخلفيات المختلفة على المنهج العلمي، حيث يردون وقائع القرآن والحديث والروايات الصحيحة لمجرد مخالفتها لأهوائهم ومعتقداتهم المسيحية وعاداتهم الغريبة، لذلك نجدهم ينكرون المعجزات الواردة في السيرة جملة وتفصيلا.

  كما يطعنون في كتاب السيرة ومدونيها ومصنفيها مثل ابن اسحاق الذي نال قسطا وافرا من تحاملاتهم ويقدمون عليه الواقدي مع أن العلماء أجمعوا على تضعيف رواياته وقالوا بعدم الاعتماد عليها خاصة فيما انفرد به.

  ومن أخطائهم في هذا المجال كثرة تحريفهم للنصوص المقتبسة مما يؤدي إلى تزييف الأحداث وهذا ما وقع فيه جولدتسيهر وهنري لامس حيث ينكرون عالمية الإسلام وينكرون بعثه  برسائل إلى الزعماء والملوك وذلك بقلب النصوص وتفسيرها تفسيرا معكوسا.

  أما المصادر التي يعتمدون عليها فهي في الغالب استشراقية بالدرجة الأولى وهي محشوة بالتعصب والجهل والحقد ضد الإسلام بينما يعتبرون المصادر الإسلامية مصادر تكميلية يستانسون بها فقط.

  ويكثرون من إصدار الأحكام بغير دليل ويكثرون من الافتراضات التي لا يبرهنون على صحتها وهذا من اجل تضليل القارئ غير المتخصص الذي يحسن الظن بنزاهتهم وموضوعيتهم ولا يميزون بين التوقعات والأقوال وبين الحقائق العلمية.

6 – خاتمة وملاحظات:

في نهاية هذا العرض لا بد من ذكر بعض الملاحظات التي تعني دارس السيرة النبوية في كتابات المستشرقين ومنها:
    1. ضرورة تمييز المستشرقين من غير المستشرقين حتى لا نسقط في الخلط والخبط وندخل في نقاش عن الاستشراق مع أناس ليسوا مستشرقين.
    2. أننا لم نفرغ بعد من الاستشراق ولا زلنا  في حاجة إلى مزيد من الدراسات حوله وفي كثير من المجالات وخاصة السيرة النبوية.
    3. لن نكون عالة على الاستشراق في فهم تاريخنا وحضارتنا ولن نسكت أيضا على ما فيها من مطاعن واتهامات لان السكوت عليها يعتبر رضى وتسليما بما جاء فيها.
    4. لا ينبغي دراسة الاستشراق كظاهرة ذات اتجاه عدائي بل ينبغي اختيار مدرسة معنية أو شخصية ذات إنتاج متميز أو دراسة خاصة وتحليلها ونقدها بموضوعية وتجرد بناء على ما أنتجه المستشرق أو راكمته مدرسة معينة، فلا ينبغي أن نبخس الاستشراق حقه فندعي أنه يسير في اتجاه عدواني على الدوام فالإنصاف يقتضي أن نشيد بالمصيب ونصحح هفوات المخطئ.
    5. لقد اهتم المستشرقون بالسيرة النبوية اهتماما كبيرا يتمثل في كثرة ما صنفوه حولها من مقالات وكتب وما نشروه من كتب قديمة مع الإشارة إلى أن دافعهم إلى ذلك لم يكن علميا معرفيا بل كان في الغالب بدافع التهجم والطعن لأنهم يعتقدون ببطلان الإسلام وينكرون نبوة الرسول  ولا يؤمنون بالغيبيات والمعجزات ولا تهمهم صحة الأخبار ويعرضون أحداث السيرة على عاداتهم ومعتقداتهم.
    6. على الباحثين المسلمين أن يهتموا بالأعمال الاستشراقية للسيرة النبوية لأنها لم تحظ بعد بالعناية اللازمة ولأنها كثيرة جدا ومتنوعة واشهر من اعتنى بها من المسلمين علماء شبه القارة الهندية.
    7. من واجب دارس كتب السيرة النبوية التي ألفها المستشرقون الرجوع إلى أصولها لأن كثيرا من الترجمات العربية لا تستجيب لشروط الترجمة العلمية خاصة تلك الترجمات التي أنجزت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
    8. على كتاب السيرة النبوية المعاصرين التخلي عن المنهج الدفاعي التبريري حيث يكثرون من شغل القارئ بالرد على مطاعن المستشرقين بسبب أو بدون سبب لن ذلك يعتبر تشويشا على مباحث السيرة ونزيد من تكريس الضعف والشعور بالضيم ويقطع على القارئ تذوقه لفصول السيرة النبوية وإن كان لا بد من رد فلتخصص له دراسات مستقلة شافية.
    9. لا ينبغي لدارس السيرة أن يغتر بعبارات الثناء والإنصاف التي يجدها في بعض دراسات المستشرقين بل يجب النظر في مجمل دراساتهم وتحليلها ونقدها، فمقصودهم هو خلق جو من الثقة والاطمئنان إلى نزاهتهم، من هنا يتضح خطا من صنف في الدراسات المنصفة للمستشرقين ولو سماها أقوالا منصفة لكان أحسن.
    10. إن كتابات المستشرقين في حضارتنا وحفظهم لكتبنا ونشرهم لمعارفنا دليل على حفظ الله تعالى للإسلام حيث قيض للقرآن والحديث والسيرة النبوية والتراث الإسلامي أناسا من غير المسلمين والعرب يخدمون الدين وينشرونه من حيث لا يعلمون وهذا من أكبر الأدلة على أن هذا الدين ينصره الله بأعدائه قبل أهله وبخصومه قبل أبنائه.