الرئيسية / تاريخ الرياضيات في الغرب الإسلامي بين الدين والفلسفة() د. محمد أبلاغ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، القنيطرة.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : تاريخ الرياضيات في الغرب الإسلامي بين الدين والفلسفة() د. محمد أبلاغ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، القنيطرة.

الكاتب(ة) : د. خليفة با بكر الحســن

تاريخ الرياضيات في الغرب الإسلامي بين الدين والفلسفة()
د. محمد أبلاغ
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، القنيطرة

يمكن القول بأن الدراسات المتعلقة بتاريخ الرياضيات في المرحلة العربية-الإسلامية من تاريخ العلوم قد طغى عليها في العقود الأخيرة البحث عن النصوص الرياضية المنتمية لهذه المرحلة، وتحقيقها ودراستها ومقارنتها بالرياضيات القديمة السابقة عليها، وكذلك بالرياضيات الأوربية الحديثة.
إلا أنه بالموازاة مع هذه الأبحاث، ربما قد حان الأوان للقيام بأبحاث تركيبية تسعى إلى إبراز طبيعة الرياضيات في تلك الفترة، ودورها في تاريخ العلوم بشكل عام().
أما الأسباب التي هي سند لنا فيما نصبو إليه، فترجع بكل بساطة إلى كون الاهتمام بتاريخ الرياضيات في المرحلة التي تهمنا هنا بدأ مع بداية القرن 19م، تم تسارع بشكل كبير منذ 1950، وبلغ أوجه في العقدين الأخيرين من القرن 20م، كان من نتائجه إنجاز موسوعة عن تاريخ العلوم العربية يجب استكمالها بإعطاء حيز أكبـر لما أنجز في الغرب الإسلامي في مجالـــــــي العلم والفلسفة ().
وقد يعترض معترض فيقول بأن النصوص المفقودة تشكل عائقا أمام فهم دقيق وموضوعي لتاريخ الرياضيات في هذه المرحلة من تاريخ العلوم، إلا أن ما يشفع لنا في القيام بأبحاث تركيبية هو وجود ثابتين رئيسيين:
الثابت الأول: هو أنه من المستحيل أن نكتشف نصا رياضيا عربيا جديدا أو علميا ما يقلب المسار التاريخي لتاريخ العلوم، لأن الأفكار الجديدة عندما لا تجد البيئة العلمية الملائمة فإنها سرعان ما يلفها النسيان. أشير لمثال واحد هو أن النماذج الفلكية المفترضة لدوران الأرض حول الشمس أثيرت عند اليونان من قبل أرستارك دو ساموس (Aristarque  de Samos) (ولد حوالي 310 ق.م وتوفي حوالي 230ق.م)، غير أن أحدا لم يتبعه في قوله هذا()، كما أنها اقترحت كفرضية في المرحلة العربية الإسلامية من تاريخ العلوم، إلا أنها لم تتحول إلى نظرية علمية().
الثابت الرئيسي الثاني: الذي يجب أن نقتنع به هو أن العلوم في المرحلة العربية الإسلامية من تاريخ العلوم لعبت دورا حاسما في ميلاد العلم الحديث، أو بتعبير آخر لولا المساهمات العلمية العربية الجبارة لما أنجزت الثورة العلمية الحديثة في أوربا في القرن 17م.
وهذا الأمر يتطلب بطبيعة الحال أن تتضافر جهود الباحثين العرب وغير العرب لنقد كل الأفكار الموروثة عن القرن 18م، أي القرن الذي ولد فيه تاريخ العلوم كمجال مستقل بذاته، حيث أنه حجب عنا القرون الخمسة السابقة عليه، ذلك لأنه أولها بشكل يسمح له بإبراز أن ما تحقق في أوربا من تقدم باهر قد ألغى كل ما أنجز من قبل الإنسانية من تطور في كل ماضيها العلمي().
وإذا أضفنا إلى هذا سيطرة الوضعية والتاريخانية في مجال تاريخ العلوم()، نستطيع أن نفهم لماذا تم تجاهل تاريخ العلم في المرحلة العربية الإسلامية عند كتابة تاريخ العلوم.
قلت إذن بأن هذين الثابتين يستطيعان أن يساعدانا على القيام وبكل اطمئـنان بأبحاث تركيبية عن تاريخ العلوم في الفترة العربية الإسلامية الكلاسيكية. تبقى مسألة أخيرة وهي الأهم وهي ضرورة احترام المسافة الزمنية التي تفصلنا عن المرحلة التي نؤرخ لها().
بدقة أكبـر أقول:
لقد بدأ الاهتمام بالعلوم عند العرب المسلمين في القرن 2هـ/ 8م، واستمر في تقدم مستمر إلى حدود القرن 10هـ/ 16م، وهي المرحلة التي انصبت عليها الأبحاث الحديثة والمعاصرة عن تاريخ الرياضيات العربية.
فيجب علينا إذا أردنا أن نقوم بدراسة جادة لهذه المرحلة أن نجهد أنفسنا لمعرفة الأهداف التي كان هؤلاء الأسلاف يحاولون الوصول إليها، وكذلك تصورهم للعلم والغاية منه. هذه العملية يجب ألا تكون منصبة على تصور عام ندرج فيه كل الممثلين لتلك المرحلة بكاملها، بل يجب أن نحاول جاهدين معرفة تصور كل فرد فرد منهم للمعرفة العلمية والغاية منها()، لأن هذا التصور للمعرفة العلمية هو الذي سيمكننا من معرفة أسباب تفضيل مجالات للبحث دون أخرى، وسنتمكن في الأخير من فرز الاتجاهات الكبرى داخل الرياضيات العربية وممثليها.
سنحاول إذن تطبيق هذا التصور العام على موضوع هذا البحث، وذلك من خلال التساؤل عن الكيفية التي استقبل بها الرياضيون المنتمون لمغرب القرنين7هـ/ 13م و 8هـ/14م الرياضيات الموروثة عن الأندلس. وهو ما لن يكون ممكنا من دون التعرف على الغاية التي توخاها الرياضيون في الأندلس من المعرفة الرياضية.
    1.    بعض مظاهر الرياضيات الأندلسية قبل القرن 7هـ/  13م.
للبحث في التوجهات الكبرى للرياضيات الأندلسية، لابد في البدء من معرفة البدايات الأولى لهذا المجال المعرفي، بعد الفتح الإسلامي للأندلس سنة 92هـ/710م، حتى نتمكن من معرفة الكيفية التي تم التعامل بها مع المادة الرياضية الآتية من المشرق، سواء من خلال الكتب اليونانية المترجمة إلى العربية، خصوصا في مجالي الهندسة ونظرية الأعداد أو كتب المجالات المبتكرة في المشرق ككتب الجبـر والمقابلة وحساب المثلثات، والحساب الهندي القائم على النظام العشري، الذي لا نعرف اليوم بالضبط كيفية دخوله إلى الفضاء الثقافي العربي الإسلامي.
هناك اتفاق بين المؤرخين للقول بأن الاهتمام الفكري الأول الذي كان سائدا في الأندلس بعد الفتح الإسلامي لها كان هو اللغة العربية والفقه، وهي مسألة طبيعية لضرورة تعريف المسلمين الجدد بالقواعد التي ينبني عليها الدين الإسلامي الحنيف(). ولم يبدأ الاهتمام بالعلوم الرياضية بشكل جدي إلا بعد استتباب الأمر للدولة الأموية خصوصا في عهد عبد الرحمن الناصر (300هـ/912م-350هـ/961م) وابنه الحكم (350هـ/961م-366هـ/976م) حيث بدأت تظهر أسماء لأعلام اهتموا بالرياضيات().
وهناك بطبيعة الحال عدة كتب نجد فيها معلومات عن تاريخ الرياضيات بالأندلس، واعتقد أنه قد آن الأوان للتساؤل عن الكيفية التي أرخت بها هذه الكتب للرياضيات الأندلسية وذلك بتقسيمها وفقا للتكوين الفكري لهؤلاء المؤرخين أنفسهم، حيث يجب التمييز فيها بين مجموعتين:
المجموعة الأولى، وهي المشهورة أكثر، تضم على الخصوص كتاب تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (ت403هـ/1012م)، وكذلك كتاب الصلة لابن بشكوال (ت578هـ/1182م)، وجذوة المقتبس للحميدي (ت488هـ/1095م)، وبغية الملتمس للضبي (ت599هـ/1202م)().
حيث أن مؤرخي الرياضيات عادة ما يعتمدون على هذه الكتب لاستخراج أسماء الرياضيين ومؤلفاتهم دون التساؤل أولا عن الاتجاه الفكري لهؤلاء المؤرخين، ذلك لأن معرفة اتجاههم الفكري سيسمح لنا بإبراز الطريقة التي تعاملوا بها مع رياضيات عصرهم.
أما المجموعة الثانية فأشهرها في الواقع كتابان هما: طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل()، وكتاب طبقات الأمم لصاعد الأندلسي.
لنبدأ بالمجموعة الأولى التي يمكننا الاكتفاء بصددها بكتاب ابن الفرضي -لأن الكتب الأخرى قد سارت على منهجه- الذي يشرح في مقدمته الغرض من تأليفه فيقول: “هذا كتاب جمعناه في فقهاء الأندلس وعلمائهم ورواتهم وأهل العناية منهم”().
نستشف مما سبق أن هذه المجموعة من الكتب تتميز بالخصائص التالية:
    1.    الاهتمام بالرياضيات في هذه المجموعة من الكتب هو اهتمام ثانوي، حيث إن الأساسي لديها هو التأريخ أساسا للفقهاء وأصحاب الحديث.
    2.    جل الرياضيين الذين ذكرهم ابن الفرضي والمؤرخين الذين سلكوا طريقته هم من المشتغلين بالفرائض، أو بعلوم اللغة العربية.
    3.    لا نجد لرياضيين عاصروا هؤلاء المؤرخين ذكرا في هذه الكتب، وهم أساسا الرياضيون ذوو التكوين الفلسفي، كعبد الرحمن بن سيد، والمؤتمن بن هود، وابن باجة. ولا نجد للفلاسفة الذين نعرف بطبيعة الحال تكوينهم الرياضي كابن باجة وابن طفيل وابن رشد ذكرا فيها أيضا.
أما المجموعة الثانية التي قلنا بأنها تتكون أساسا من كتابي ابن جلجل وصاعد الأندلسي، فإنها لمؤرخين ذوي تكوين فلسفي أساسا، والتي نلاحظ بصددها ما يلي:
نجد أن الغرض من كتاب ابن جلجل الأساسي هو التأريخ للأطباء الذين نعرف حاجتهم للرياضيات، وهكذا فهو يؤرخ للرياضيين من حيث إنهم أطباء. ويبقى بذلك كتاب صاعد الأندلسي الكتاب الوحيد الذي اهتم بالرياضيين باعتبارهم رياضيين. حيث أنه الوحيد الذي يؤرخ فعلا لتاريخ الرياضيات في إطار عام وهو التأريخ للعلوم القديمة في جزيرة الأندلس. غير أنني لن أقوم هنا بمقارنة الكيفية التي أرخ بها صاعد الأندلسي بالكيفية التي أرخ بها أصحاب المجموعة الأولى الذين مثلنا لهم بابن الفرضي، بل سنقف فقط عند فقرة من كتابه وقف فيها عند معاصريه من الرياضيين، حيث يقول:
” وفي زماننا هذا أفراد من الأحداث يتميزون بطلب الفلسفة ذوو أفهام صحيحة وهمم رفيعة قد أحرزوا من أجزائها حظا وافرا، منهم من سكان طليطلة وجهاتها (…) أبو إسحق إبراهيم بن يحي النقاش المعروف بولد الزرقيال ( ….) منهم من أهل سرقسطة الحاجب أبو عامر بن الأمير المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود الجذامي (…) وأبو زيد عبد الرحمن بن سيد أعلمهم بهيئة الأفلاك وحركات النجوم، وأما أبو عامر بن الأمير بن هود فهو مع مشاركته لهؤلاء في العلم الرياضي منفرد دونهم بعلم المنطق والعناية بالعلم الطبيعي والعلم الإلهي.”()
أرى لتوضيح المقصود من هذا العرض أن نقف قليلا عند ثلاثة أعلام، اثنين ذكرهما صاعد وهما عبد الرحمن بن سيد والمؤتمن بن هود، والثالث معاصر لهما هو ابن باجة.
المؤتمن بن هود هو ملك سرقسطة من 474هـ/1081م إلى حين وفاته سنة 478هـ/1085م. ألف كتابا رياضيا سماه الاستكمال، اكتشف باحثان هما أحمد جبار ويان هوخندايك أجزاء كبيرة منه()، وهذه التسمية تبرز الطموح الكبير للمؤتمن الذي سعى إلى تأليف كتاب يغني عن كل الكتب الرياضية السابقة عليه.
ويضم المادة الرياضية لكتاب الأصول لأقليدس في نظرية الأعداد والهندسة مع المساهمات الرياضية اليونانية اللاحقة على أقليدس، كمخروطات أبولونيوس، والكرة والأسطوانة لأرشميدس، والأكر لمينلاوس، والمجسطي لبطليموس، وكذلك المساهمات العربية المشرقية كرسالة ثابت بن قرة في الأعداد المتحابة، وكتابا التحليل والتركيب والمناظر لابن الهيثم.
غير أن غرضنا ليس هو تحليل هذه المادة الرياضية الغنية الموجودة في هذا الكتاب، وهو العمل الذي قام به كل من هوخندايك وأحمد جبار في عدة مقالات نشرت ابتداء من النصف الثاني من عقد الثمانينات من القرن العشرين، بل سنقف عند الجملة الأخيرة التي قالها صاعد الأندلسي بصدد المؤتمن وهي:
“وأما أبو عامر بن الأمير بن هود فهو مع مشاركته لهؤلاء في العلم الرياضي منفرد دونهم بعلم المنطق والعناية بالعلم الطبيعي والعلم الإلهي”.
بمعنى آخر، هل الغرض المتوخى من تأليف المؤتمن لكتابه هذا غرض فلسفي محض،  لذلك لم يذكر من قبل ممثلي المجموعة الأولى المعاصرين له أو اللاحقين عليه، أم لا؟
يمكن أن نجيب بالإيجاب على هذا السؤال، وذلك من خلال دلائل ثلاثة:
1- في الأجزاء المكتشفة من كتاب الاستكمال نجد أن المؤتمن بن هود قد ركز أساسا على الجانب النظري من الرياضيات وهو ما يفسر لنا اقتصاره على الهندسة، ونظرية الأعداد، وتغييبه للجبـر والمقابلة وعلم الفرائض.
2- هناك مسألة طريفة في كتاب الاستكمال، هي انفراده في التراث العربي الإسلامي بعدم تقسيم كتابه إلى أبواب وفصول كما جرت بذلك العادة، بل اعتمد كليا على المنطق، حيث أنه قسمه إلى خمسة أنواع، على اعتبار أن الجنس الجامع لها هو مقولة الكم().
3- عندما اكتُشف الكتاب كان مبتور البداية، ولذلك لم يستطع الباحثون معرفة توجه المؤتمن وغرضه من تأليف كتابه هذا، وهي أمور عادة ما يتطرق إليها المؤلفون في بداية كتاباتهم. غير أنه لحسن الحظ ثم اكتشاف كتاب بعنوان الإكمال الرياضي لابن سرتاق المراغي الذي عاش في القرن 8هـ/ 14م ، والذي أعاد فيه صياغة كتاب الاستكمال للمؤتمن بن هود الذي نعرف أن مؤلفه توفي قبل أن يستطيع إكماله، ذلك أن كتاب ابن سرتاق هذا يتضمن مقدمة كتاب الاستكمال التي سأوردها كاملة فيما يلي:
يقول المؤتمن:
” الحكمة هي تصور الأشياء والتصديق بنسبها الإيجابية والسلبية على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية، فإن كان الغرض منها العمل على الوجه الأعزل النافع في العاجل والآجل وهي بعلم الأشياء التي تتعلق بفعلنا، فهي العملية وإلا فهي العلمية.
وهي وإن كان موضوعها بحسب ماهيته أو بعض أفرادها لا العدد مجردا عن المادة فهي الإلهي والثاني من هذين يخص باسم الأمور العامة وبتصرف مطلق الإلهي إلى الموضوع الأول، وإلا فإن كان موضوعها الكم المتصل والمنفصل فهي التعليمـي، وما موضوعه المتصل منها الهندسة والآخر الحساب.
وإلا فهـي الطبيعية، فقد اندرج فيه كثير مما يسمى بالعلم، ولو قيل باشتراك بعض الموضوعات في بعض الأقسام. فالجهة الباحثة عنها مختلفة، مثل النحو والصرف وأمثالهما، وليس هذا موضع الإطناب في بيانها. وأما فضيلتها فهي التخلق بأخلاق الله تعالى وهو الحكيم العليم.
وأيضا لما كان براهين التعليمي أقوى بل هي اليقينية، وغيرها على سبيل الأشبه والأحرى، صار العناية به أكثر وأولى”().
لو أردنا أن نعبـر عن هذه المقدمة بتعبيرنا الخاص لقلنا بأن المعرفة العلمية في نظر المؤتمن تنقسم إلى نظرية وعملية، غيـر أن النظري والعملي لا يجب فهمهما بالمعنى المعاصر، بل إن النظري هو الذي يروم أن يحقق به الإنسان كماله الإنساني كإنسان، أي كحيوان ناطق، والعملي هو ما يروم به الإنسان تحقيق فائدة مادية أو معنوية عاجلة أو آجلة دنيوية أو أخروية، كأن يتعلم الطب ليبرأ من المرض، أو الأخلاق لتقويم نفسه، أو الاقتصاد لتدبير منزله.
وواضح أن غرض المؤتمن بن هود هو غرض نظري محض، لذلك سيختار من الرياضيات ما به يسعى المرء لتحقيق الغاية من المعرفة أي الكمال، وهي غاية فلسفية أساسا صيغت على أكمل صورة من قبل أرسطو.
لنترك المؤتمن ولنلتفت وجهة أخرى وهي وجهة عبد الرحمان بن سيد الذي وضع أسس هندسة جديدة جعل من مخروطات أبولونيوس أساسا لها. إلا أن أوضاع بلنسية المدينة التي ينتمـي إليها لم تسمح له بتأليف كتاب يتضمن هندسته الجديدة التي وضعها ما بين 480هـ/1087م و 490هـ/1096م وهي سنوات عصيبة عرفت فيها المدينة الأندلسية محنا كثيرة من جراء المواجهات العسكرية والحصار المتكرر لها حيث احتلها الفارس المسيحي المرتزق المشهور  Le Cid Rodrigo Diaz الذي أطلق عليه المؤرخون العرب اسم “السيد” سنة 478هـ/1085م، ثم انتزعها منه المرابطون عند دخولهم الأندلس قبل أن يستردها السيد ويحكمها إلى أن توفي سنة 493هـ/1099م وهي السنة التي استعادها فيها المرابطون مرة أخرى.
إذن هذه هي الظروف التي اشتغل فيها المهندس البلنسي والتـي جعلته لا يستطيع تأليف كتاب يتضمن هندسته الجديدة هذه. لأنها كانت تستدعي قراءة جديدة للكتب الهندسية السابقة عليه. فاكتفى بتلقينها لتلميذين فقط أحدهما قتل في إحدى الحروب الدائرة بالمنطقة، والثاني لم يكن سوى الفيلسوف المعروف ابن باجة الذي لولاه لضاع عمل ابن سيد هذا إلى الأبد، ذلك أنه أورد هذا الكشف الهندسي الجديد في إحدى كتاباته التي وصلتنا().
حيث تبين الرسالة بالرغم من طابعها المقتضب القيمة الكبرى للعمل الذي قام به هذا المهندس. فلقد جعل موضوع القسم الأول منها مأخوذا من كتاب “المخروطات” لأبولونيوس غيـر أن هذا العمل ليس شرحا ولا تعليقا على هذا الكتاب. بل يندرج أساسا ضمن التقليد الرياضي المشرقي المتعلق بالقطع المستوية للسطوح الدورانية خصوصا مع كل من ثابت بن قرة والسجزي.
أما القسم الثاني الذي يشكل ما انفرد به ابن سيد فيتعلق أساسا بدراسة المنحنيات الملتوية والمستوية().
تبين هذه الرسالة المستوى الرفيع الذي بلغته الهندسة النظرية في القرن 5هـ/ 11م الذي هو قرن انبعاث الدراسات العلمية بامتياز في الأندلس. ويبقى علينا أن نقول إن ابن باجة هو الآخر بالرغم من اشتهاره كفيلسوف خصوصا بفضل كتاباته الطبيعية فإنه اهتم كذلك بالموسيقى وعلم الفلك والهندسة، حيث يقول بصدد هذه الأخيرة أنه أضاف أشياء جديدة إلى ما جاء به شيخه ابن سيد، كما يبدو أنه على اطلاع كبير بما أنجز من تقدم كبير في المجال الهندسي على يد الرياضيين المشارقة().
لسوء الحظ لم تصلنا المساهمة الهندسية لابن باجة مكتملة، وما وصل إلينا يدل على أن تعامله مع الرياضيات هو تعامل فلسفي أساسا، حيث إنه اهتم بالبرهنة الهندسية، لكن هذا الاهتمام ليس اهتماما رياضيا بالدرجة الأولى لأنه في إطار التفضيل بين البراهين سيعتبـر البراهين الهندسية أيقنها لأنها تعطي سبب الشيء ووجوده().
غيـر أن أهم ما يمكن استخلاصه من هذه الإثارة السريعة هو اتجاهه النظري الصرف، حيث يميز الهندسة العملية عن النظرية معتبرا بأن العملية لا يمكن أن تدخل في باب العلم أصلا().
وبذلك يمكن القول بأنه مع المؤتمن وابن سيد وابن باجة، نكون أمام اتجاه فلسفي صرف في المجال الرياضي. لذلك قبل استخلاص النتائج المترتبة عن هذا القول، سنحاول أن نرى من هم الرياضيون الذين سيحظون بالاهتمام من قبل ابن الفرضي ومجموعته الذين قلنا بأن مرجعيتهم مرجعية دينية بالأساس.
سنقف عند نموذج واحد فقط هو أبا مسلمة المجريطي(ت. 398هـ/1007م)(): الذي نجد له ترجمة مقتضبة عند ابن بشكوال الذي ركز على كونه قد روى الحديث وعلى أنه اشتغل بالفرائض والحساب().
من جهة ثانية كتب المجريطي – حسب صاعد الأندلسي – كتابا في المعاملات التي هي لفظ مستعمل من قبل الرياضيين للتدليل على المؤلفات التي تهتم بالجانب التطبيقي من الرياضيات في المجالات التجارية أو القريبة منها. وهذا الصنف من الكتب يجمع بين القواعد الحسابية والجبرية وتطبيقها العملي(). كما نجد للمجريطي كتابا فلكيا هو عبارة عن صياغة جديدة لمؤلف فلكي لأبي عبد الله الخوارزمي الذي اعتمد فيه هذا الأخير على مصادر متنوعة فارسية وهندية ويونانية، قام فيه بصرف التاريخ الفارسي إلى التاريخ العربي().
فهذه المعلومات مجتمعة (أي كون المجريطي فارضا وحاسبا ومشتغلا بالمعاملات وفلك الخوارزمي) تجعلنا نفترض أنه ربما يكون هو أول من أدخل إلى الأندلس، كتاب الخوارزمي الجمع والتفريق بحساب الهند الذي استعمل فيه العرب لأول مرة النظام العشري في الحساب، أو على الأقل قد يكون ساهم بشكل كبير في نشر هذه الطريقة الحسابية الجديدة().
ما يهمنا هنا أساسا قوله إن مرجعية المجريطي الدينية هي التي جعلته يتجه أساسا نحو الرياضيات النافعة في الحياة سواء المدنية أو الشرعية للمدينة العربية الإسلامية. وهي مسألة سنجد التأكيد عليها عند رياضيين أندلسيين من القرن 6هـ/ 12م هما أبو بكر الحصار ( كان حيا سنة 557هـ/1161م)() وابن منعم العبدري نزيل مراكش (ت. 626هـ/ 1228م)()، فتظهر هذه المرجعية بالنسبة للحصار منذ البداية الأولى للكتاب حيث يقول: “فإني لما رأيت العلوم والآداب رأيت أن أجلها علم العدد والحساب بعد السنة المأثورة والكتاب.”().
أما أبواب الكتاب فنجد أنها الأبواب الحسابية المعهودة من جمع وطرح وضرب وقسمة وكسور وتجذير، أي أبواب الحساب النافعة في المعاملات وقسمة المواريث. أما كتابه الثاني: الكامل في صناعة العدد فما هو إلا تمديد للمادة الرياضية للبيان والتذكار().
أما بالنسبة لابن منعم، فإننا نجد أنفسنا أمام كتاب نجد فيه نفس توجه الحصار من حيث اعتباره أن علم الحساب به تعرف الفرائض الشرعية والسنن الدينية()، إلا أنه يمتاز عنه بوجود باب رياضي جديد نجده لأول مرة في كتاب في تاريخ الرياضيات، وأقصد به التحليل التوافقي الذي توصل إليه ابن منعم انطلاقا من أبحاثه المتعلقة بالمعجم().
غيـر أن ابن منعم يخصص 40% من كتابه هذا للكسور بأنواعها()، مما سيجعل الباحثين المعاصرين يقللون من أهميته بالرغم من الجدة التي تطبع بعض أبوابه. والواقع أننا ننسى أن ابن منعم كان يكتب أساسا لمعاصريه، ويروم أهدافا معينة، ولا يكتب لنا نحن. فأهمية باب الكسور من كتابه تنسجم تمام الانسجام مع الغرض الذي صرح به في بداية كتابه()، ونعرف أهمية الكسور بالنسبة لقسمة المواريث.
ولابد من أن نشير في الأخير إلى أن القرن 6هـ/12م هو قرن الفلسفة بامتياز، حيث أنه القرن الذي كتب فيه ابن رشد مساهمته الفلسفية التي سيكون لها شأن كبير في تاريخ الفلسفة.
كخلاصة لهذه الفقرة، يمكننا أن نقول إن هناك توجهين رئيسيين في الرياضيات الأندلسية: التوجه الأول رياضي فلسفي، من بين ممثليه كما رأينا المؤتمن بن هود ونجد فيه بالخصوص اهتماما بالهندسة ونظرية الأعداد، والثاني رياضي ديني ونجد فيه كثيرا من الرياضيين المذكورين في كتب المؤرخين للفقهاء والمحدثين، وفيه بطبيعة الحال اهتمام بالحساب والجبـر والمقابلة.
II. الرياضيات الأندلسية في مغرب القرنين 7ه/ 13م و 8ه/ 14م.
عادة ما نقول عند الحديث عن تاريخ الأندلس بأن تاريخها الثقافي معروف بكيفية أحسن حتى القرن 7هـ/ 13م، وغيـر معروف بشكل جيد من القرن 7هـ/ 13م إلى حين سقوط غرناطة سنة 899هـ/1492م.
فيمكن القول إن هذا الأمر طبيعي، لأنه ابتداء من هذا القرن لم يعد ممكنا الحديث عن هذه الهوية الثقافية الخاصة بالأندلس. لأنه في القرن 7هـ/ 13م عرفت حركة الاسترداد المسيحي الإسبانية أوجها بسقوط المدن التي كانت بمثابة القلب النابض للحركة الفكرية الإسلامية الأندلسية، خصوصا قرطبة وبلنسية اللتين سقطتا سنة 636هـ/ 1238م ومرسية سنة 641هـ/ 1243م واشبيلية سنة 646هـ/ 1248م، فاعتبـر المغرب بمثابة المحتضن الجديد للفكر الأندلسي.
غيـر أن السؤال الذي لم يطرح بشكل دقيق، هو كيف تعامل المفكرون المغاربة مع هذا الإرث الأندلسي الغني والمتنوع؟
سأترك جانبا كل الظروف السياسية والتاريخية العامة لهذا القرن لكي أناقش المسألة من الناحية الفلسفية الصرفة، وذلك بتركيز شديد، فأقول: عادة ما يقال أن الفلسفة العربية الإسلامية هي فلسفة التوفيق بين الفلسفة والدين، إلى أن ميز ابن رشد تمييزا تاما بينهما انطلاقا من التمييز بين القول الفلسفي البرهاني والقول الديني الخطبي.
غيـر أنني اعتقد أن الخطاب الفلسفي الإسلامي كله هو خطاب كان يروم منذ الكندي والفارابي إلى التمييز بين الدين والفلسفة وإن سقط في الخلط بينهما أحيانا().
المشكل العويص الذي لم يستطع هذا الخطاب الفلسفي التخلص منه هو أن الفلسفة تضم ميتافيزيقا وكوسمولوجيا وأخلاق وسياسة، وهي مسائل يعلمها الإسلام للناس بأسلوب بسيط وسهل لأنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
لماذا إذن نحتفظ بالفلسفة التي تتطلب منا القيام بجهد ذهني كبير يقوم على التعلم، وهناك طريق سهل وبسيط لا يتطلب القيام بأي مجهود، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وكل الثوابت الدينية الأخرى دون المرور عن طريق مفاهيم نظرية معقدة فيزيائية كالحركة، أو نفسية كمفهومي النفس والعقل.
أعتقد أن الرياضيين المغاربة فهموا المسألة بهذا الشكل بعد وفاة ابن رشد، وسأقدم دلائل على ذلك تتجلى فيما يلي:
في كل الرياضيات المغربية بعد القرن 7هـ/ 13م لم يتم تأليف أي كتاب هندسي نظري، حيث تم إهمال الهندسة إهمالا كبيرا اللهم ما كان من الاهتمام بالتكسير أي حساب المساحات للحاجة العملية لها، وهي معرفة لا تتعدى على كل حال المبادئ الأولية في الهندسة. ولم يكن هذا الأمر بمثابة تقصير من الرياضيين المغاربة، أو ضعف في تكوينهم الرياضي، بل هو اختيار واع من قبلهم. يقول ابن الخطيب وهو رياضي من القرن الرابع عشر الميلادي إن الأبلي قصد ابن البنا ليقرأ عليه فلما اجتمع به قال له: “يا سيدي ما جئتك حتى حصلت علم المنطق وعلم الهندسة لأفهم بهما ما عندك، قال ووجدته يقرأ علم المخروطات (…) وعلم المخروطات أعلى المراتب من علم الهندسة، ولهذا كانت القدماء تسمي أشكاله الأشكال العجيبة.”()
إذن يمكننا أن نتصور أن الرياضيين الذين غادروا الأندلس في اتجاه المغرب قد يكونوا أحضروا معهم كتبا رياضية في الهندسة ونظرية الأعداد والحساب والجبر، وكل التأملات الفلسفية عن الرياضيات الحاضرة في الكتب الفلسفية لابن باجة وابن ميمون وابن رشد.
إذن كيف سيتلقى المغرب هذا الإرث الرياضي؟ وما هي المجالات الرياضية التي سيتم إيلائها الاهتمام من قبل الرياضيين المغاربة والأندلسيين الذين استقروا بالمغرب؟
في الحقيقة من السهولة بمكان معرفة هذا الأمر ، لأن هناك رياضي واحد سيطر على كل تاريخ الرياضيات بالمغرب هو ابن البنا المراكشي الذي ألف كتابه الشهير تلخيص أعمال الحساب في العقد الأخير من القرن 7هـ/ 13م، وستسيطر المادة الرياضية الموجودة في هذا الكتاب في مجالي التدريس والتأليف إلى سنة 1945م تاريخ وفاة آخر شارح لبغية الطلاب في شرح منية الحساب لابن غازي المكناسي (ت. 919هـ/ 1513م)().
فكل الكتب الرياضية التي ألفت ابتداء من القرن 8هـ/14م الموجودة اليوم هي إما شروح أو أراجيز أو مختصرات على التلخيص()، باستثناء كتاب القطرواني رشفة الرضاب في العمل بثغور الحساب().
إذن لمعرفة المادة الرياضية التي ستسود في المغرب لمدة قرون يجب قراءة التلخيص، أما معرفة أسباب اختيار هذه المادة الرياضية فموجود في رفع الحجاب عن وجوه أعمال الحساب الذي هو شرح وتكميل وتبرير فلسفي للمادة الرياضية الموجودة في التلخيص(). وهذا الأخير يحتوي على المادة الرياضية التالية:” تعريف العدد، العمليات الحسابية الأربعة من جمع وطرح وضرب وقسمة على الأعداد الصحيحة والكسور والجذور، المتتاليات الحسابية والهندسية، التناسب والمعادلات من الدرجتين الأولى والثانية”.
أما أسباب هذا الاختيار فمشروحة في رفع الحجاب الذي يقول فيه:
“الحساب هو مزاولة الأعداد بنوعي : الجمع والتفريق وصناعة العدد قسمان وهما الجزءان المذكوران في الكتاب وينتفع بهما في الفرائض والمعاملات وغيـرهما: إذ للفرائض أصول موضوعة من الشرع وللمعاملات أصول موضوعة من أهل المدن، تتصرف فيهما صناعة العدد وهذا التصرف هو المسمى حسابا”().
وهكذا يبدو واضحا بأن المغرب الذي ورث الإنتاج الرياضي الأندلسي الغني قد اختار تعميق النظر في مجالات رياضية معينة وإهمال أخرى، وربما يكون باختياره هذا قد حرمنا بصفة نهائية من نصوص رياضية لم تعد لها قيمة في نظر رياضيي المغرب لتلك المرحلة.
وواضح أن الاتجاه الرياضي الديني هو الذي سيحظى بالاهتمام، غيـر أنه في هذا المجال أيضا سيبقى سجين رؤية وسطوية للكون ستحد من تطلعه لتطوير هذا المجال الذي اختاره.
ولكي أعبـر بوضوح أكبـر عما أقصده هنا، أريد الرجوع إلى عمل هام قام به رشدي راشد الذي كانت لديه فكرة مقارنة العمل الذي قام به كمال الدين الفارسي (ت.720هـ/1320م) في مجال التحليل التوافقي بذلك الذي قام به ابن البنا في نفس المجال()، حيث قام بتحليل مقارن لرسالة الفارسي “تذكرة الأحباب في بيان التحاب” المتعلقة بالأعداد المتحابة والفصل من رفع الحجاب المتعلق بالتحليل التوافقي.
في هذه المقارنة درس طريقة المؤلفين، حيث أن البحث في الأعداد المتحابة قادت الفارسي للبحث في أجزاء الأعداد، وإلى محاولة إعادة البرهنة على مبرهنة ثابت بن قرة عن الأعداد المتحابة بطرق عددية، وخصوصا معرفة قواسم عدد ما باستعمال وسائل توافقية، وذلك بتعداد كل التوافقات الضرورية لحساب أجزاء عدد صحيح طبيعي، وهو ما أدى إلى دراسة فصل تقليدي من نظرية الأعداد، وهو المتعلق بالأشكال العددية.
وبما أن دراسة الأشكال العددية كانت موجهة بالبحث في كل الأجزاء المكونة لعدد ما، فإن هذا ما أتاح للفارسي عدم التوقف عند شكل معين من الأشكال العددية، مما أدى به إلى البحث عن قانون عام للأشكال العددية من أي درجة كانت، وهو ما أدى براشد إلى القول بأن الفارسي” أسس بابا رياضيا جديدا، يمكن أن نعنونه ب: ” الأجزاء العددية والتأويل التوافقي للأشكال العددية”().
لنرجع الآن إلى الحديث عن ابن البنا فنقول إنه عندما تحدثنا عن التلخيص قلنا بأنه يحتوي على دراسة المتتاليات الحسابية والهندسية، وهو ما يمكن اعتباره وكأنه لا يتفق مع مشروعه الذي هو الاقتصار على الجانب العملي من الحساب، لكن عند قراءة رفع الحجاب فهمنا سريعا أسباب حضور هذا الجانب النظري من الأعداد في التلخيص.
تعد المتتاليات الحسابية بالنسبة لابن البنا نافعة أساسا في دراسة جدول الأشكال العددية، لأن أعمدتها وأسطرها كلها مدروسة حسب نفس وجهة النظر التي هي المتتاليات الحسابية، إلا أنه في دراسته هذه يكتفي بالمستوى الرابع من هذه الأعداد، لكونها نافعة خصوصا في المجال اللغوي، حيث أنها تمكن من حصر عدد الكلمات الثلاثية الموجودة بالمعجم.
وباختصار شديد، نقول إن ابن البنا يقيم العلاقة بين الأشكال العددية والتوافقات، حيث يتعلق الأمر بالمثلثات والتوافقات الثنائية، بعد ذلك المربعات والتوافقات الثلاثية.
لكي أبين الأسباب التي دفعتني إلى إثارة هذه المقارنة التي قام بها رشدي راشد، سأورد الفقرة كاملة لأنها تنسجم مع ما أردنا إبرازه في هذا البحث، حيث يقول:
“لماذا بالرغم من كونه يمتلك كل الأدوات الرياضية والتوافقية الضرورية للتأسيس العام للعلاقة بين الأشكال العددية، والتوافقية، لم يقم ابن البنا بهذا الأمر؟
يبدو لي أنه للجواب عن هذه الأسئلة يجب علينا أن نأخذ بعين الإعتبار البحث في أجزاء الأعداد والدوال العددية. ففي الباب الذي خصصه ابن البنا للتوافقات لشكلين فقط من الأشكال العددية، يبدو أن ابن البنا لم يكن يهدف سوى إلى إبراز كيف أن الأشكال العددية يمكنها أن تكون نافعة في حساب “توافقات الكلمات الثلاثية” في البحث المعجمي ويغفل تماما الأجزاء العددية. أضف إلى ذلك أنه في نفس الفصل يهمل دراسة الأعداد المتحابة معتبرا إياها دون جدوى، حيث أن الأمر يكون مغايرا تماما عندما يكون الرياضي منهمكا في دراسة الأجزاء العددية، التي من الضروري أن يعرفها كلها، حيث يكون مضطرا للتعميم، ولا يمكنه أن يتوقف قبل الوصول إلى ما يسميه باسكال() Pascal  استعمال المثلث الحسابي للمراتب العددية، وكل هذا وجدناه في مقالة الفارسي”().
والواقع أنني منذ أن قرأت هذه المقارنة بين هذين  الرياضيين العربيين الكبيرين وأنا أفكر في تفسير هذا الفرق بينهما الذي لا أريد أن يعزى للتدني المزعوم للرياضيات في الغرب الإسلامي مقارنة مع المشرق، وهو الحكم المتسرع الذي كان بعض المؤرخين للرياضيات قد روجوا له فيما سبق().
إذن فالجواب على هذا السؤال يتطلب قراءة متمعنة لكل ما قلته منذ بداية هذا البحث، أي أن الرياضيات في الغرب الإسلامي كانت تخضع منذ بدايتها إلى توجه دقيق.
فرياضي كابن البنا لم يكن يكتب للتاريخ، ولا كان يقوم بالبحث الرياضي لمجرد البحث، بل على العكس من ذلك، فإنه أراد تسخير الرياضيات لكي تستجيب لحاجيات معاصريه ومتطلبات الشروط التاريخية التي كان يعمل في ظلها. فإننا نعرف اليوم أنه كان على اطلاع على عمل المؤتمن()، وأنه كما رأيناه أعلاه درس مخروطات أبولونيوس، غيـر أنه لم ير داعيا لتأليف كتاب هندسي، ويمكنني أن أقول دون ما خوف من الخطأ أنه في كل التقليد الرياضي للغرب الإسلامي بعد القرن 6هـ/ 12م لا نجد ولو كتابا هندسيا واحدا في نفس مستوى كتاب الاستكمال للمؤتمن، حيث اتجه التأليف الهندسي نحو الكتابة في حساب مساحة الأشكال الهندسية().
وأرى للإحاطة الشاملة بموضوع بحثنا هذا أن نجيب على سؤالين رئيسيين: الأول رياضي وهو ما هــــي طبيعة الرياضــيات التـــــي ستــــسود في المغرب؟  وما هي أصولها؟ وهو سؤال حاولنا أن
نجيب عن بعض مظاهره في بحث آخر().
أما السؤال الثاني فهو سؤال فلسفي وبتدقيق أكبـر أنطلوجي، لأنه سيفسر جميع الأبعاد النظرية والعملية التي تحكمت في اختيار هذه الأبواب الرياضية المذكورة.
أول مسألة يجب أن نشير إليها هي أنه بصدد العلاقة بين الدين والفلسفة والتي أشرنا إلى بعض مظاهرها أعلاه يمكن أن نقول بأنه بعد وفاة ابن رشد سنة 595هـ/1198م، حسم فكر القرن 7هـ/ 13 م في المسألة المتعلقة بمن سيلعب دورا ميتافيزيقا، هل الفلسفة أم الدين؟
إن الميتافيزيقا هي للدين وليست للفلسفة، وبذلك – وفي غياب شروط تاريخية ليس هنا مكان تفصيل القول فيها – لم يبق  للفلسفة النظرية، خصوصا الفلسفة المؤسسة على البراديغم الأرسطي، أي دور تلعبه في مغرب القرنين 7هـ/ 13م و 8هـ/ 14م().
ويلزم بالضرورة عن هذا الأمر أن الرياضيات لن تفهم كدرجة يجب على الإنسان تخطيها للحصول على الكمال الإنساني الذي لا يدرك إلا بدراسة العلم الطبيعي، وما بعد الطبيعة. بل سينحصر دورها في الإجابة على المشاكل العملية للمدينة العربية الإسلامية من فرائض ومعاملات ومسائل شرعية، كرؤية الأهلة أو تحديد القبلة، تاركة للدين وحده أن يقوم بالدور الروحي والميتافيزيقي.
يبدو إذن أن هذا التوجه وكأنه أغلق الباب أمام ظهور العلوم الحديثة في المغرب، لأنه عندما نتحدث عن توارث الفكر الأندلسي، فإن الفكرة التي تبدو لنا سليمة لأول وهلة هي أن أوربا طورت الفكر الأندلسي في بعده الفلسفي محققة بذلك الثورة العلمية، بينما حافظ المغرب على الفكر الديني الأندلسي حتى لا يضيع بضياع الأندلس.
والواقع أن مجريات الأمور أكثر تعقيدا مما يمكن أن يتبادر للذهن، بل يمكنني أن أقول بأن الاتجاه الديني في الرياضيات لعب دورا أهم في التطور العلمي اللاحق،  وسأحاول أن أفسر كيف تم ذلك، فيما يلي.
عندما بدأت أهتم بأنطلوجيا الرياضيات وجدت أن أول أكبـر فلاسفة الأندلس من حيث إعطاء الرياضيات دورا أنطلوجيا متميزا هو ابن ميمون الذي نجد في كتابه دلالة الحائرين الأفكار التالية:
    •    إن العقل البشري له حدود يقف عندها، حيث أن الإنسان لا يعلم كل  أسرار الكون التي هي بطبيعة الحال أمر إلهي مطلق،  ومن هنا تكون للامتناهي الرياضي طبيعة عقلية خالصة وهو ما يتيح لنا استعماله كيفما شئنا.
    •    إن الرياضيات تقربنا من معرفة الله الواحد غير المتكثر، فبما أن العقل يعجز عن تصور الوحدانية بشكل تام، يبقى للعلم الإنساني القاصر أن يشبه علمه بالوحدانية الإلهية بطبيعة الواحد الرياضي الذي عند ضربه أو قسمته يبقى دائما واحدا.
    •    إن الأشياء الرياضية هي أفكار واضحة وبسيطة وتتميز بضرورتها العقلية، وهي بذلك ذات طابع كوني، حيث لا يمكننا أن نجد في الكون كله مربعا قطره أصغر أو يساوي ضلعه، فهذا الأمر مستحيل الوجود بغض النظر عن طبيعة الوجود، سواء أكان ماديا فاسدا أو روحيا خالدا().
    •    وأريد أن أضيف أن ابن ميمون يعتمد على خاصية القطع الزائد مع مخروطه (حيث يتعلق الأمر بالشكل 14 من الكتاب الثاني من المخروطات الذي  يقترح فيه أبولونيوس البرهنة على أن المخروط وقطعه يتقاربان بشكل مستمر دون أن يتلاقيا)  للدلالة على أن كل ما هو مبرهن عليه عقلا لا يقبله الخيال بالضرورة، والتي تدخل في إطارها كثير من الأمور الإلهية التي يعجز الإنسان عن تصورها، خصوصا ما يتعلق منها بالتنزيه المطلق والصفات الإلهية التي كانت موضوع بحث من قبل علماء الكلام().
فالرياضيات تلعب بالنسبة لابن رشد دورا ابستملوجيا هاما لأن براهينها براهين مطلقة. ولكن بالرغم من سموها المعرفي هذا فإنها لا تلعب أي دور أنطلوجي، وهو الدور الذي أناطه ابن رشد بالعلم الطبيعي الذي يثبت وجود أهم مفهومي علم ما بعد الطبيعة اللذين هما المحرك الأول والعقل الفعال().
إلا أن هذا الدور الأنطلوجي الذي وسم به ابن ميمون الرياضيات لم يرق إلى تحديد مكانتها الأنطلوجية بدقة.
أي ما هو موقع الرياضيات في الوجود؟
بعد وفاة ابن ميمون سنة 601هـ/1204م لم يتوقف البحث في أنطلوجيا الرياضيات في الغرب الإسلامي، ففضلا عن مناقشة أصول الرياضيات من قبل ابن البنا في رفع الحجاب وبعض شراح التلخيص، وجدنا في نص مجهول المؤلف تحديدا دقيقا للمنزلة الأنطلوجية الرفيعة للرياضيات. وذلك لأنه في إطار التدرج المعرفي للوصول للحقيقة تحتل الرياضيات مكانة بارزة، وهذا ما نقرأه في النص المذكور:
“اجعل نظرك على ستة أقسام: مرتبة قسم في أصل الأعداد ومراتبها، وقسم في أصل الحروف وأسمائها وقسم في لواحق العدد للحروف، وقسم في الإعتبار النظري من جهة الكم المنفصل (أي علم العدد)، وفيه يظهر لزوم الرسالة، وقسم في خواص الحروف التي في أوائل السور وخواص أم القرآن، وخواص السور والآيات، وقسم في إعجاز القرآن من جهات كثيرة وفيه يظهر أنه ليس من قبل الإنس ولا من قبل الجن بل هو من الله  حقا، وفيه يظهر بيان العلوم وانحصارها في القرآن على فرقان بين الحق فيها والباطل، وعلى الإطلاق والعموم، والله الهادي المرشد”().
إذن فالاتجاه الديني في الرياضيات قد جعل أنه من بين كل العلوم الإنسانية ومن ضمنها العلوم النقلية نفسها، وحدها الرياضيات تقترب من مجال العلم الإلهـي، أي أن هذه الفكرة الموجودة بكيفية غامضة ومعقدة عند ابن ميمون سنجد أنه قد عبـّر عنها بوضوح أكبـر من قبل الرياضيين المغاربة اللاحقين.
وعلى المستوى الفلسفي يمكننا القول بأن الجهد الكبير الذي بدل للتأليف بين العقل والإيمان، أي بين الدين والفلسفة، قد سمح في الأخير بفضل الرياضيات بوضع حدود دقيقة بين الطبيعة المتناهية للإنسان وتلك اللامتناهية والمطلقة لله. وأستطيع القول بأنها شكلت بداية تطور أجهضته الظروف التاريخية العالمية لتلك الفترة، لأن هذا الترابط الوثيق الذي أقيم بين الدين والرياضيات جعل العقل البشري لا ينافس الطبيعة المقدسة للعقيدة الدينية، بل كل ما يمكن للإنسان أن يقوم به في الحياة الدنيا، هو أن يستعمل بكل ما أوتي من قوة كل طاقته العقلية والإبداعية الخلاقة التي وهبها الله له، لمحاولة فهم طبيعة الكون المخلوق، لأن الرياضيات تتيح لنا تصور اللامتناهي، لكن دون التمكن من جعله حقيقة مادية ملموسة.
إن هذه المجهودات الجبارة ستأتي أكلها، ولكن ليس في الغرب الإسلامي بل في شماله، أي في أوربا عصر النهضة والثورة العلمية الحديثة.
وهكذا فإن العلاقة بين أنطلوجيا الرياضيات وتحقق الثورة العلمية لا يمكن أن تفهم إلا بوضعها كإشكالية فلسفية، أي أن هذا العلم الإنساني الذي هو وحده القادر على أن يقربنا من الله وفهم طبيعة الخالق، لماذا لا نطبقه في فهم أعظم خلقه وهي الطبيعة نفسها؟
وحتى نفهم عمق العلاقة بين تطبيق الرياضيات في الطبيعة وما قلناه أعلاه، لابد من الرجوع إلى هذه القولة لأحد أقطاب الثورة العلمية الحديثة، جاليليو جاليلي():
” تحت علاقة الامتداد أي بالنسبة لكثرة الأشياء التي يجب معرفتها والتي هي لا متناهية، العقل البشري لا يساوي أي شيء ( ولو فهم ألف قضية، لأن الألف إذا قارناه باللامتناهي فهو يساوي صفر) لكن تحت علاقة الدرجة، أي إذا اعتبرنا هذا اللفظ يعني الفهم الكامل أعني بصفة تامة قضية معينة، فإنني أقول إن العقل البشري يفهم بعض القضايا بصفة تامة وبتيقن مطلق كما هي الطبيعة نفسها، وإلى هذا النوع تنتمي العلوم الرياضية الخالصة أي الهندسة والحساب، والتي يعلم الله بطبيعة الحال منها قضايا أكثر مما يعرف الإنسان باعتباره يعلمها كلها. لكن بالنسبة للنزر اليسير الذي يعرفه الإنسان، فإنني أعتقد أن معرفتنا به مساوية للعلم الإلهي بها في تحقيق التيقن الموضوعي، لأننا ننجح في معرفة ضرورتها التي لا أعتقد أنه توجد حقيقة أعلى منها”.()
وبهذه الفقرة نكون أمام الصيغة النهائية للفكرة التي وجدناها عند مفكرين ينتمون للغرب الإسلامي، الذين حاولنا أن نبرز من خلال هذا البحث كيف تطورت أفكارهم إلى أن توقفت لأسباب تاريخية معروفة.
فإذا كنا اليوم مدعوون بإلحاح إلى إبراز النتائج النهائية لأعمالهم لكي نسير بها قدما إلى الأمام، فإن هذا البحث يبرز كذلك أنه في مجال أنطلوجيا الرياضيات، كما في غيره من مجالات العلم والمعرفة الأخرى، لا يجوز أن نضع أفلاطون (ت. حوالي 347ق.م) وأرسطو (ت. حوالي 322 ق م) مباشرة قبل ديكارت() وجاليلي، بالرغم من أن ألفي سنة تفصل بينهم، بل يجب الانتباه إلى الأعمال الجبارة التي قام بها العلماء المسلمون، والذين كان لهم الفضل في جعل الثورة العلمية الحديثة أمرا ممكنا..