الرئيسية / قضية التكامل المعرفي والمنهجي بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية توظيف المنهج الأصولي نموذجا.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : قضية التكامل المعرفي والمنهجي بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية توظيف المنهج الأصولي نموذجا.

الكاتب(ة) : د. الناجي لـميـــــــــــــــــــــن

قضية التكامل المعرفي والمنهجي بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية
توظيف المنهج الأصولي نموذجا()
د. محمد عوام
…….

لا يخفى أن قضية التكامل المعرفي والمنهجي بين العلوم بشكل عام، والعلوم الإسلامية على وجه خاص، من الصعوبة بمكان، إذ الحديث عنها يدخل في عمق المناهج وفلسفتها. والمناهج تعبر عن رؤية فلسفية وحضارية لأمة ما، إذ هي مرتبطة بمقولات معرفية حضارية، وخصائص ذاتية وواقعية لأمة ما. وهذا طبعا – في رأينا – لا يمنع من التعامل مع المناهج الأخرى أو التداخل معها في إطار يخدم مناهجنا التي نبتت واستوت على سوقها في حضارتنا.
من هنا أود التطرق إلى بعض القضايا المنهجية التي نراها ضرورية للدخول في هذا الموضوع، وهي:
1 – لا ريب أن دراسة التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية، يتطلب ذلك منا مراجعة مناهج هذه العلوم وتفكيكها، فهي علوم تقعيدية نسقية. ثم هل هي نفسها في حاجة إلى بلورتها من جديد، وإعادة النظر فيها على ضوء رؤية منهجية ومعرفية، مما تكشف عنه القوانين والسنن المبتوتة في الوجود سواء كانت تجريبية أو اجتماعية؟ فمن غير تلكؤ أن هذه القضية تحتاج إلى بحث عميق وجاد.
2 – إن التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية إنما يتناول من جهة مناهج هذه العلوم، وتداخلها أحيانا كثيرة على مستوى التوظيف، بحيث يصعب استغناء بعضها عن بعض، وهذا ما نسميه بـ”التنوع المنهجي” وهذه ظاهرة تهيمن بشكل بارز على العلوم الشرعية، إذ من الصعوبة بمكان أن ينفصل بعضها عن بعض، وبخاصة على مستوى التنزيل والتطبيق.
3 –  ثم إن هناك حقيقة غير خافية على أحد أن تمايز موضوعات العلوم الإسلامية لا يمنع البتة من أن يحصل التكامل فيما بينها على مستوى المناهج، ونحسب أن هذه ظاهرة لا تقتصر على العلوم الإسلامية وحدها، وإنما تكاد تشمل كافة العلوم. فقد قرر المتخصصون في المناهج وعلماء البحث المعرفي أن تطور المعرفة إنما هو رهين بقدرة الباحث والعالم على إعمال مجموعة من المناهج لتحصيل المعرفة أو تفكيكها وتحليلها “وأن كل تجديد في المنهج يفتح بابا للإضافة إلى العلم.”()
لأجل ذلك اشترط الدكتور رشدي فكار “على الباحث أن يتبنى منهجا أساسا ويكمله إذا اقتضت الضرورة بالاستعانة بمنهج أو منهجين آخرين بصفة تكميلية.”()
4 – يمكن أن يمثل علم الأصول تجسيدا كاملا لقضية التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية الشرعية، على اعتبار أنه من العلوم البينية، بمعنى أنه تضمن علوما أخرى والتصقت به فاحتواها بحسب منهجيته ورؤيته المعرفية. ثم لا يخفى أن علم أصول الفقه عبارة عن قواعد منهجية استدلالية لضبط عملية الفهم والاستنباط. فلا جرم أنها لا تقتصر على المجال الفقهي فقط، وإنما تتجاوز ذلك لتعمل في نطاق واسع، في إطار بلورة النظرة المنهجية في حقول معرفية متعددة ومتنوعة.
ومهما يكن من أمر فإذا كان علم أصول الفقه يحدد الإطار المعرفي والمنهجي للفقيه، فإنما ينبغي -أيضا- أن تصبح قواعده، ودلائله، وأسسه المعرفية والمنهجية بمثابة “أصول للفكر الإنساني” أو”أصول للعلم والمعرفة”.
من هنا كان علم أصول الفقه ـ ولا يزال ـ يمثل المنهج الكلي للعلوم الإسلامية، بحيث يعنى بالقضايا الكلية، والإطار العام لضبط قضية الاستنباط والاستدلال. وعلى هذا وقع كلام الشيخ مصطفى عبد الرازق حين قرر أن علم أصول الفقه: “هو اتجاه العقل العلمي الذي لا يكاد يعنى بالجزئيات والفروع…بل يعنى بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، وذلك هو النظر الفلسفي.”()
تصور عام حول قضية توظيف المنهج الأصولي في العلوم الإنسانية
بداية نعتبر النقد لتراثنا نوعا من إعادة النظر العلمي والمنهجي، وله وجهان: إزالة ما لا يصلح، وإبراز ما هو حسن، وهذا هو النقد، وإضافة ما لم يكن وهذا هو التجديد.
لعل أول سؤال يخالج أذهاننا، ونحن بصدد الوقوف على تصور عام حول توظيف المنهج الأصولي في الدراسات والعلوم الإنسانية هو: ماذا يمكن أن تستفيد العلوم الإنسانية من المنهج الأصولي وماذا يمكن – كذلك – أن يستفيد علم  الأصول من مناهج العلوم الإنسانية على أن هذه العلوم قد صاغتها مناهج متنوعة وطرق بحث متعددة ؟
للإجابة عن هذا الإشكال الذي يعترض توظيف المنهج الأصولي في العلوم الإنسانية من الوهلة الأولى. نود أن نلمس بعض القضايا والمسائل الأصولية التي نتوخى منها إفادة العلوم الإنسانية منهجيا ومعرفيا. وهي كالآتي:
1- القياس: يعد القياس الأصولي أهم مباحث الاستدلال الأصولية. فهو يعتبر دعامة أساسية في المنهج العلمي في مجال البحث والمعرفة. وجميع العلوم في حاجة إليه بلا استثناء، وفي هذا يقول إمام الحرمين الجويني مبرزا أهمية القياس في الشريعة: “القياس هو مناط الاجتهاد، وأصل الرأي. ومنه يتشعب الفقه، وأساليب الشريعة، وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع، مع انتفاء الغاية والنهاية…والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع هو القياس، وما يتعلق به من وجوه النظر والاستدلال. فهو إذا أحق الأصول باعتناء الطالب، ومن عرف مجاريها ومواقعها فقد احتوى على مجامع الفقه.”()
ويقول أبو حيان التوحيدي في رسالته في العلوم مؤكدا على أهمية القياس: “ثم القياس من بعدهما، أصل يعول عليه، وركن يستند إليه، وعروة يستمسك بها، والطاعن فيه يعلمه، وإن أنكره، ويفزع إليه وإن أباه، ولا يجد محيدا عنه، وإن لم يثق به. وإنما يتفرد به بمختلف ألفاظ تؤديه إلى نفس القياس.
والذي يوحش منه فساد بعضه عند الاعتبار، وتوقفه عن الاستمرار. وليس ذلك رافعا لأصله، ولا قادحا في حكمه.”()
والقياس الأصولي – أيضا – يقوم على قانونين أساسيين هما: قانونا العلية والاطراد، فالعلية تعني أن لكل معلول علة مرتبطة به ارتباط السبب بمسببه والمقدمات بنتائجها. وأما الطرد فهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف، وينعدم بعدمه. ويعبر عنه بعضهم بالدوران أو الجريان.()
من هنا يظهر أن القياس من هذه الناحية – بالإضافة إلى التقنيات والإجراءات والضوابط التي وضعها علماء الأصول- يمكن استثماره وإعماله في دراسة الظواهر الإنسانية، سواء أكانت سلوكية، أو اجتماعية، أو نفسية، أو غير ذلك، بناء على ما يضم من قواعد متفرعة عنه، من مثل:
    •  ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وهذا لا يحصل إلا عند التأكد من صحة قياس ظاهرة على أخرى، أو واقعة على أخرى، أو سلوك على آخر…
    •  التماثل يوجب الاشتراك في الحكم.
    •  لا يفرق بين المتماثلات ولا يجمع بين المختلفات.
    •  لا قياس مع وجود الفارق.
وهكذا فإنه بإمعان النظر في الظواهر الإنسانية عن طريق الاستدلال بالقياس الأصولي، وحسن توظيفه، ينتج عنه المزيد من ضبط العلوم الإنسانية من حيث المنهج. والقياس من هذه الحيثية وهذا الاعتبار، كما قال حسن الساعاتي: “استدلال في صميمه الكشف عن الأسباب، أي الربط بين العلل والمعلولات.”()
من التعليل الأصولي إلى التعليل الاجتماعي :
وأهم ما في القياس الأصولي –أيضا- هو جانب التعليل، وللأصوليين في ذلك دراسات وأبحاث عميقة لضبط “العلة ومسالك التعليل”، فلا يكاد مؤلف أصولي يخلو من التطرق إلى القياس وما يتعلق به إيجازا أو استقصاء.
على أن التعليل الأصولي وطرق الكشف عن العلة يمكن إعمالها في العلوم الإنسانية، بغية تعليل الظواهر الإنسانية حين يتم رصدها واكتشافها. فعلى إثر ذلك يتم فهم الظواهر الاجتماعية فهما سليما وعميقا، للإحاطة بها وكشف مقاصدها. وعن هذا يتحدث لؤي صافي حين جعل التعليل ضرورة لتحليل الفعل الاجتماعي والسياسي، فنص على ذلك بقوله: “إن عملية التعليل أكثر أهمية لفهم النصوص المتعلقة بالفعل الاجتماعي والسياسي، نظرا لأنها تساعدنا على التحرر من الخصوصيات الاجتماعية والتاريخية.”()
فلا بد إذن من تعليل الظواهر الإنسانية، والكشف عن أسبابها ومسبباتها ومقاصدها وغاياتها للإحاطة بها قبل الحكم عليها.  ولكن الأهم  من هذا هو أن يكون التعليل علميا ومضبوطا. وههنا يساعدنا ويفيدنا علم أصول الفقه بمباحثه الدقيقة في مسالك التعليل، مثل مسلك السبر والتقسيم، ومسلك الدوران، ومسلك تنقيح المناط… إلخ.
فلنأخذ مثلا السبر والتقسيم: وهو أحد أهم المسالك العقلية لإثبات العلية.
قال الغزالي في (المستصفى) مبينا معنى السبر والتقسيم: “وهو دليل صحيح، وذلك بأن يقول: “هذا الحكم معلل، ولا علة له إلا كذا وكذا، وقد بطل أحدهما، فتعين الآخر …”()
ومعنى كلامه أن السبر والتقسيم يمر بعمليتين:
    ◦  الأولى: حصر الأوصاف التي تحتمل التعليل.
    ◦  الثانية: اختيار ودراسة هذه الأوصاف.
من ثم اشترطوا في السبر أن يكون حاصرا، وفي الإسقاط أن يكون صحيحا. يقول الإمام جمال الدين الأسنوي عن مسلك السبر والتقسيم: “ومعناه أن الباحث عن العلة يقسم الصفات التي يتوهم عليتها، بأن يقول: علة هذا الحكم إما هذه الصفة، وإما هذه، ثم يسبر كل واحدة منها، أي يختبره ويلغي بعضها بطريقه فيتعين الباقي للعلية. فالسبر هو أن يختبر الوصف هل يصلح للعلية أم لا. والتقسيم هو قولنا: العلة إما كذا وإما كذا. فكان الأولى أن يقدم التقسيم في اللفظ فيقال: التقسيم والسبر لكونه متقدما في الخارج.”()
والسبر والتقسيم يدخل فيه ما يسمى عند ستيوارت ميل ” بطريقة البواقي” وهي إحدى قواعده المنهجية في علم الاجتماع تتلخص فيما إذا كانت الظاهرة مجزأة إلى عدة أجزاء، وكانت لهذه الأجزاء أسباب عدة، ثم توصل الباحث “إلى دراسة علاقة الظاهرة بأسبابها، وربط كل جزء بسببه المعروف لديه، غير أن واحدا من الأجزاء بقي منفردا فيلحقه إذ ذاك بالسبب الباقي، فيكون الجزء الباقي من الظاهرة معللا بالفرد الباقي من الأسباب.”()
غير أن الدكتور عبد الرحمن حبنكة الميداني بعد التأمل في طريقة البواقي عند “ميل”، والسبر والتقسيم عند الأصوليين، توصل إلى الكشف عن الفارق الأساسي بينهما. يكمن على حد قوله في: “أن طريقة البواقي توزع المسببات في الظاهرة على أسبابها، وتحصر الباقي من الظاهرة في الباقي من الأسباب. أما طريقة السبر والتقسيم فتقوم على حصر جميع الأسباب المحتملة، وإسقاط واحد بعد آخر بالدليل، وحصر الأمر في السبب الأخير.”()
ابن خلدون وتوظيفه للقياس الأصولي :
ومما يزيدنا اطمئنانا إلى هذا النوع من التوظيف والإعمال للمنهج الأصولي أنه سبق لابن خلدون أن وظف القواعد الأصولية وأعمل مناهج وطرائق المحدثين في إرساء وبناء قواعد علم العمران البشري. والدليل على ذلك أن كتابه الموسوم بـ(المقدمة) طافح بهذا النوع من التوظيف، سواء صرح  به ابن خلدون نفسه، أو استنبطناه من خلال المقدمة نفسها.
من ذلك اعتماده على القياس في الكشف عن المغالط والأخطاء التي يقع فيها المؤرخون في نقلهم للأخبار في غفلة عن مقايستها بنظائرها. ففي ذلك يقول: “وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط.”()
وهكذا نرى ابن خلدون يعتمد المقايسة والمقارنة منهجا وسبيلا لدراسة وتحليل الظواهر الاجتماعية، والأخبار التاريخية. على أن ابن خلدون لم يستخدم القياس للاستدلال به في العقليات، ولا لأن يتوسل به الشرعيات، بل كان مستخدما له لبسط حججه وبراهينه الاجتماعية للوصول إلى القوانين والأسباب التي تحكم العمران البشري، فعن طريق القياس يصل ابن خلدون إلى تعليل ضروب من الظواهر الإنسانية.
ومما استعمل فيه ابن خلدون القياس ما يلي:
    •  صناعة الغناء وما تحدثه من تغير في طبيعة العمران البشري.()
    •  في رده للرواية الفاسدة عن سبب نكبة الرشيد للبرامكة، وما حصل لأخته العباسة مع يحيى البرمكي. وما قيل في معاقرة الرشيد للخمر.()
    •  كما أنه طبق مسلك السبر والتقسيم في الفصل الذي كتبه (في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه).()
    •  وقد صرح ابن خلدون -أيضا- بمسلك السبر والتقسيم عند بيانه للحكمة في اشتراط النسب القرشي فقال: “إن الأحكام الشرعية كلها لابد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها، وتشرع لأجلها، ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي، ومقصد الشارع منه، لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي صلى الله عليه وسلم كما هو في المشهور، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلا، لكن التبرك بها حاصلا، لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت، فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها.
وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة.”()
وبالرغم من اعتماد ابن خلدون على القياس، فإنه يحذر من الوقوع في الشطط والخطأ والزلل عند استعماله، ففي ذلك يقول: “والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده. وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيرا من أخبار الماضين، ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها فيجريها لأول وهلة على ما عرف، ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط.”()
والجدير بالتنبيه عليه إزاء هذه المسألة، أن ابن خلدون كثيرا ما يستعمل مفهوم (الاعتبار) (اعتبر) للتدليل به على صحة القياس. وكأني به اقتصر على لفظ (الاعتبار) لوروده في القرآن الكريم على غيره. قال تعالى: ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾()، وهذه الآية هي التي يستدل بها الأصوليون على حجية القياس. يقول ابن رشد: “فإن هذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معا”(). و(الاعتبار) عند ابن رشد ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس.()
ولما كان التعليل هو لب القياس وجوهره، فقد حظي عند ابن خلدون برواج كبير جدا، حتى قرر أنه هو باطن علم التاريخ . إذ في باطنه: “نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق. فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق.”()
وعلى كل حال فإن ابن خلدون لم يكن ليتوصل إلى علمه الجديد (العمران البشري) إلا تأملاته وتدبراته القرآنية، وباستخدامه للمنهج الأصولي، ومناهج المحدثين في التثبت من الأخبار، وطرق سبرها. وعلى هذا وقع قول الساعاتي مؤكدا ما سبق ذكره: “إن ابن خلدون قد توصل إلى علمه الاجتماعي الجديد متأثرا إلى حد ما بتدبره الاجتماعي للقرآن من جهة، وباهتدائه بمناهج علم الحديث، وأصول علم الفقه من جهة أخرى.”()
التعارض والترجيح :
مبحث التعارض والترجيح مبحث أصولي نفيس للغاية. ألحقه الإمام الغزالي بالقطب الرابع الذي هو في (حكم المستثمر) وهو المجتهد.
والذي يعنيني هنا، أن هذا المبحث ضبطه الأصوليون، وفصلوا القول فيه، من ثم فإن العلوم الإنسانية غير مستغنية عن قواعد التعارض والترجيح في دراسة الظواهر عند تغيرها أو تعارضها. فعند تعارض الظواهر فيما بينها، يمكن الاهتداء بما سطره الأصوليون وقيدوه في مبحث (التعارض والترجيح)، لأن قضية (التعارض والترجيح) قضية إنسانية تقع في العلوم الإنسانية جميعها، والحياة الاجتماعية جميعها، وليست خاصة بالمجال التشريعي، أو النصوص الشرعية فحسب، وإنما هي ظاهرة عامة، فلا جرم أن لعلماء الأصول السبق في بيانها وتقعيدها وحسن توظيفها في فهم النصوص الشرعية.
على أن دراسة ظاهرة من الظواهر الإنسانية، وأثناء تحليلها إلى جزئيات، قد تتعارض هذه الجزئيات فيما بينها، أو قد تتعارض الظاهرة نفسها مع ظاهرة أخرى مرتبطة بها، أو توافقها في بعض الأمور، وتختلف معها في جوانب أخرى. فبالرجوع إلى المنهج الأصولي في مبحث (التعارض والترجيح) واستخلاص طرق الأصوليين ومناهجهم واستدلالاتهم يمكن الاهتداء إلى معالجة الظاهرة المدروسة بإيجاد الحلول الناجعة لها. إما بالتوفيق بينها وبين ظاهر من الظواهر، وإما بتفكيكها إلى جزئيات يتم دراسة كل جزئية على حدة.
وههنا ينبغي التفريق بين الظاهرة والنازلة، فالظاهرة تكون عامة، بخلاف النازلة حيث تتسم بالجدة وناذرة الوقوع، تحتاج إلى فقه جديد، وهي في الغالب ما تكون فردية. من ثم كان مجال عمل العالم الاجتماعي هو الكشف عن الظواهر ودراستها وتحليلها. أما عالم الفقه فيحلل هذه الظواهر من جهة تطبيق القواعد الأصولية والفقهية عليها قصد بيان حكم الشارع فيها. وهنا يكمن سر التكامل بين المجالين والعلمين، وأعني بذلك العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية.
مقاصد الشريعة:
لا يخفى أن الاهتمام بالمقاصد هو أرقى ما يتوصل إليه النظر العلمي، وذلك بالوصول إلى فلسفة العلوم ومقاصدها. ففي مجال العلوم الشرعية، فإن الأمر مسلم بأن الشريعة جاءت لتحقيق مقاصدها في الوجود، أعني مقاصدها في الخلق في العاجل والآجل.
أما العلوم الإنسانية فلا زالت تفتقد -إلى حد ما- إلى ضبط مقاصدها، وتحديد أهدافها، وذلك راجع إلى الخلفية الفلسفية والمعرفية التي تحكمها. فمن هنا نرى أنه لا بد من أن تستفيد العلوم الإنسانية من علم مقاصد الشريعة، لترسم مقاصدها بدقة، فيقع الانسجام والتوافق والتكامل بين العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، لأن هذه الأخيرة عند تحقيق النظر فهي علوم إنسانية وضعت من أجل خدمة الإنسان وربطه بإطاره المعرفي الكلي وهو الدين باعتباره موجها ومؤطرا للكينونة البشرية.
وفي غياب المقاصد يقع الانفصام والتيه والحياد عن النهج القويم والسبيل المستقيم، فتصبح العلوم الإنسانية مساهمة في شقاء الإنسان وتضليله. وقد وجدنا ابن خلدون رحمه الله يعتمد المقاصد والغايات في علمه الجديد “علم العمران البشري”. فهو يستحضر المقاصد في تحليلاته وتعليلاته الاجتماعية والبحثية، وهذا ما يقف عليه الدارس لمقدمته النفيسة.
والذي يمكن استخلاصه مما سبق، وإن كانت القضية تحتاج إلى بحوث معرفية عميقة ودقيقة، أن قضية التكامل المعرفي والمنهجي بين العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية تحتاج إلى ما يلي:
الإحاطة والاستيعاب الجيد للعلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية على مستوى المناهج، قبل الحديث عن التكامل وإعمال بعضها في بعض.
    •  لا بد من تفكيك البنية المعرفية والمنهاجية لكلا المجالين العلميين.
    •  إعادة النظر في السياق التاريخي والمعرفي الذي نشأت فيه هذه المناهج والعلوم سواء إنسانية أو إسلامية.
    •  التخلص من قدسية المناهج والعلوم وذلك باعتبارها تراثا إنسانيا قابلا للتفكيك والتحليل والتركيب. حتى يتسنى الوصول إلى الحقيقة العلمية دون شطط أو تعسف.
    •  وأخيرا فإنني أتساءل هل يمكن تركيب منهجية معرفية جديدة من خلال تفكيك العلوم الإنسانية والإسلامية تكون أكثر قدرة على فهم الخطاب الشرعي ومعارف الوحي؟ وأي ريادة وقيادة لعلم أصول الفقه في ذلك.
هذه بعض التجليات في قضية التكامل بين العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية أحسب أنها منيرة للطريق والتبصر للحقيقة.
والحمد لله رب العالمين.