الرئيسية / أصول الاستدلال عند الإمام مالك.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : أصول الاستدلال عند الإمام مالك.

الكاتب(ة) : د. الحسين آيت سعيـــــــــد

لا نتوخى في هذا البحث أن نترجم للإمام مالك،
ولا أن نرسم له صورة جلية كما آلت إلينا، لأن ذلك مسبوق إليه، ومستفاض فيه، ومدون بأدق تفاصيله وحقبه ومراحله،
صنفت فيه مجلدات مستقلة ضخمة، وعَرض له أثناء الكلام على الفحول الكبار والنبلاء العظام غير واحد في مصنفات
قديمة وحديثة سار بذكرها الركبان، وانتشرت في الأقطار انتشار الشمس في الأكوان، وترجم في عشرات المصادر المتخصصة
وغير المتخصصة. ويكفي في هذا المضمار أن نشير لبعضها لمن يروم الاطلاع عليها، تذكيرا وترشيدا، وتنبيها
وتسهيلا.

فممن أفرده بالتأليف من الأقدمين:
     
أبو بكر: جعفر بن محمد الفريابي (ت310هـ)، له كتاب أسماه: مناقب الإمام مالك.

     
وأبو العرب التميمي: محمد بن أحمد، (ت303هـ)، له كتاب في فضائل مالك.

     
وأبو الحسن: علي بن الحسن بن محمد بن العباس بن فهر المصري، له كتاب في فضائل مالك في اثني عشر جزءا.

      وأبو عبد الله التستري: محمد بن أحمد، (ت453هـ) له
نحو عشرين جزءا في مناقب مالك.

وهناك غير هؤلاء ممن أفرده بالترجمة،
أو ذكره أثناء تراجم الكبار.()

وعليه، فالخوض في ترجمته خوض في أمر
أشبع بحثا، واستفيض في دقه وجله.،.وإعادة ذلك بأي صيغة هو تسويد للورق، وإضاعة للمداد، واستخفاف بالوقت، إذ لا
يزيد الباحث فيه شيئا مهما بلغ كعبه، واتسعت دائرة معارفه، اللهم إلا تنميق العبارة، والتقديم والتأخير، وأما
المضمون فلن يؤتى فيه بجديد. وخاصة أنه يتعلق بترجمة علم من الأعلام المشهورين، وليس بمغمور حتى يحتاج للتعريف
به، ولا بمعاصر حتى تدعي أننا علمنا عنه ما جهله غيرنا.

والذين عاصروه
وشافهوه وجالسوه قد رسموا لنا صورة طبق ما شاهدوا وعاينوا، وهي لا تقبل الزيادة ولا النقصان عما نقلوا، كما أنها
ليست محل اجتهاد للاستدراك عليهم فيها.

ومن ثم، لن نشتغل بالسيرة
الذاتية للإمام مالك، وإنما سنبحث ما هو ألصق بمعارفه وعلومه، وكيفية بنائه لها، وبنائه عليها، وكيف تكونت
مدرسته الفقهية التي تؤول إليه، وأسست على اجتهاداته وآرائه بكل ما يستدعي ذلك من تداخل وتمازج بين النقل،
والعقل، والواقع، ورعاية المصالح.

والمدارس الفقهية وإن تعددت رؤاها،
واختلفت اجتهاداتها المنبئة عن قوتها أو ضعفها، إلا أنك تطيق أن تدرك هذه القوة وذلك الضعف باستعمال معيار
الأصول، ذلك أن قوة أي مدرسة إنما ينبثق من أصولها التي تبنى عليها، وأسسها الأولى التي تحراها مؤسسها، فعلى قدر
الارتباط والبناء على مضمامينها والتفريع عليها، تتحقق للمدرسة خاصيتان:

الأولى: خاصية التجذر الذي يذكر دوما بمراحل التأسيس، ويزود رواد المدرسة بالانتماء
العريق لجيل الأسوة الذي يحتذى، ورموز المعلمة الذين بهم يقتدى.

والثانية: خاصية التشييد التفريعي الذي تتسع مدلولاته، وتنماز جزئياته،وتتباين لبناته،
ولكنها كلها مشدودة بحبال تلك الأصول الأولى، ومستحكمة الوُصلة بينها وبين الأُوَل.

ومن ثم، فإن تلحظ بين التأصيل والتفريع نشازا ولا تنافيا مع امتداد الأزمنة، وتغاير
الأمكنة، وجدة النوازل، وسعة ميادين التطبيق والتنزيل، ذلك أن سمات الأصول الاطرادُ والثبات، وميزات الفروع إذا
أنيطت بأصولها عدمُ الاضطراب والتناقض.

وأي بناء في مراحله الأولى إذا
توخي به الاستمرار، فلا بد له من قواعد متينة، يراعى في سبكها ونسج سداها ولُحمتها الدقة والقوة معا، فأما الدقة
فتصبغها بلون الاستقامة المتناهية لأن أي اعوجاج فيها سينعكس سلبا على كل ما يحمل عليها. وأما القوة فتمدها
بقدرة حمل الأعباء مهما تشابكت وتشاكست.

فإذا كان هذا مرموقا في
البناء المادي، فذلك ملحوظ أيضا في البناء المعنوي، فالمدارس والمذاهب المندثرة لم يكن زوالها نسبيا عن نقص في
شخصيات البناة، ولا عن تقواهم وورعهم، وإنما كان ذلك ناشئا في الغالب عن المناهج التي حيكت عليها تلك المدارس،
إذ لم تكن تتسم بالشمولية والمتانة.

هذا وإن أعرق أصول وأمتن قواعد هي
أصول وقواعد المذهب المالكي، كما أشاد بذلك ابن تيمية والذهبي وغيرهما كما سيأتي. وشهادتهما شهادة خبراء بخبايا
المذاهب وخفاياها، وأصولها وفروعها، وهي شهادة لها قيمتها العلمية، لأنا مبنية على استقراء.

هذه الأصول التي أسس عليها مالك رحمه الله مذهبه، هي التي سيتولى هذا العرض بيانها من
خلال العناوين الآتية:

    1.  تمهيد في بيان أن فقه مالك فقه موروث.

    2.  المذهب المالكي أرسخ المذاهب أصولا وفروعا.

    3.  المذهب المالكي في طوره الأول «عصر المؤسس».

    4.  أصول مالك التي بنى عليها مذهبه، وأقوال المالكية
وغيرهم فيها.

    5.  بسط الكلام عن تلك الأصول، وإثبات أدلتها الدالة
على اعتمادها من كلام الإمام نفسه، أو كلام أصحابه، ويتضمن هذا المحور سبعة عشر أصلا، مستدلا له من الموطأ
وغيرها، مبينا ما فيه الخلاف مما ليس كذلك، مع تعقب الأقوال ونقدها والموازنة بينها وبين غيرها لينجلي بذلك
الصبح لذي عينين، وليتأكد من رام الصواب من بغيته.

I – تمهيد في بيان
أن فقه مالك فقه موروث:

إن مذهب مالك –النجم الساطع والنور اللامع- له
جذور متجذرة آيلة إلى فقه الصحابة، وأقضية الخلفاء الراشدين، وخاصة أقضية عمر. ومن ثم فيمكن للمرء أن يجزم بأن
فقه الفقهاء السبعة بالمدينة موروث، امتزج فيه النص بالفتوى وبالقضاء، وبالعرف الذي جرى عليه
العمل.

وهذا كله يجعل المرء إذا أراد استجلاء حقيقة المذهب المالكي أن
يحيط بهذا الموروث من شتى جوانبه، دراية ورواية، وشرحا وتعليلا، وهو بحمد الله مدون محفوظ بأدق موازين الحفظ
ووسائله. ولا بد لفهمه وتنزيله منازله، والتعامل معه بجدارة من أمرين اثنين:

أحدهما: عقلية نصية تدرك منطلقاته التي هي النصوص بمعناها الواسع.
وثانيهما: إدراك عللها ومقاصدها التي بدونها لن يفهم شي من ذلك
الموروث.

وإذا صح لنا بالحجة والبرهان أن ندعي أن مذهب مالك ليس مذهبا
فرديا، وإنما هو مذهب جماعي توالى على تأسيسه واستقلاله فيما بعد أفهام عديدة، أدركنا قيمة هذا المذهب، لأن
تراكم الأفهام وتواردها على معنى واحد يجعل المرء مطمئنا إلى ما تناولته وانتهت إليه من تلك الأنساق المعرفية
التي اتحدت فيما بعد وتلاحمت، ولن نبعد أيضا إذا قلنا: إن مذهب الشافعي ومذهب أحمد ابن حنبل رحمهما الله، ليسا
إلا وجها من أوجه المذهب المالكي في أصوله وفروعه، ذلك أن الشافعي رحمه الله لم ينبُل بين الورى وأشرقت شمسه إلا
بعد ما أخذ الموطأ سماعا من الإمام مالك، وتتلمذ له، وهو أجل تلامذته، وأجل من روى عنه الموطأ، وكان مالك يبالغ
إكرامه وتقديره،وكان معجبا بفصاحته وبلاغته، ولذا ما كان يقرأ على أحد في حضوره سواه، قال الشافعي: «أنا قرأت
على مالك فكان يعجبه قراءتي”(). وحينما قرأ عليه الموطأ، كلما أراد أن يقطع أعجبه حسن قراءته وإعرابه، فيقول:
«يا فتى، زد، حتى قرأه عليه في أيام يسيرة».

والقصد بهذا كله أن نعرف
مدى تأثر الشافعي بمالك في أصوله وفروعه التي بنى عليها مذهبه، فيصح أن نجزم بأن مذهبه ما هو إلا امتداد لمذهب
الإمام مالك.

وأما الإمام أحمد فهو من أجَل تلامذة الشافعي وأكثرهم
ملازمة له وأخصهم به، وكان من شدة إعجابه به يقول: «ما كنا ندري ما الكتاب والسنة حتى سمعنا الشافعي من الكتاب
والسنة والإجماع».()

فإذا كان فقه الشافعي لم يؤُل إلى أفضل من الإمام
أحمد، فمعنى ذلك أنه أقام غالب مذهيه على مذهب الشافعي، والشافعي أقام غالب مذهبه على مذهب مالك، فصح أن هذين
المذهبين يرجعان إلى فقه مالك الراجع إلى فقه أهل المدينة النبوية، ولذا تجد بعض خصائص وأصول هذه المذاهب
الثلاثة متحدة، ويمكن إجمالها في أربعة:

  1 – منها تعظيمهم للسنة النبوية والالتزام بالاحتجاج
بها، والمبالغة في الذود عنها، وعدم الاعتداد بما سواها عند وجودها، وهذه ظاهرة لا تكاد تفارق هذه المذاهب
الثلاثة، بل هي ظاهرة مطردة فيها.

  2 – ومنها عدم الجمود، وإدارة النصوص على معانيها،
وربطها بعللها، وتنزيلها على مقاصدها المتوخاة منها.

  3 – ومنها الاعتداد بفهم الصحابة واعتماده، وخاصة
في مواطن الاحتمال، أو في مجال العبادات التي لا تخضع للاجتهاد.

  4 – ومنها إنتاج فقه واقعي بعيد عن الافتراض
والتنظير، مرتبط بالحوادث الموجودة لا المتوقعة.

  هذا التأثير
والانتشار لمذهب أهل المدينة له دلالته على صحة أصولهم وفروعهم المبنية عليها، ولن نغالي إذا قلنا إن فقه أبي
حنيفة في مراحله الأخيرة تأثر بمذهب مالك، مع محمد بن الحسن الشيباني بعد ما قرأ الموطأ على مالك، وقد تراجع عن
كثير من القضايا نتيجة اطلاعه على نصوصها التي لم تكن عند أهل العراق، بل أحدثَ علم محمد بن الحسن المستمد من
علم مالك ثورةً في فقه الحنفية جعلته مرتبطا بالدليل وباحثا عنه.

  هذا الفقه المالكي الذي شرق وغرب وملأ الدنيا مباشرة أو بالوسائط لا بد أن تكون
له خصوصيات ذاتية وخصوصيات خارجية تتجلى في أصوله التي بني عليها، فهي ألصق بالكتاب والسنة وما كان عليه
السلف.

  وهذا الأصل نترك تقريره لمن ليس بمالكيّ حتى يقرره،
ونكِلَه إلى من تبحر في المعقول والمنقول، واستوعب المذاهب الإسلامية بأصولها وفروعها حفظا وإتقانا، وفهما
واستيعابا، حتى لا يقال: إن مالكيا من المالكية يمدح مذهبه.

 
وشهادة هذا المتبحر لها قيمتها العلمية والتاريخية والاستقرائية، وهذا الحافظ هو ابن تيمية رحمه الله. ففي
الفتاوى: «وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن صحة أصول مذهب أهل المدينة، ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم في
الإمامة والديانة، وضبطه علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار، وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار، فأجاب رضي
الله عنه: «الحمد لله، مذهب أهل المدينة النبوية، دار السنة، ودار الهجرة، ودار النصرة، مذهبهم في زمن الصحابة
والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا في الأصول والفروع».

  وهذه الأعصار الثلاثة، هي أعصار القرون المفضلة، وفي القرون التي أثنى عليها
الرسول  كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله  أكثر من
سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها..

  ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة
يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة ولا الشام ولا العراق ولا غير ذلك
من أمصار المسلمين..

  فأما الأعصار الثلاثة المفضلة، فلم يكن
بالمدينة بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة، كما خرج من سائر الأمصار.. فالكوفة خرج منها
التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد، والشام كان بها
النصَب والقدر، فأما التجهم فإنما ظهر من ناحية خراسان وهو شر البدع، وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار
النبوية..

   ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهرا إلى زمن
أصحاب مالك، وهم أهل القرن الرابع، حيث أخذ ذلك القرنُ عن مالك وأهل طبقته..

  وكان أهل المدينة فيما يعملون، إما أن يكون سنة عن رسول الله  وإما أن
يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب، ويقال: إن مالكا أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب عن عمر،
وعمر محدث. وفي الترمذي عن رسول الله : «لو لم أبعث فيكم، لبعث فيكم عمر»، وكان عمر في مسائل أصول الدين والأصول
والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول الله ، وكان يشاور عليا وغيره من أهل الشورى. ومما يوضح الأمر في ذلك أن سائر
أمصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين لعلم أهل المدينة، لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في
العلم…

   والعلم إما رواية أو رأي، وأهل المدينة أصح
المدن رواية ورأيا، وأما حديثهم فأصح الأحاديث، وقد اتفق أهل العلم بالحديث أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة،
ثم أحاديث أهل البصرة، وأما أحاديث الشام فدون ذلك.. وأما أهل الكوفة فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم،
ففي زمن التابعين كان بها خلق كثير منهم معروفون بالكذب، لا سيما الشيعة، فإنهم أكثر الطوائف كذبا باتفاق أهل
العلم، ولهذا يذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا
أن فيهم كذابين.

   ثم إن بغداد إنما صار فيها من العلم
والإيمان ما صار، وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز، وسكنها من أفشى السنة فيها، وأظهر
حقائق الإسلام، مثل أحمد بن حنبل، وأبي عبيد وأمثالهما من فقهاء أهل الحديث، ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة في
الأصول والفروع.

   إذا تبين هذا، فلا ريب عند أحد أن مالكا
رحمه الله أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من
المكانة عند أهل الإسلام ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام.

   ومعلوم أنه بعد موت هؤلاء –يعني الثوري، والأوزاعي، والليث، وأبا حنيفة-
لم يكن في الأمة أعلم من مالك.. ولا رُحل إلى أحد من علماء المدينة ما رُحل لمالك لا قبله ولا بعده، رُحل إليه
من المشرق والمغرب، ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم: من العلماء، والزهاد، والملوك، والعامة، وانتشر موطِِؤه
في الأرض حتى لا يُعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان أكثر انتشارا من الموطأ.

   والناس كلهم مع مالك وأهل المدينة إما موافق وإما منازع، فالموافق لهم
عضُد ونصير، والمنازع لهم معظم لهم، مجل لهم، عارف بمقدارهم، وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس
معدودا من أئمة العلم..

   ويمكن الـمتبع لمذهبه أن يتبع
السنة في عامة الأمور، إذ قلَّ من سُنّة إلا وله قول يوافقها، بخلاف كثير من مذاهب أهل الكوفة، فإنهم كثيرا ما
يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك. ثم إن من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح
الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما..()

  
ومن البدهي أن هذه الخصائص تتوفر بالمقايس العلمية في المذهب المالكي نظرا لعوامل عديدة تهيأت له دون غيره، فحاز
بها الشرف من جهتين، وتأثل بها من زاويتين: زاوية الاستمساك بالسنة، وزاوية التمسك بآثار من مضى، وبين هذين يدور
الفقه، وتستنطق نصوصه، ويتأمل في مآلاته وغاياته، وما سوى ذلك فهو شقشقة وهدير لا طائل تحته، وعجعجة لا طحن لها،
تصرف عن الصواب، وتصد عن الحق الذي لا مرية فيه ولا ارتياب.

II –
المذهب المالكي أرسخ المذاهب أصولا وفروعا:

    هذا
الرسوخ والسعة والمرونة في المذهب المالكي يرجع إلى عوامل عدة، منها:

أولا –  أهلية مالك
وجدارته بالفتوى والاجتهاد: هذه الأهلية تتجلى في أنه لم يتصدَّ لهذا الأمر حتى شهد له أهله بذلك، وأمروه
بالفتوى. قال مالك: «ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل،
وأهل الجهة من المسجد، فإذا رأوه لذلك أهلا جلس، وما جلستُ حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني موضع
لذلك»(). وأفتى مالك في زمن شيوخه وبإقرارهم، وإرشادهم الطلبة إليه.

قال عاصم بن عمر: «كنا نأخذ عن مالك في حياة يحيى بن سعيد»() يعني الأنصاري، وهو شيخ
مالك.

وقال أيوب السختياني: «قدمت المدينة في حياة نافع، ولمالك
حلقة».()

وقال مصعب: « كان لمالك حلقة في حياة نافع أكثر من حلقة
نافع».()

وكان ربيعة بن أبي عبد الرحمان إذا سأله الرجل فلم يفهم عنه
يقول: «سل هذا»()، يعني مالكا.

ثانيا – إمامته في تفسير كتاب الله، وإدراك معانيه، والغوص على
جواهره ولآلئه، وإدامة تدبره، وإمعان النظر في مقاصده ومآلاته، حتى صنف في ذلك.

قال القاضي عياض: «وله في تفسير القرآن كلام كثير وقد جُمع، وتفسيرٌ يرويه عنه بعض
أصحابه، وقد جمع أبو محمد مكي مصنفا فيما رُوي عنه من التفسير والكلام في معاني القرآن وأحكامه، مع تجويده له،
وإحسانه ضبط حروفه..”(). وقال: «ومن ذلك كتابه في التفسير لغريب القرآن الذي يرويه عنه خالد بن عبد الرحمن
المخزومي، أخبرنا به أبو جعفر: أحمد بن سعيد..()

وقال خالد بن نزار:
«ما رأيت أنزع بكتاب الله عز وجل من مالك بن أنس!».()

وقال ابن وهب:
قيل لأخت مالك بن أنس: ما كان شغل مالك بن أنس في بيته ؟ قالت: المصحف والتلاوة».()

وليست هذه التلاوة المداوم عليها تلاوةَ حروف، وإنما هي تلاوة تأمل واستدلال واستنباط،
ويدل على انشغاله بها، واستغراقه فيها في خلو بيته الذي ليس فيه ما يشوش على صفاء ذهنه، ولا ما يكدر عليه غوصُه
على تدبره، وإلا فالتلاوة المجردة من هذه المعاني لا تحتاج للتفرغ، بل تكون في كل مكان يوجد فيه المسلم، في
المسجد، والسوق، والطريق، والمجالس.. إذ من عادة المسلم أن يقرأ ورده من القرآن في يومه وليلته كيفما تيسر
له.

والمناظرة التي جرت بين الشافعي ومحمد بن الحسن هي شهادة أخرى تدل
على منزلة مالك، وسداده في العلم بكتاب الله عز وجل. قال الشافعي: «قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم بالقرآن،
صاحبنا أو صاحبكم ؟ -يعني أبا حنيفة ومالك بن أنس– قلت: الإنصافَ تريد أم المكابرة؟ قال: الإنصاف، قلت: ناشدتك
الله، مَن أعلمُ بكتاب الله وناسخه ومنسوخه؟ قال: اللهم صاحبكم، قلت: ناشدتك الله، فمن أعلم بسنة رسول الله ؟
قال: «اللهم صاحبكم، قلت: فمن أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله . قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: قلت: فلم يبق إلا
القياس، قال محمد: صاحبنا أقيس، قال الشافعي: القياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الأصول فعلى أي
شيء يقيس، ونحن ندعي لصاحبنا مالا تدعونه لصاحبكم ـ وفي لفظ: وصاحبنا لم يذهب عليه القياس، ولكن كان يتوقى
ويتحرى، ويريد التأسي بمن تقدمه.()

ثالثا – إمامته في السنة النبوية، وهي الركيزة المفضلة
لمجمل الأحكام القرآنية، وأي متفقة كان عنده نقص في صناعتها والتبحر فيها، فإن ذلك سينعكس على فقهه بالنقص،
وأحيانا بالتناقض والتضارب، ومالك رحمه الله من المتبحرين في علم الرواية، والمتقنين لها، والمتفقهين فيها
.

قال ابن مهدي: «ما أقدم على مالك في صحة الحديث أحدا».()

وقال يحيى بن سعيد القطان: «كان مالك إماما في الحديث»، وفي لفظ: «ما في
القوم أصح حديثا من مالك ” ()

وقال ابن عيينة: «ما كان أشد انتقاء
مالك للرجال، وأعلمه بشأنهم».()

وقال ابن معين: «مالك من حجج الله على
خلقه».()

وقال الشافعي: «إذا جاء الحديث عن مالك فشد به
يديك».()

وقال أحمد: «مالك إمام في الحديث والفقه».()
وقيل لأحمد: «يا أبا عبد الله، رجل يحب أن يحفظ حديث، قال: يحفظ حديث مالك، قلت: فرأي
مالك؟ قال: فرأي مالك».()

وإذا ثبت بهذه البراهين صحة أصول مذهب
مالك، ثبت ما ينبني عليها ويتفرع على دلالتها من القضايا الفقهية، والآراء الاجتهادية، قال القاضي: «فرحم الله
الشافعي ومحمد بن الحسن، فلقد أنصفا، والذي قاله الشافعي هو حق اليقين، فإن الاجتهاد والقياس والاستنباط إنما
يكون على الأصول، فمن كان أعلم بالأصول كان استنباطه أصح وقياسه أحق، وإلا فمتى اختلت معرفته بالأصول، قاس على
اغترار، وبنى على شفا جرف هار».( )

وهذه شهادات الشيوخ والأقران
والتلاميذ لمالك بمتانة هذا الأصل عنده، ويلوغه فيه الذروة العليا من الإتقان والفهم، ومن كان بالسنة لصيقا كان
حريا بإصابة الصواب في اجتهاداته وآرائه، وكان فقهه أقرب إلى الاطراد ممن لم يكن كذلك .

رابعا – الإمامة في معرفة ما
جرى به العمل، والسنة من عهد النبي  إلى عصره، وما قضى به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، مع العلم بمواطن
الاتفاق والاختلاف في ذلك، وما عمل به مما لم يعمل به .

وهذا يعني أن
فقه مالك، فقه موروث، وفقه آثار واعتبار معا، وحقيق بفقه تحلى بالصفتين معا أن يكون أهلا للعمل وموئلا للاطمئنان
.

والعمل المستمر المعتمد عند مالك أقوى من آحاد الأدلة، لأن ذلك عُمل
به جيلا بعد جيل، فتواتر معناه والعمل به، والثاني إن صح، فإن عدم العمل به قد يقدح في صلاحيته للعمل لاعتبارات
ليس هذا مجال تفصيل ما يصح منها مما لا يصح .

III – المذهب المالكي في
طوره الأول «عصر المؤسس»:

انتهت الفتوى وطرائق الاجتهاد للإمام مالك
في المدينة بصفة انفرادية بعد موت شيوخه وأقرانه، وقصد من جميع الأقطار الإسلامية، للأخذ عنه وتحمل كتاب الموطأ
عنه، وشرّق الناس بفتاواه وبكتابه وغربوا، ولم يبق صقع من أصقاع الإسلام إلا ودخله الموطأ بإحدى
رواياته.

وكان ما روي عن مالك ونقل عنه من الفتاوى كثير جدا، فقد نقل
ابن القاسم وحده من أصحابه ما يضاهي أربعين ألف فتوى في المدونة، وفي أسمعة أصحابه الآخرين شيء كثير، ومرد ذلك
إلى أسباب منها:

1) أن مالكا انتهت إليه رئاسة العلم بالمدينة
النبوية.

2)
ثقة الناس بعلم أهل المدينة، وبفتاواهم، وحبهم الخالص لعلمائها.

3) وراثة الإمام مالك لعلم من سبقه من علماء المدينة
النبوية.

4)
شهادة كبار الحفاظ له بالإتقان، والتحري، والسداد في الأقوال والأفعال، مع ورعه وإنصافه.

5) ورود حديثٍ حسن في «عالم
المدينة» الذي ستُضرب له أكباد الإبل، وهو قوله  من حديث أبي هريرة: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في
طلب العلم، فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة»( )، وحمله جلة من العلماء على مالك، وأولوه به، ورأوا أنه وحده
الذي ينطبق عليه، منهم سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق، وابن جرير. ولم يُفتِ بالمدينة أكثر من ستين سنة أحدٌ يأخذ
عنه أهل الشرق والغرب ويضربون إليه أكباد الإبل سوى مالك بن أنس. هذه الأمور كلها مجتمعة إذا لوحظت فإنها تستشف
منها خصائص وأمور تكتنف هذا المذهب في طور التأسيس، ويمكن إجمالها فيما يلي:

أ) شدة اهتمام مالك رحمه الله
بالاستدلال بالسنة والآثار، والناظر في الموطأ يدرك أنها في جميع أبوابها مبنية على السنن، وليس ذلك بعجب بعد ما
علمنا مبلغ مالك في علم الرواية والدراية.

ب) الحرص الشديد على الاقتداء والاهتداء بمن سلف من
المتقدمين، ويتجلى ذلك في عمل أهل المدينة الذي يجسد عند مالك النزوعَ إلى ما جرى به عملُ من تقدم بالمدينة
النبوية، وقد لا يخلو باب أو مسألة من المسائل في الموطأ إلا ويؤكد مالك رحمه الله هذا الأصل بقوله “وعلى هذا
الأمر عندنا”، أو “الأمر المجمع عليه عندنا”، أو “وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا”، أو “والذي أدركْت
عليه أهلَ العلم ببلدنا”، وما أشبه هذه العبارات التي تـنم بشدة عن اللصوق بمن مضى، والاعتداد بأقوالهم،
وتوظيفها في القضايا العملية.

ج) التقليل من استعمال الرأي والقياس بالنسبة لاستعمال
الآثار، وهذا لا يعني أن مالك لا يستعملهما، وإنما يعني أنه قلص منهما ولم يكثر، لأن ما معه من السنن والآثار
أغناه فيما يجد من الحوادث عن استعمال ذلك.

د) ربط الفقه والاستدلال والاستنباط بالدليل، وجعله الحجة
للفتوى، فمالك لا يُبوب على مسألة إلا ويذكر لها دليلا، ولا يطلق القضايا على عواهنها، ولا يرسلها إرسالا، كما
هو دأب المتأخرين من المنتسبين لمذهبه. وهذا الأمر هو ركيزة الفقه عند المتقدمين عامة وإن كانوا يتفاوتون في
ذلك، ففي تلك العصور لم يعرف انفصال الفقه عن الدليل ولا بعده عنه، لأنه إنما سمي دليلا لأنه دالّ على الفقه
ومنتج له وسبب له وعلة فيه، والعقل لا يقبل انفصال المسبب عن سببه ولا المعلول عن علته، والواقع العلمي للشرع لا
يقبل ذلك أيضا، لأن مرد الأمور إلى تحكيم النصوص في القضايا كلها لا إلى تحكيم أهوائهم وأذواقهم، فالنصوص هي
الدساتير التي يخنع لها الجميع، وإنما يتحاور الفقهاء ويتناظرون في فهم المراد منها، وفي إدراك مقاصدها، وفي
كيفية تنزيلها بعد فقهها. وفي باب مقاصدها وكيفيات تنزيلها يتفاضلون ويتفاوتون.

هـ) مراعاة المقاصد والمآلات،
الذي يتجلى في سد الذرائع، واستعمال المصالح المرسلة، وهذا سنفصله بنماذجه.

و) الاحتفاء بأقوال الصحابة،
وتحكيمها في فهم النصوص المحتملة، وخاصة أقوال الخلفاء الأربعة، وأقوال ابن عمر  رضي الله
عنهما.

هذه أهم الخصائص التي بثها مالك في موطنه، واعتمدها في فقهه
وبناء مذهبه، ومن درس الموطأ بعناية، فإنه يستطيع أن يدركها وأن يحيط بها علما.

ومن ساقط القول وسفسطته القول إن مالكا لم يدون الأصول التي بنى عليها مذهبه، كما ذهب
إليه بعض الباحثين بقوله: «والحق أن الإمام لم يصرح بأنه التزم فيما كان يستنبطه من أحكام أصولا وقواعد، اعتمدها
أساسا في الاستنباط والاستنتاج إلا ما يفهم من صنيعه في اعتماده على الأصلين، وعمل أهل المدينة، وما يستشف من
عمله في الموطإ من أنه كان يعتمد أحيانا على القياس، إلا أن عمله هذا يبقى دون إعطاء منهجية واضحة المعالم تنهض
دليلا على ما ذهب إليه ابن العربي في “القبس”، وعياض في “المدارك”، ومن ثم يجوز القول إن ذلك يبقى من عمل أتباعه
الذين جاءوا إلى الفروع فتتبعوها ووازنوا بينها، فاستنبطوا منها ما صح لديهم أنه دليل قام عليه الاستنباط،
فدونوا تلك الأصول، وأضافوا إلى الإمام مالك تساهلا، فقالوا: “كان مالك يأخذ بكذا، ويستدل بكذا” وهي –كما علمت–
ليست أقوالا رويت عنه، وإنما هي عمل أتباعه الذين حددوها بناء على ما فهموه من طريقته في استنباط
الأحكام.()

ولعمري إن هذا الكلام يحتاج إلى أزِمّة تضبطه، لأن أول ما
يؤخذ عليه أنه قلب الأمر الطبعي رأسا على عقب، إذ كيف يقبل ساذج، فضلا عن ذكي، أن يكون مذهب فقهي قائم على أصول
لم ينص عليها صاحبها ولا أرشد إليها؟ وكأني بالقائل يريد من الإمام مالك أن يقول له بصريح العبارة: “قد بنيت
مذهبي على كيت وكيت، وراعيت قاعدة كذا، ولم أراع كذا”، فمثل هذا الأسلوب يستعمل مع العوام والسذَجة، وأما
الأذكياء فهم في غنى عن هذه السطحية، فإذا كان مالك لم يدون أصوله فماذا دون في الموطأ الذي درسه أكثر من أربعين
سنة؟ وهل الموطأ كتاب تمحض للرواية لم يُشَب بشيء من الفقه قط؟ والمعلوم لدارسي الموطأ –بل هو مجمع عليه– أن
الموطأ كتاب حديث وفقه، والفقه لا بد له من أصول يستنبط منها.

ومالك
رحمه الله لم يقصد من تأليف الموطأ إلا تمهيد طرائق الفقه، وبيان دلائله، ومسائل استنباطه، وبذلك يكون أول كتاب
مدون في الحديث، وفي الفقه وأصوله، وأي فرق بين التصريح بأن هذه أصول اعتمدتها في الاستنباط وبين ممارستها
عمليا، وتكريرها، والتأكيد عليها، فمن يفرق بين الأمرين فهو كمن يفرق بين السنة القولية والفعلية، وينكر هذه
الثانية.

وعياض، وابن العربي، أقعد بمذهب مالك وأعرف بخباياه وأحوط
بزواياه من القائل الذي لو درس الموطأ بعناية لعدل عن رأيه، ولعلم أن ما قالته حذام هو الصواب:

وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قرَن     لم يستطع صولَة البُزْل
القنَاعيس

ولولا أن مثل هذه الأقاويل تعلق بأذهان بعض الطلبة لكان
إسقاطها وعدم حكايتها أجدى، ولكن لما سطرت وقرّت في مؤلفات أصحابها، تعين بيان بطلانها.

وإذ تقرر بالدليل القطعي أن مالكا أصل أصولا في موطنه وفي فتاواه عليها يسير في
الاستنباط والاستدلال، فما عدد هذه الأصول؟ وكيف رتبت عند مالك؟ وماذا يلحظ منها بكثرة؟ وماذا يستعمل منها بقلة؟
وفي أي شيء منها وُوفق أو خولف؟ وهل الصواب في ذلك معه أم مع المخالف؟ مع التركيز على ملحظ مالك في ذلك كله
وإبانة قصده.

هذا ما سيتناوله العنوان الآتي بالتفصيل والبيان، ويسهب
في تفاريعه وجزئياته ومضامينه وأحكامه.

IV – أصول مالك التي بنى عليها
مذهبه :

المقصود بالأصول القواعدُ العامة والكليات المطردة التي
يستهدي بها المجتهد ويجعلها نصب عينه في اقتناص الأحكام من الدلائل الجزئية، وسواء أكانت تلك القواعد تتناول
جميع أبواب الشريعة – كما هو شأن قواعد أصول الفقه – أم تتناول بابا أو أبوابا خاصة – كالقواعد الفقهية –، وهذان
النوعان مقصودان في أصول المذهب المالكي كسائر المذاهب الفقهية السائدة، ويتميز المذهب المالكي بأصول انفرد بها،
وأصول أكثر من استعمالها وغيرُه قلل منها، وهي التي سنمعن النظر فيها لبيان أصالتها، ووجودها عند من تقدم من
 الصحابة وتابعيهم.

أ – ما هو عدد هذه الأصول ؟
عدها أبو بكر بن العربي (ت543هـ) عشرة، كما نقله عنه ابن هلال.()
وعدها القاضي عياض (ت544هـ) أربعة: الكتاب، والسنة، والقياس، وعمل أهل
المدينة.().

وذكر الشيخ أبو صالح محمد الهسكوري الفاسي (ت653هـ) أن
الأدلة التي بنى عليها مالك مذهيه ستة عشر: نص الكتاب، وظاهر الكتاب (وهو العموم)، ودليل الكتاب (وهو مفهوم
المخالفة)،  ومفهوم الكتاب (وهو باب آخر)، وتنبيه الكتاب ( وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى (فإنه رجس أو
فسقا))، ومن السنة أيضا مثل هذه الخمسة، فهذه عشرة.  والحادي عشر الإجماع، والثاني عشر القياس، والثالث عشر
عمل أهل المدينة، والرابع عشر قول الصحابي، والخامس عشر الاستحسان، والسادس عشر الحكم بسد الذرائع، واختلف قوله
في السابع عشر، وهو مراعاة الخلاف، فمرة يراعيه، ومرة لا يراعيه، قال أبو الحسن: ومن ذلك الاستصحاب».()

وكذلك عدها سبعةَ عشر الشيخ حسن مشاط.()
وقال الحجوي: «إنها بلغت عشرين كما يأتي، وأضاف –عند ذكره قول الصحابي– “المصالح
المرسلة” و”شرع من قبلنا” وقال: «فصارت الأصول عشرين»(). وهذا إنما تلقفه عن القرافي في الفروق.
()

وقال ابن السبكي: «إن أصول مذهب مالك، تزيد على الخمسمائة»(). قال
الحجوي: «ولعله يشير إلى القواعد التي استخرجت من فروعه المذهبية، فقد أنهاها القرافي في فروقه إلى خمسمائة
وثمانية وأربعين، وغيرُه أنهاها إلى ألف والمائتين، كالمقري وغيره، لكنها في الحقيقة تفرعت عن هذه الأصول.
والإمام لم ينص على كل قاعدة قاعدة، وإنما ذلك مأخوذ من طريقته وطريقة أصحابه في
الاستنباط…».()

أقول: كلام السبكي فيه مبالغة وإجمال، ويحتاج
لتأمل.

ب- تفصيل الكلام على هذه الأصول :
    وأول هذه الأصول كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه، والأئمة في الاحتجاج به على جهة العموم سواء، لا مزية فيه لأحدهما على الآخر، وإنما يتفاضلون في
تفاصيل هذا الاحتجاج وطرائقه، وطريقة مالك التعويل عليه أسدّ، ومنهجه في اقتناص الأحكام منه أوعبُ وأرشد، إذ لا
يقتصر على دلالاته ومفاهيمه، وإنما يراعي مقاصده وغاياته، وما يومئ إليه ويرشد له من الكليات الجامعة، ثم إنه
فيما احتمل منه يديره على السنة المرفوعة، فإن لم تكن، فيديره على الآثار العملية التي ترجح احتمالا على احتمال
أو تورث ذلك، حتى يكون ظنيا أو قطعيا.

    ومعلوم لدى
المشتغلين بعلوم التأويل أنه كلما كان المرء متبحرا في الآثار عالما بما جرى عليه عمل المتقدمين، كان أبصر
بمعاني الكتاب العزيز، وأغزر في مادة معارفه، وأغرف من  وَكْف نداه ووابله، ومالك رحمه الله من هذه
الطينة.

    وثانيها احتجاجه بعمومه، وهو الأصل عنده
حتى يرد ما يخصصه، والمخصصات عنده خمسة عشر مخصصا، ومنها العوائد، فهي مخصصة عنده للعموم().

    ومن استدلاله بالعموم في الموطأ، قوله في الاعتكاف: «الأمر الذي لا
اختلاف فيه عندنا أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه… لأن الله تبارك وتعالى قال: (وأنتم عاكفون في
المساجد) فعم الله المساجد كلها، ولم يخص شيئا منها»(). فهذا فيه إشارة لضعف حديث حذيفة مرفوعا: «لا اعتكاف إلا
في المساجد الثلاثة»(). ولم يصب من صححه مع تشكيك ابن مسعود فيه.

    ومن ذلك أيضا قوله في الجهاد: «لا أرى البراذين والهجن إلا من
الخيل، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة)».()

    وفي الموطأ نماذج كثيرة جدا لا نطيل بها، لأن المقصود التذكير بأن
مالك قد سطر هذا الأصل في كتابه.

    وثالثها احتجاجه
بمفهوم المخالفة، وهو كثير جدا في الموطأ، مما يدل على أنه أصيل عند مالك، وسنكتفي فيه بذكر نموذجين: أحدهما قول
مالك: «لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية، لأن الله تعالى يقول في كتابه: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات، وقال تبارك وتعالى: (ومن لم يستطع منكم أن
ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) فهن الإماء المؤمنات، قال مالك: «فإنما أحل الله
–فيما نرى – نكاح الإماء المؤمنات ولم يحلل نكاح إماء أهل الكتاب، اليهودية أو النصرانية».()

وثانيهما حديث ابن عمر: «فرض رسول الله  زكاة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو
أنثى من المسلمين»(). فالعبد الكافر، والزوجة الكتابية، لا يجوز لسيده أو زوجها أن يخرج عنهما زكاة الفطر عند
مالك، لأن التنصيص على الإسلام يخرج غير المسلم عنده من الحكم، خلافا لأبي حنيفة.

ورابعها: احتجاجه بمفهوم الكتاب، وهو مفهوم الأَوْلى، ويسمى مفهوم الموافقة، وحدُّه
إعطاء الحكم الذي ثبت في اللفظ المنطوق به للمسكوت عنه، كقوله تعالى (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده
إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما)(). فمن كان مؤتمنا على أداء قنطار، كان
أداؤه ما دون القنطار أولى، ومن كان غير مؤتمن على أداء دينار، كان عدم أدائه أقل منه أحرى
وأولى.

    ومما يستدل به لمالك على قوله بمفهوم
الموافقة – وإن كان لا خلاف فيه بين جميع الأئمة إلا الحنفية – ما أورده من حديث سعيد بن المسيب أن النبي
 قال: «من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (أقم الصلاة لذكري).()

    فإذا كان الناسي يقضي الصلاة، فالمتعمد أولى بالقضاء
عند مالك، بجامع التفريط في كل، وتفريط العامد، أشد من تفريط الناسي، هكذا قرر مالك هذه المسألة، آخذا فيهما
بمفهوم الموافقة، وفي المسألة خلاف قوي معروف.

   
وخامسها احتجاجه بتنبيه الكتاب، وهي دلالة الإيماء التي يُعنى بها اقتران الحكم بوصف لو لم يكن ذلك الوصف علة
لذلك الحكم لم يكن له معنى، ومثاله عند مالك حديث ابن عمر أن النبي  قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه
وليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله».() قوله «فإن الشيطان»… تنبيه على علة الأمر بالآكل
باليمين.

    وسادسها إلى العاشر، ما يقابل هذه من
السنة، وهي نص السنة، وظاهر السنة، ودليل السنة، ومفهوم السنة، وتنبيه السنة. وفي الموطأ عشرات الأمثلة لذلك،
فلا نطيل بها.

    الأصل الحادي عشر: احتجاجه
بالإجماع.  وقد وقع الخلاف في الإجماع الذي يحتج به مالك، أهو إجماع المسلمين أم إجماع أهل المدينة؟ فذهب
بعض المالكية –كما نقل ابن حزم– إلى أن مالكا يحتج بإجماع أهل المدينة دون ما سواه(). وكذلك نقل جماعة من
الأصوليين هذا المعنى في باب الإجماع.

    وليس هناك
نص صريح صحيح عن مالك أنه لا يحتج إلا بإجماع أهل المدينة، وإنما فهم ذلك من فهمه من ظواهر كلامه التي قد تفيد
ذلك إذا عزلت عن سياقها وانقطعت صلتها بنصوص أخر لمالك في الموضوع، وسنبين ذلك في عمل أهل
المدينة.

    وبالجملة، فمالك لا ينكر إجماع المسلمين،
بل هو حجة عنده، وهو وإن أكثر في الموطأ من نقل إجماعات أهل المدينة، فإنه لم يخلها من ذكر إجماع المسلمين،
ونكتفي بذكر موضعين ذكر فيها الإجماع العام.

     أولهما: ما ذكره بقوله: «وقد أرخص الله للمسافر في الفطر
في السفر، وهو أقوى على الصيام من المريض… وهو الأمر المجتمع عليه»( ). فتأمل كيف حكى في المسألة إجماع
المسلمين، فهذا دليل على أنه يقول بالإجماع بمعناه العام.

    
وثانيهما: ما ذكره بقوله: «ولا يحل بيع الطعام قبل أن يستوفـى لنهي رسول الله  عن ذلك،
غير أن أهل العلم قد اجتمعوا على أنه لا بأس بالشرك والتولية، والإقالة في الطعام وغيره»(). فتأمل كيف حكى إجماع
أهل العلم على هذه الأمور الثلاثة، لأنهم أنزلوها منزلة المعروف، ولم ينزلوها منزلة البيع، ثم تأمل كيف خص
العموم بالإجماع.

وإذ ثبت تصريحه بالإجماع العام في هذين المقامين
وغيرهما، لم يبق للتخمين عليه أنه لا يقول إلا بإجماع أهل المدينة موقع، ووجَب تأويل ظواهر كلامه التي تفيد خلاف
ذلك إلى ما يوافقه.

الأصل الثاني عشر: عمل أهل المدينة، وقد أكثر مالك
منه في موطئه واعتمده، وقدمه على أحاديث الآحاد إذا عارضته، واعتد به تفسيرا، أو تأويلا وتنزيلا، بما لا نظير له
عند غيره من الفقهاء، ففَهم من ذلك من فهم أنه يقدمه على إجماع المسلمين، فصوبوا إليه فيه سهام النقد، واعترضوا
عليه فيه حتى وصل بعضهم إلى أن يقَوّله ما لم يقل، وأن يُحَمّل كلامه ما لا يحتمل..

وهاك هذه الظواهر المغررة لمن اعترض على مالك:
 1 ـ عن إسحاق قال: «قال
مالك: سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة لم أحدث بها إلى اليوم، قلت: لم يا أبا عبد الله ؟ قال: لم يكن العمل عليها
فتركتها».()

 2
ـ
قول مالك لليث بن سعد في رسالته المشهورة إليه: «اِعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي
الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه.. فإنما الناس تبع لأهل المدينة… وإن
خالفهم مخالف، أو قال أمرا غيره أقوى منه وأولى تُرك قوله، وعُمل بغيره.. فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا
به لم أر لأحد خلافه، للذي بأيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز انتحالها ولا ادعاؤها.()

 3 ـ نقل عن مالك أنه
قال: «إذا أجمع أهل المدينة على شئ، لم يُعتدَّ بخلاف غيرهم».()

 4 ـ وحكي عنه أنه قال:
«إذا أجمع أهل المدينة على شيء صار إجماعا عليه وإن خالفهم فيه غيرهم»().

هذه النصوص هي متمسك من يرى من المالكية والأصوليين أن مالك لا يحتج إلا بإجماع أهل
المدينة. والجواب أن هذه النصوص إنما تفيد اعتزاز مالك بعلم أهل المدينة وبفتاواهم وبما كان معمولا به عندهم،
وليس فيه ما ينفي احتجاجه بإجماع المسلمين، وعباراته ترشد إلى ذلك، منها:

*-  قوله في رسالة الليث: «أو قال أمرا غيره أقوى منه وأولى تُرك قوله وعُمل
بغيره»، وهذا يدل على أن مالك يرى أن هناك قويا من الآراء وأقوى، وهو اعتراف برأي الغير أنه قوي، إلا أنه ترك
لِما هو أقوى منه: وهو ما عليه أهل المدينة، فلو كان يرى عمل أهل المدينة إجماعا يبطل ما عداه، لما ساغ هذا
التفضيل الذي استعمله. ثم إن ما ذكره من “ترك المرجوح والأخذ بالأرجح” هو الذي عليه عامة الفقهاء
والأصوليين.

*-  وقوله: «فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا
به، لم أر لأحد خلافه»، وهو يفيد أن عمل أهل المدينة لا يحتج به مالك إلا بهذين الشرطين: أن يكون معروفا منتشرا
بينهم، وأن يكون قد اتصل به العمل من القديم، ولا أظن أن مثل هذا العمل يستطيع فقيه أن يطعن فيه أو يتجاوزه، فلو
كان مالك يعتبره هو الإجماع دون ما سواه لقال: «لم يحل لأحد خلافه»، لأن هذا هو حقيقة إجماع المسلمين، ولكنه
احترس في كلامه فقال: «لم أر»، فجعل هذا الحكم رأيا له واجتهادا منه، وليس بقطع منه على أن المخالف يفسق أو يكفر
بذلك، كما هو حكم الإجماع الحقيقي.

ثم إن ما نقله البزدوي وابن تيمية
منقول بغير إسناد وينبغي التوقف فيه، وأنا أستبعد صحة ذلك عن مالك، ويؤِكد أن ما في المسودة نقل بصيغة التمريض،
مما يدل على الشك فيه.

*-  اعتبار عمل أهل المدينة حجة يجب
الرجوع إليها ليس رأيا لمالك وحده، بل هو رأي لمن تقدمه أيضا وتبعه هو عليه. فمن ذلك قول زيد بن ثابت: «إذا رأيت
أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة»(). وقال أبو بكر بن حزم: «إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء فلا
تشكّن في أنه الحق»(). وقال الشافعي: «إجماع أهل المدينة أحب إلي من القياس».

    وهذا كله يدل على أن الاحتجاج بعمل أهل المدينة ليس بمستنكر عند
أهل العلم ولا بغريب عنهم، ومالك رضي الله عنه تميزت طريقته فيه بكونه أكد عليه، ووسع مجراه، واحتج له واحتج به،
وأطال الكلام فيه، ليبين أصالته وجدارته بالأخذ به، ولم يطل في حكاية الإجماع بمعناه العام، لأنه أصل مسلم عند
جميع من يُعتد بهم، فلا مزية فيه لأحد على غيره، وأراد مالك بالتأكيد على عمل أهل المدينة، أن يمحصه وأن يحرره،
لكونه يعلم أن فيه نزاعا نشأ من عدم إدراك المراد من المصطلحات التي استعملها فيه مالك تارة، ومن علاقته
بالإجماع بمعناه العام، فهذا اللبس، هو الذي أراد مالك باعتماده هذا الأصل إزاحته، فقد أورد هذا الأصل في موطنه
– كما أحصيته منها في أربع وثلاثين وثلاثمائة (334) مسألة فقهية، واستعمل لذلك ما يناهز سبعين مصطلحا، وهذه
بعضها.

   الأمر المجتمع عليه عندنا.
   مضت السنة التي لا اختلاف فيها عندنا.

   وذلك الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا.

   وهذا الأمر عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم
ببلدنا.

   الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا.

   لم يزل الأمر عندنا على هذا.

   ولم يزل ذلك من عمل الناس الجائز بينهم،
والذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا.

   فرق ذلك بين
السنة والعمل المعمول به.

   ليس في ذلك أمر
مجتمع عليه عندنا.

   ما سمعت أحدا ممن
مضى يحد فيه حدا.

   ليس العمل على هذا.
   هو أحسن ما سمعت من أهل العلم، وأدركت عمل
الناس على ذلك.

   وليس لذلك عندنا حد معروف.
   ما أدركت أحدا من أهل بلدنا يرى ذلك ولا يفتي
به.

   ليس هذا الحديث بالمجتمع عليه، وليس عليه
العمل.

   ذلك يعجبني، على ذلك رأيت الناس.

   وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم.

   هذا الأمر القديم الذي لم تزل الناس عليه.

ويمكن تصنيف هذه المصطلحات إلى ثلاثة أصناف:
    أحدها: ما وقع عليه إجماع
أهل المدينة خلفا عن سلف، وهو الذي يستعمل له مصطلحات: “الأمر المجمع عليه عندنا”، “مضت السنة التي لا اختلاف
فيها عندنا”.. وأشباهها.

    وثانيها: ما فيه خلاف بينهم ورجح فيه قولا من أقوالهم وتبناه باعتبار أن عمل
الناس عليه، وهو الذي يعبر عنه بقوله: “وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم”، وقوله: “وهو أحسن ما سمعت من أهل
العلم” ونحوها.

   
وثالثها:
حكاية عدم الخلاف بين جميع المسلمين والاحتجاج بإجماعهم في المسألة، ويستعمل له مصطلح “ذلك
من سنة المسلمين التي لا اختلاف فيها”، و”السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف”، و”ليس من سنة
المسلمين”.

    فإذا تأملت هذه المصطلحات وجدت أن عمل
أهل المدينة أخذ حيزا شاسعا بالنسبة لما أجمع عليه المسلمون، وذلك للفت النظر بهذا الأصل الأصيل لاعتبارات
حقيقية وواقعية تجعله جديرا بالتمسك به.

    وإذ صح
لنا يقينا أن مالكا لم يَعنِ بإجماع أهل المدينة إجماعَ الأمة، فماذا يقصد به ؟ وهل هو حجة عنده يقدم على النص
والإجماع والقياس، أو هي أقوى منه؟

    لاشك أن مالكا
رحمه الله يجعل مرتبة هذا الإجماع بعد مرتبة إجماع الأمة، فيخصص به النصوص ويقيدها، ويردها به إذا عارضته، فهو
عنده أقوى من خبر الآحاد والقياس كما بيناه في بعض النصوص السابقة، ونبينه في النصوص اللاحقة:

قال ابن وهب وابن القاسم: «رأيت العمل عند مالك، أقوى من الحديث»() -يعنيان حديث
الآحاد الذي يعارضه العمل-. وتقديم العمل على خبر الآحاد ليس مذهبا لمالك وحده، وإنما هو رأي من تقدمه ومن جاء
بعده، وجذوره تمتد إلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال على المنبر: «أحرج
بالله عز وجل على رجل روى حديثا العملُ على خلافه»(). وسئل ابن الماجشون: «لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ فقال:
ليعلم أنا على علم تركناه»(). وقال ابن مهدي: «السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة، خير من الحديث». وقال: «إنه
ليكون عندي في الباب الأحاديث الكثيرة، فأجد أهل العرصة على خلافه فيضعف عندي».()

وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمان: «ألف عن ألف، أحب إلي من واحد عن واحد»(). وقال ابن
أبي الزناد: «كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء ويسألهم عن السنن والأقضية التي يعمل بها فيثبتها، وما كان
منها لا يعمل به الناس ألقاه وإن كان مخرجه عن ثقة».()

هذا الإجماع
المدني الذي تُرد به النصوص الصحيحة إذا عارضها اختلف المالكية وغيرهم في المراد به عند مالك: هل هو الإجماع
القديم أو الإجماع الحديث المبني على الاستدلال؟ فذهب المحققون منهم إلى أن إجماع أهل المدينة الذي يجعله مالك
حجة لا تجوز مخالفته هو الإجماع الذي طريقه النقل والحكاية ينقله جيل عن جيل من زمن الصحابة إلى زمن مالك، وهذا
مذهب القاضي عياض وحكاه عن أكثر شيوخه. وقال القاضي عبد الوهاب: «ولا خلاف بين أصحابنا في هذا»(). وإليه ذهب
الصيرفي وغيره من أصحاب الشافعي.

وأما الإجماع المبني على النظر
والاجتهاد، فقد اختلف فيه المالكية:

ذهب جماعة من المغاربة، والقاضي أبو الحسن بن أبي عمر
الغدادي، وأبو مصعب، وأحمد بن المعذل إلى أنه حجة كالأول، واتفق هؤلاء على أنه مذهب مالك، وهو مقدم عندهم على
خبر الآحاد والقياس، ورد عليهم القاضي عياض في نسبتهم ذلك لمالك بقوله: «ولا يصح عنه كذا مطلقا».()

وذهب جمهورهم إلى أن هذا النوع ليس بحجة، قال
القاضي عياض: «وهو قول كبراء البغداديين، منهم ابن بكير، وأبو يعقوب الرازي، وأبو الحسن بن المنتاب.. قالوا:
لأنهم بعض الأمة، والحجة إنما هي بمجموعها، وهو قول المخالفين أجمع، وأنكر هؤلاء أن يكون مالك يقول هذا، وأن
يكون مذهبه و لا أئمة أصحابه».().

ثم قسم القاضي عياض النوع الأول من
إجماع أهل المدينة إلى:

نقل شرع من جهة النبي  من قول أو فعل،
كالصاع والمد، وأنه عليه السلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالآذان والإقامة وترك الجهر بـ«بسم الله
الرحمان الرحيم» في الصلاة، وكالوقوف والأحباس، فنقلهم لهذه الأمور من قوله وفعله كنقلهم موضع قبره، ومسجده،
ومنبره ومدينته وغير ذلك مما يعلم ضرورة من أحواله وسيره، وصفة صلاته من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه
هذا..

نقل إقراره عليه السلام لما شاهده منهم ولم
يُنقَل عنه إنكاره، كنقل عهدة الرقيق، وشبه ذلك.

نقل تركه لأمور
وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم وظهورها فيهم، كترك أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها
عندهم كثيرة.

فهذا النوع من إجماعهم في هذه الوجوه، حجة يلزم المصير
إليه، ويترك ما خالفه من خبر واحد أو قياس، فإن هذا النقل محقق، معلومه موجب للعلم القطعي، فلا يترك لما توجبه
غلبة الظنون، وإلى هذا رجع أبو يوسف وغيره من المخالفين ممن ناظر مالكا وغيره من أهل المدينة، في مسألة الأوقاف،
والـمُد، والصاع، حين شاهد النقل وتحققه..()

فهذه الأقسام ترجع في
حقيقتها إلى السنة القولية، والفعلية، والتركية، والتقريرية، فنقل الكافة لها، يوجب أن ما يعارضها مما دونها
يترك لها.

ونحو هذا التقسيم سلك ابن تيمية، لكنه بشيء من التفصيل
والتدقيق على عادته في الإيضاح والبيان فقال: «والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة أن منه ما هو متفق عليه بين
المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماع أهل المدينة على
أربع مراتب:

المرتبة الأولى: ما
يجري مجرى النقل عن النبي ، مثل نقلهم لمقدار الصاع، والمد، وكترك صدقة الخضروات والأحباس، فهذا مما هو حجة
باتفاق العلماء.

المرتبة
الثانية:
العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان، فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن
الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى: «إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه
الحق». وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها… فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن
قول الخلفاء الراشدين حجة، وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة الرسول
.

المرتبة الثالثة: إذا تعارض
في المسألة دليلان لحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة، ففيه نزاع: فمذهب مالك
والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة…

وأما المرتبة الرابعة فهي العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب إتباعه أم
لا؟ فالذي عليه أئمة الناس، أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي، وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين
من أصحاب مالك كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه “أصول الفقه” وغيره، وذكر أن هذا «ليس إجماعا ولا حجة عند
المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل
تقليد». قلت: ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم، فهو
يحكي مذهبهم، وتارة يقول: “الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا” يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا
يذكر.()

وبالمقارنة بين تفصيل ابن تيمية وما ذكره القاضي عياض، يتضح
لك أن القاضي عياض أجمل في النوع الثاني من إجماع أهل المدينة، وهو ما كان عن اجتهاد، ولم يبين هل هو من العمل
القديم زمن الصحابة أو من العمل الجديد، وفصل في هذا النوع ابن تيمية فبين أن ما كان عملا لأهل المدينة عن طريق
الاجتهاد زمن الخلفاء الأربعة فهو حجة، ولا يعلم في هذا النوع أنه يخالف سنة رسول الله ، وأما ما كان عملا لهم
عن اجتهاد بعد الخلفاء الأربعة فليس بحجة.

 ويمكن أن يُفهم كلام
القاضي عياض على نحو آخر، بأن يكون العمل القديم بالمدينة زمن الخلفاء الأربعة قد أدرجه فيما يجري مجرى النقل،
لحديث العرباض بن سارية مرفوعا: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ»().
فما دام النبي  قد اعتبر ما سنه الخلفاء اجتهادا سنة، فهو يلحق بسنته، ويكون النوع الثاني من إجماع أهل
المدينة المبني على الاستدلال هو الذي يقصده القاضي عياض، وهو العمل المتأخر بالمدينة، وحكى عن معظم المالكية
أنه ليس بحجة، وهذا التوجيه لكلامه أولى من ادعاء الإجمال فيه، وخاصة أنه يشهد له حكايته أن القلة هي التي تحتج
به، فلو كان يقصد العمل القديم والحديث معا لما صحت له هذه الحكاية ولا كان مصيبا في ذلك. ويبقى كلام ابن تيمية
في تقسيمه أوضح وإن كان غالب ما ذكر قد استمده من عياض والقاضي عبد الوهاب.

  وبالجملة، فإجماع أهل المدينة الذي نوه به مالك يحتاج لدراسات مستفيضة مطولة
ومتأنية – للوصول للحقيقة فيه يقينا– على النحو الآتي:

  
دراسة جميع المسائل التي حكى فيها مالك إجماع أهل
المدينة دراسة موازنة، ليتبين ما فيه الخلاف مما ليس فيه، وإن كان فلمن ؟ ولم ؟.

   دراسة جميع القضايا التي يحكي فيها مالك
الإجماع القديم، للوصول إلى مرده، هل كان نصا أو اجتهادا، ليتأكد بذلك من قول ابن تيمية: «إنه لا يعلم عملا
قديما يخالف سنة».

   دراسة العمل
المتأخر بالمدينة الذي لمالك فيه اختيارات وترجيحات، للنظر في مستمده وفي قيمته العلمية، مع تحديد الزمن الفاصل
بين العمل القديم والحديث بالمدينة، هل هو بزمن الخلفاء، أو بموت آخر صحابي بالمدينة؟.

    هذه الدراسة على هذا النحو، آمل  إن شاء الله أن أقوم بها إن
لم يقم بها أحد.

الأصل الثالث  عشر – القياس:
وهو أصل عند جميع الأئمة سوى الظاهرية، وقد أكثر مالك من أمثلة القياس في الموطأ، قال
ابن القصار: «ومن مذهب مالك رحمه الله القول بالقياس، وقد بينا الحجة له».().

    قلت: ومن أمثلته من الموطأ قوله: «القوم يصيبون الصيد جميعا وهم
محرمون، أرى أن ذلك.. على كل إنسان منهم جزاءه».()

ومثل ذلك القوم
يقتلون الرجل خطأ فتكون كفارة ذلك على كل إنسان منهم.

    وقال: «وكل شيء فُدي، ففي صغاره مثل ما يكون في كباره، وإنما مثل
ذلك مثل دية الحر الصغير والكبير، فهما بمنزلة واحدة سواء».()

الأصل
الرابع عشر –  قول الصحابي :

ويظهر من تصرف مالك أنه حجة عنده
وقد أكثر من آثار الصحابة في الموطأ، تارة يجعلها تفسيرا الإجمال في المرفوع، وتارة يقيد بها العام والمطلق،
وتارة يحتج بها لمسألة فقهية، إذا لم يجد فيها شيئا مرفوعا على شرطه، وتارة يبين بها العمل المستمر على نحو ما،
وتارة يستدل بها على ترك ظاهر نص ما، إلى غير ذلك من تصرفاته فيه.

    ثم إن أقواله المنقولة عنه تفيد هذا أيضا، ففي مسألة قول عراقي
لامرأته: “حبلك على غاربك”، سأله عمر رضي الله عنه: “ماذا يريد بذلك؟” فقال: “الفراق”، فقال عمر: “هو ما
أردت”(). ونقل عن مالك أنه قال: «لو علمت أن عمر قال ذلك لقلت به»(). فهذا دليل على أنه يرى أقوال الصحابة حجة،
وخاصة الخلفاء منهم، قال القرافي: «وأما قول الصحابي فهو حجة عند مالك والشافعي في القديم
مطلقا».()

    وقال الحجوي: «فقد احتج به مالك كما
سبق، وهو من أصول مذهبه، لكن إن صح سنده وكان من أعلام الصحابة كالخلفاء، أو معاذ، أو أبي، أو ابن عمر، أو ابن
عباس، أو نظرائهم، لأنه يكون عن اجتهاد أو توقيف، ويشترط أن لا يخالف الحديث المرفوع الصالح للحجية، وإلا
فالحديث مقدم لا القياس»(). قلت: تقييد ذلك بأعلام الصحابة لا يدل عليه تصرف مالك في الموطأ، ولم يقتصر فيه على
الاحتجاج بعمل المشاهير أو أقوالهم، بل احتج فيه بغير المشاهير، فتنبه.

وقال ابن تيمية: «وأما أقوال الصحابة، فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند
جماهير العلماء، وإن تنازعوا رُد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له
باتفاق العلماء، وإن قال بعضهم قولا ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر فهذا فيه نزاع، وجمهور العلماء يحتجون به،
كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه، وفي كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك في غير
موضع، ولكن من الناس من يقول: هذا هو القول القديم».()

    ونحو هذا ذكر ابن القيم، ثم ذكر ستة وأربعين دليلا على وجوب اتباع
الصحابة وأفاض فيها، وأجاب عما يرد عليها وما يقدح فيها.()

الأصل
الخامس عشر –  الاستحسان :

وهذا الأصل وقع فيه اضطراب كبير حتى
استغلق واستبهم، فقد اختلف الأصوليون في حقيقته وفي أمثلة وقوعه.

    فأما حقيقته، فقد ذكروا فيها تعاريف كثيرة عامتها متناقضة فيما
بينها ومتباينة مع الأمثلة التي ينزلونها عليها، وهذا الاضطراب سببه عدم وضوح المقصود بمصطلح الاستحسان، فمنهم
من يجعله قياسا أولى، ومنهم من يجعله مخصصا لعموم، ومنهم من يجعله مصلحة مرسلة، وهذا يزيد المسألة غموضا
وتعقيدا، ولذلك أنكره الشافعي وشنع على القائلين به، وقد أصاب في ذلك لأن الاستحسان معنى يسمع، ولا تشم له
رائحة، ولا تلمس له حقيقة، وما كان كذلك فهو باطل تنزه الشريعة عن مثله.

    1-
التعاريف:

أ) الاستحسان: «القول بأقوى الدليلين». وهذا التعريف نقله
الباجي عن ابن خويزمنداد()، ومثلوا له بجواز بيع العرايا المخصوص من عموم منع بيع الجنس بجنسه
متفاضلا.

أقول: إذا كان هذا هو الاستحسان فليس إلا تخصيص دليل بدليل،
فقد دخل في جملة الأدلة الأربعة المتفق عليها، وهذا يناقض عدّهم له من الأدلة المختلف فيها
المستقلة.

ب)
«تخصيص الدليل العام بالعادة لمصلحة»، كاستحسان جواز دخول الحمام من غير تعيين زمن المكث فيه، وقدر الماء. قلت:
لم يخرج الاستحسان بهذا المعنى عن كونه مخصصا لدليل عام، وهو أن الأجرة في الحمام تكون على قدر المكث، وعلى قدر
الماء المستهلك، فعدل عن ذلك إلى عدم التقدير، فمثل هذا الدليل لم يخرج من دائرة التخصيص
بالعرف.

ج)
«استعمال مصلحة جزئية في مقابل كلي»: فعلى هذا التعريف، فالاستحسان هو نوع من المصالح المرسلة، فإذا كان كذلك،
فهو داخل في جنس المصالح، فلمَ اعتبروه أصلا مستقلا بنفسه؟

د) «دليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عبارته عنه»(). وهذا
التعريف يوجب الضحك، إذ كيف يكون أصل من الأصول المستمد من نصوص عديدة انقداحا فحسب، ويعسر على المجتهد التعبير
عنه، فهو بهذا وسواس من الوساويس، وانطباع من الانطباعات، وحديث نفس لا علاقة له بعلم ولا بواقع ولا بشرع،
والشريعة تأبى مثل هذا.

ومثل هذا التضارب في حقيقة الاستحسان هو الذي
دفع الشافعي إلى إنكاره، وإطالة الكلام في رده بحجج ناصعة في كتابه “إبطال الاستحسان”() حتى قال: «من استحسن فقد
شرع».()

2- مذهب مالك في
الاستحسان:

نسب القول بالاستحسان إلى مالك إمام الحرمين،
وأنكره القرطبي، وقال: «ليس معروفا من مذهبه»() . ونقل ابن القاسم عن مالك أنه قال: «تسعة أعشار العلم
الاستحسان»() . وقال الأبياري: «الذي يظهر من مذهب مالك القولُ بالاستحسان»(). وقال بعض محققي المالكية: «بحثت
عن موارد الاستحسان في مذهبنا، فإذا هو يرجع إلى ترك الدليل بمعارضة ما يعارضه بعض مقتضاه».()

فإذا كان الاستحسان هو ترجيح قياس على قياس، أو دليل على دليل، أو تخصيص نص عام بمصلحة
أو عرف، فلا غبار عليه، لأنه يرجع للأصول المتفق عليها، ويبقى الاعتراض في جعله دليلا مستقلا مختلفا فيه، وليس
كذلك، وحين نجد هؤلاء المذكورين نسبوا لمالك القول به، فإننا نجد الاحتراس في نسبته له عند الباجي بقوله: «ذكر
محمد بن خويزمنداد من أصحابنا أن معنى الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك رحمه الله القول بأقوى الدليلين»().
وكذلك فعل الشاطبي بقوله:  «وهو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي»(). فتأمل كيف نسب
الباجي ذلك لأصحاب مالك دونه، وكيف نسبه الشاطبي لمذهبه دونه، ذلك يؤذن في ذلك غموضا، والمسألة لا تزال بحاجة
للاستقراء من كتب المالكية، وهي من المسائل المشكلة المصطلح، الغامضة التطبيق.

الأصل السادس عشر –  سد الذرائع :
والمراد بالذريعة الوسيلة، فالوسيلة الجائزة إذا كانت تقضي إلى محرم فهي حرام، أو إلى
مكروه فهي مكروهة.

قال القاضي عبد الوهاب: «الذرائع هي الأمر الذي
ظاهره الجواز إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع».()

وقال
القرافـي: «سد الذرائع ومعناه حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة
منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور، وليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك كما يتوهمه كثير من المالكية».
().

قلت: من خواص مالك فيها الإكثار منها وإبرازها، وله فيها حس خاص
حتى نسب له الغلو فيها، فكل ما يظنه وسيلة لـمكروه أو محرم، فإنه يمنعه وإن كان جائزا، حتى قال الشاطبي رحمه
الله: «حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه».()

 وقال ابن القيم:
«وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف..»(). ثم سرد لها تسعة وتسعين مثالا.

ومالك رحمه الله أيضا قد ذكر لها أمثلة كثيرة في موطئه، منها بيوع الآجال التي بوب
عليها مالك بقوله: «باب ما جاء في الربا في الدين، فذكر قصة رجل يكون له الدين على رجل إلى أجل، فيضع عنه صاحب
الحق ويجعله الآخر، فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه»()، وإنما نهى عنه لما فيه من ذريعة إلى الربا.

ومن ذلك منع مالك بيع العينة، وبيع الطعام قبل قبضه، والإقامة مع الزيادة أو النقصان،
ومنع صوم ستة أيام من شوال حتى لا يعتقد أنها تتمة لرمضان، وغيرها من القضايا الكثيرة التي تزخر بها الموطأ في
كتاب البيوع وغيره.

 وهذا الأصل، أعني سد الذرائع، أصل مقطوع به
في الشريعة لتواتر الأدلة الدالة عليه، ولا يختلف عامة الفقهاء في حقيقته، وإنما يختلفون في تطبيقات جزئياته،
والمالكية من أرعى الناس للمقاصد والمآلات حتى قال الذهبي: «فإلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة، ولو لم
يكن له إلا حسم مادة الحيل ومراعاة المقاصد لكفاه».()

الأصل السابع
عشر –  المصالح المرسلة :

أ- تسمى أيضا بالاستدلال المرسل، وبالوصف المناسب، أو
الاستصلاح، وعرفوها بأنها «ما لم يشهد له الشرع لا باعتباره ولا بإلغائه». وهذا التعريف مشكل لأنهم يشترطون
للعمل بالمصالح المرسلة ثلاثة شروط: أحدها أن تكون محققة لا مظنونة. والثاني أن لا تخالف نصا شرعيا. والثالث: أن
تندرج تحت أصل عام.()

فهذا الشرط الثالث، ينافي ما ذكروه في التعريف
من أن المصالح المرسلة ما لم يشهد لها الشرع لا بالاعتبار ولا بالإلغاء، فمتى كانت داخلة تحت نصوص عامة فقد شهد
لها الشرع بالاعتبار، ولا فرق بين أن يشهد لها بنص خاص، أو نص عام، فكلاهما حجة.

  وعليه، فلا بد من تقييد التعريف حتى يتفق مع الشروط وينضبط بها ويكون واقعيا،
فيقال: «المصالح المرسلة هي التي لم يشهد لها الشرع لا بالاعتبار ولا بالإلغاء بنص معين». وهذا القيد قد تنبه له
الشاطبي في الاعتصام، وأغفله كثير ممن تكلموا في المناسب المرسل، فوقعوا في التناقض في الأمثلة التي يذكرونها مع
التعريف المطلق الذي يسوقونه.

 ب – مذاهب العلماء في الاحتجاج بالمصالح المرسلة
:

 المصالح المرسلة احتج بها مالك وأحمد، واعتبراها أصلا مستقلا
في التشريع، وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى عدم اعتبار المصالح المرسلة أصلا مستقلا. والحق أن الخلاف بينهم في
التسمية، وقد اعتمدا على المناسب المرسل في قضايا كثيرة ويسمونها قياسا.()

 ومالك قد اعتمدها كثيرا حتى قال إمام الحرمين: «وأفرط الإمام، إمام دار الهجرة
مالك ابن أنس في القول بالاستدلال، فرئي يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة،
وجره ذلك إلى استحداث القتل، وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لتلك المصالح مستندا إلى
أصول،ثم لا وقوف عنده، بل الرأي رأيه ما استدّ نظره فيه، وانتقض عن أوضار التهم والأغراض».()

قلت: وهذا كلام من لا يعرف مالكا ولا مذهبه، وهو زلة من إمام الحرمين في حق هذا
الإمام، ورحم الله من قال: «الإنسان يكون عالما في شيء، وعاميا في شيء آخر». فلو خبر الجويني مذهب مالك لوجده من
أسد المذاهب وأقواها في رعاية المصالح، إذا ثبت هذا فأي خصوصية لمالك في هذا الأصل؟

 والجواب أن له فيه خصوصية، وهي الالتفات إليه، والاعتناء به، وبناء الأحكام عليه
في الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، فيما عدا العبادات كما أفاده الشاطبي بقوله: «ولذلك التزم مالك في
العبادات عدم الالتفات إلى المعاني، وإن ظهرت لبادئ الرأي، وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على
ما هي عليه…»، بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول، فإنه استرسل فيه استرسال
المدل العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم، مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلا من أصوله،
حتى لقد استشنع العلماء كثيرا من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة وفتح باب التشريع، وهيهات، ما أبعده من
ذلك رحمه الله، بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه الاتباع، بحيث يخيل لبعضٍ أنه مقلد لمن قبله، بل هو صاحب البصيرة
في دين الله…()

قال ابن دقيق العيد: «الذي لا شك فيه أن لمالك
ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة».()

وقال ابن برهان: «هو أجل قدرا من أن ينسب إليه مثل ذلك، وإنما نقل عنه
مسائل تبتني على أصول خاصة، فظن طائفة من أصحابنا أنه أجاز التمسك بالاستدلال المرسل».()

وقال ابن جزي: «فحاصل هذا أنه اعتبر المصلحة والذريعة أكثر من غيره، لا أنه انفرد
بها»(). وقال ابن العربي: «كان مذهب مالك أشرف المذاهب لتتبعه المعاني، وإعراضه عن الظاهر».()

إذا تبين بهذا أن التعليل المصلحي المشهود لجنسه شرعا معتبر عند مالك في الأحكام
مطلقا، تبين بذلك اتساع دائرة الاجتهاد عنده بناء على هذا الأصل؛ ولا بدع في ذلك، فمالك رضي الله عنه إنما اقتدى
في ذلك بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقهه فقه مصلحي تعليلي يستند إلى كليات الشريعة وقواعدها العامة، وليس هوى
أو استرسالا فيما لا دليل عليه.

ج – نماذج من الموطأ للمصالح المرسلة :
منها قول مالك في تفسير قوله : «ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه» أن ذلك منهي عنه إذا
ركنت إليه، واتفقا على صداق معلوم، ولم يعن بذلك إذا خطب الرجل المرأة فلم يوافقها أمره ولم تركن إليه أن لا
يخطبها أحد، فهذا باب فساد يدخل على الناس»(). فانظر كيف قيد النص بالمصلحة التي فيها دفع المشقة والمفسدة على
الناس في أمر حاجي.

ومنها: أن من مات وعليه نذر من صدقة أو بدنة،
فإنها تخرج من ثلث ماله لا من رأس المال، قال مالك: «لأنه لو جاز له ذلك في رأس ماله لأخر المتوفى مثل ذلك من
الأمور الواجبة عليه، حتى إذا حضرته الوفاة وصار المال لورثته سمى مثل هذه الأشياء التي لم يكن يتقاضاها منه
متقاض…».()

والسبب في عدم وجوبها في رأس المال اتهامه على أنه يريد
بذلك إضرار الورثة حينما أوصى بذلك عند وفاته، فعومل بنقيض قصده، وهذا الأصل فيه رعاية مصلحة مناسبة، وقد استعمل
شرعا في مثل قوله : «ليس للقاتل شيء»()، وما ذاك إلا أنه يتهم بأنه قتل مورثه ليرثه، ومن استعجل شيئا قبل أوانه،
عوقب بحرمانه. وكذلك استعمله عثمان في قضائه بتوريث المرأة من زوجها إذا طلقها في مرض موته()؛ وكذلك عمر في قضية
المفقود، فقد قضى أن امرأته تنتظره أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة ثم تحل.()

فهذا الحكم مصلحة محضة، قال ابن العربي: «مسألة المفقود وقعت في زمن عمر فقضى فيها
بالمصلحة، ورأى أن بقاءها تنتظره ضرر بها، وأن الاستعجال على الغائب قبل الاستيناء به ضرر عليه…»()… إلى غير
هذه الأمثلة المصلحية التي يزخر بها الموطأ، مما يدل على أن مالكا كانت له ملكة فقهية مبنية على التعليل
والمصلحة، والموازنة بين المصالح والمفاسد، فليس بجامد على النصوص مغْفلا لمآلاتها ومعانيها، كما أنه ليس معرضا
عنها متجاوزا لها، بل اعتمدها واعتمد التأمل في معانيها، وهذا من كمال فقهه، وعلمه، وبصيرته في
الدين.

د –
لما كانت المصلحة المرسلة تعتمد على الوصف المناسب، فهي تلتبس بالقياس، ولذلك أدخلها من أدخلها فيه، ولم يجعلها
أصلا مستقلا. والفرق بينها وبين القياس، أن القياس يستند لدليل خاص، بخلاف المصالح المرسلة، فأدلتها إما نصوص
عامة، أو كليات عامة فافترقا.

هـ – المصالح المرسلة تلتبس أيضا بالبدعة، لأن غالب ما تقع
فيه البدع يدخل تحت العمومات والقواعد الكلية، والفرق بينهما أن البدع إنما تتطرق لمجال العبادات والمصالح
المرسلة مجالها العادات والمعاملات، فافترقا.

و- وتلتبس أيضا بالاستحسان، لأن فيه مراعاة المصلحة،
والفرق بينهما أن الاستحسان كما سبق إنما يكون في ترجيح الأدلة، أو الأقبسة بعضها على بعض، بخلاف الاستصلاح،
فمداره على تقدير المآل، والنظر في العواقب.

الأصل الثامن عشر –
 شرع من قبلنا :

والمراد به شرائع الأنبياء السابقين وأحكامها
التي لم ترد في شريعتنا، هل هي شريعة للنبي  ولأمته؟ هذه القضية فيها مذهبان: مذهب المنع، وهو الصواب،
ومذهب الجواز، وينسب لمالك أنه أصل عنده.

قال ابن القصار: «ومذهب مالك
رحمه الله يدل على أن علينا اتباعهم».()

وقال ابن العربي: «ليس في
مذهب مالك خلاف في أن شرع من قبلنا شرع لنا».()

وقال: «شرع من قبلنا
شرع لنا، لا خلاف فيه عند مالك، وقد نص عليه في كتاب الديات»…

وخذوا
–أخذ الله بكم ذات اليمين– قولا بديعا، وذلك أن مالكا كثيرا ما يسترسل في الإسرائيليات، وقد نقلنا عنه في ذلك
أقوالا متعددة، في مسائل مختلفة في أصول الفقه، وجه ذلك ولبابه أن كل قول يرد من قبلهم على ألسنة من أسلم من
علمائهم يجوز أن يؤثر عنهم، ما لم يعترض على ما في الشرع…().

قلت:
ومن نماذج ذلك في الموطأ –كما أشار ابن العربي– ما ذكره في الديات بقوله: «والقصاص أيضا يكون بين الرجال
والنساء، وذلك أن الله تبارك وتعالى قال: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف،
والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص). فذكر الله تبارك وتعالى أن النفس بالنفس، فنفس المرأة الحرة بنفس
الرجل الحر، وجرحها بجرحه.

قال ابن العربي: «وقد تكلف مالك في تحقيق
المراد من هذه الآية بقوله: (وكتبنا عليهم فيها) فأفادنا مسألتين أصوليتين: أما إحداهما فإن شرع من قبلنا شرع
لنا، وما ذكره من حديث نومه عليه السلام عن صلاة الصبح عند قفوله من خيبر، وقوله فيه: من نسي الصلاة فليصلها إذا
ذكرها، فإن الله تبارك وتعالى يقول: (أقم الصلاة لذكري)».

 قال
ابن العربي: «قد بينا أن مالكا رحمه الله قصد في هذا الكتاب التبيينَ لأصول الفقه وفروعه، ومن جملتها مسألة
ذكرها في مواضع من موطئه، وهي أن شرع من قبلنا شرع لنا، لا خلاف عند مالك فيه.. والنكتة المشار إليها في هذا
الحديث قولُ النبي:  فإن الله عز وجل يقول: (أقم الصلاة لذكري) وهذا خطاب لموسى عليه السلام أعلمنا النبي
 أنه متوجه إلينا كتوجهه إلى موسى وأمته».()

ويظهر من هذه الأدلة
التي وردت في الموطأ وأشار إليها ابن العربي أن مالكا لا يقول بشيء من الأحكام الواردة في الشرائع السابقة إلا
إذا وردت في كتاب ربنا وسنة نبينا في سياق مدحها والثناء عليها، الذي يؤخذ منه الحث على العمل بها، أو
وجوبها.

وهذا ليس محل خلاف، لأنه آنذاك تكون هذه الأحكام نحتكم إليها
لا على أساس ورودها في شرع من قبلها،وإنما لثبوتها في شرعنا، بغض النظر عن مواقفها أو مخالفتها لما كان عند
الأنبياء السابقين(). وإنما محل الخلاف ومناط الحكم في شرع من قبلنا، هو:

الأحكام غير الواردة في الكتاب والسنة، ولا يدل عليها عندنا إجماع ولا قياس، ووردت في
الكتب السابقة، هل نعمل بها -وحينئذ تعتبر مصدرا مستقلا من مصادر التشريع-؟، أو لا نعمل بها -وآنذاك لا تعتبر-؟

هذا هو الذي ينبغي أن يحرر عند المالكية، ولم أعثر -فيما علمت- لمالك على
نص يقول فيه بهذا، أو حكم شرعي حكَّم فيه نصا من الكتب السابقة. ولهذا فاعتبار ابن العربي وغيره أنه مصدر مستقل
عند مالك يحتاج لتأمل، وأما ما يحكى عن مالك في تفسير القرآن من الإسرائيليات فليست بداخلة في الأحكام، فهي إما
شرح مجمل، أو تعيين مبهم، أو تقييد مطلق، أو تحديد عام، وقد ذكر ابن العربي جملة منها مما رواه ابن القاسم عن
مالك، فتأملها() فإن أغلبها مما يتعلق بالقصص.

وقد يكون اختلط على ابن
العربي ما يرتبط بالأحكام من الشرائع السابقة مع ما يرتبط بباب الإخبار والحكاية عنهم، فهذا الثاني مأذون فيه
شرعا ما لم يتحقق أنه كذب، وهذا هو الذي استعمله مالك في التفسير كغيره، وأما الأول الذي يرتبط بما في التوراة
المحرفة من الأحكام فلا أعلم مالكا نقل منها في الموطأ ولو حرفا واحدا، محتجا، أو مستأنسا، أو مستشهدا، وهذا
الذي ينبغي تحريره عند المالكية.

الأصل التاسع عشر :
إدارة الأحكام على المقاصد المرتبطة بالمصالح والمفاسد دون التقيد بنص معين عام أو
خاص، أو قاعدة أو كلية، وإنما بمجموع ما يستفاد من الشريعة كلها أنها جاءت لتحقيق مصالح العباد في الحاجيات
والضروريات والتحسينيات.

وهذا الموضوع لم يشبع بحثا، ولم يبرز بشكل
كاف عند الإمام مالك، مع أن كثيرا من فقهه مبني على هذا، فجعْل هذا من أصول مذهب مالك أوْلى من الاستحسان، وشرع
من قبلنا، ورعاية قول المخالف، فهذا أظهر أثرا في مذهبه، وأبعد مغزى في فقهه، فينبغي أن يعتنى به وأن يحتفى
بمضمونه، ويحتاج لدراسة مستقلة متأنية، تتبع جميع الجزئيات التي راعى فيها الإمام محض المصلحة، وتدرس دراسة
متأنية، ثم تعرض على خبراء الفقه في هذا البلد المعطاء لإبداء رأيهم فيها، ثم تنشر بعد ذلك. وأنا على يقين أن
مثل هذه الدراسة ستبدد كثيرا من الغموض الذي يجده الباحثون في قضايا عديدة في الفقه المالكي قد يعتبرها البعض
تناقضا وليست كذلك، وإنما هي تختلف باختلاف المناطات، والشاطبي رحمه الله في موافقاته له حس خاص في هذا الفقه،
وذكر منها نماذج، وعندي مما تجمع نماذج كثيرة، لكنها لم تكتمل كلها من كتبه وكتب أصحابها لتكون قيد الدراسة، فإن
تم جمعها فسنعرضها عليكم إن شاء الله لتروا فيها رأيكم، ثم بعد تعتمد.

ومن أمثلة ذلك قول مالك بأن المسافر سفر المعصية ليس له رخصة الفطر ولا القصر، فهذا
منه نظرٌ للمصلحة المحضة والمعنى المقصود للرخصة، فالمصلحة تقتضي أن يعان المطيع على طاعته، فشرع له الفطر
والقصر، وأن تكبح جماح العاصي عن معصيته، فمنع من الرخصة لأنه إذا رخصنا له رفقنا به، فكأننا نعينه على إطالة
سفره في المعصية واستمرائها، فيجب منعه من ذلك ليذزق مشاق العبادة وذل المعصية، ولأن الترخص إنما شرع للإعانة
على تحصيل المقصود المباح في سفر مباح، فلو شرعت للعاصي لكانت فيها إعانة على محرم، وهو لا
يجوز.

فتأمل كيف أراد فهم الرخصة على أساس مصلحي محض، وقيد به عموم
النصوص الواردة في الترخيص للمسافر مطلقا، عاصيا كان أو مطيعا. وهذا شيء كثير في فقه مالك، حتى أصبح ظاهرة لا
يمكن جحودها، ولكنه يحتاج لما أسلفنا آنفا.

هذه أفكار ورؤى، عرضناها
عليكم، وقصدنا أن نتأمل فيها جميعا، حتى نتعاون على تحريرها وتطويرها، فالله أسأل أن يمن بفراغ من الوقت وإزالة
الموانع، والتفضل بـمُنة تعين على ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

   إبطال
الاستحسان، للشافعي، ضمن الأم، دار الفكر، ط2/1983م.

  
الإحكام في
أصول الأحكام، لابن حزم، تح أحمد شاكر، دار الآفاق، ط1/1980م.

   إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي، تح عبد
الله الجبوري، مؤسسة الرسالة، ط1/1409هـ.

   الإشراف على
مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب البغدادي،ط1،مطبعة الإرادة.

   أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد السرخس،تح
أبو الوفاء الأفغاني، مكتبة المعارف.

   أصول الفقه،
للعربي اللوه، تطوان المغرب، ط2/1404هـ.

   اعلام الموقعين،
لابن القيم، مطابع الإسلام، 1388م.

   البحر المحيط،
للزركشي، تحرير عمر الأشقر وأخوه محمد، وعبد الستار أبو غدة.

   البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين، تح عبد
العظيم الديب، دار الوفاءـ، ط3/1992م.

   البهجة شرح تحفة
ابن عاصم لأبي الحسن عبد السلام التسولي، مطبعة مصطفى الحلبي ط2/1951م.

   ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب
مالك، للقاضي عياض، تح محمد بن تاويت الطنجي، وزارة الأوقاف المغرب، ط2/1983م.

   تقريب الوصول إلى علم الأصول لأبي القاسم ابن جزي
الغرناطي، تح محمد علي فركوس، دار الأقصى، ط1/1410هـ.

  
الجرح
والتعديل، لابن أبي حاتم، ط1، دائرة المعارف العثمانية، الهند.

   الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة،
للشيخ حسن المشاط، تح عبد الوهاب أبو سليمان ،دار الغرب،ط2/1990م.

   الحلية لأبي نعيم، دار الفكر.
   سنن أبي داود، تعليق محي الدين عبد الحميد، دار
الفكر.

   سنن الترمذي، تح أحمد شاكر، دار إحياء التراث.

   سير أعلام النبلاء للذهبي، تح شعيب الأرناؤوط،
مؤسسة الرسالة ، ط9/1990م

   شرح تنقيح الفصول
في اختصار المحصول، للقرافي، دار الفكر، ط1/1393هـ.

  
شرح حدود ابن
عرفة، لأبي عبد الله الرصاع التونسي، طبعة وزارة الأوقاف، المغرب، 1992م.

   الاعتصام، للشاطبي، دار الفكر، مراجعة خالد عبد
الفتاح، ط1/1996م.

   الفتاوي لابن
تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمان بن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط، إشراف المكتب التعليمي السعودي.

   الفروق للقرافي، عالم الكتب.
   الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، للحجوي،
تح عبد العزيز القارئ،المكتبة العلمية المدينة، ط1/1396هـ.

   القبس شرح موطأ مالك بن أنس،تح ولد كريم، دار
الغرب، ط1/1992م.

   كشف الأسرار على
أصول الإمام البزدي، لعبد العزيز البخاري، مكتب الصنائع ط1/1307هـ.

   محاضرات في تاريخ المذهب المالكي، للدكتور عمر
الجيدي منشورات عكاظ، مطبعة النجاح، الدار البيضاء.

  
المسودة في
أصول الفقه، لآل تيمية، ط المدني، تقديم محمي الدين عبد الحميد

   مشكل الآثار، للطحاوي، دار صادر، ط1/1333هـ،
دائرة المعارف النظامية، الهند.

   مقدمة في أصول
الفقه، لابن القصار المالكي، مخطوطة خاصة.

   مناقب الشافعي
للبيهقي، تح أحمد صقر، ط1/1390هـ.

   مناقب الشافعي
لابن أبي حاتم، تعليق محمد زاهد الكوثري، دار الكتب.

  
الموافقات
للشاطبي، دار المعرفة، تعليق الشيخ عبد الله دراز.

  
موطأ الإمام
مالك، تصحيح محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث

  
نثر الورود على
مراقي السعودي، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، تح الشنقيطي محمد ولد سيدي، دار المنارة، ط 2/1420هـ.

   نشر البنود على مراقي السعودي، لعبد الله
الشنقيطي، اللجنة المشتركة بين المغرب ودولة الإمارات العربية.

   نوازل ابن هلال، ترتيب علي الجز ولي، طبعة حجرية.

الوصول إلى الأصول: لابن برهان البغدادي، ت، عبد الحميد أبو زيد، مكتبة
المعارف، الرياض، 1403هـ.