الرئيسية / تفسير النصوص بين الشريعة والقانون : تكامل أم تعارض؟

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : تفسير النصوص بين الشريعة والقانون : تكامل أم تعارض؟

الكاتب(ة) : د. إسماعيل الحفيـــــــــــان

   إن من طبائع وجود الإنسان على وجه هذه البسيطة: أن معايشه في توسع مستمر، ومناشطه في تزايد مطرد، وصلاته مع بني جنسه في نماء دائم لا يفتر، ومن ثم تبتدئ  مشكلاته، وتطرأ أزماته؛ وذلك أن خصيصة الاجتماع التي جبل عليها الإنسان، وطبيعة حب الذات والركون إلى ما تصبو إليه من الأغراض والحاجات التي فطر عليها، لا يفتئان يوردانه موارد الصراعات والنزاعات مع بني قومه، فتارة تجدي الملاطفة والمسامحة، وأحيانا كثيرة لا ينجلي الأمر إلا بالمدافعة والمشاحنة.
    إن تأملا بسيطا في تاريخ البشرية يفيد بلا أدنى عناء أن الأصل الغالب في مسارها الحضاري هو الصراع والحروب، والتنكر لقيم الخير والتعايش، ومثل التعارف والتعاون، وأن الاستثناء النادر هو التوافق والتراضي، ولم يلحظ ذلك على امتداد التاريخ إلا في فترات محدودة هي فترات الرسالات الربانية الحكيمة، أو القيادات السلطانية الرشيدة، وما كان أقلها وأقصر مددها!
    إن السبب الرئيس في هذا الصنيع المنحط عبر امتداد هذه الأزمان وترامي تلك العصور؛ هو التنكر لجادة الشريعة والقانون، والتغاضي والانحراف عن مسالك التنظيم والتوجيه التي ينبغي أن تنبني عليها العلاقات والصلات، ويحتكم إليها في التصرفات والممارسات. فبقدر ما يؤمن الإنسان بالشرائع والقوانين، ويبوئها مواقع الريادة، وسلطة الحكم والقيادة، بقدر ما تسمو حضارته، وتتحقق له العدالة والحرية والمساواة، وتبسط له الحظوظ العريضة من الأمن والاستقرار. وعلى النقيض من ذلك تعصف به الملمات، وتشتد عليه الأزمات كلما أعرض عن رشاد الشريعة ونظام القانون.
   وقد أجمع عقلاء البشر اليوم على اختلاف مشاربهم الفكرية واتجاهاتهم الثقافية والسياسية على أهمية سن القوانين، وفرض الشرائع لاستقامة المجتمع وإقرار العدالة ورعاية الحقوق، والمواءمة بين المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعارضة.
    ومهما حاول عبثا ذلك الجمع من الفلاسفة “الفوضويين” نبذ فكرة التنظيم والتقنين؛ تعويلا منهم على أصالة قيمة الفضيلة في كيان الإنسان، ونزوعهم إلى خيالات بعيدة عن مثالية المجتمع الإنساني القديم قبل ظهور الشريعة والقانون!! فإن هذا لم ولن يغير قلامة ظفر من قضية الحاجة إليهما والاحتكام إلى مقتضياتهما، فكل ذلك ضرب من الهوس الفكري، والمناقضة الفجة للحقائق الثابتة والوقائع المشهودة، وأقواها وأعلاها أن فكرة التشريع والإلزام بمقتضياته النظامية والزجرية كانت مصاحبة لخلق الإنسان وتكليفه بعمران الكون، تدريبا ربانيا أوحى الله به إلى نبيه آدم عليه السلام قبل أن يضع قدميه على هذه الأرض، وذلك في قصته المعروفة.
    لقد ناضل الإنسان نضالا مريرا ضد قوى وآلهة الاستكبار التي أرادت أن تجعل من نفسها مصدرا لسلطة التشريع والقضاء، وهيأة لتنفيذ أحكامه وأقضيته بعيدا عن أي معارضة شعبية، أو رقابة دينية أو مدنية حتى تسنى له تحقيق قدر كبير مما يصبو إليه من العدالة، وما يرمي إليه من إقرار الحقوق والحريات، غير أن هذا الحسم في معركة تقنين الشرائع والقوانين، والاحتكام إلى القضاء والمحاكم لم ينه جميع أطوار المواجهة مع مشكلات التشريع المتجددة، ولم يحد من تداعياتها وامتداداتها المتلاحقة.
فلقد طفت على السطح تحديات عديدة ومعيقات كثيرة لا تقل في ضراوتها وقساوتها عن سابقاتها، ووجد الإنسان نفسه يفتح واجهة جديدة في معركة طويلة لا يبدو أن لها نهاية منظورة. وقد كان أهم هذه التحديات وأقواها: مشكلة تفسير القوانين التي وضعها الإنسان، وبيان الشرائع التي تلقاها من طريق الوحي.
    قد يبدو لكثيرين أن وجود النص القانوني المنظم لهذا المرفق أو ذاك، والمبين لهذا التصرف أو ذاك كاف في التدبير الأمثل لنشاطاته وقضاياه المختلفة، ومن ثم تجنيب الإنسان أهوال الصراع ومخاطر النزاع، لكنه اعتقاد خاطئ؛ لأن النص، وإن كان محدد الموضوع، مرتب الفصول والمواد، مستوفيا لكل شرائطه الموضوعية، وشكليات مناقشته وإصداره والرقابة عليه، إلا أنه في حقيقة نشأته وصياغته لا ينفك عن أحوال وظروف كثيرة وأسباب عديدة مصاحبة لجميع مراحل إعداده والعمل به؛ تجعل من قضية تفسيره وبيانه إشكالية حقيقية، لها من الآثار العظيمة على مرافق المجتمع ومؤسساته وممارسات أفراده مثل ما لغياب هذا القانون وانعدامه بالمرة.
    إن هذه الظروف والأحوال كثيرة متداخلة، منها ما يرجع إلى النزعات الذاتية لواضع القانون نفسه، والذي يضمر في نفسه رغبة فاسدة ترمي إلى إضعاف النص القانوني وخلخلة بنيانه والتلاعب بآجاله الزمنية، ومن ثم يحتفظ لنفسه بفسح واسعة يلج منها إلى تحريف القانون وتأويله لفائدة أغراضه الذاتية.
    ومنها ما يرجع إلى الطبيعة البشرية الناقصة والضعيفة التي تورد المشرع موارد الخطأ والغلط، فتأتي صياغته مشوبة بكثير من معايب التناقض والتعارض والغموض والإبهام.
ومنها ما يرجع إلى طبيعة اللغة ذاتها وما يعتري ألفاظها ودلالاتها على معانيها من عوارض الاحتمال والإجمال والعموم والإطلاق، وغير ذلك…
وعندنا في الشريعة علم قائم الذات، صعب المراس، دقيق المباحث، يعنى بدراسة هذه المباحث وتقعيد القواعد الخاصة بشأنها؛ وهو الذي ندعوه: “علم أصول الفقه”، وفيه تبحث قواعد الاستنباط، وأسس الاستدلال، ودلالات الألفاظ، وأسباب الخلاف في تفسير النصوص، والتعارض والترجيح… وغير ذلك من البحوث التي تظهر بجلاء أن مسألة تفسير النصوص معضلة حقيقية أمام الباحثين والمشتغلين بالفقه والقانون.
إن أبعاد هذا التحدي وآفاقه آخذة في التوسع والتنامي، وذلك بقدر ما يحدث الإنسان من الأقضية، ويعرض له من النوازل، ويفتح من العلاقات. ومظاهر هذا التوسع بادية في أحكامه المدنية الصغيرة، وقوانينه الجنائية الزاجرة، وعلاقاته الأسرية، وارتباطاته المجتمعية الوطنية والدولية.
    لقد قطع الإنسان أشواطا بعيدة وكبيرة في مدافعة مع هذه الظاهرة ” تفسير القانون وبيان الشريعة” وأخذت منه الجهد والوقت الكبيرين، فأقام الدراسات، وأصدر المصنفات، ودون المدونات والموسوعات، وأنشأ الكراسي العلمية، ووضع اللجان الشرعية والقانونية: الرسمية والشعبية؛ لضبط هذه الظاهرة ورسم حلولها وبدائلها.
    والحقيقة أنها معركة متواصلة، وجبهة مفتوحة؛ يبدو أن لا حد لها، ولا نهاية لآثارها إلا أن ينتهي وجود الإنسان من على وجه هذه البسيطة. فما دام في الإنسان إرادة تعقد، ونفس تتوق إلى الإشباع، وما دام حنينه إلى الاجتماع بغيره ثابت باق إلا كان ذلك مدعاة للتشريع، ولا يكون تشريع إلا تولدت عنه الحاجة إلى التفسير!
    إن الإشكالية الرئيسة لهذا البحث تدور حول السؤال الآتي: ما وجوه التلاقي والتكامل بين المناهج الشرعية والقانونية في تفسير النصوص؟ وما آفاق الاستفادة المتبادلة بينهما؟ ثم كيف نمهد لفقهاء القانون وشراحه وطلبته السبيل الأرشد للإفادة من المدرسة الأصولية في تفسير النصوص وبيانها، وكيف نفتح لهم آفاقها الرحبة، ونعرض أمامهم مداركها العالية حتى يرتقوا بمناهجهم التفسيرية وأصولهم الفقهية في التحليل والاستنباط والتعليل والترجيح…
في المكتبة القانونية والشرعية ـ اليوم ـ محاولات رصينة، وكتابات جادة، لها السابقة الحسنة في تناول الموضوع من جوانب كثيرة ومختلفة، والإسهام في إثارة النقاش حول مسألة تكامل المعارف الشرعية والقانونية ووجوه الارتباط والإفادة المتبادلة بينهما.
    إلا أنه بالرغم من  هذه المحاولات، فإننا لا نستطيع أن نضع اليد على أية نظريات علمية جامعة أو خلاصات متكاملة نابعة عن دراسة عميقة وبحث رصين يؤسس لوضع منهج قويم ونظام مرجعي ينظم العلاقة بين ما هو شرعي وما هو قانوني. فأغلب الدراسات التي اطلعت عليها لا تزيد عن كونها محاولات وصفية للموضوع تحوم حول ملاحظة أوجه التشابه الكثيرة بين النص القانوني والنص الشرعي، واشتراكهما في ظواهر عديدة من الظواهر اللغوية والعرفية والمصلحية الملجئة إلى البيان والتفسير، ومن ثم يتيسر القول بإمكانية استعانة رجال القانون بقواعد علم أصول الفقه في صياغة القانون وفقهه وتفسيره والقضاء به، ويقدم أغلب من كتب في الموضوع على ذلك الكثير من الأمثلة والتطبيقات الأصولية على النصوص القانونية.
ولست أدعي أن بحثي هذا سيسد العجز الحاصل، أو يصلح الخلل الطارئ، فالأمر يحتاج إلى جهود متضافرة، ومعالجات متكاثرة، تغطي الجوانب المختلفة للموضوع: المعرفية والمنهجية والثقافية وغيرها، لكني أدلي بدلو متواضع، أرمي من خلاله إلى الإسهام في تنمية جهود التراكم التي ما فتئت تنهض بها جهات وأقلام متخصصة في هذا الشأن، وذلك على طريق تأسيس اللبنات الأولى لهذا الصرح العلمي الكبير، أعني بذلك: “التكامل المعرفي بين الشريعة والقانون في مجال تفسير النصوص”.
اعتراض وبيان :
إن مما يعتقده كثير من الباحثين في الاختصاص الشرعي أن علم أصول الفقه الإسلامي هو نتاج خبرة شرعية إسلامية تختص بالفقه الإسلامي، وهي وليدة سياقات علمية ومنهجية خاصة، لا يحسن أن يتعدى بها إلى غير المقام الشرعي الذي احتضن أبحاثها وأثمر مدارسها ومناهجها وتطبيقاتها الفقهية عبر تاريخ طويل، ولو كان الأمر يتعلق بمدارس القانون ومناهج تفسيره.
وبعضهم يذهب مذهبا أبعد من هذا، ويعترض بالقول بأن هذا التوجه المعرفي إلى البحث في وجوه الإفادة المذكورة لا وجه له من جهة الصحة الشرعية، ولا يصح المصير إليه؛ لأن فيه إقرارا وتمكينا للقانون، واعترافا بمكانته، وإعلاء لشأنه، وكل هذا ينافي عقيدة التوحيد، ويناقض مقتضياتها الإيمانية، وعلى رأسها: وجوب التحاكم إلى الشريعة ونبذ ما سواها من القوانين والأنظمة، والدخول تحت أوامرها ونواهيها، وقد أمرنا بأن لا نبغي عن ذلك بدلا، قال تعالى: ﴿أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يومنون﴾().
والجواب على ذلك: أن قضية الاحتكام إلى الشريعة قضية مسلمة، لا أحد يجادل في صحتها وصدقيتها وأولويتها، وأنها حق لا يجوز المساس به، وإلا انتقضت عرى الدينونة لله تعالى، وانحل عقد الإيمان به، وهي قضية لا محل لها في هذا المقام؛ لأننا لا ندعو إلى استبدال الشريعة بالقانون، ولا إلى إحلال المناهج الوضعية في التنظيم والتأطير محل القيم الإسلامية والمبادئ الشرعية، بل غاية ما نرمي إليه أن نكشف لأهل القانون وفقهاءه عن سمو المنهجية الإسلامية، وعلو مبادئها، وغناها بالقواعد والضوابط الناظمة لعمليات بيان الأحكام وتفسير النصوص الشرعية واستثمارها في الاستنباط والاستدلال والترجيح والتعليل والتقصيد…، وأنها تميزت بقدر كبير من الدراية والعمق والرصانة، والقدرة على توليد الأحكام، وإنتاج الحلول والبدائل الشرعية: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على امتداد تاريخها الطويل، ولا يخفى أن هذا من تعظيم الشريعة وتنزيهها والدعوة إلى أحكامها ومناهجها؛ فإن لكل قوم مسلك في التواصل والحوار، لا ينهض به إلا الخطاب الذي هو على صلة باهتمامهم، القريب من أحوالهم وأشغالهم، وكثير من أهل القانون قد لا تسنح لهم الفرص الدراسية بالبحث العميق في نصوص الشريعة وتفاصيل أحكامها، وتغلب عليهم الثقافة القانونية فتنعدم أمامهم فرص النظر والمقارنة، لكن ما نقترحه من البحث في قضايا المنهجية الأصولية قد يسد شيئا من عجزه وتقصيره، ويرتقي به ارتقاء معرفيا عاليا وهو يدرس مسالكها في النظر والتفسير والبيان كما سنورد نتفا منها في محلها؛ ليقف على حاجته إلى هذه المنهجية حقيقة ماثلة ناصعة، ومن ثم تتأكد له ضرورة العكوف عليها درسا وتحقيقا، ولم لا تمثلا والتزاما!
ثم إن هذا المسلك ليس بالجديد، ولست أول من يدعو إليه أو يكشفه للناس، بل هو قديم مألوف يوظفه حذاق الدارسين، ويركن إليه الجهابذة من أهل هذا الشأن، ويجري ذلك في القوانين المدنية والجنائية والدستورية تماما كما يجري في قوانين الأسر والأحوال الشخصية الإسلامية على حد سواء، ثم هو في الأغلب الأعم شأن لغوي محض تسري قواعده على جميع التقنينات الوضعية والشرعية على حد سواء، غير أن الأكثرين من أهل الفن في غفلة عنه معرضون.
ولا زلت أعجب من كثير من المناهج التكوينية في كليات القانون في بلدنا، كيف لا تدرس علم أصول الفقه لطلبتها؟ وكيف لا تخصهم بما يلزمهم من التأهيل والتدريب على فنون التفسير والبيان؟ ولهذا يلاحظ كل متتبع ودارس لأحوال وقضايا تفسير النصوص والاحتجاج بها في الساحة القانونية عزوفا كبيرا عن العناية بالمناهج الأصولية والشرعية في التفسير والبيان؛ فكثير من المقالات التي تكتب في المجلات القانونية المتخصصة، والمذكرات والتعليلات والدفوعات التي تحفظ في ملفات المحاكم تفتقد هذه الأصالة في المنهجية والقوة في استنطاق النصوص واستثمارها عند دفع أو استصدار الأحكام وتطبيقها على الوقائع.
إن كثيرا من الأمثلة التطبيقية والتمارين العملية التي سنعرضها في ثنايا هذا البحث والإشكالات الأصولية واللغوية والمنهجية الواقعة أو المفترضة التي سندرسها لا شك ستبرز وتكشف عن فراغ كبير تعاني منه الدراسة التفسيرية القانونية، يلزم بحثه وسده بمزيد من الدرس العلمي والضبط المنهجي على وزان ما تزخر به فنون الشريعة وعلومها الفذة من قدرة على البيان والتفسير.
تفسير النصوص في الفقه والقانون :
جاء في لسان العرب عند التعرض لمادة “فسر”، ” الفَسْرُ: البيان. فَسَر الشيءَ يفسِرُه، بالكَسر، ويفْسُرُه، بالضم، فَسْراً وفَسَّرَهُ: أَبانه، والتَّفْسيرُ مثله، ابن الأعرابي، التفسير والتأويل والمعنى واحد، وقوله عز وجل: “وأَحْسَنَ تَفْسيراً”؛ الفَسْرُ: كشف المُغَطّى، والتَّفْسير كَشف المُراد عن اللفظ المُشْكل.”()
فلفظ التفسير إذن من جهة اللغة يدور حول معاني البَيَان والكَشْف والإيضاح.
أما فى الاصْطِلاَح فأغلب الباحثين لا يعرف عندهم التفسير إلا مضافا للقرآن الكريم، لما استقر وغلب من استعمال هذه الإضافة منذ القديم، فلا يذكر مصطلح التفسير مطلقا إلا كان المقصود به: “تفسير القرآن”، وإن أريد غيره قيد، وتفسير القرآن: “علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالتُه على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية”()، وهو أجل علوم الشريعة وأشرفها؛ لأن موضوعه الكلام الرباني الأزلي، الباهر في أسراره وإشراقاته ولطائفه؛ وكذا لاشتداد الحاجة إليه، ولسمو غايته وغرضه، إذ القصد منه بيان الشرائع وهداية الخلق.                  
والتفسير بهذا المعنى يشمل آي القرآن كلها، سواء منها المتعلقة بالعقائد أو الشرائع أو الخلق أو القصص، أو غير ذلك. ولا شك أن بحثنا أخص من هذا بكثير، إذ هو قاصر على الشرائع والأحكام العملية التي يقوم بها المكلفون من أجل تنظيم معايشهم وتدبير مرافقهم وضبط عقودهم وتصرفاتهم، ولهذا كان أنسب التعاريف التي ترتبط بموضوعنا هو تعريف المتشرعين المشتغلين بأصول وطرق استنباط الأحكام وإصدار الأقضية والإفتاء، أعني بذلك التعريف الذي يصطلح عليه علماء الأصول وفقهاء القانون وشراحه.
إنا إذا تأملنا التعريفات التي يطلقها علماء الأصول وجدناها تنطبق أيما انطباق على موضوع تفسير النصوص الذي سندرج عليه، وذلك أنها تراعي التقيد بالشرائط العلمية والضوابط المنطقية في صياغة الحدود والتعريفات، ثم هي ألصق بموضوع التفسير، وأقوم بأبحاثة وقضاياه.
وقد تعددت عباراتهم في تعريف علم تفسير النصوص المقصود عندهم على ما سيأتي بيانه، ونستطيع بعد الموازنة والجمع أن نختار الصياغة الآتية للدلالة على نوع وحقيقة التفسير الذي نقصد، فنقول: هو العِلمٌ الذي يبحث في أصول وطرائق بيان النص الشرعي والقانوني والكشف عن مدلولاته، وحال الباحث في ذلك.
    إن عبارة “النص الشرعي والقانوني” الواردة في نص التعريف، عبارة مختارة مقصودة، وذلك أني لا أرى –كما سيتضح قريبا- أي داع للفصل بينهما، وتمييز كل واحد منهما بتعريف خاص، فالمصطلح واحد، والمقصد واحد، وطرائق النظر والبحث   واحدة متشابهة في كثير من المسالك. وأما الاختلاف بينهما في المبادئ والمنطلقات وبعض المناهج، فلا تأثير له على التعريف “التقني” العام المجرد.
المبحث الأول: تفسير النصوص في الشريعة (علم أصول الفقه): حقيقـته، نشأته، مناهجه.
1 ـ تمهيد:
يعتبر علم أصول الفقه من أرقى العلوم الإسلامية التي جادت بها العبـقرية الإسلامية، وتفردت بها منظومتها المعرفية والمنهجية من دون سائر النظم والاتجاهات التشريعية والقانونية، ولم يسبقها أي تشريع آخر إلى وضع قواعد وضوابط علمية يرجع إليها في تفسير النصوص وتأويلها وبيان أحكامها، قال ابن خلـدون في مقدمته: “اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، وأجلها قدرا، وأكثرها فائدة، وهو النظر في الأدلة حيث تؤخذ منها الأحكام و التكاليف”().
ودراسة هذا العلم تحتاج من صاحبها الهمة العالية والقريحة الجيدة، ولا يتيسر تحصيله وحذقه إلا لمن خص ذلك بجهد كبير وزمن طويل، وذلك لما اشتمل عليه من الأبحاث الدقيقة والفنون البديعة، يقول الغزالي في بيان حقيقة هذا العلم: “وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبنى على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد”().
وقد صنف العلماء المسلمون فيه المصنفات النفيسة، ووضعوا المناهج، ورسموا الطرق، وذللوا الصعاب لمن يشتغل بالفقه، حتى لم تكن مسألة من مسائل الفقه إلا كان لها في الأصول قاعدة تحكمها أو أصل ترجع إليه!!
2 ـ تعريف علم أصول الفقه :  
عادة الباحثين عند إرادة تعريف علم أصول الفقه الإطالة بتقرير الأصول اللغوية لهذا الاسم، والتمييز بين مركبه الإضافي وإطلاقه العلمي، ولا فائدة في بحثنا هذا من هذه الإطالة، فلذلك نختار الطريق الأقصر، فنقول: “أصول الفقه: هي أدلة الفقه، وجهات دلالاتها على الأحكام الشرعية، وكيفية حال المستدل بها من جهة الجملة لا من جهة التفصيل بخلاف الأدلة الخاصة، المستعملة في آحاد المسائل الخاصة.”() وعرفه الإمام السبكي بقوله: “العلم بالقواعد الكلية، والأدلة الإجمالية، التي يتوصل بها إلى معرفة الأحكام الشرعية وحال المجتهد وطرق الترجيح”().
فعلم أصول الفقه إذن يختص بالنظر في الأدلة الشرعية التي تؤخذ منها الأحكام والتكاليف، كالقرآن والسنة والإجماع والقياس والمصلحة وغير ذلك، وحجيتها، ومراتب الاستدلال بها، وضبط دلالة ألفاظها على المعاني، وطرق دلالتها على الأحكام، والترجيح بينها، ووضع الشرائط الخاصة لمن يتصدى لاستنباط الأحكام منها وبها، وهو الذي يدعونه بالمجتهد.
فصنعة الأصولي ـ إذن ـ هي  إعداد البحوث، وصياغة القواعد والضوابط التي يستخدمها الفقيه في الاستنباط والاستدلال والترجيح… مستعينا بالاستقراءات اللغوية والاستعمالات الشرعية للألفاظ والمعاني، ومستندا إلى مقاصد الشريعة وغاياتها العليا.
ومثال  ذلك: بحث الأصوليين في صيغة الأمر المطلق المجرد عن القرائن، هل يفيد الإلزام بالفعل والإيجاب؟ أم  يفيد مجرد الاستحباب؟ أم يفيد حكما آخر غيرهما؟
فبالاستقراء والتتبع لكلام العرب الذين نزل القرن بلغتهم، والنظر والتدقيق في إطلاقات الشارع ومقاصده في كثير من الأوامر الواردة عنه، تبين أن صيغة الأمر المطلقة تفيد الوجوب عند الجمهور خلافا لقلة. وهكذا توصل البحث الأصولي إلى واضع قاعدة ” الأصل أن الأمر المطلق للوجوب”.
ثم يأتي الفقيه بعد ليستمسك بهذه القاعدة ويطبقها على الفروع الكثيرة، فيحكم بوجوب الوفاء بالعقود، أخذا من الأمر الوارد في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾() وبوجوب أداء الأمانات أخذا من الأمر الوارد في قوله تعالى: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)().
وما تقرر من البحث والدرس في قاعدة “الأمر يفيد الوجوب” يقال مثله في قاعدة “النهي يقتضي التحريم” وقاعدة “الأصل في العبادات التوقف” و”الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة” وغير ذلك كثير.     
ومن هاهنا يظهر أن شأن الأصولي مع الفقيه كشأن المهندس مع البناء، فالأول يرسم الخطط ويضع الموازين، والثاني يستعين بنتاج الأول في التشيـيد والبناء، ولا غنى لأحدهما عن الآخر.
3 ـ أصول المنظومة المعرفية والمنهجية لعلم أصول الفقه :
تدور أصول المنظومة المعرفية والمنهجية لعلم أصول الفقه حول خمسة كبرى، يجمع بينها رابط رئيس، وهو كونها أدلة كلية يتوقف على بحثها وتقعيدها مهمة الفقه، وشأن استنباط الأحكام الشرعية.
أ) ضبط مصادر التشريع الإسلامي: وهي الأصول التي تدرك منها الأحكام، ويرجع إليها في معرفة الشرائع والتكاليف. وهي قسمان:
ـ مصادر متفق عليها، مجمع على اعتبارها والعمل بها بين المسلمين كافة، وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس()، وتسمى المصادر الأصلية.
ـ ومصادر مختلف فيها بين العلماء والفقهاء وهي: العرف، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، وأقوال الصحابة، وسد الذريعة، وشرع من قبلنا، واستصحاب البراءة الأصلية…، وتسمى بالمصادر التبعية.
ولكل واحد من هذه الأصول أبحاث كثيرة، وقواعد عديدة  تطلب في مظانها من كتب الأصول().
ب) تقرير وتحقيق الأحكام الشرعية المستفادة من مصادر التشريع: والحكم عند الأصوليين هو ذلك “الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع “().
والمقصود بخطاب الشارع: جميع الأدلة الشرعية المذكورة سابقا، ومعنى تعلقه بأفعال المكلفين: ارتباطه بها على وجه يبين صفة الفعل وكيفية إيقاعه والتزامه. وأما المكلفون فهم كل عاقل بالغ لا يمنع من تكليفه مانع.
والأحكام نوعان:
ـ الأحكام التكليفية: أي التي يتوجه الخطاب فيها إلى المكلف بصيغتي “افعل” أو “لا تفعل” وما في معناهما، وهي عند الجمهور خمسة: الوجوب، وهو ما طلب الشارع من المكلف فعله طلبا جازما،كقوله تعالى ﴿وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون﴾() ويقابله التحريم، وهو الطلب الجازم بالكف عن الفعل، قال تعالى: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾()، ثم الندب: وهو طلب الفعل غير الجازم، ويدعى أيضا: المستحب، ومثاله قوله : “‏يا معشر الشباب من استطاع منكم  ‏الباءة ‏ ‏فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له ‏وجاء”() ويقابله الكراهة، وهي الطلب غير الجازم بالكف عن الفعل، كما في قوله : “إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال”() ثم أخيراً الإباحة، وهي تخيير الشارع المكلف بين فعل الشيء والكف عنه، قال تعالى: ﴿وأحل الله البيع﴾().
ولكل قسم من هذه الأحكام أنواع باعتبارات شتى تفصلها كتب الأصول، وتبين حكم كل واحد منها، ولها أيضا صيغ كثيرة محفوظة لا تخفى على الدارسين.
ـ الأحكام الوضعية: والخطاب فيها لا يخص المكلفين، وإنما يخص الأفعال والتكاليف التي يؤمرون بها، فلذلك يقال في تعريفها بأنها جعل الشارع الحكيم الشيء سببا لآخر، أو شرطا له، أو مانعا منه، أو صحيحا، أو باطلا…
من أمثلة الأحكام الوضعية: جعل دلوك الشمس سببا في وجوب الصلاة، قال تعالى: ﴿أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا﴾()، و القتل مانعا من الميراث، لقوله : “ليس لقاتل ميراث”() والوضوء شرطا في صحة الصلاة، قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين﴾().
والأحكام الوضعية غير المذكورة كثيرة، وقد بين الأصوليون أقسامها وفروعها وأمثلتها، وما هو مقدور منها للمكلف، وما هو غير ذلك، وكذلك ما يترتب على فعل أو ترك أي واحد منها.()
ج) منهجية التدبير الاجتهادي في استنباط الأحكام الشرعية: قال الآمدي في تعريف الاجتهاد ” هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه”()، وبنحو هذا عرفه الفخر الرازي()، وكذلك محب الله بن عبد الشكور().
والاجتهاد أصل من أصول الشريعة، وعليه مدار كثير من الأحكام، وكل ما لم يرد به نص من القضايا الكثيرة اللامتناهية، فمرجعه إلى الاجتهاد، ولهذا كانت مساحة الأحكام الاجتهادية في الشريعة أوسع بكثير من مساحة الأحكام المنصوصة، قال الماوردي في أدب القاضي: “وقد قيل إن الذي تضمنه كتاب الله من الأحكام مشتمل على خمسمائة آية، والذي تضمنته السنة نحو خمسمائة حديث، ونوازل الأحكام أكثر من أن تحصى، ولا تقف على هذا العدد. فكان الاجتهاد لازما “().  
ومن هنا عكف الأصوليون على بحث حقيقة الاجتهاد، وبيان حكمه ومـشروعيته، وشروط المنتصبين للقيام به، ومتى يتجزأ؟ ومتى يتغير؟ ومتى ينقض؟ وهل يصح إغلاق بابه؟ أم لا يصح ذلك؟ إلى غير ذلك من البحوث والقواعد.
والأصول التي تبنى عليها الأحكام الاجتهادية كثيرة متنوعة، وأكثرها يرجع إلى دلائل العقل، والبحث عن موافقة مقاصد النقل، وهذا يكسب الشريعة الإسلامية سعة ومرونة تقتدر بها على مسايرة التطور ومواكبة مستجداته، ومن أهم هذه الأصول: القياس، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، وسذ الذرائع، والعرف، وغيرها كثير()…
د) منهجية استثمار النصوص واستقصاء أوجه دلالتها على المعاني والأحكام: والمقصود بها تلك القواعد التي استمدها الأصوليون من علماء اللغة العربية المستقرئين لدلالات الألفاظ والأساليب العربية على المعاني، وهي صلب علم الأصول وقطب الرحى فيه، إذ مدار الفقه جميعا على الكلام والخطاب الشرعي: القرآن والسنة، فلذلك كانت قواعد اللغويين في الفهم واستنباط المعاني في الأكثر هي مرجع ومنطلق البحث الأصولي في صياغة وضبط قواعده الشرعية.
ويبحث الأصوليون في هذا المبحث أمورا كثيرة، منها ما يخص إثبات اللغة، وبم يكون، بالقياس أم بالسماع؟ برواية الآحاد أم بالنقل المتواتر؟ ومنها ما يخص تداخل الأسماء الشرعية التي يطلقها الشرع على بعض المعاني مع إطلاقاتها اللغوية الأصيلة، ومتى يعمل بمقتضياتها في الصور التي ترد عليها؟ ومنها كذلك ما يخص دراسة علاقات الألفاظ بالمعاني، وتحديد أنواعها وفروعها، ومراتبها، وقوة دلالتها على مضامينها، وفيها أنوع كثيرة :
ـ دراسة الألفاظ باعتبار ما وضعت له من المعاني: فقد استقرءوا أنها على أربع صور: ألفاظ العموم، وألفاظ الخصوص، والجمع المنكر، والألفاظ المشتركة. ولكل واحد منها قواعد وضوابط تميزه عن غيره، وتبين دلالته وأقسامه وصيغه، وما يستفاد منه من المعاني والأحكام.
ـ دراسة الألفاظ باعتبار استعمالها في المعاني: وهي إما أن تكون على سبيل الحقيقة، أو تكون على سبيل المجاز، وكل من الحقيقة والمجاز إما أن يرد صريحا أو يرد كناية، ولكلٍ حكم يعرف بقواعد لغوية وأصولية قررها أئمة هذا الشأن.
ـ دراسة الألفاظ باعتبار مراتبها في الدلالة على المعاني: فقد لاحظوا أن الألفاظ العربية تتفاوت في قوة الدلالة على معانيها، فمنها الخفي الدلالة، كالمتشابه والمجمل والمشكل والخفي، ومنها الواضح الدلالة، كالظاهر والنص والمفسر والمحكم، ولكلٍ منها تحديد معروف، وأمثلة شارحة، وأحكام ثابتة يذكرها الأصوليون في محلها.
ـ دراسة الطرق التي تدل بها الألفاظ على مراد المشرع: وقد اختلفوا في عدها وترتيبها، فالحنفية يقسمون هذه الطرق إلى أربعة: دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، ودلالة الدلالة، ودلالة الاقتضاء، والجمهور يقسمونها إلى قسمين: دلالة المنطوق ودلالة المفهوم، والمنطوق عندهم إما أن يكون صريحا أو غير صريح، والمفهوم إما أن يكون موافقا أو مخالفا، وبين كلا التقسيمين تداخل وتكامل، ولكل دلالة من هذه الدلالات حقيقة تتميز بها، سواء من حيث قوة الإفادة، أو من حيث التقديم والترجيح على غيرها().
هـ)  تقدير مقاصد الشريعة واعتبار مصالح الخلق في استنباط الأحكام: مقاصد الشريعة “هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد”(). وموضوع هذا البحث هو المصالح والمفاسد، وما يجب لهما من الأحكام الشرعية، فالمصالح ينظر فيها من جهة جلبها والمحافظة عليها وبيان مراتبها، والمفاسد ينظر فيها من جهة  دفعها ورد ما يدعو إليها.
وقال الإمام الشاطبي: “المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد. فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معا”().
    ومن هذا المنطلق جزم العلامة ابن القيم بأن “الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها و رحمة كلها ومصالح كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث،  فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل…”().
والمقاصد عندهم أنواع باعتبارات شتى، فهي باعتبار مصدرها تنقسم إلى قسمين:
    •    مقاصد للشارع: وهي جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين. ‏
    •    ومقاصد للمكلف: يقصدها في أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته.
    وباعتبار مدى الحاجة إليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
    •    المقاصد الضرورية: و”هي ما لابد منها لقيام نظام العالم وصلاحه بحيث لا يبقى النوع الإنساني مستقيم الحال بدونه”(). وهي على التفصيل محصورة في  الكليات الخمس: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
    •    المقاصد الحاجية: وهي التي يحتاج إليها للتوسعة ورفع الضيق والحرج والمشقة، ومثالها: … التوسع في المعاملات المشروعة على نحو السلم والمساقاة وغيرهما.
    •    المقاصد التحسينية: وهي التي تخص محاسن العادات، ومكارم الأخلاق، ولايؤدي الاستغناء عنها إلى حصول ضيق أو مشقة، وذلك كالتزام آداب الأكل، وآداب اللباس، واتخاذ الزينة، ونحو ذلك.
وهي باعتبار متعلقها الشرعي ثلاثة أقسام:‏
    •    مقاصد عامة: تخص جميع أو أغلب أبواب الشريعة ومجالاتها.
    •    مقاصد خاصة: يقصر تعلقها على باب معين أو أبواب معينة من أبواب المعاملات، كالقضاء والشهادة والتبرعات والعقوبات ونحوها.
    •    ومقاصد جزئية:  تتعلق بأعيان الأحكام الفروعية.
‏ وباعتبار القطع والظن تنقسم إلى قسمين:
    •    قطعية: تواطأت عليها الأدلة الثابتة والنصوص المحكمة الكثيرة.
    •    وظنية: يعتريها الاحتمال، ولم تثبت بيقين.
وباعتبار تعلقها بعموم المكلفين تنقسم إلى قسمين:
    •    كلية: وهي التي تهم عموم الأمة وتسري على كافة أو أغلب أفرادها.
    •    بعضية: وهي العائدة على بعض الأفراد، دون سواهم.
    والمقاصد باعتبار حظ المكلف وعدمه تنقسم إلى قسمين: ‏
    •    المقاصد الأصلية: وهي التي لا يلحظ فيها أي حظ  للمكلف.
    •    المقاصد التابعة: وهي التي فيها حظ ظاهر للمكلف، كالزواج والبيع وغيرهما…
    إن هذه التقسيمات الجامعة التي وضعها الأصوليون تدل على تمام الاستقراء الذي أبدعه العقل الأصولي، من أجل اكتشاف المعالم الرئيسة والمعاني الكلية التي ينبغي أن تكون الحاضن المنهجي والإطار العلمي لكل فعل فقهي يروم الحكم على تصرفات المكلفين وضبط مناشطهم وفق نظر الشريعة العدل والميزان القسط().  
4 ـ نشأة علم أصول الفقه وتطور مناهجه :
    كثيرا ما يلتبس على بعض الدارسين الأمر حينما يعرضون للحديث عن نشأة علم أصول الفقه، فتراهم يذكرون أن أول واضع لعلم أصول الفقه، وباسط للقول في مباحثه، هو الإمام الشافعي رضي الله عنه، وعمدتهم في ذلك أنه أول من صنف فيه كتابا جامعا مستقلا سماه كتاب “الرسالة”، وهذا لا يعني أنه أول من اكتشف هذا العلم، ووضع  قواعده وبحوثه. فاقتران علم الفقه بعلم الأصول أمر لازم، وانفكاك أحدهما عن الآخر قضية مستحيلة، ولا يتصور فقه أو حكم أو تكليف إلا بآلات الأصول و أدواته الدلالية والمصدرية والمقصدية، وما يلحق بها من السؤال عن حال الفقيه المستنبط للأحكام وشروطه التي تفصلها كتب الأصول، فأول يوم ظهر فيه الفقه واستنباط الأحكام، كان هو نفس اليوم الذي ابتدأت فيه نشأة علم أصول الفقه. وأما ما وقع بعد من التدوين والتصنيف والتنهيج، فلم يكن إلا فعلا كاشفا، لا منشئا كما يعتقد كثيرون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الكلام في أصول الفقه وتقسيمها إلى: الكتاب، والسنة، والإجماع، واجتهاد الرأي، والكلام في وجه دلالة الأدلة الشرعية على الأحكام: أمر معروف من زمن أصحاب محمد ، والتابعين لهم بإحسان، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وهم كانوا أقعد بهذا الفن وغيره من فنون العلم الدينية ممن بعدهم… “().
ومن التطبيقات الأصولية الظاهرة التي تنسب إلى الصحب الكرام: قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما قيل له: إن أبا محمد الأنصاري يقول: إن الوتر واجب.فقال رضي الله عنه: “كذب أبو محمد، سمعت رسول الله  يقول: خمس صلوات افترضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه”.()
ففي هذا الحديث مصطلحات وتطبـيقات أصولية ثابتة، منها: مصطلح الواجب،  و الرد إلى السنة، وحصول الخلاف، والاحتجاج بمفهوم المخالفة؛ إذ النص على فرضية الصلوات الخمس وحدها –كما في الحديث- يدل على أن ما سواها ليس بمنزلتها في الحكم، وغير هذا كثير.
غير أن العمل التأصيلي الذي كان يقوم به الصحابة ومن بعدهم من كبار التابعين كان عملا سليقيا يرجعون فيه إلى ما استقر عندهم من المعرفة بعلوم اللغة العربية، ومعاينة تنزل الأحكام في بيئتهم، وتبصرهم بأسرار التشريع ومقاصده، مع اشتهار بقوة الذهن، وسلامة الفطرة، وذكاء القريحة، فلم يشعروا بالحاجة إلى تدوين هذا العلم، ولم تلجئهم الدوافع  إلى فصله عن علم الفقه، أو تخصيصه بمناهج وقواعد مستقلة.
وقد استمر الوضع على هذا الحال زمنا غير يسير حتى جاء عصر الأئمة المجتهدين، حيث اتسعت رقعه الدولة، و اختلط اللسان الفارسي والرومي باللسان العربي، واختلفت القيم والأعراف، وظهر الأئمة المجتهدون، وتوسعوا في الخلاف أيما توسع، فأصبحت الحاجة ماسة إلى وضع موازين للاجتهاد.
وكان أول من وصلنا تصنيفه في هذا العلم و تحرير مسائله في مصنف مستقل هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي في كتابه الذي سمي  بالرسالة، و قد توخى فيه  العمق والدقة، و بسط القواعد، وتحرير المسائل مع العناية بإقامة الدليل على ما يذكره من الأقوال ويختاره من الاجتهادات، ومناقشه آراء المخالفين بأسلوب علمي بديع ومنهج علمي رصين.
وقد ضمن الشافعي رضي الله عنه كتابه هذا بحوثا نفيسة، ودراسات رصينة عن القرآن وطرق بيانه، والسنة ومكانتها في التشريع، وتكلم عن الأوامر ودلالاتها، والنواهي وأحكامها، وأطال في الحديث عن أحوال الناسخ والمنسوخ، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والاحتجاج بخبر الواحد..
وكتاب الرسالة هو أول تأسيس منهجي وعلمي في تناول الموضوعات الأصولية، وطرائق بحثها والتأليف فيها. ولم يقتصر جهد الشافعي في علم الأصول  على كتاب الرسالة، بل صنف كتبا غيرها مثل كتاب إجماع العلم، وكتاب إبطال الاستحـسان.
وهكذا توالت المؤلفات، وتتابعت المدونات، بعد الشافعي مقتفية طريقته في التصنيف والترتيب، والبحث والاستدلال، ثم تطور الدرس الأصولي وتوسعت بحوثه فظهرت طرائق جديدة في البحث والتأليف:
أولاً: طريقة المتكلمين.
وتدعى أيضا طريقة الـشافعـية، و سميت بذلك لأن أكثر من ألف بها كانوا من متكلمي الشافعية، وقوامها العناية بتقرير القواعد والاحتجاج لها بالأدلة النقلية والعقلية المستقاة من المنطق العقلي، والقواطع الشرعية الثابتة، من غير التفات أو اعتماد على فروع الفقه، بل الحكم لما أثبته الدليل والبرهان و أيدته الأمارات والقرائن. ومن أهم الكتب التي ألفت على هذه الطريقة:
1 ـ “المعتمد في أصول الفقه” لأبي الحسين البصري المعتزلي 436هـ.
2 ـ “البرهان في أصول الفقه ” لإمام الحرمين الجويني 478هـ .
3 ـ “المستصفى من علم الأصول ” لأبي حامد الغزالي 505هـ…
ثانياً: طريقة الفقهاء.
وتدعى أيضا طريقة الحنفية : وسميت بذلك لأن تحرير القواعد فيها ينبني على الفروع الفقهية، والنسبة إلى الحنفية،  تفيد أنهم أكثر من ألف بهذه الطريقة. وتقوم هذه الطريقة على ملاحظة الفروع الفقهية المتجانسة المتناثرة في أقوال المذهب واستخراج جوامعها ونواظمها الأصولية التي تأسست عليها، ومن ثم صياغتها في شكل قاعدة أصولية معتمدة في المذهب، فالأصول في هذه الطريقة قائمة على الفروع، وليس العكس كما عند المتكلمين.
ومن أجل الكتب المؤلفة على هذه الطريقة:
1 ـ أصول السرخسي “لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي 490هـ.
2 ـ “تقويم الأدلة” في أصول الفقه  لعبيد الله بن عمر الدبوسي الحنفي 430هـ.
3 ـ “كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي” لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري 730هـ…
ثالثاً: الطريقة الجامعة.
التي تجمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الفقهاء، وتقوم هذه الطريقة على تحرير القواعد الأصولية اعتمادا على الأدلة النقلية والعقلية، ثم يذكرون الفروع الفقهية التي تدخل تحتها، ويستقصون الاستثناءات الواردة عليها مع بيان سبب ذلك وعلته، ومن أهم مؤلفاتها وأجمعها:  
1- “بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والإحكام” لأحمد بن علي الساعاتي 694هـ.
2- “جمع الجوامع” لتاج الدين السبكي 771هـ.
المبحث الثاني : تفسير النصوص في القانون: حقيقته، مدارسه، مناهجه.
1 ـ تمهيد :
يعرف القانون بأنه “مجموعة قواعد السلوك العامة المجردة الملزمة التي تنظم الروابط الاجتماعية في المجتمع وتقترن بجزاء مادي حال، وتقسر الدولة الناس على اتباعها ولو بالقوة عند الحاجة “().
والقانون ضرورة بشرية؛ اقتضتها طبيعة الإنسان الاجتماعية؛ فإنه لا يستطيع العيش بمعزل عن بني جنسه، وهو يحتاج دائما إلى الجماعة التي تشاركه الحياة وتبادله المصالح والمنافع، وهذا ما يعرض علاقاته وتصرفاته للتعسف والشطط والظلم، و تضارب المصالح واشتداد النزاعات، ولهذا اقتضى نظر العقلاء من بني البشر الاحتكام إلى قواعد قانونية وضوابط نظامية يلزم بها الجميع حتى يستقيم تدبير المنافع والمرافق ويعتدل أمر المصالح والمناشط.
2 ـ خصائص القاعدة القانونية :
إنها قاعدة سلوكية تهدف إلى توجيه السلوك الإنساني إلى التزام التصرف القويم، وترشد إلى العمل النبيل، في شتى نواحي الحراك الاجتماعي، وقد يكون هذا التوجيه مباشرا بالأوامر الملزمة والنواهي الزاجرة، وقد يكون غير مباشر حينما تتضمن القاعدة تعريفا أو إجراء أو تنظيما، ولا يتم الالتزام بها إلا بإخضاع السلوك لمقتضياتها التنظيمية.
إنها قاعدة عامة ومجردة تنسحب أحكامها على جميع المكلفين الذين يصدق عليهم خطابها، غير مخصصة بأشخاص بأعيانهم، أو حوادث بذاتها، وإنما وضعت للعموم المطلق المجرد عن القيود والصفات، وذلك حتى  يطرد تطبيقها على القابل من النوازل على مر الأزمان.
وهي كذلك قاعدة اجتماعيه، ألجأت إلى إصدارها الحاجة الاجتماعية؛ ولذلك فهي تنطلق من قيم المجتمع ومثله العليا وعاداته وتقاليده ومعتقداته، وتقصد إلى تكوين المجتمع الصالح الذي يوازن أفراده بين حاجاتهم الفردية  ومتطلبات أمتهم الاجتماعية،  ليتحقق لهم كمال الاستقرار والسلام.
ثم هي قاعدة ملزمة مقترنة بجزاء، ولا يترك أمر التزامها لهوى المكلف وتقديره، وإنما هو مجبر على احترام مضمونها والعمل بمقتضياتها، وذلك تحت طائلة العقوبة التي توقعها السلطة المختصة().
3 ـ أصول المنظومة المعرفية والمنهجية لتفسير النصوص القانونية.
أ. مصادر القاعدة القانونية :
مصادر القانون: هي الأصول التي يرجع إليها من أجل استمداد القاعدة القانونية، واستخلاص مادتها ومضمونها، وهي كثيرة متعددة، نعرضها على الترتيب المعهود عند الأكثرين:
∙ التشريع: وذلك بسن القواعد القانونية في صورة نصوص مكتوبة من طرف الهيأة التشريعية المختصة [ برلمان / مجلس الشعب…] التي أوكلت لها الأمة صلاحية وضع القوانين. والتشريع هو أهم مصدر للقانون في الدولة الحديثة؛ إذ أن أغلب القوانين التي ترجع إليها الهيئات والأفراد والمؤسسات والمحاكم تصدر من طريق التشريع.
∙  الدين: وهو مجموع القيم والمبادئ والأحكام التي أنزلها الله تعالى لهداية الناس وتوجيه سلوكهم، وتنظيم علاقاتهم المختلفة، وتشمل العبادات والمعاملات فالأولى تخص العلاقة بين الإنسان وخالقه، والثانية تخص علاقة الخلق بعضهم بعضا.
ويعتبر الدين من أهم المصادر الأصلية التي تستمد منها القواعد القانونية، وأكثر ما يظهر أثرها في القوانين الاجتماعية والأسرية التي تنبني غالبا على الارتباط بالموروث الديني والثقافي للأمة، وذلك مثل قوانين الأسرة من زواج، وطلاق، وإرث، وغير ذلك.
∙  العرف: ويقصد به ما اعتاده الناس وألفوه في تصرفاتهم وارتباطاتهم الاجتماعية من سلوك وتقاليد يرجعون إليها ويراعونها في تعاقدهم والتزاماتهم مع صحة اعتقادهم بلزومها ووجوبها واستحقاق الجزاء على مخالفة مقتضياتها.
فاعتبار العرف لا يقوم إلا بركنين أساسيين: شيوع السلوك واعتياده، ثم الإقرار المعنوي بلزومه.
ويعتبر العرف من أهم وأقدم المصادر الرسمية للقانون؛ لأن أصل نشأته ترجع إلى ضرورات التطور المجتمعي وتفاعل علاقاته، فعلى هذا الأساس تستمد مقتضياته، وتكتسب صفة اللزوم والإلزام.
∙ الفقه والقضاء: يقصد بالفقه تلك الجهود العلمية التي يقوم بها المختصون من رجال القانون بغرض التعليـق على النصوص القانونية، وبسط الشروحات  عليها، وتفسير جوانب خفائها وغموضها، وطرق تطبيقها، وبيان عيوبها وثغراتها، لكي يهتدي بها القاضي عند تطبيقه للقانون والفصل في النزاعات المعروضة عليه.
وتعتبر الدراسات الفقهية للقانون ذات طبيعة استئـناسية وليست إلزامية،  غير أن ذلك لا يمنع من اعتباره مصدرا مهما من مصادر القانون؛ إذ تشكل بحوثه وآراء فقهائه ثروة علمية يسترشد بها ويرجع إليها في كل اقتراح أو تعديل أو إصلاح قانوني قابل.  
ويقصد بالقضاء: الأحكام والاجتهادات الصادرة عن قضاة المحاكم المختلفة التي تنظر وتبث في القضايا التي تعرض عليها من قبل المتنازعين، ويختلف النظر إلى موقع الأحكام القضائية بين المدارس والنظم القانونية. ففي الأنظمة التي تتيح قوانينها للقضاء أن يسن القواعد العامة الملزمة يعتبر الاجتهاد القضائي من قرارات وأحكام مصدرا من المصادر الرسمية للقانون. أما الأنظمة التي لا تتيح لقضاتها ذلك، فإن القضاء فيها لا يعتبر سوى مصدر تفسيري يسترشد بآرائه ولا يلتزم بها.
∙ مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة: اختلف الباحثون في تحديد مفهوم القانون الطبيعي على أقوال كثيرة، غير أنه يمكن القول أن بينها جميعا قاسما مشتركا أساسه: اعتبار الفطرة البشرية المستقيمة المجبولة على تقدير الخير والصلاح، وازدراء الشر والفساد، فالبشرية كلها تجمع على اعتبار فضيلة الصدق والوفاء والأمانة، وتنكر الغدر والغش والخيانة، وهذه المبادئ والقواعد أصيلة في فطرة الإنسان، مبثوثة في طبائع الأشياء من حوله، نلمسها في خواص النظام والتوازن والحكمة التي تحكم سائر الموجودات، وتطرد في جميع المخلوقات،  ومن ثم يتوجب على الإنسان السعي لاكتشافها والاحتكام إلى مقتضياتها، وتطبيقها في حياته.
غير أن أكثر الباحثين في علوم القانون قد دأبوا على جعل هذه المبادئ والقواعد على الرغم من أهميتها آخر المصادر لاستمداد القواعد القانونية لما يكتنفها من السعة في المعاني والخلاف في التقدير().
ب . تفسير القانون مفهومه وأسبابه:
∙ تفسير القانون:
تفسير القانون ضرورة قائمة أمام كل من يتعرض لدراسة نصوصه فقها أو قضاء، فإن عموم الصياغة في القواعد، وتجردها عن الأعيان والذوات، يجعل من الصعب تنزيل مقتضياتها على الحالات الجارية والمتجددة، والوقائع البسيطة والمركبة، إلا بعد البيان والتفسير.
“والمقصود بتفسير القانون تحديد مضمون القاعدة القانونية، والتعرف على عناصرها وأوصافها، حتى يمكن بذلك تحديد نطاقها من حيث الموضوع والتحقق بالتالي من مدى انطباقها على الحالات المختلفة” ().
وعرفه بعض الباحثين بتعريف أوسع فقال: “هو تحديد معنى القاعدة القانونية لرسم حدود تطبيقها العملي واستخلاص الحلول التي تتضمنها العلاقات القانونية بما يدخل في هذا من إيضاح غامضها وتفصيل مجملها “().
فحسب هذا التعريف فإن مفهوم التفسير يشمل قضيتين اثنتين هما:
ـ بيان المعنى الذي تدل عليه القاعدة القانونية.
ـ استخلاص الحلول والأحكام والاستدلال بها على الوقائع.
والمقصود ببيان المعنى إيضاحه ورفع ما يكتنفه من غموض وإبهام حتى تنجلي حقيقته، ويظهر المقصود به، ويصح وجه الاحتجاج به، ومثال ذلك: أن تعترض المفسر ألفاظا مشكلة، أو مجملة، محتملة لمعان كثيرة، فيضطر إلى تمحيصها والتدقيق في مضامينها بالرجوع إلى المصادر المعينة، من لغة وعرف وأحكام سابقة…حتى يستقر به البحث على معنى راجح يصح اعتباره والعمل بمقتضاه.
ومثال ذلك: لفظ “عديم الجنسية” الوارد في الفصل العاشر من القانون الجنائي المغربي: “يسري التشريع الجنائي المغربي على كل من يوجد بإقليم المملكة من وطنيين وأجانب وعديمي الجنسية، مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي”. فإن هذا اللفظ مشتبه، وقد يلتبس بألفاظ قريبة منه، فلذلك يخضعه المفسر للكشف والبيان حتى يتضح مدلوله. ومثاله أيضا: “لفظ المعتوه” الوارد في المادة 279 من مدونة الأسرة المغربية، فإنه يحتمل هو الآخر أكثر من معنى يلزم معها التفسير والإيضاح.
وأما المقصود بالاستخلاص والاستدلال: فهو استخراج ما يدل من القاعدة من منظومها أو مفهومها أو معقولها على حكم، يحتاج تصحيحه أو تطبيق مقتضياته إلى حجة قانونية صحيحة. ومثال ذلك أن يورد المفسر تفسيره لنص المادة 98 من مدونة الأسرة المغربية، مدعيا أن تعاطي الزوج للمخدرات وشرب السجائر يعتبر ضررا يبيح طلب التطليق إذا كانت الزوجة مريضة بمرض الربو “مثلا”، ولا تستطيع تحمل هذه الإساءة، وحجته في ذلك منطوق هذه المادة: “للزوجة طلب التطليق بناء على أحد الأسباب الآتية: (…) الضـرر..”.
فإن مفهوم الضرر في هذا النص ورد عاما مطلقا يصح ابتداء حمله فقها ولغة على الوجه الذي أراده المفسر.
وفي أمثال هذه التطبيقات –وما أكثرها!- يكتسي موضوع التفسير أهميته الكبيرة وخطورته البالغة، فإنه وإن ظهر أنه ضرورة مفيدة نافعة، إلا أنه في كثير من الأحيان بفعل الأخطاء والأغلاط التي يقع فيها المفسر، أو سوء نيته، أوتحايله على القانون، أو ضعف مؤهلاته العلمية يتسبب في إفساد القانون فسادا مدمرا؛ إما بتوسيع نطاق تطبيقه، وإما بتضييقه، ومن ثم يحرف عن مقصوده، ويقصر عن بلوغ غايته.  
    •    حالات التفسير وأسبابه:
الأصل الغالب في النصوص القانونية عدم الحاجة إلى التفسير لما فيها من وضوح العبارة واستقامة المعنى، غير أن عددا آخر من هذه النصوص تعتريه عيوب وآفات تجعله صعبا على الفهم، مستحيل التطبيق، مما يستدعي ضرورة التفسير والبيان، وهذه الآفات والعيوب هي التي يطلق عليها حالات التفسير وأسبابه، ومنها:
– الخطأ: وأكثر ما يكون ذلك من طريق السهو. وصورته أن يتضمن النص القانوني لفظا لا يصح أن يكون هو مراد المشرع، بحيث لا يستقيم معنى النص إلا بتصحيح ذلك اللفظ بلفظ آخر أسلم وأدق. ومهمة المفسر هاهنا هي الكشف عن الخطأ والدعوة إلى تصحيحه، ومثال ذلك: أن يذكر النص أن من ارتكب هذا الفعل يعاقب بالسجن شهرا واحدا أو شهرين، فواضح من مدة العقوبة أن الأمر لا يتعلق بالسجن وإنما بالحبس، لما تقرر من الفرق بينهما في أغلب القوانين الجنائية إطلاقا ومعنى.
– ىالغموض: وذلك بأن تكون عبارة النص مبهمة تحتمل أكثر من معنى، ولا وجه لرجحان أحدهما على الباقي إلا بالتفسير والبيان، وعلى المفسر الاختيار بين المعاني والأخذ بالمعنى الأقرب إلى الصواب، بناء على القرائن والمقاصد وقواعد التفسير.
ومثال ذلك كلمة “الليل” الواردة في الفصل 125 من القانون الجنائي المغربي: “تعتبر الجريمة نتيجة الضرورة الحالة للدفاع الشرعي في الحالتين الآتيتين:
1)  القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب ليلا لدفع تسلق أو كسر حاجز أو حائط أو مدخل دار أو منزل مسكون أو ملحقاتهما؛
2) الجريمة التي ترتكب دفاعا عن نفس الفاعل أو نفس غيره ضد مرتكب السرقة أو النهب بالقوة”.
فهل يقصد بها الليل الفلكي الذي يبتدئ من مغرب الشمس إلى شروقها؟ أم المقصود هو الحالة التي يعم فيها الظلام؟
فلو أنا قدرنا أن مجرما ارتكب جرمه في حالة كسوف كلي للشمس، أو في أزقة القصور والمداشر العتيقة حيث يعم الظلام، فإلى أي معنى يجب المصير؟ ففي مثل هذه الحال يتعين التفسير والبيان، والترجيح بين المبنى والمعنى.
– النقص: وذلك حينما يغفل المشرع  لفظا لا يستقيم معنى النص إلا بإثباته، أو يسكت عن إيراد أحكام بعض الحالات والصور التي يقتضيها المنطق القانوني، ومثال ذلك  المادة 151 من القانون المدني المصري القديم: “كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر”، فقد أغفل المشرع هاهنا ركن الخطأ، إذ لا يصح أن يكون الفعل مقصودا به غير ذلك، ولذلك وقع تدارك هذا النقص في تعديل لاحق، وأصبحت المادة 163من القانون المدني الحالي تنص على أن “كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض”()، وفي مثل هذه الحالات يجتهد المفسر في سد هذا النقص بالقياس على الحالات المماثلة، أو مراعاة المقاصد التي دلت عليها أصول القانون وكلياته المعتبرة.  
– التناقض: ويقصد به التعارض بين نصين قانونيين واردين على محل واحد يقتضي أحدهما خلاف ما يقتضيه الآخر، كأن ينص الأول على بطلان فعل، وينص الثاني على صحته أو قابليته للبطلان، أو نحو ذلك، وأكثر ما يكون ذلك في القوانين التي تشترك في تنظيم بعض الأفعال، وذلك مثل قوانين الأسرة و قانون الالتزامات و قوانين التجارة، ونحو ذلك…
ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 115 من القانون المدني السوري “يقع باطلا تصرف المجنون والمعتوه إذا صدر التصرف بعد إشهار قرار الحجر” وخلاف ذلك ما نصت عليه المادة 200 من قانون الأحوال الشخصية السوري فقد جاء فيها: “المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما ويقام على كل منهما قيم بوثيقة، “فقد اشترطت المادة 115 إشهار قرار الحجر لبطلان تصرفات المعتوه والمجنون، بينما نصت المادة 200 على ابتداء وقت البطلان من يوم الإصابة من غير اشتراط الإشهار، وهذا يوجب التعارض في حالة توارد عليها النصان، وهي التصرفات الواقعة في فترة ما قبل الإشهار، هل يعتد بها عملا بالمادة 115؟ أم هي باطلة أخذا من منطوق المادة 200؟  
وفي مثل هذه الحالات يلجأ المفسر إلى قواعد الترجيح بين القوانين المتفاوتة الدرجة، أو القول بالنسخ، أو حمل أحد النصـين على الخصوص والآخر على العموم، أو نحو ذلك().
ج . أنواع التفسير:
التفسير أنواع ثلاثة، تتراتب باعتبار أهميتها والجهة التي يصدر عنها إلى تفسير تشريعي، وآخر قضائي، وثالث فقهي.
– التفسير التشريعي: هو التفسير الذي يقوم به المشرع الذي صدر عنه القانون، ويقصد به بيان وإيضاح الإبهام الذي يعتري بعض النصوص الغامضة التي يثور بشأن تطبيقها نزاع وخلاف بين المحاكم، ولم يهتد القضاء إلى معناها المراد، فهاهنا يتدخل المشرع  بإصدار نص تفسيري واضح في دلالته، رافع للالتباس الحاصل، كاشف لإرادة المشرع الأصلية.
ومن الخصائص القانونية للنص التفسيري أنه يتمتع بقوة الإلزام كالنص المفسَّر؛ لأنه امتداد له، فهما كالنص الواحد،  وأثره يكون رجعيا بحيث تطبق مقتضياته من تاريخ العمل  بالقانون المفسَّر().
        – التفسير القضائي: ويهم النص المبهم الخفي الدلالة، ويقوم به القضاة أثناء نظر الدعاوى وتنزيل مقتضيات النصوص القانونية المراد الحكم بها على النوازل الطارئة، ويتميز التفسير القضائي بطبيعته العملية؛ لأنه نابع من الظروف والملابسات الحيوية المحيطة بالنازلة، فلذلك نجده يتمتع دائما بقدر من المرونة والتوافق مع الواقع.
ومن خصائصه القانونية أن الأصل فيه عدم الإلزام، سواء لباقي المحاكم، أو للقاضي نفسه في الدعاوى المماثلة، إلا ما كان من استثناءات يخص بها المشرع بعض المحاكم الخاصة، كمحاكم المجالس العليا للقضاء، وبعض الهيآت القضائية الخاصة في حدود بعض التشريعات الفرعية اليسيرة. والتفسير القضائي يثيره القضاة تلقائيا دون حاجة لطلب الخصوم؛ لأن به يتم فهم القاعدة ويتضح  مدلولها ومقصدها، ليتأتى بعد ذلك تطبيق أحكامها().       
– التفسير الفقهي: وهو التفسير الذي يقوم به فقهاء القانون في بحوثهم القانونية ومؤلفاتهم العلمية حيث يتعرضون بالشرح والتحليل واستخلاص الأحكام التي يرمي إليها المشرع والتعليق عليها. ويمتاز هذا التفسير في الغالب بطبيعته النظرية؛ لأنه لا يعرض للوقائع الحادثة الناشئة عن النزاعات بين الخصوم كما هو الحال في التفاسير القضائية، ولذلك فهو لا يتمتع بأية قوة إلزامية، فللقاضي أن يأخذ به إذا أداه إليه اجتهاده، وله أن يتركه إذا لم يصلح لواقعته، غير أن هذا لا يقلل من أهمية التفسير الفقهي، فإن له مزية اقتراحية وتنويرية لاجتهادات القضاة، وبفضله تتوسع مراكز النظر إلى النص القانوني، وتتعدد الشروح والتعاليق مما يتيح للسادة القضاة الإحاطة الكاملة بجوانب النص ومآلات الحكم به وتطبيق مقتضياته().
    ومن أمثلة التفاسير الفقهية المتداولة في المكتبة القانونية والمعروفة لدى الباحثـين:
أ/ الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري.
ب/ شرح القانون الجنائي المغربي للدكتور عبد الواحد العلمي.
ج/ شرح مدونة الأسرة، انحلال ميثاق الزوجية للدكتور محمد الكشبور…
د. مذاهب التفسير:
يقصد بمذاهب التفسير الاتجاهات القانونية التي استطاعت أن تبلور لنفسها أسسا ومناهج خاصة بها في بيان النصوص القانونية وتفسيرها، وقد استطاع الباحثون من خلال عملية استقراء ورصد ومقارنة لمختلف التفاسير التي أفرزها الفكر القانوني منذ القدم التعرف على الكثير من هذه المدارس والمذاهب، غير أن أهمها وأوسعها انتشارا، وأكثرها تعرضا للدراسة والتحقيق ثلاثة:
– المذهب التقليدي: ويدعى أيضا بمدرسة الشرح على المتون؛ لأنه يلتزم بحدود النص ويتقيد بحروفه، ولايتعداه، وقد ظهر هذا المذهب أول الأمر في فرنسا إبان هيمنة تقنينات نابليون على ميادين التشريع والقضاء.
ومن أهم الأسس التي يقوم عليها المذهب التقليدي: تقديس النصوص، واعتبارها المصدر الوحيد للقانون،  وأن مهمة المفسر تنحصر في الكشف عن إرادة المشرع، وذلك من خلال دراسة الألفاظ والعبارات التي وردت في النص وبيان مدلولاتها ووجه إفادتها للأحكام، فإن لم تسعف العبارات والألفاظ في ذلك تعين البحث عن الإرادة المفترضة للمشرع وقت سنه للقانون والالتزام بها، ولا عبرة في منطق هذه المدرسة للظروف المستجدة التي يشهدها العصر القابل، ولا المتغيرات اللاحقة التي عرفها الواقع الاجتماعي، فالتكييف والتوسع في تفسير القانون –في نظرها- تحت ضغط هذه النوازل هو عين التحريف والتغيير لإرادة المشرع الصحيحة الثابتة.
ولذلك فإن من أهم ما يؤخذ على هذا المدرسة: العناية بالشكل والمباني على حساب المضامين والمعاني، وجمودها على المنظوم، وإغفال المفهوم والمعقول، وهذا بلا ريب يضر بتطبيق القواعد القانونية، ويفقدها خاصية الهيمنة التنظيمية التي ما وضعت أول الأمر إلا لأجلها().
– المذهب التاريخي أو الاجتماعي: على نقيض ما تقول به المدرسة التقليدية من الركون إلى المتون، يرى أنصار المدرسة التاريخية وعلى رأسهم الفقيه الألماني سافيني أن القانون وليد المجتمع يتطور بتطوره ويعبر عن إرادته المتجددة، وليس إرادة واضعه، فالنص القانوني في نظر هذه المدرسة بمجرد نشوئه وصدوره ولو من واضع حاذق، ينفصل عن صاحبه،  ليتمتع بكيانه المستقل، ويصبح تحت تصرف المجتمع()، ومن ثم فإنه لابد أن يستوعب مطامح هذا المجتمع وآماله المتجددة التي لم يكن للواضع بها علم. والتفسير الذي تقترحه هذه المدرسة ينبغي أن يكون مساوقا لتطورات المجتمع الآنية وحاجاته الاقتصادية والسياسية والعلمية  القائمة اليوم وغدا، فما القانون إلا مرآة تعكس اتجاهات المجتمع و أولوياته المتقلبة، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا بتجاوز النظرة “الماضوية “، والدعوة إلى تمثل النظرة المستقبلية بكل أبعادها وقيمها المواكبة للمتغيرات والمسايرة للمستجدات.
غير أن التوسع في الأخذ بهذا المذهب لا يسلم من محاذير، أسوؤها أنه بدافع التطور وتحت ستار التفسير يستطيع المفسر أن يغير في القوانين ويبدل، بل ويحرف –أحيانا- تبعا لهواه ومصالحه الشخصية، مما يفقد القواعد القانونية صبغتها التنظيمية والتأطيرية لمرافق المجتمع وعلاقات أفراده، فتسقط بالتالي هيبتها  من  النفوس ويضيع المقصد منها().
– مذهب البحث العلمي الحر: ويسمى أيضا بالمذهب العلمي أو النظرية العلمية، وينسب هذا المذهب إلى الفقيه الفرنسي “جيني”، ويقف موقفا وسطا بين المذهبين السابقين،  إذ يقوم على مبدأين اثنين:
فأما الأول، فهو إقراره للمذهب الأول: (المذهب التقليدي) بأحقية البحث عن  إرادة المشرع وقت وضع القانون والالتزام بها متى كانت صريحة ثابتة، وهذا الاختيار لا ينطبق إلا على الحالات المنصوصة التي تنظم علاقات أو مرافق قائمة مشهودة، أما الحالات التي لم تتبين فيها إرادة المشرع، فهذه ينظر فيها بمنظار ثان.
وهذا المنظار يتفق مع المذهب التاريخي، ويتعلق بالحالات التي يتعذر فيها انكشاف إرادة حقيقية للمشرع، فهاهنا يلزم المفسر الاجتهاد والبحث عن الأحكام المناسبة لواقعته في المصادر الأخرى للقانون من تشريع وعرف ودين وغيرها، فإن لم يفلح البحث في الوصول إلى المراد تعين آنذاك اللجوء إلى ما تدعوه هذه المدرسة بالبحث العلمي الحر أي ” الرجوع إلى جوهر القانون ومصادره الحقيقية وما تشتمل عليه من عوامل مختلفة يؤدي تفاعلها إلى ظهور القاعدة القانونية اللازمة لتلك الحالة، وهذه العوامل قد تكون طبيعية أو اقتصادية واجتماعية أو دينية وأخلاقية أو تاريخية…”().
هـ . طرق التفسير وقواعده:
يقصد بطرق التفسير وقواعده: المسالك والمناهج التي ينتهجها المفسر من أجل بيان النص القانوني وإدراك مراد المشرع منه حتى يتم تطبيق مقتضياته تطبيقا صحيحا. وهذه الطرق نوعان: داخلية وخارجية.
    •    الطرق الداخلية: وتعتمد على استنباط معاني النصوص وأحكامها، وذلك بالبحث في صيغها اللغوية و تفسير ألفاظها وعباراتها سواء من حيث دلالاتها الثابتة بالمنطوق  أو بالمفهوم، وذلك اعتمادا على  قواعد اللغة  والبيان المقررة عند أصحاب هذا الشأن.
فإذا كان النص سليما صحيح العبارة، فإن دور المفسر لا يعدو أحد أمرين:
أولهما: استخلاص منطوق النص ومعناه المتبادر من ألفاظه، الجاري على وفق إرادة المشرع واصطلاحاته، وهذا هو الأيسر في تفسـير النصوص، وهو النوع الغالب، ومثال ذلك: نص الفصل 25 من قانون الوظيفة العمومية المغربي: “يجب أن تنشر تسميات الموظفين وترقياتهم في الجريدة الرسمية “. فواضح من ألفاظ هذا النص وعباراته: مقصود المشرع، ولا يحتاج في تفسيره وتطبيقه أكثر من اعتبار منطوقه.
ثانيهما: استخلاص المعاني من روح النص وفحواه إذا دعا إلى ذلك داع من ضرورة أو حاجة قانونية يتوقف عليها البيان والتطبيق، وهذا النوع من الاستخلاص أقسام وفروع:
– استخلاص المعنى من طريق دلالة الإشارة: والمقصود بدلالة الإشارة ما تضمنه النص من المعاني اللازمة غير الصريحة عبارة، لكنها مستفادة من جهة اللزوم، اقتضتها ضرورة اللغة والعقل.
ومثال ذلك: نص الفقرة الرابعة من المادة 81 من مدونة الأسرة المغربية على أنه ” إذا تبين أن عنوان الزوجة مجهول، استعانت المحكمة بالنيابة العامة للوصول إلى الحقيقة، وإذا ثبت تحايل الزوج، طبقت عليه العقوبة المنصوص عليها في المادة 361 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة.” وهي الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ثلاثمائة درهم.
فاشتراط طلب الزوجة ها هنا يستفاد منه بطريق الإشارة أن جريمة التحايل هذه بخصوصها ليست جريمة ضد المجتمع، وإنما هي جريمة في حق الزوجة إن شاءت أثارت المتابعة، وإن لم تشأ لم تثرها، وهذا تترتب عليه أمور قانونية كثيرة، ووجه ذلك هو تشوف المشرع إلى إبقاء فرص الحفاظ على الصلة الزوجية، وعدم الزج بها في متاهات الصراع والضياع.
–    استخلاص المعنى من طريق مفهوم الموافقة: مفهوم الموافقة معناه أن يدل اللفظ على ثبوت حكم لأمر مسكوت عنه غير منطوق به في عبارة النص، لكنه موافق لحكم الأمر المذكور في محل النطق.
ويعرف ذلك من اتحاد علتهما التي بني عليها الحكم المنطوق، فإذا فحص المفسر الواقعة المسكوت عن حكمها، وبحث عللها، ثم وجد أنها تشترك مع الواقعة المنصوصة في العلة، وتتأثر بها وجودا وعدما، فإنه يعطيها نفس حكمها، إذ الأحكام منوطة بعللها ومقاصدها تابعة لها غير منفكة عنها. وهذا هو الذي يسميه المفسرون بالقياس، وهو على نوعين:
قياس عادي: وأساسه اتحاد العلة بين الواقعة المنصوصة، وغير المنصوصة، وهو يقوم على بحث عقلي يفحص من خلاله المفسر دلائل وملابسات كثيرة ليكشف عن وجوه الاتحاد أو الافتراق بين الواقعتين علة وحكما. ومثاله أن ينص المشرع على أن التأمين البحري يعتبر عملا تجاريا، ولا يذكر ذلك في التأمين البري، فهاهنا يلجأ المفسر إلى بحث الأمر من جهة القياس، ويدقق في العلل والحكم، فإن ظهر له اتحاد في العلة بين التأمينين لزمه إلحاق التأمين البري بالتجاري في الحكم؛ أي في اعتباره هو الآخر عملا تجاريا تسري عليه المقتضيات المنظمة للأعمال التجارية ()، وإن لم يظهر له ذلك، استكمل البحث بأحد طرق التفسير الأخرى حتى يقع على وجه الصواب في المسألة.
قياس من باب أولى: وأساسه أيضا اتحاد العلة بين الواقعتين، غير أنه هاهنا تكون العلة في الواقعة غير منصوصة الحكم أظهر وأقوى منها في الواقعة المنصوصة، ولهذا تلحق بها من باب أولى. ومثال ذلك أن ينص المشرع في الفصل 418 من القانون الجنائي المغربي على تمتيع الزوج الذي قتل زوجته وشريكها المتلبسين بجريمة الزنا بظروف التخفيف، ويسكت عن غير القاتل، فإن فرضنا أنه لم يقتلهما، لكنه ألحق بهما أذى جسميا وخطيرا، فإن تمتيعه بظروف التخفيف يكون من باب أولى؛ لأنه أحفظ للدماء والأعراض.
– استخلاص المعنى من طريق مفهوم المخالفة، أو ما يدعونه بالاستنتاج العكسي، وهو أن يدل اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه لانتفاء قيد من القيود المعتبرة، وصورته أن يشترط المشرع لثبوت حكم في محل ما أن يتقيد بقيد من صفة أو عدد أو نحو ذلك، مما للمشرع فيه قصد ومصلحة، فإن وجد القيد ثبت الحكم المنصوص للواقعة بلا إشكال، لكن قد تواجه المفسر صورة أخرى من صور هذه الواقعة، فيكتـشف بعد الدرس والبحث أنها عارية عن القيد خلو منه، فما الحكم في مثل هذه الحال؟
الواجب حسب ما تقتضيه قاعدة مفهوم المخالفة أن يقضي المفسر بأن حكم هذا المسكوت عنه على النقيض من حكم المنطوق؛ لانتفاء القيد المعتبر قانونا، ولا يستلزم النقيض الضد دائما، وإنما القصد المخالفة.
ومثال ذلك الفصل 602 من القانون الجنائي المغربي: “من قتل أو بتر بغير ضرورة أحد الحيوانات المشار إليها في الفصل السابق أو أي حيوان آخر من الحيوانات المستأنسة الموجودة في أماكن أو مباني أو حدائق أو ملحقات أو أراض يملكها أو يستأجرها أو يزرعها صاحب الحيوان المقتول أو المبتور، يعاقب بالحبس من شهرين إلى ستة أشهر وغرامة من مائتين  إلى مائتين وخمسين درهما.” فمفهومه أن من قتل بضرورة لا تسري عليه العقوبة المذكورة في هذا الفصل().
    •    الطرق الخارجية: ويقصد بها الوثائق والدلائل التي تشتمل على بيان بعض جوانب النص المراد تفسيره، وإيضاح ما أحاط به من الإبهام والغموض، وسميت خارجية لأنها تستدعى من خارج النص بعيدا عن ألفاظه وعباراته، وتعتبر هذه الطرق من أهم المسالك والمناهج البيـانية التي توضح مقصود النص ومراد مشرعه، خصوصا في النصوص المعيبة بالنقص أو التعارض أو نحوهما والتي لا ينفـع معها بيان الطرق الداخلية، ومن أبرز ذلك:
– حكمة التشريع: أي غاياتة وأهدافه الملحوظة من وراء تشريعه للقوانين، فما من نص تشريعي إلا ووراءه حكمة ومقصد، وما النصوص إلا ترجمان عن هذه الحكمة، فإن عجزت عن تحقيق هذه الترجمة لعيب فيها، لزم الالتفات إلى هذه الحكمة والاعتداد بها وتفسير النص في ضوء مراميها ومقتضياتها؛ إذ العبرة في مثل هذا المقام للغايات والمعاني، وليست للألفاظ والمباني.
    – الأعمال التحضيرية: وهي الوثائق والمذكرات التي تخص مناقشات وتعليقات وتحضيرات قام بها معدو القانون خلال فترة إعداده وعرضه للتداول، وفائدتها الكشف عن الإرادة والنية التشريعية التي لم تظهر في مبنى النص، فإن هذه الأعمال التحضيرية، وإن كانت غير ملزمة للمفسر، فإنها نظرا لطبيعتها البحثية التي تستحضر كل المعطيات والبيانات والملابسات الخاصة بموضوع النص تستطيع أن تجلي أمام المفسر بكل سهولة قصد المشرع وغايته، ومن ثم تستقيم رؤيته للنص، ويستطيع أن يعطيه التفسير الملائم تبعا لما دلت عليه هذه الغاية.
    – المصادر التاريخية: وهي المصادر التي استمد منها المشرع القانون المراد تفسيره، ولهذا نجد كثيرا من المفسرين إذا اعترضتهم بعض المقتضيات الغامضة في الشؤون الأسرية من زواج وطلاق وإرث يرجعون إلى أحكام الشريعة الإسلامية وكتب الفقه؛ لأنها المصدر التاريخي الذي اعتمده المشـرع عند وضعه للقانون، كما يرجعون إلى القانون المدني الفرنسي أو غيره إذا كان أصلا من الأصول المرجعية للقوانين والتشريعات المدنية في بلدهم، وليس ذلك بلازم، وإنما هو استرشاد و استئناس يرجى أن يتحصل منه نوع بيان يساعد على التفسير الأمثل للنص.
    – النص الأجنبي للتشريع: الأصل أن تفسير القانون يكون اعتمادا على اللغة التي صيغت بها نصوصه، لكن يحدث أن يصادف المفسر غموضا شديدا في الصياغة لا تنفع معها قواعد اللغة، أو يكون تفسيره بما دلت عليه ظواهرها غاية في الانحراف، فيضطر المفسر إلى البحث عن أصل هذا النص، وهل هو مترجم عن نص أجنبي أم لا؟ فإن وجده كذلك أمكنه اللجوء إليه وفحصه وتبين مدلولاته حتى يستخرج منه البيان الذي أراد، وهكذا يتضح أن هذا المصدر خاص بالحالات التي يوجد فيها أصل أجنبي للنص المراد تفسيره، فإن لم يكن امتنع ذلك.
    – تقريب النصوص: وهو الجمع والتأليف بينها، فإن كثيرا من النصوص يكمل بعضها بعضا، ويبين بعضها بعضا، ومن ذلك مثلا أن نصوص الأهلية في مدونة الأسرة تتكامل مع كثير من المقتضيات في أبواب الالتزامات وفي قانون التجارة وغيرهما، وواجب المفسر هو الكشف عن أوجه هذا التكامل والتداخل، واستثماره في عملية التفسير، وذلك بأن يخصص بالخاص العام، ويقيد المطلق بالمقيد، ويفصل بالمفصل المجمل، ونحو ذلك().
المبحث الثالث : المقارنة بين منهجي علم أصول الفقه علم تفسير القانون.
غرض هذه المقارنة هو تبين وجوه الارتباط والتكامل بين الاتجاهين: الشرعي والقانوني، والوقوف على وجوه وصور التأثير والتأثر، وكذلك رصد وجوه التمايز والاختلاف بينهما، وبذلك يكتمل بناء صرح مهم من صروح هذه الدراسة.
أول سمة يمكن ملاحظتها: أن هناك نوعا من التمايز البنيوي بين كلا الاتجاهـين، فنحن نقابل -في الحقيقة- بين علم قائم بذاته، جامع لشروط الاستقلال، واضح المعالم  والمبادئ، غني بالمصادر والتآليف، هو علم أصول الفقه، وبين بحث لا زال يتلمس طريقه للاستقلال والتفرد.
    إن بين الاتجاهين بونا شاسعا وفرقا كبيرا، فعلم الأصول يبلغ من العمر حوالي 14 قرنا من الزمان، وهي مدة طويلة عالج فيها كثيرا من القضايا والمشكلات، وطحنت قواعده وبحوثه ثم غربلت في مراحل كثيرة من مراحل هذا العمر المديد، وفي كل مرة تستفيد هذه القواعد متانة وجدة، وقوة على الاستمرار والعطاء والتجدد، حتى غدا علما رفيع المقام، محبوك الصنعة، مرجعا للأحكام، وقانونا للبيان، وليس كذلك تفسير القانون، فعمره قصير، والتأليف فيه يسير، فلذلك لم يثبت لقواعده من الرسوخ والتداول مثل ما ثبت لعلم الأصول، ولا زال موضوع تفسير القانون لم يتعد مقامه كبحث تابع للبحوث التي تدرس في علم أصول القانون ونظرياته العامة، وما كتب فيه من الدراسات والبحوث لم تستطع أن تنتقل بالموضوع إلى آفاق علمية أكثر اتساعا وشمولا إلا ما كان من محاولات يسيرة في التوسع في بعض الأمثلة، وعقد بعض المقارنات، والوقوف عند بعض الخلاصات اليسيرة، وهذه درجة دون المقصد المرغوب.
ومن هنا فالمقارنة بين الاتجاهين قد لا تخلو من تعسف، غير أن ذلك لا يمنع من وجود وجوه من المماثلة ووجوه أخرى من المباينة بين الاتجاهين، سواء منها ما يخص المقاصد والغايات، أو الأصول والمصادر، أو الطرائق والمناهج.
وسأعرض ذلك مفصلا فيما يلي:
أ – من حيث البواعث والمقاصد:
لقد تبين سابقا من خلال عرضنا لتعريفات علم تفسير النصوص ونشأته وموضوعه أن الغاية من وضعه والعمل به هي رعاية نصوص الشريعة وصيانتها من عبث العابثين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين، فما الأصول إلا تلك القواعد الحارسة لبنيان الشريعة الشامخ، ومنها تستمد مفاتيح الولوج إلى معانيها وأسرارها، وبها تعرف الأسس التي بنيت عليها أحكامها وتشريعاتها، والمقاصد التي ترمي إليها، والحكم التي تسعى إلى تحقيقها، فلا تحصيل لحكم من أحكام الشريعة، أو بيان لمعنى من معانيها إلا بآلات علم الأصول وقواعده، فلو أنك اخترت أي قاعدة من القواعد الأصولية في أي مبحث شئت من مباحثه الكثيرة، وتأملت دواعي تقريرها وتحريرها، لما عدا الأمر كونها صناعة محبوكة لآلة لغوية أو عقلية أو شرعية يتوسل بها إلى بلوغ مراد شرعي، وذلك هو ما ندعوه ببيان المعاني والأحكام، فالمقصد العام إذن مقصد منهجي بياني، أعني منهجي في أصل وضعه، وبياني في حصيلته وثمرته.
غير أن هذا المقصد وإن بدا أنه ذو طابع –آلي/ تقني- إلا أنه في أبعاده العميقة يتفرع عن بواعث شرعية ودينية، مفادها أن العمل الأصولي في التقعيد والتأصيل داخل في جملة العلوم الشرعية التي ينظر إليها الإسلام على أنها فريضة دينية وقربة تعبدية يتنافس في تحصيلها السابقون من أهل الطاعات، وهي فضل عظيم يرجى فيه من الثواب ما لا يرجى في غيره من الطاعات والعبادات، قال الله تعالى: ﴿وقل رب زدني علما﴾()، وقال: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير﴾().
ومن ثم فعلم الأصول ليس وظيفة رسمية أو مسـئولية نظامية يكلف بها الأصولي، وليس من نوافل البحوث أو الدراسات التي يشارك بها في إثراء الفكر وإغناء الثقافة وحسب، وإنما هو كما أسلفنا اختيار علمي منهجي لصيانة نصوص الشريعة وتأسيس قواعدها البيانية والاستنباطية، فرضته دواعي لغوية وبشرية وعرفية كثيرة،  وهو كذلك عبادة وقربة دينية يرجى ثوابها وفضلها.  
أما تفسير النصوص في القانون، فإن مقصده وغايته لا تختلف عن مقاصد علم الأصول من حيث الاختيارات “الفنية” الصرفة، فكما أنه في الأول قواعد ومدارس ومناهج، فهو في الثاني كذلك، وكما أنه في الأول رعاية للنصوص من سوء التأويل وصيانة لها من عبث الدخلاء الجاهلين، فهو في الثاني كذلك، وعلة ذلك أن كلا من الشريعة والقانون نصوص تشريعية ترد على محل مشترك هو تصرفات المكلفين ومناشطهم المختلفة، وهي مصوغة بلغة يتداولها البشر، وتعتريها ظواهر كثيرة من العموم والإطلاق، والقطع والظن، والأمر والنهي، وغير ذلك، فاقتضى هذا التشابه في النصوص تشابها آخر في منهج تفسيرها وبيانها، وهذا هو وجه اتحادهما في هذا المقصد. غير أنهما يتمايزان من وجهة أخرى، فالتفسير القانوني للنصوص دافعه وضعي دنيوي، ويحتكم في أصوله المقاصدية لقيم وضعية بشرية تواطأت عليها الثقافات المدنية الحديثة، والغربية منها على وجه الخصوص، وذلك إبان الطفرة العمرانية التي شهدتها أوروبا في القرون القريبة الماضية، وهي قيم تنظر للإنسان نظرة السيد الإله الذي ينبغي أن يهيمن على مقدرات الكون وخيراته بعيدا عن أي سلطة دينـية عليا، وهي كذلك متأثرة إلى حد بعيد بنفوذ أصحاب القرار والسلطة الفاعلة في دواليب المجتمع من الساسة و أهل المال والفن والإعلام، وهذه القيم لا شك تكون معتبرة مرعية في كل عملية تفسير للقانون شاء المفسر ذلك أم أبى! لأنها جزء من التأسيس والبناء القانوني للقواعد والتشريعات لا تنفصل عنها ولا تنفك، وأكثر مايظهر ذلك في الأحكام التي تنظم العلاقات والمؤسسات ذات الطبيعة السياسية الرامية إلى بسط النفوذ والهيمنة، وأظهر أمثلتها ما نعاينه كل يوم من ظلم وتعسف في تطبيق كثير من القوانين الدولية من طرف هيئات ومحاكم دولية على أشخاص وشعوب، لا لجرم إلا أنها اختارت صف الممانعة والمواجهة لشطط قوى التعالي والاستكبار، وآثرت التمسك بثراتها وهويتها وحضارتها.
ب – من حيث الأصول والمصادر:
نستطيع القول أن ثمة مصادر تصلح أن تكون مشتركة بين علم الأصول وقواعد التفـسير القانوني:
    •    اللغة: وذلك يجري في كل ما كان مرجع بيانه وتفسيره إليها: ألفاظها وعباراتها ودلالاتها، فكل ما يعتري النص الشرعي من الظواهر اللغوية: الخفية والواضحة، البسيطة والمعقدة، يعتري بالضرورة كل نص كتب بنفس اللغة، ولذلك فالمرجع في التفسير والبيان هاهنا هو قوانين اللغة وقواعدها التي وضعها العرب وضبطها أهل الاختصاص منهم.
ومن أهم المباحث اللغوية التقعيدية المشتركة بين العلمين: قواعد العموم والخصوص، وقواعد الإطلاق والتقييد، وقواعد دلالات الألفاظ على المعاني ظهورا وخفاء، منطوقا ومفهوما، حقيقة ومجازا، صراحة وكناية…، فكل القواعد التي تعرف في علم التفسير بطرق الاستنباط هي قواعد مشتركة إلا نزر يسير.
    •    العقل: وهو من مصادر الاستمداد في كلا المدرستين، فإن كثيرا من القضايا التي تحتاج إلى بيان وتفسير تتوقف على نشاط العقل ومقدرته على مقارنة الأشياء وتحليلها والاستنتاج منها، وأكثر ما يظهر ذلك في الأدلة العقلية التي يلجأ إليها المفسر عندما لا تسعفه النصوص، ومن ذلك دليل القياس: أي إلحاق واقعة غير منصوصة الحكم بواقعة منصوصة لعلة جامعة بينهما، وهذا يجري في كل ما سكت عنه المشرع، فمثل هذا كثير في عمل المفسرين في الشريعة والقانون.
ومنها أيضا دليل الاستصحاب وهو الحكم بثبوت أمر أو انتفائه في الزمان الحاضر بناء على ثبوته أو عدمه في الزمان الماضي، لعدم قيام الدليل على تغيره، ومن عباراتهم المشهورة في بيان حقيقته:” الأصل بقاء الملكية ثابتة للمالك حتى يثبت نقلها بدليل”، وهذه القاعدة تحكم مالا حصر له من الفروع في الشريعة والقانون، ووجه الحجة فيها أن النظر في مثل هذه المسائل بعين العقل والمصلحة يقتضي التمسك بالأصل الثابت وتغليبه على ما سواه من الدلائل المتنازع فيها إلى أن يثبت تغير هذا الأصل بدليل معتبر، ولا يصح غير ذلك؛ إذ فيه ركون إلى الدليل الأضعف والحجة الظنية على حساب الدليل الأقوى، وهذا من الباطل الذي يحيله العقل.
ومنها أيضا كثير من القواعد التشريعية التي يأخذ بها المفسرون في بيان كثير من المعضلات الشرعية والقانونية، وذلك مثل:
    •      قواعد الضرر ورفع الحرج واعتبار الظروف الطارئة.
    •      قواعد المصالح والمفاسد وترتيبها، والموازنة بين المتعارض منها.
    •      قواعد الضرورة والحاجة والترجيح بينها…
    •    العرف: وهو العادات الاجتماعية التي ألفها الناس، واعتادوا العمل به والاعتداد بها في عقودهم وتصرفاتهم، وهي أنواع وأقسام: خاصة وعامة، صحيحة وفاسدة… وعلماء الأصول يعتبرون العادة محكمة، يرجع إليها في تفسير النصوص وإصدار الأحكام، والمعروف عندهم عرفا كالمشروط شرطا، وكذلك علماء القانون يفعلون، غير أنهم يتوسعون في الأخذ بالأعراف توسعا كبيرا حتى أن سنة التقنين عندهم جارية على تحويل كثير من القواعد العرفية إلى نصوص تشريعية ملزمة، أما الأصوليون فلا بد أن يستند العرف عندهم إلى دليل شرعي يقر له بالقوة في الإثبات أو النفي، فهو عندهم دليل بالتبع لا بالأصالة.
    وبالجملة فالعرف دليل قوي، صالح لتفسير وبيان كل النصوص القانونية ذات الطبيعة الاجتماعية المبنية على عوائد الناس الثابتة المشهورة بينهم شهرة القانون الملزم.
ومن أمثلة ما بني على هذا الأصل من التفاسير ما جاء من الإحالة على اعتبار المعروف، وهو العرف في المادة 51 من مدونة الأسرة المغربية:
“الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين:…
–  المعاشرة بالمعروف، وتبادل الاحترام والمودة والرحمة والحفاظ على مصلحة الأسرة…
–  حسن معاملة كل منهما لأبوي الآخر ومحارمه واحترامهم وزيارتهم واستزارتهم بالمعروف.
–     حق التوارث بينهما”.
ومن ذلك أيضا ما تأخذ به المحاكم من بينات وخبرات يقدمها أهل اختصاص معين بناء على ما هو المعتاد عندهم في مثل النازلة المنظورة من طرف المحكمة، وغير هذا كثير.
غير أن هذه المشابهة والاشتراك بين المدرستين في هذه المصادر التفسيرية لا تعني المطابقة والمماثلة التامة، فإن بينهما من الفروق والتمـايز قدرا لا يخفى على الدارسين، ومرجع ذلك كله ينحصر في اختلاف مصادر التشريعات نفسها، فهي وضعية في القانون، وشرعية في الشريعة، وهذا يفيد بأن لكلٍ نظام معرفي خاص يرجع إليه وينطلق منه، وهذا النظام نفسه يحكم مضامينه وبحوثه ومقاصده بقواعد وضوابط يستقيها من داخل منظومته المعرفية لا توجد في غيرها.
 فمن ذلك مثلا استمداد القواعد الأصولية في تفسير نصوص الشريعة من البحوث الكلامية والعقدية، ومن الفقه واللغة العربية لما كان بينها من الترابط المعرفي إبان عهد التنزل والتأسيس والتدوين، قال الإمام الزركشي في تقرير وجه ذلك: “إن أصول الفقه مستمد من ثلاثة علوم: الكلام، والفقه، والعربية  أما الكلام: فلتوقف الأدلة على معرفة الباري تعالى بقدر الممكن من ذاته وصفاته وأفعاله… وأما العربية: فلأن الأدلة جاءت بلسان العرب… وأما الفقه: فلأنه مدلول أصول الفـقه، وأصول الفقه أدلته، ولا يعلم الدليل مجردا من مدلوله “().
ومن أهم المصادر الخلافية كذلك: اعتماد علماء القانون على ما يسمى عندهم بالطرق الخارجية، وقد ذكرنا من أهم ذلك: الأعمال التحضيرية، والأصول التاريخية للنص، وتقريب النصوص، وغير ذلك.
وهذه مصادر مستقلة خاصة بالقانون، وهي عند التدبر جزء من البناء التأسيسي العام للنص القانوني ذي الطبيعة الوضعية التي تتطلب صيرورة نسقية بين الجهات التي تختص بإصداره، ودورة ثقافية ومعرفية تعتمل فيها كثير من عوامل التأثير والتأثر بأصول الاستمداد التاريخية وكذلك الأجنبية.
ولا يعرف مثل هذا في أصول الفقه إلا ما كان من الالتفات إلى حكمة النص ومقاصد الشريعة، وذلك أن النص الشرعي ذو طبيعة دينية، ويعتمد أساسا على الوحي؛ أي أن صياغة نصوصه وإصدارها عمل منفصل تمام الانفصال عن الذات البشرية، خال عن نوازع الهوى الكامنة  فيها، مجرد عن أي رغبة من رغباتها المصلحية أو حتى اتجاهاتها العلمية والمعرفية.  
ج. من حيث مسالك ومناهج النظر:  
    أعني بالمناهج والمسالك ما هو أعم من الطرق والسبل العلمية المعتمدة في تفسير النصوص من إعمال لأصل أو تقرير لقاعدة أو حصر بضابط، بل يدخل في هذا المسمى: المدارس والاتجاهات، والأصول والمنطلقات المعرفية التي تسهم في تأسيس اتجاه علمي لتفسير النص التشريعي وصياغة مداركه الخاصة، وبناء استقلاليته العلمية.
    •    المنهج الاستدلالي أو الاستنباطي في تفسير النصوص: وأعني به ذلك المنهج الذي يربط فيه العقل بين المقدمات ونتائجها، و المعلولات وعللها، والمسببات وأسبابها، بناء على أساس المنطق العقلي، والتأمل الذهني. وخاصيته أنه يبدأ بالحقائق الكلية، ويتدرج بالتحليل والدرس والمقارنة والاستنتاج، وذلك في تنظيم دقيق للعمليات العقلية بواسطة مبادئ و قوانين علمية ثابتة ليصل من ذلك إلى تقرير أحكام الفروع والجزئيات.
    وهذا المنهج هو أول وجوه الالتقاء بين المدرستين، فإن كثيرا من الأصول الاستنباطية، والطرائق الاستدلالية في تفسير القانون والشريعة قائمة على هذا المنهج، ملتزمة بأصوله وقواعده في تقرير مسائله وتحرير بحوثه.
ومن أهم هذه الأصول والطرائق:
    •    العمل بالقياس عند غياب النص، فالقياس من حيث هو إلحاق فرع غير منصوص بأصل منصوص، ومن حيث هو نظر في العلل والمناطات، وسبر لها، ودراسة لفعلها وأثرها في التكاليف والأحكام، لا يمكن أن يعتبر إلا وجها من وجوه الاستدلال العقلي، والاستنباط المنطقي بين المقدمات الأصلية، والنتائج الفرعية التابعة لها تبعية العلل لمعلولاتها والأسباب لمسبباتها، ويشمل ذلك أنواعا كثيرة من القياس، كالقياس الجلي والقياس الخفي، وقياس الشبه، وقياس الطرد، وقياس الدوران، وغيرها، وأمثلة ذلك جارية باستفاضة كبيرة في الشريعة والقانون.
    •    استفادة الأحكام والمعاني من دلالات الالتزام، وهي دلالة اللفظ على لازم خارج عن معناه، ومعنى اللازم هاهنا: امتناع انفكاك المعنى المستفاد من إطلاق اللفظ عنه، وما يمتنع انفكاكه عن اللفظ يسمى لازماً واللفظ ذاته يسمى ملزوماً، ولا سبيل لتبين ذلك إلا بالاستنباط العقلي والاستنتاج الفكري من الأصل الثابت إلى فرعه المبحوث.
    ودلالة الالتزام عند المفسرين أنواع، منها:
    •    دلالة الاقتضاء: وهي “دلالة الكلام على مسكوت عنه، يتوقف صدق الكلام أو صحته شرعا على تقديره”()، وسميت دلالة اقتضاء: لأنها تقتضي معنى زائدا على اللفظ، وأمثلثه في كتب الشريعة كثيرة، أما في القانون فقليلة، ومنها ما جاء في الفقرة الثالثة من المادة 33 من مدونة الأسرة: “لا يخضع الصداق لأي تقادم”، فلا بد في هذا النص من تقدير مقتضى يقتضيه الكلام، فهل هو الأداء؟ أم هي المطالبة به، ورفع الدعوى بشأنه؟ أم هو مقتضى آخر؟
    •    دلالة الإيماء والتنبيه: وهي دلالة اللفظ على لازم مقصود للمتكلم لا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته عقلا أو شرعا، في حين أن الحكم المقترن لو لم يكن للتعليل لكان اقترانه به غير مقبول ولا مستساغ؛ إذ لا ملائمة بينه وبين ما اقترن به”(). و مثال ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: “لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان”()، فقد دل على أن علة النهي هي الغضب؛ لما في ذلك من مظنة الانحراف عن جادة العدالة، والخوف من الجور والظلم.
ومثال ذلك في القانون ما جاء في الفصل 434 من القانون الجنائي المغربي “تضاعف العقوبات المقررة في الفصلين السابقين، إذا كان الجاني قد ارتكب الجنحة وهو في حالة سكر…”، فقد نبه المشرع إلى أن حالة السكر هي علة  تشديد العقوبة، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما كان لهذا الإيماء قيمة تذكر.
    •    دلالة الإشارة: “وهي دلالة اللفظ على حكم غير مقصود ولا سيق له النص، ولكنه لازم للحكم الذي سيق لإفادته الكلام وليس بظاهر من كل وجه”()، و هي بخلاف دلالتي الاقتضاء والإيماء، فهما مقصودتان بالكلام،  وإن اختلفتا في أن دلالة الاقتضاء يتوقف عليها صدق الكلام أو صحته العقلية والشرعية، و مثالها: ما يذكره الفقهاء عند قوله تعالى: ﴿لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين﴾() من أن هذه الآية دلت بعبارتها على جواز الطلاق قبل الدخول وقبل فرض المهر، كما دلت بإشارتها على صحة العقد عند عدم تحديد المهر، ووجه ذلك أن الطلاق لا يقع إلا بعد ثبوت العقد وصحته.
ومثال ذلك في نصوص القانون ما جاء في الفصل   634 من ظهير الالتزامات والعقود: “إذا لم يحدد المتعاقدان الأجرة، افترض فيهما أنهما قد قبلا أجرة المثل في مكان العقد، وإذا كانت ثمـة تعريفة رسمية، افترض في المتعاقدين أنهما قد ارتضيا التعاقد على أساسها.” فقد دل هذا النص بعبارته على ما ينبغي أن يفترض من الأجرة في عقد الكراء الذي لم يحدد فيه المتعاقدان أجرة محددة، ودل بإشارته على أن هذا العقد ثابت صحيح لا يبطل إذا لم تحدد سومته الكرائية.
والخلاصة أن جميع هذه الدلالات يتوقف إعمالها واستفادة المعاني بواسطتها على عمل عقلي متدرج من الأعلى إلى الأدنى، واستنتاج فكري يغوص في عمق اللفظ، ليستخرج مدلولاته القريبة والبعيدة، المنطوقة وغير المنطوقة، اللازمة والملزومة، فهي إذن تشترك جميعا في النسبة إلى المنهج الاستدلالي الاستنباطي.
    •    المنهج الاستقرائي: وهو على النقيض من المنهج الاستدلالي، فإذا كان هذا الأخير منطلقه الكليات إلى تقرير أحكام الفروع، فإن المنهج الاستقرائي يبدأ باستقراء أحكام الجزئيات والمقارنة بينها، وملاحظة أوجه الاجتماع بينها ليصل منها إلى الكليات العامة والقوانين الجامعة التي لها قوة القاعدة المرجعية الحاكمة على ما سوى ذلك من الجزئيات المماثلة المفترضة.
    وهكذا تصبح هذه القاعدة المستقرأة من جزئياتها الكثيرة دليلا قويا تثبت به الأحكام لما سوى ذلك من الحالات والفروع، بحيث يستغنى عن البحث في الأدلة الفرعية التي تقابل جزئياتها اللامتناهية، وذلك لما ثبت لهذه القواعد المستقرأة من قوة الدلالة والشمول.
    والمنهج الاستقرائي منهج عام يعمل به في كثير من العلوم البحتة كالطبيعيات والفيزياء والرياضيات،كما يعمل به  في الاجتماع والسياسة والتاريخ، وكذلك يعمل به في الشرعيات، قال الشاطبي في الاعتصام: “وأصول الفقه؛ إنما معناها استقراء كليات الأدلة، حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس.
وكذلك أصول الدين، وهو علم الكلام، إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به، كما كان الفقه تقريرا لأدلتها في الفروع العبادية”().
    إن المنهج الاستقرائي منهج متبع في علم أصول الفقه وفي تفسير القانون في كثير من أوجه الاحتجاج، ومن أوضح ذلك مسائل التقعيد، أعني تقعيد القواعد الكلية التشريعية والفقهية المستقرأة من الفروع الكـثيرة، وهو بحث رائد عند فقهاء الشريعة، بل هو علم قائم الذات، أما فقهاء القانون فإنهم رغم اهتماماتهم التطبيقية بتقعيد قواعد القانون وتفسيره إلا أنهم من الناحية النظرية لم يوفوا هذا الأمر حقه من البحث والدراسة.
وأمثلة القواعد الكلية المستقرأة كثيرة أختار منها القواعد الآتية:
    •    اليقين لا يزول بالشك():
والمراد: أن كل أمر تيقنا ثبوته، فإنه لا يؤثر فيه طروء الشك، بل لا بد من الدليل القاطع على تغيره وتبدله، ولا يحكم بزواله لمجرد الشك. وكذلك الأمر الذي تيقنا عدم ثبوته لا يحكم بثبوته لمجرد الشك؛ لأن العقل والعمل على أن الشك أضعف من اليقين فلا يقوى على معارضته إثباتا ونفيا.
وهذه القاعدة: مستقرأة من كثير من الفروع الفقهية المستنبطة من نصوص القرآن والسنة عند فقهاء الشريعة، ومنها:
    •    من تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو متطهر، وكذالك العكس.
    •    من أكل بعد طلوع الفجر شاكاً في طلوعه صح صيامه.
    •    إذا انعقد النكاح ثم وقع الشك في الطلاق فالنكاح باقٍ.
وأما عند فقهاء القانون، فأكثر من يأخذ بهذه القاعدة القضاة، وذلك في معرض تنقيحاتهم وتحقيقاتهم لمناطات المسائل المنظورة من قبلهم، واستظهارهم لأصول القضايا من أجل التمسك بها في مواجهة الظنون العارضة، ولذلك تجد لهم نصوصا وفروعا كثيرة في هذا الباب، ومنها:
    •    لا يجبر المتهم على إثبات براءته في القضايا الجنائية؛ لأن الأصل المتيقن أنه بريء، وعلى الجهة التي تتهمه عبء الإثبات.
    •    الشك يفسر لصالح المتـهم؛ لأنه يقوي أصل البراءة فيه، والأصل لا يزال إلا بيقين.
    •    إذا ثبت دين على شخص وشككنا في وفائه، فالدين باقٍ.
    •    المشقة تجلب التيسير():
    ومعنى المشقة: الجهد والعناء الذي يجده المكلف عند التزامه بالتكاليف، والتيسير هو التخفيف ووضع المشقة، والمراد بالقاعدة أن الإرهاق والعناء الذي يجده المكلف أثناء الامتثال يعتبر سببا موجبا للترخيص والتخفيف. فأيما حكم فقهي أو التزام قانوني تعسر على من التزم به امتثاله، وحيل بينه وبين تنفيذ مقتضياته لأسباب لا تحتمل في العادة المألوفة، فإن منطق الشريعة والقانون يقضي بالتخفيف والتيسير على هذا المكلف من هذا العبء، والاقتصار على ما استطاع القيام به دون ما لم يستطع، وهذا نظر لطيف، ومأخذ بديع ينسجم مع الخلق الحميد والفطرة السليمة.
ومن الأصول التي استندت إليها هذه القاعدة في الشـريعة نصوص كثيرة، منها:
قوله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾()،  وقوله: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾()، وقوله : “بعثتم ميسِرين ولم تبعثوا معسّرين”().
ومن أهم فروعها:
– إباحة الرمي قبل الزوال لما فيه من التيسير والتخفيف وحفظ الأرواح.
– الترخيص بالإفطار في نهار رمضان لمن غلبه العياء وأحس بجهد ومشقة.
– إباحة نقل الأعضاء والتبرع بها بشروطها المقررة عند اشتداد الحاجة إلى ذلك، خصوصا ما كان فيه إنقاذ النفوس.
أما في القانون فأكثر الفروع نجدها في تطبيقات نظريات كثيرة من النظريات التي صاغتها أيادي فقهاء القانون، ومن ذلك نظرية الضرورة، ونظرية الظروف الطارئة.
فمن فروع نظرية الضرورة عندهم:
منطوق الفصل 453 من القانون الجنائي المغربي: “لا يعاقب على الإجهاض إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم متى قام به علانية طبيب أو جراح بإذن من الزوج “.
مفهوم الفصل 602 من القانون الجنائي المغربي: ” من قتل أو بتر بغير ضرورة أحد الحيوانات المشار إليها في الفصل السابق أو أي حيوان آخر من الحيوانات المستأنسة الموجودة في أماكن أو مباني أو حدائق أو ملحقات أو أراض يملكها أو يستأجرها أو يزرعها صاحب الحيوان المقتول أو المبتور، يعاقب بالحبس من شهرين إلى ستة أشهر وغرامة من مائتين  إلى مائتين وخمسين درهما.
منطوق الفصل  124 من القانون الجنائي المغربي “لا جناية ولا جنحة ولا مخالفة في الأحوال الآتية:
… إذا كانت الجريمة قد استلزمتها ضرورة حالة الدفاع الشرعي عن نفس الفاعل أو غيره أو عن ماله أو مال غيره، بشرط أن يكون الدفاع متناسبا مع خطورة الاعتداء”.
وأما نظرية الظروف الطارئة فأظهر التطبيقات المشهورة فيها: جواز رد القاضي الالتزام الذي أصبح مرهقا لمن التزم به بسبب ظروف استثنائية قاهرة لم يكن في الوسع توقعها إلى الحد المعقول.
جاء في نص المادة 3/107 من القانون المدني الجزائري: “غير أنه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، أصبح مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد مراعاة لمصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك”().
ولا يخفى أن هذا يشمل ما لا يحصى من أنواع الالتزامات والعقود كالإيجار والبيع وغيرهما.
والخلاصة أنه باستقراء هذه الفروع المتناثرة نجد أنها تجتمع عند قاسم مشترك واحد من دفع ضرر أو جلب مصلحة أو سد ذريعة، أو نحو ذلك، وهذا القاسم هو نفسه القضية الكلية التي تشكل قوام القاعدة المنطبقة على جزئياتها المعروفة أو المفترضة.
    •    المنهج التاريخي في تفسير النصوص:
المنهج التاريخي في البحث العلمي هو ذلك “المنهج المعني بوصف الأحداث التي وقعت في الماضي وصفاً كيفياً، يتناول رصد عناصرها وتحليلها ومناقشتها وتفسيرها، والاستناد على ذلك الوصف في استيعاب الواقع الحالي، وتوقع اتجاهاتها المستقبلية القريبة والبعيدة”().
ووجه الحاجة إلى المنهج التاريخي في قضايا تفسير النصوص أنه -كما يظهر من التعريف- يبحث في مسائل ورود الأخبار والوثائق وثبوتها والتحقق من صحتها، ونقد أسانيدها ومتونها، ومن ثم تفسيرها واستخلاص الأحكام منها.
فحسب هذا التعريف يعتبر المنهج التاريخي منهجا عاما متعدد المفاهيم والخصائص، وذلك أنه منهج مفتوح على أكثر من علم، فأبحاثه وقواعده ومناهجه تعتمد في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما تعتمد في العلوم القانونية والشرعية.
غير أنه في مقامنا هذا: “تفسير القانون والشريعة” يكتسي الأمر صبغة خاصة، إذ الشأن هاهنا لا يتعلق بموضوع التراث، ولا بالتقيد الحرفي بتقنيات البحث التاريخي من حفريات أو استرجاعات للماضي وعرض مظاهره وتجلياته الحضارية والثقافية، وإنما يختص الأمر بوجوه أخرى من المماثلة والمشابهة كلها تنتمي إلى البحث التاريخي على جهة الإجمال، لكن من زوايا خاصة واعتبارات متـفردة:
        أ – المنهج التاريخي في تفسير النصوص القانونية:
رأينا فيما سبق أن من بين مذاهب التفسير المعتمدة عند فقهاء القانون: المذهب التاريخي، وبينت حينها أن هذا المذهب ينتقد التمسك بحرفية النصوص والارتهان لإرادة المشرع الواضع، وأنه يدعو إلى استثمار طاقات النص للإجابة عن أسئلة الواقع والحاضر.
وهكذا يتبين أن تسمية هذا المذهب بالتاريخي هي إطلاق على جهة المشاكلة، إذ يظهر أن حقيقته البحثية وطبيعته العلمية لا تمت إلى مناهج وتقنيات البحث التاريخي العلمي بصلة وثيقة إلا ما كان من استرجاع لإرادة المشرع الواضع من أجل تقرير ما يلزم بشأنها من الاعتبار أو عدمه، ففي هذه الحالة قد نتصور نوعا من التحقيق الاستردادي والاستدعاء التاريخي للقضايا والحوادث، غير أنه بحث  نادر وقليل.
إلا أن هذا لا يمنع من القول باعتماد المنهج التاريخي في تفسير النصوص من قبل مذاهب أخرى، ومن ذلك: المذهب العلمي الحر الذي يعتمد أساسا على دراسة النصوص دراسة تاريخية مستعرضا الظروف الاقتصادية والاجتماعية، والملابسات الثقافية والسياسية التي أحاطت بإصداره، ومستخلصا نوايا المشرع ورغباته، ومستظهرا المقاصد التي رمى إليها من خلال تشريعاته، ليستصحب كل ذلك في عملياته التفسيرية والبيانية.  
وهكذا فإن رواد هذا المذهب وفقهاءه يلجئون إلى كثير من وسائل وتقنيات البحث التاريخي من اطلاع على الوثائق والنصوص وتمحيصها، وتحقيق للوقائع والأحداث ونقدها، لكن ليس من أجل استرداد الماضي وكتابته، وإنما من أجل الكشف عن إرادة المشرع لاعتبارها وتنزيل مقتضياتها على الواقعة المراد تفسيرها وبيانها.
    ب – المنهج التاريخي في علم أصول الفقه.
الحق أنه يصعب الحديث عن نوع استمداد لعلم أصول الفقه من المناهج التاريخية التي تطورت واستقلت بمدارس ومناهج إبان الطفرة العلمية التي شهدتها العلوم في أروبا، وذلك لأمور كثيرة، منها:
    –    البون الزمني الواسع والممتد بين تأسيس علم أصول الفقه و بروز المنهج التاريخي، فبينهما من الفارق قرون طويلة، وعليه فإن الاستمداد معكوس مقلوب، إذ العقل يفترض أن المنهج التاريخي هو المتأثر بقواعد ومناهج البحث التاريخي في علم أصول الفقه.
        – اختلاف المجال الذي يبحث فيه العلمان، فعلم أصول الفقه يبحث في قضايا الدين وثبوت أحكامه وأخباره، أما المنهج التاريخي فيبحث في قضايا التراث الماضي كيفما كان، اجتماعي أوسياسي أوثقافي، فغاية الأول دينية، وغاية الثاني علمية، وهذا الاختلاف يستدعي نوعا من التباين في الأخذ بوسائل البحث ومناهج النقد والتدقيق.
غير أنه سواء اتفقنا على تأثر أحدهما بالآخر أم اختلفنا في ذلك فإن قدرا من المشابهة بينهما والاشتراك في بعض التفاصيل البحثية والقواعد العلمية وارد وثابت في قضايا كثيرة، خصوصا في مسائل تحقيق الأخبار، ونقد المتون، وتصحيح الأسانيد.
إن قضايا البحث التاريخي في علوم الفقه الإسلامي تتركز على ماض من نوع خاص، وهو الأخبار الواردة عن الشارع، وذلك من خلال درجتين  اثنتين:
أولا: البحث في ثبوت الأخبار، والوثوق من ورودها عن الشارع الحكيم، وهذه مهمة علم أصول الحديث، فهو الذي يضع قواعد التحديث والرواية، وموازين القبول والرد، وشروط الصحة والضعف، وهو الذي يوثق أحوال الناقلين وعدالتهم وضبطهم، ويميز العلل والأسقام التي تعرض لهم ولتلقيهم ولأخبارهم… ومثل هذا هو الذي يدعى في المنهج التاريخي بالنقد الخارجي للوثيقة التاريخية.
وعلم أصول الحديث يستعين في ذلك بعلوم كثيرة، ومنها جملة من القواعد المنهجية والعقلية التي يستفيدها من أبحاث الأصوليين والفقهاء، وذلك مثل: قواعد العدالة، والحكم بالفسق، وحد المتواتر و الآحاد، والترجيح بين بعض الأخبار المتعارضة كالزيادة من الثقة وغيره، والرواية المسندة إذا قابلتها أخرى مرسلة، وهكذا.
ثانيا: البحث في متون الأخبار، والتدقيق في مدلولاتها، وتمحيص عباراتها وألفاظها، والكشف عن شذوذها وعللها المعنوية، ومثل هذا هو الذي يدعوه أصحاب المنهج التاريخي بالنقد الداخلي للوثيقة التاريخية.
ومن أهم الأبحاث الأصولية ذات الطابع التاريخي:
    •    الخبر المتواتر، بما يثبت؟ وماذا يفيد؟ وكيف ينقل؟
    •    خبر الواحد، مفهومه، ودلالته.
    •    الترجيح بين الأخبار، والقواعد المعتمدة في ذلك.
    •    التأريخ لصدور الأخبار، ومحل ذلك في مسائل النسخ والتخصيص…
وصفوة القول في هذا المقام أن الأصوليين كما فقهاء القانون يعتمدون الخبرة التاريخية، والمناهج التاريخية في تناولهم لنصوص المشرع إثباتا وتفسيرا، لكنه اعتماد جزئي يناسب الحاجة التشريعية، ويكافئ  خصوصياتها المعرفية والمنهجية.
9
إن موضوع الدراسة المقارنة في قضايا تفسير النصوص بين الشريعة والقانون، لم يأخذ حظه من التحقيق والتدقيق، ولم يستوف ما ينبغي أن يعطى له من البحث العميق والرصين الذي يجلي حقائقه ويظهر خباياه وزواياه. وما كتب فيه من الدراسات و نشر فيه من الأبحاث قليل نادر.
فإن للموضوع أبعاده العلمية والمنهجية على مستوى التقعيد والتأصيل، وكذلك على مستوى التطبيقات الفروعية في استنباط الأحكام وتطبيق النصوص.
وله أيضا امتداداته وآفاقه الثقافية والعلمية على مستوى التكامل والتمازج بين الثقافتين: الشرعية والقانونية.
وله أيضا مزاياه الواقعية على مستوى توظيف النصوص وتنزيل أحكامها التنزيل الأمثل الذي يحقق العدالة والأمن والاستقرار، ويقضي على أسباب النزاع والخلاف.
إن الزخم الهائل من الرؤى العلمية والتحقيقات المنهجية والتطبيقات اللغوية والشرعية التي يزخر بها علم الأصول، والمقدرة الضبطية والتنظيرية التي يتمتع بها بحث تفسير القانون، يشكلان مجالا خصبا وحقلا بكرا من المعرفة الإنسانية، لو امتدت إليه أيادي العلم بالبحث والدراسة؛ لأسفر الأمر عن نظام بديع ونسق فريد للنظر في النصوص نظرا جديدا أبعد غورا، وأدق علما، وأنهج سبيلا.
لقد تبين في مواضع كثيرة من البحث، وخاصة في مباحث المقارنة والتطبيـقات، أن الاتجاهين الأصولي والقانوني، ولو أنهما يختلفان في المرجعيات والمنطلقات الثقافية، ويتمايزان في البنيات العلمية والمنهجية، إلا أنهما يشتركان في جملة قضايا رئيسة من قضايا البناء المعرفي لصرحيهما.
وأول ذلك: الاشتراك في البواعث والمقاصد التي يرمي إليها كلا الاتجاهين، وأعني بذلك القصد إلى بيان نصوص القانون والشريعة وتفسيرها وتطبيقها.
وثانيه: الاشتراك في كثير من المصادر وخاصة منها اللغوية والعقلية والعرفية…
وثالثه: الاشتراك في عدد من المناهج البحثية العلمية، وعلى رأس ذلك المنهج الاستدلالي الاستنباطي، والمنهج الاستقرائي، والمنهج التاريخي.
إن أهم ميزة يتفرد بها علم الأصول هي القدرة الفائقة: الجدلية والمنطقية على توليد القواعد ورسم الحدود والضوابط اللغوية والشرعية المتكاثرة التي تضبط كل شؤون التفسير والبيان.²
أما فقه القانون، فإنه وإن كان يرجع في كثير  من قضاياه التفسيرية إلى ما قرره النظر الأصولي، إلا أنه يتمتع بخاصية فريدة وهي قدرته على التنظير، أي جمع وصياغة كل ما يتعلق بمفاتيح تفسير النصوص في هيأة نظريات جامعة كنظرية البطلان، ونظرية الأهلية، ونظرية العقد، ونظرية الظروف الطارئة وغيرها كثير، وهي تحتضن كل قواعد الموضوع وضوابطه وإشكالاته وحلوله، وهذا من المنهج الجديد الذي ابتدأ الفقه الإسلامي الاهتمام به والنسج على منواله في الآونة الأخيرة.
إن هذا التدافع والتغاير والتلاقي الذي كشف عنه البحث بين المنهجين الأصولي والقانوني – في اعتقادي- هو بمثابة البذرة الأولى التي ينبغي أن يتوجه إليها الباحثون بمزيد رعاية وعناية، وهي الإطار العام الذي يحتضن تفاصيل أي دراسة علمية تقصد إلى الإسهام في كشف بعض وجوه التكامل المعرفي بين علمي الأصول وتفسير القانون.