الرئيسية / ابن عبيديس النفزي وأصول تجربته الصوفية.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : ابن عبيديس النفزي وأصول تجربته الصوفية.

الكاتب(ة) : د . هشام حجـــــــــــــــــــاج

شكل القرن السابع للهجرة فترة زمنية مهمة في تاريخ التصوف الأندلسي، حيث عرف هذا القرن نضجا كبيرا للمدرسة الصوفية عموما، الأمر الذي تجلى في التعدد والتنوع الصوفيين، وكذلك في تأثير التصوف في مجريات الأحداث التاريخية الكبرى في تلك الفترة الزمنية.
من جملة ذلك، التأثير الذي أحدثه ابن عبيديس النفزي في توجيه أحداث عصره من خلال ما كتبه في كتابه «نزهة الألباب في صفات الأحباب»، مما يعكس انخراط رجل التصوف في أحداث عصره، وهو أمر مؤسس على أصول ترجع في جملتها إلى الشريعة الإسلامية. انخراط مستند إلى تصور سلوكي يجعل من الاهتمام بأحداث الزمان والمكان عنصرا أساسيا مساهما في العروج بروحانية الصوفي السالك والارتقاء بها، فيكون الصوفي جامعا بين السلوك والمخالطة للمجتمع في الوقت ذاته. لذلك نجد ابن عبيديس النفزي لم يأل جهدا في تحبيب هذا المسعى للخلق، فقد بنى تجربته الصوفية على أصول لا تخرج في شكلها ومضمونها عن “التصوف السني” كما عرفته التجربة الصوفية في القرون الأولى. ولعل أبرز دليل على ما سبق هو التكثيف التأصيلي الذي تميز به كتاب ابن عبيديس «نزهة الألباب في صفات الأحباب»()، حضورا وقوة، وتوجيها للمعرفة النظرية والممارسة العملية. كما أن لغة الخطاب عند ابن عبيديس تميزت بالوضوح بحيث لم يسمح لكلامه الانفتاح على آفاق تأويلية تخرجه عن مقاصده ورهاناته الوقتية، ما عكس عنده تصورا واضحا لحال الصوفي الذي لا ينبغي له أن يعيش خارج إطار زمنه بكل ما يحمله من هموم مادية واهتمامات وروحية. لذلك جاءت أصول التجربة الصوفية العبيديسية لتحقيق أمرين مهمين في مريدي العبيديسية وبالتالي في تصوف المرحلة بصفة عامة، هما تأصيل المريد في العبودية والارتفاع به عن حضيض الغفلة، وتأصيله في واقعه لكي يتفاعل مع هموم عصره السياسية والاجتماعية والجهادية وينفعل بها.
1 ــ ابن عبيديس النفزي : حياته العلمية والصوفية
المترجم هو “إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبيد بن محمود النفزي، ويكنى أبا اسحاق”، وقد وقع خلاف في اسمه()، إلا أن التحقيق في ذلك هو ما ورد على لسان ابن عبيديس نفسه إذ نجده يذكر اسمه في كتابه «نزهة الألباب في صفات الأحباب» حيث قال: “والنبي ؛ غني وابن عبيديس الفقير إلى الله ورسوله على الدوام والاستمرار”. أما أصله فعليه إجماع، ولا خلاف في أنه من أبذة وولد بجيان واستقراره كان بغرناطة()، كان مولده سنة 562ﻫ (وقيل سنة 563ﻫ). أما وفاته فكانت سنة 659ﮬ.
–  علـمـه
أخذ ابن عبيديس النفزي القراءات عن الخطيب أبي عبد الله الحضرمي وأبي الكرم جودي بن عبد الرحمن، والحديثَ عن أبي الحسن علي بن عمر الواد آشي وأبي محمد سليمان بن حوط الله، والنحوَ واللغة عن ابن يربوع وغيره().
كانت لابن عبيديس النفزي رحلة إلى المشرق، خاصة إلى مكة المكرمة، وقد تكررت هذه الرحلة بقصد الحج إضافة إلى قصد المجاورة، قال ابن الخطيب(ت776ﮬ): “ورحل وحج، وجاور وتكرر، ولقي هناك غير واحد من صدور العلماء، وأكابر الصوفيه”().
لم يكن ابن الخطيب الوحيد الذي ساق هذا الخبر في ترجمة ابن عبيديس، فهذا ابن فرحون(ت799ﮬ) نفسه أكده قائلا: “ورحل وحج وجاور وتكرر ولقي هناك غير واحد من صدور العلماء”()، بيد أن صاحب الديباج لم يذكر أسماء الأكابر الذي لقيهم ابن عبيديس في رحلته إلى المشرق، والملاحظ أن ابن فرحون نقل ما ذكره ابن الخطيب في ترجمته بنفس الصيغة. لكن سكوت ابن فرحون عن لقاء ابن عبيديس الصوفية يحتمل منه أمور: منها أنه لم يصله هذا الخبر فيكون بهذا غير ناقل عن ابن الخطيب، أما كونه نقل عن ابن الخطيب لكنه سكت عن أمر كهذا فهو مما يحتاج إلى فهم دلالة هذا الصمت، ومن غير المعقول أن يكون هذا الخبر المشتهر قد غفل عنه ابن فرحون، خاصة أن الأمر يتعلق بشخصية ذائعة الصيت في ذلك العصر ولم يمض على وفاته أزيد من قرن من الزمان وأربعة عقود. وأمر توقف ابن فرحون في تصوف ابن عبيديس غير وارد لكونه ذكر ما ساقه ابن الخطيب في ابن عبيديس من كونه “خاتمة الرجال بالأندلس، وشيخ أهل المجاهدات وأرباب المعاملات، صادق الأحوال، شريف المقامات، مأثور الإخلاص، مشهور الكرامات”()، فيبقى أن حاله مشهور مقرر عند هذا الأخير، لكن لقاءه الصوفية بالمشرق خفي عن فرحون، لذلك لم يذكره. وبهذا يحتمل بشكل كبير أنه لم ينقل عن ابن الخطيب.
يفصل ابن الخطيب مرويات ابن عبيديس بالمشرق فيقول: “أخذ صحيح البخاري سماعاً سنة خمس وستمائة عن الشريف أبي محمد بن يونس، وأبي الحسن علي بن عبد الله بن المغرباني، ونصر بن أبي الفرج الحضرمي، وسننَ أبي داود وجامعَ الترمذي على أبي الحسن بن أبي المكارم نصر بن أبي المكارم البغدادي أحد السامعين على أبي الفتح الكروخي، وأبي عبد الله محمد بن مسترى الحمة، وأبي المعالي بن وهب بن البنا”().
هذا عن أخذه بالمشرق، أما أخذه بالغرب الإسلامي فإن بجاية كانت هي الأخرى حاضرة في مسار ابن عبيديس التكويني العلمي، حيث أخذ بها عن أبي الحسن علي بن عمر ابن عطية()، ليتوج مساره التحصيلي هذا بأن أصبح “فقيهاً حافظاً ذاكراً للغات والأدب، نحوياً ماهراً”().
كان ابن عبيديس مقصودا من قبل العديد من طلاب العلم بحكم التوسع الذي عرفه في مروياته، لذلك فقد “روى عنه خلق لا يحصون كثرة، منهم أحمد بن عبد المجيد بن هذيل الغساني، وأبو جعفر بن الزبير”()، وناهيك بابن الزبير في العلم، وكذلك أخذ عنه علي بن عمر بن إبراهيم بن عبد الله الكناني القيجاطي()، وعلي بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن يحيى الغافقي()، وأجاز لأبي عبد الله محمد بن عبد العزيز الرعيني المالقي، العبد الصالح الذي غلبت عليه العبادة كما وصفه الإمام الذهبي في تاريخه().
  تصوف ابن عبيديس
لما كان ابن عبيديس صاحب طريقة صوفية، أو لنقل مدرسة صوفية، لها أصولها المعتمدة، فقد تعين قبل ذكر هذه الأصول الإتيان بمنزلة ابن عبيديس في التصوف، زيادة في بيان قيمة الأصول التي بنى عليها تصوفه، ونظرا إلى الموضوع من جهات متعددة. فبعد المسار العلمي الحافل بالتحصيل الذي سلكه ابن عبيديس أول أمره، “غلب عليه التصوف فشهر به”. يلاحظ من خلال عبارة “شهر به”() أن حاله الصوفية هيمنت وغطت على حاله العلمية وما يتقنه من العلوم، وعلى كل حال فهذا التحول في اتجاه المسار الصوفي، أو على الأصح فهذه الإضافة النوعية في تكوين ابن عبيديس، وإذكاء التعدد في شخصيته، اقترنت برحلته إلى المشرق كحال عدد هام من صوفية الأندلس الذين لم يُعرف لهم أخذ صوفي في بلاد الأندلس، ولعل هذه الظاهرة تحتاج إلى مزيد من تسليط الضوء الكاشف لبيان وفهم الأسباب التي تدعو بعض العلماء وطلاب التزكية إلى الأخذ والتماس الطريق الموصل إلى حضرة الحق خارج مجالهم الجغرافي والثقافي. بالنسبة لابن عبيديس فقد أخذ الطريق في مصر عن الشيخ أبي الحسن علي بن حميد(ت613ﮬ) بن الصباغ، وهذا أمر لا لبس فيه عند الذين ترجموا له، خاصة الإمام الصفدي الذي قال إنه “كان متصوفاً، وهو تلميذ أبي الحسن ابن الصباغ، يذكر أنه دخل الخلوة عنده بقنا من ديار مصر”()، مما يفيد أن ابن عبيديس لم يسبق له أن عرف تجربة صوفية قبل لقائه بأبي الحسن بن الصباغ، إلا أننا لا ندري أكان ذلك قبل وصوله إلى مكة حيث “لقي هناك غير واحد من صدور العلماء وأكابر الصوفية”()، أم كان بعد قدومه من رحلته إلى بلاد المشرق. والراجح عندي أن هذا الأمر كان قبل وصوله إلى مكة المكرمة. وإن كان دليلا ظنيا فيمكننا القطع بصحة ما ينبني عليه من نتائج. ومن جملة ذلك أنه لقي “أكابر الصوفية” بمكة كما قال ابن الخطيب. الغالب على هذه اللقاءات أنها كانت لقاءات تبركية لا تعدو حدود التواصل بين رموز الغرب الإسلامي والمشرق. ويحتمل أن تكون لقاءات تخفي حقيقة ما تنطوي عليه سريرة ابن عبيديس من البحث عن رجل يدله على الله تعالى، فيرجح احتمال أخذه عن ابن الصباغ بعد رجوعه من رحلته إلى مكة، وهذا مرجوح لكون مكة آهلة بمشايخ التصوف، ورغم ذلك لم يأخذ ابن عبيديس عن أحد منهم. والقرينة الأخرى هي مجاورته بمكة. مما يفيد أن أخذه كان قبل رحلته إلى المشرق ومكة بصفة خاصة، ويحتمل أيضا أن تكون مجاورته بمكة لهذا الغرض العثور على شيخ التربية الذي يدله على الله تعالى.
لم يذكر لنا ابن الخطيب أسماء “أكابر الصوفية” الذين لقيهم ابن عبيديس في مكة، لأن ذلك يفيدنا كثيرا في معرفة سبب اختياره لأبي الحسن بن الصباغ شيخا، أو على الأقل معرفة دوافع اللقاء به وحيثياته، ومهما يكن فلقاؤه بالمشايخ بالمشرق كان لقاء تبركيا ولم يكن لقاء لبس خرقة، وبناء عليه يبقى الشيخ أبو الحسن بن الصباغ، الشخصية الصوفية الوحيدة التي تركت بصماتها العرفانية في شخصية ابن عبيديس النفزي، وهو ما صرح به في كتابه “نزهة الألباب في صفات الأحباب” حيث قال: “… وشيخي في التصوف أبي الحسن بن حميد المعروف بابن الصباغ قدس الله روحه ونور ضريحه”().
أما عن زمن لقائه به فالإشارة الوحيدة التي تفيدنا في هذا الصدد هي ما ذكره ابن الخطيب في تاريخ سماعه الحديث بالمشرق حيث قال: “أخذ صحيح البخاري سماعاً منه سنة خمس وستمائة عن الشريف أبي محمد بن يونس”()، وإذا كانت أولى رحلات لابن عبيديس هي هذه، وهي الرحلة نفسها التي لقي فيها شيخه ابن الصباغ فعلى هذا يكون أخذه في نفس السنة أو السنوات التي تلتها، ولم يعرف له أخذ أو تصوف قبل هذا التاريخ. لكن إذا لم يكن لقاؤه بأبي الحسن ابن الصباغ في هذه السنة، فإننا لا نستطيع الجزم بتاريخ آخر محدد، سوى تحديد فترة زمنية لأخذه عنه، وهي الفترة ما بين سنة ستمائة وخمسة وتاريخ وفاة أبي الحسن ابن الصباغ سنة ستمائة وثلاثة عشر.
شهدت كتب التراجم لابن عبيديس بالتقدم ورسوخ القدم في مجال العبادات والمجاهدات، حتى كأنه يحصل الانطباع والظن أن تاريخ التصوف لم يعرف له نظيرا، لكن المؤكد الذي كشف عنه ابن الخطيب أنه “به ختم أمر التصوف”() في الأندلس، فهذه شهادة لها أكثر من دلالة وتحتاج إلى إدراك عميق للمقصود من ورائها، خاصة أنها صدرت عن واحد ممن يعتد بكلامهم. يقول عنه: كان “أصبر الناس على مجاهداته، وأدومهم على عمل وذكرٍ وصلاة وصوم، ولا يفتر عن ذلك ولا ينام”()، وهذا الصفدي ينقل عن ابن الزبير، أحد تلاميذه، ما يؤكد كلام ابن الخطيب فيما يتعلق بما أبداه من “عكوفه على باب الله والتوكل عليه والاِنقطاع، ما يعجز عنه كثير من أهل عصره”(). وبهذا تكون شهادة تلميذه ابن الزبير عن معاينة ومعاصرة ومشاهدة لا يتطرق إليها الشك ولا يعرض لها الاحتمال، مما يدعو إلى القول بتميز ابن عبيديس وسبقه في هذا المجال مقارنة مع مجايليه ومعاصريه. أما عن سنده في التصوف فقد أخذ ابن عبيديس النفزي عن أبي الحسن ابن الصباغ() عن أبي عبد الرحيم القنائي() عن أبي يعزى يلنور()، عن أبي شعيب السارية، عن أبي النور الدكالي، عن سيدي عبد الجليل بن ويحلان، عن أبي الفضل الجوهري، عن أبيه بشر الجوهري، عن أبي الحسن النوري، عن السري السقطي، عن أبي محفوظ معروف الكرخي، عن داوود الطائي، عن أبي حبيب العجمي، عن الحسن البصري، عن علي بن أبي طالب، عن النبي ().
يلاحظ أيضا أن أغلب أسانيد التربية ترجع إلى مشايخ الغرب الإسلامي. كما أخذ أبو يعزى عن أبي عبد الله أمغار وأبي عيسى إيغور وغيرهم كثير()، ويبدو أن هذا الأخذ هو أخذ بركة لا أخذ لبس خرقة.
كما أخذ عبد الرحيم القنائي عن أبي مدين الغوث، عن أبي يعزى بسنده، وأخذ أبو مدين عن غير واحد أخذ بركة واتباع.
كانت حال الشيخ ابن عبيديس أشهر من نار على علم، فهو شخصية صوفية عرفها الأندلس وأكبر من أن تحوم حولها الشكوك العقدية كتلك التي حامت حول بعض الصوفية سواء الذين كانوا بالأندلس، أو الذين كانوا بها ورحلوا عنها إلى المشرق، أو الذين عرفهم المشرق، فهذا ابن الخطيب يقول عن أحد تلاميذه و”لقي الشيخ الصالح ولي الله أبا إسحق ابن عبيدس وحضر مجالسه العامة‏”()، وهذا القول يوحي بوجود مجالس عامة وأخرى خاصة. كما نجده في مقام آخر يقول: “خاتمة الرجال بالأندلس، وشيخ المجاهدات وأرباب المعاملات، صادق الأحوال، شريف المقامات، مأثور الإخلاص مشهور الكرامات”(). وقال ابن الخطيب إن المراكشي صاحب “الذيل والتكملة” ذكره فقال: “وقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك..على الجملة فبه ختم جلة أهل هذا الشأن بصقع الأندلس، نفعه الله ونفع به”(). ومن الذين انتفعوا بابن عبيديس بشكل غير مباشر أبو العباس الغبريني حيث قال في كتابه “عنوان الدراية”: “وحدثوني عن أناس فضلاء، فمن أحسن ذلك ما حدثني غير واحد عن الشيخ أبي إسحاق ابن عبيديس”(). فرغم الاِرتباك الحاصل عند الغبريني في اسمه فإن شهادته تبقى هامة في الباب والتي نستفيد منها كون ابن عبيديس كان مشهورا إلى درجة أن حاله كانت محط حديث وتدوال بين المهتمين بالتصوف، بل ابن عبيديس حسب الغبريني من أحسنهم، ونخبة الفضلاء وصفوتهم. كما تفيد هذه الشهادة الإجماع الحاصل على شخصية ابن عبيديس عند أهل عصره عموما.
ولعله من الطبيعي أن ينفع الله به الخلق الكثير، فقد “كان مأماً للفقراء وله أتباع”()، ومتمكنا في التصوف، راسخ القدم فيه بحكم معرفة “طريقه الذي ند فيها أهل زمانه”(). فكل هذه الإشارات تدل على أن ابن عبيديس ومدرسته شكلتا ملاذا وملجأ لطالبي السلوك الصوفي في عصره، حتى “نفع الله بخدمته وصحبته، واستخرج بين يديه عالماً كثيراً”(). وممن انتفع به، أيضا، أبو الحسن علي بن عبد الله الكناني القيجاطي الذي يقول فيه ابن الخطيب “لقي الشيخ الصالح ولي الله أبا إسحق ابن عبيدس وحضر مجالسه العامة”()، إضافة إلى الإفادة منه، يتبين أن ابن عبيديس كانت له مجالس خاصة ومجالس عامة، يحضرها عموم الناس، ولم يذكر ابن الخطيب أي نوع من الأخذ الذي قد حصل بينهما خاصة وأنه عبر عن تواصلهما بمصطلح “لقي” الذي يستعمل في التداول الصوفي عند التعبير عن اللقاء بين الشيخ والمريد.
يبدو واضحا أنه كانت لابن عبيديس مجالس خاصة يعقدها مع خاصة أصحابه من مريدي الطريقة العبيديسية، قال ابن الخطيب: “كان يجلس إثر صلاة الصبح لمن يقصده من الصالحين، فيتكلم لهم بما يجريه الله على لسانه، وييسر من تفسير، وحديث وعظة”،() وهو كلام له ارتباط شديد بالشريعة على مهيع ابن عبيديس، مما يعني أنه كان يتداول مع خاصة أصحابه الكلام عن الحقائق، ومثيل ما بثه في كتابه “نزهة الألباب” من حديث عن الخمرة والحب الإلهي، وربما بسط ما لم يستطع أن يبسطه من كلام حول المعرفة الإلهية التي أحجم كثيرا في كلامه عنها واكتفى بترديد عبارات تحيل إلى اعتقادات الأشاعرة في الذات الإلهية وحقيقتها، مما يفيد أن الصحو كان هو الغالب على حاله، ومما يعني أيضا أن العلم والأدب هما الغالبان على حاله وعلى أسلوبه في التربية، بحيث لم تظهر منه طيلة صفحات كتابه “نزهة الألباب في صفات الأحباب” تلك العبارات الدالة على خلاف ذلك، حيث كان يقول: “والعبد أدنى أدنى، بل الله  هو الأول والآخر والظاهر والباطن في كل أول وآخر، وظاهر وباطن من حيث أول الأوائل وآخر الأواخر، وأظهر الظواهر وأبطن البواطن، والغير معدوم بنفسه، وموجود بإيجاد الله، ومبقى بإبقائه، ومفنى بإفنائه، ولا حول ولا قوة إلا بالله”().
لكن مع ذلك فقد كانت آثار ابن عبيديس بادية على كل الذين ارتادوا مجالسه، وقصدوا الانتفاع به وبعلمه وحاله، ومن المؤشرات الدالة على استغراق ابن عبيديس في الهم التربوي أنه كان يفتتح مجالسه العامة، كما ذكر عنه أبو الحسن الكناني (واحد من تلامذته) بقوله: ‏”‏لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، رزقنا الله الأدب مع الله، واستعملنا فيما يرضيه ويرضي رسوله، وجعل حظنا في الدار الآخرة‏”(). هذا أمر يؤكد من زاوية أخرى على فقره وافتقاره إلى الله، سيرا على الأصول التي بنى عليها طريقته كما سنرى فيما بعد. يبقى ابن عبيديس على حال من السمو وعلو الهمة منسجما تمام الاِنسجام مع الأصول التي بنى عليها طريقته ولم يخالفها كما هو مبين عند ابن الخطيب وغيره ممن ترجموا له.
أسس ابن عبيديس طريقته على الفقر باعتباره الأصول الستة التي سنذكرها فيما بعد. يبدو هذا جليا في علاقته بالمخلوقات من الأشياء، حيث كان “آية الله في الإيثار، لا يدخر شيئاً لغد، ولا يتحرف بشيء”()، كما كانت علاقته بالمجتمع محكومة بما نعته به ابن الخطيب من كونه “كريم الأخلاق”، تجلى خلقه هذا بشكل مادي، إذ “ربما كان الطعام بين يديه، وهو محتاجٌ، فيعرض من يسأله، فيدفعه جملة، ويبقى طاوياً، فكان الضعفاء والمساكين له لياذاً ينسلون من كل حدب، فلا يرد أحداً منهم خائباً”()، ولا يستغرب منه هذا السلوك الذي تأثر فيه بشيخه ابن الصباغ، فقد حكى قصة شيخه مع ذلك الغني، تلميذه أبو اسحاق بن الإبزاري، الذي أمره بإخراج ماله ووضع له برنامجا عمليا للصدقة “فكان يربح الكثير، ويخرج حظه كله من الربح”()، فابن عبيديس ورث هذا الأصل عن شيخه، وربما تكون الطريقة والمدرسة العبيديسية هي بتمامها، وتمام أصولها قد نقلها ابن عبيديس عن شيخه إلى الأندلس، وبقي وفيا لأصولها دون أن يضيف إليها شيئا مما يقتضيه المجال الجغرافي والخصوصية الثقافية والتاريخية. وعلى كل حال، فهذه الطريقة ليست غريبة عن المجال الجغرافي والثقافي بالغرب الإسلامي، فهي عادت إليه بعد أن انطلقت منه حسبما رأينا في سند ابن عبيديس، وأخذ شيخ شيخه عبد الرحيم القنائي عن المغاربة. كما أنه لا غرابة في حاله هذا، فقد حاز ابن عبيديس في ذلك مقاما سلوكيا من أجل وأجمل المقامات التي يمكن أن يصل إليها السالك حيث قال ابن الخطيب: “وكان أمره في التوكل عجباً، لا يلوي على سبب، وكانت تجبى إليه ثمرات كل شيء، فيدفع ذلك بجملته”()، ينضاف إلى ما سبق من الأسباب سبب آخر، لا يقل أهمية عن الأسباب الأخرى، هو وجود أبو مدين الغوث الذي بلغ مقام القطبية في التوكل() ضمن رجال السند العبيديسي، والذي من المؤكد أنه منه سرت تلك الروح فيمن أتى بعده.
ذكر ابن الخطيب في “الإحاطة” برنامجا لابن عبيديس لا مجال فيه لأشغال الحياة الدنيا، فقد كان متفرغا تمام التفرغ للعبادة والمجاهدة وتربية المريدين، لا صلة له بالدنيا أو ما يكون سببا إليها، كما لم تمنحنا كتب التراجم الفرصة للتعرف على شيء من حياته الاجتماعية الخاصة، ولم يذكر له حلقة علمية أو غيرها، فباستثناء النشاط التأليفي الذي عرفه ابن عبيديس في مرحلة ما بعد الطلب لا نسجل له أي نشاط علمي يذكر. وهذا ترتيب عمله كما ذكره ابن الخطيب: كان يجلس إثر صلاة الصبح لمن يقصده من الصالحين فيتكلم لهم بما يجريه الله على لسانه، وييسر من تفسير، وحديث وعظة، إلى طلوع الشمس، فيتنفل صلاة الضحى، وينفصل إلى منزله، ويأخذ في أوراده، من قراءة القرآن والذكر والصلاة إلى صلاة الظهر، فيبكر في رواحه، ويوالي التنفل إلى إقامة الصلاة، ثم كذلك في كل صلاة، ويصل ما بين العشاءين بالتنفل، هذا دأبه أبدا().
–  مصنفاته
يجمع الذين ترجموا لابن عبيديس أنه صنف في طريقة التصوف وغيرها تصانيف مفيدة()، منها:
– مواهب العقول وحقائق المعقول().
– الغيرة المذهلة عن الحيرة().
– التفرقة والجمع().
– الرحلة العنوية().
– الرسائل في الفقه والمسائل()، وغير ذلك().
–  وفــاتـه
كانت وفاة ابن عبيديس في شعبان من سنة 659ﮬ() حسبما جاء في كتب التراجم التي اعتنت بترجمته، خاصة كتاب الإحاطة لصاحبه لسان الدين بن الخطيب، وقد كانت في فترة تميزت بمجموعة من الخصائص الصوفية والفكرية، كما أن تاريخ وفاة ابن عبيديس يبين لنا كيف أنه عاش في عصر لم يعرف استقرارا سياسيا، ومع ذلك نجد ابن عبيديس وغيره في أوج عطائهم الفكري والسياسي، يشهد لذلك مدى تجاوبه مع المرحلة والتأثير فيها.
2 ــ أصول التصوف عند ابن عبيديس
–  الأصل الأول : الطاعة والاتباع
يعرض ابن عبيديس النفزي في كتابه «نزهة الألباب في صفات الأحباب» لقضية الطاعة والاتباع ويناقشها من زاوية تأصيلية، بل نجده يمعن في مناقشتها من جميع الجوانب، لأن هذا الأصل لا يمكن للصوفي بأي حال من الأحوال تجاوزه وإلا كان خارجا عن الملة، بله المسلك الصوفي الذي لا يصح البتة إلا لمن كان متشبثا به. المنطلق الأساس هو الأركان الخمسة التي لا يكون الإنسان المسلم مسلما إلا بها، حيث يقول ابن عبيديس: “وبالجملة فالإنسان باعتبار العبودية وتكليف الربوبية مكاتب لله تعالى بزورة في العمر وهي الحج، وبخمس في اليوم والليلة وهي الصلاة، وبصوم شهر في السنة وهو رمضان، وبدينار من أربعين وهو الزكاة”.()
إلا أن موقف ابن عبيديس الفقهي ممن توقف في فريضة من الفرائض جاحدا لها قتل كفرا، والعلة في ذلك أنه “كذب النبي ، ومن كذب النبي  فقد كذب الله، ومن كذب الله فقد كفر”.
– المرتبة الثانية هي مرتبة المقر بالفرائض، لكنه قال: “جهلت عذر وجبر على الفعل كالكسلان والتارك المتعمد المعترف”. ()
إلا أن السلوك الصوفي في معارج الإسلام والإيمان والإحسان تجعل ابن عبيديس لا يتوقف عند حد مقام الإسلام وفرائضه، لذلك نجده ينتقل إلى مقام الإيمان معبرا عنه بقوله: “وما من فريضة كوتب بها إلا ولها سنة ونافلة، فإذا أداها كما أمر بقي في ولاء الشهادة لله في الدنيا والآخرة”()، على أن لفظة “سنة” تحيل عنده إلى مقام الإيمان، ولفظة “نافلة” تحيل إلى مقام الإحسان. فالدين عند ابن عبيديس كل لا يتجزأ، وعليه “فمن ترك السنة مكذبا النبي  مستهينا بالسنة قتل”.()
– المرتبة الثالثة من الترك الناتجة عن البخل على النفس والتذرع بذرائع واهية، وهذا الترك يحكم عليه في رأي ابن عبيديس بالضلال، يقول في ذلك: “ومن تركها بخلا على نفسه وفلسه أو حركاته أو سكناته وقال المندوبات كلها يثاب الإنسان على فعلها ولا يعاقب على تركها وقد أديت الفرائض فأنا لا أتفرغ للسنن، قيل له أنت ضال”()، ولا ينفك ابن عبيديس عن إقامة الدليل على ضلال صاحب هذا المنزع في التعامل مع السنن، مستشهدا بحديث النبي : “عليكم بهذه الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله  سن لنبيكم  سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أن هذا المتخلف صلى في بيته كما تصلون لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم”().
هذا فيمن كان واضحا في موقفه، لكن هناك موقف آخر عرض له ابن عبيديس يتجلى فيمن يسلك مسلك الروغان والتبرير تحت حجة طول العهد بين إسلام الصحابة الذين كانوا يتبعون النبي  في تفاصيل الفرائض والسنن، وإسلام مسلمي القرن السابع، لكن ابن عبيديس اعتبر هذا الاِدعاء مجرد كذب ورضى بالمقت، ويصف صاحبه من غير توان بالكذوب فيقول: “لكن يقول الكذوب في هذا الوقت الراضي بالمقت وأي إسلام كإسلام عمر”.()، وهذا ما يرفضه ابن عبيديس ولا يسلم به لقائله بناء على أصل التسوية بين هذا الأخير وبين عمر رضي لله عنه، يقول: “قد سوى الله بينه وبين عمر في التكليف فروغانه بهذا الكلام تطفيف”().
بهذا يكون التعامل مع كتاب الله تعالى والسنة النبوية على مراتب، وهي التوقف الجاحد، والجهل، والبخل على النفس، ثم الكذب عليها، ويبقى المنهج السليم والصراط المستقيم “والقسطاس القويم كتاب الله فهو المحجة البيضاء والحجة الغراء”().
قضية أخرى تابعة لقضية الطاعة والاِتباع طرقها ابن عبيديس في كتابه هي”عبادة الوقت”، فكل وقت له عبادة مخصوصة ولا يمكن شغله بعبادة أخرى، يقول: “امتثال الأمر واجتناب النهي يقيم العامل العبودية لله في ذلك ويجزي عنه العمل في محله أو القول في محله أو الاِعتقاد في محله، ويسمى صادقا في هذه المحال كلها، وإذا لم يقم الإنسان في بعض هذه المحال العبودية لله ولا أدى حق الربوبية امتثالا واجتنابا لم يجز عنه عمل عن عمل، وكان مخلصا صادقا فيما أقام فيه حق الله وكاذبا فيما لم يقم فيه حق الله تعالى”().
هذا من جانب العمل، أما من جانب العلم فالمطلوب في نظر ابن عبيديس هو العلم الذي يدعو الحق عبده إليه قائلا: “اتبع العلم الذي يهديك إلي، ويدلك علي، ويذهب بك عنك، وعن ما لديك إلى ما لدي، حتى ترى ما لدنك إلى ما لدنا، وما منك منا، فتفنى لتبقى، وتبقى فلا تفنى”()، لأنه “من عمل بغير علم فهو أعمى، ومن علم ولم يعمل فهو محجوب، ومن عمل ولم يخلص فهو مغبون، ومن أخلص ولم يشكر فهو مغرور”()، وأما من تحقق بذلك وغلب عليه “اتباع المنقول والمعقول صبرا في الضراء وشكرا في السراء ظهرت عليه لوائح الوصول، ووقع له في أحكام الله القبول.. وكان حميدا على كل حال، عبدا لله تعالى في العقد والمقال والفعال”().
وكل من العمل والعلم بأمر الله تعالى، فالعمل مما ييسره الله لعبده حيث يقول في بعض وجوه تفسير قوله : ِ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا﴾()، سيجعل لهم الود “في الطاعة حتى تنشرح صدورهم بها انشراح صدور أهل المخالفة بالمخالفة، وأيضا تكون سهلة عليهم فالخير عادة”، فالعمل الصالح يكون بكسب العبد وتوفيق الله تعالى حسب ابن عبيديس، وعنده “كذلك العلم يقع على القلوب الطاهرة الصفية فيحليها بكريم الهمات وصالح الأعمال والنيات، ويقع العلم على القلوب المقفولة بحب الدنيا المحجوبة عن الأخرى فلا يؤثر أثرا ولايفيد عبرا”().
بعد مناقشة قضية الاِتباع من جهة الشريعة فإنه يعرض لها من جهة الحقيقة، حيث إن الموفقين إلى الطاعات أول ما يلوح على قلوبهم هو انقلاب الحقائق في حقهم في الدنيا، ومن ذلك المكاره التي تعرض لهم في طريق الجنة، وهنا يدلي ابن عبيديس بنتائج الأعمال من ملابسة الطاعات وما يعود على المريد من صالح الواردات، حيث قال في شرح قوله : «حفت الجنة بالمكاره»: فإلى جانب كونهم “يلذذون بالطاعات، وينعمون بالخيرات” فإنه بالرغم مما حفت به الجنة من المكاره فهم حفت “جنتهم بالرضى عن الله، والفهم عن الله، والمحبة لله، لمشاهدتهم في الطاعة المطاع”().
فهذه أولى نتائج الاتباع والطاعة المتمثلة في انقلاب المشقة لذة، لذلك فابن عبيديس يقوم بتوجيه المريد إلى رفع همته وطلب المعالي حيث يقول: “كن عليا على مقام علي واتبع سنة الرسول النبي واتبع صاحبيه تمت صهرا مثل عثمان خاتما بعلي”(). فهذا أصل هام يتمثل به ابن عبيديس حديث النبي  «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجد». هذا في الحياة الدنيا، أما في الحياة الأخرى فإن العبد المتبع مادام “يرى فيه أثر النبوة اتباعا ويتجمل بملابس الطاعات اتضاعا لله وارتفاعا، أمن العذاب وحظي بالثواب”().
لكن بالنسبة للمريد فإنه مع الاِتباع للنبي  لا تبقى فيه بقية من خوف من الله تعالى وخوف الخاتمة إلا أنه يرى، توجيها للمريد السالك “أن رجاء المطاع في الطاعات يكون وافيا إلى أن يشاهد المطاع في الطاعة فتفنى الضراعة وتحمد الاستطاعة ما عمرت ساحتها بالطاعة”، أي أن المريد مهما بقي فيه من الخوف فإن جناح الرجاء والاِستغراق فيه يمنحه مشاهدة الحق تعالى، فتؤدي هذه المشاهدة بعد تجلي الحق تعالى إلى فناء ما سوى الله، فينفع مع ذلك العمل القليل.
عموما، يرى ابن عبيديس أن اتباع النبي  بالنسبة إلى المريد السالك ليس مجرد اتباع للنصوص، بل هو اتباع لشخصه، ودخول إلى الحضرة المحمدية التي لابد للمريد منها، إذ هي “معراج المهتدين وسراج العالمين، فكل من أمها سيرا بالظاهر أو الباطن رزق الاِنتفاع وظفر بحلاوة الاِتباع”()، وحضرته  هي “حضرة كرم الأعمال وشرف الأحوال، سني المعارف والمراتب، وعلي الدرجات والمذاهب، وما عنها ذهاب لذاهب، إذ هو الأسوة  لأهل التجريد”(). فالسالكون لابد لهم من أسوته ودخول حضرته لمن أراد الوصول إلى حضرة الحق، وحدث نفسه أن يصير من المحبوبين المحبين فآنذاك يصير الاِتباع طبعا والموافقة سجية لأن “محب الحق لا يمكنه أن يظهر الاِصطناع وخلع الطاعة للمطاع”.()
–  الأصل الثاني : الاِفتقار الى الله
يصرح ابن عبيديس بوضوح برسوخ قدمه في الفقر إلى الله  إذ يقول: “وابن عبيديس الفقير إلى الله ورسوله على الدوام والاِستمرار”، مشيرا بذلك إلى حالة الاِستغراق الزمني في الفقر الذي صار بالنسبة إليه مقاما تدور عليه وبه مجموعة من التصورات السلوكية والجهادية والعلمية التي أفصح عنها في ثنايا مخطوطه، في شكل نصوص متناثرة هنا وهناك، وفي سياقات مختلفة، لكن يبقى الفقر هو الجامع بينها والخيط الناظم لها.
وعلى هذه القاعدة يقر ابن عبيديس بتعدد العطاءات الربانية له التي برزت في شخصية الرجل الصوفي المربي الذي يكاد يكون الفقر أبرز سمة لتصوفه، حيث يقول عن نفسه: “وفقره من أوجه لا يزيله الإدرار”(). يقر ابن عبيديس من جديد بحقيقة أخرى هي أن النعم الربانية المتكاثرة لا تزيل فقره، إن لم نقل إنها تعمق فيه الإحساس بالفقر، وعن تعددها يقول: “وصدقات الله ورسوله علي علوما وفهوما ومعقولا ومنقولا وأسبابا وآدابا وتوفيقا واستعمالا أفضالا وتسخيرا لنفسي صبرا وللغير في الإحسان إلي شكرا، صدقات أبدية ومواهب سرمدية بلغت محلها افتقارا فكسبتني اللجأ إلى الله ورسوله اختيارا واضطرارا”.()
في الوقت الذي يقر فيه ابن عبيديس بهذه الحقائق، نجده عند حديثه عن المقامات والأحوال وتربية المريدين وتسليكهم وتحبيبهم إلى الحق وتحبيب الحق إليهم، لا يعتبر ذلك منه وليس له منه إلا الوصف ويقارن كلامه في ذلك بناقل الكفر الذي ليس له من كلام الكفر إلا النقل إذ يقول: “وكذلك حاكي الإسلام والإيمان والإحسان والمقامات كلها والأحوال والمعارف والهمم الموصلة إلى المطلب الأعلى..ليس له من ذلك إلا الوصف”(). أبرز مثال على ذلك على وجه التحديد أنه حين تكلم في تفسير بعض الآيات والأحاديث لم ينسب ما توصل إليه من اجتهاد في التأويل إلى نفسه بل نسبه إلى الحق تعالى حيث قال: “فلنتكلم على الآيات الثلاث والأحاديث الثلاثة المذكورات في أول هذا الفصل بما يفتح الله به من المعقول في بيان ما أفهمني الله في المنقول”()، فعبارة أفهمني فيها تبرئ من الحول والقوة ونسبة كل ذلك إلى الله تعالى، هذا من ناحية دوران الفكر والسلوك الصوفيين عند ابن عبيديس على الفقر إلى الله ودورانه به في كل حركاته وسكناته مهما جلت أو دقت.
أما من الناحية الوجودية، فالإنسان المخلوق بصفته محدثا أو بعبارته “جائز الوجود”، “فالافتقار نعته والتبري صفته والفناء حرفته والعبودة شكله والإضطرار محله”()، وكل هذه المعاني الصوفية تدور على الفقر إلى الله وتابعة له.لذلك نجده يقدم تعريفا للتصوف بكونه”رؤية المفضل في الإفضال”()، وهو اختيار من بين العديد من الاِختيارات التي تعج بها كتب التصوف، الفائق عددها الألفين، كما ذكر الشيخ زروق في كتابه “قواعد التصوف”.
الملاحظ أن ابن عبيديس كان واضحا في سبب اختياره لهذا التعريف وتركيز رؤيته الصوفية عليه، يتمثل ذلك في كون رؤية الفضل من الله فيه نكران لأثر البشرية في الحركات والأفعال، وهو ديدنه في كل ما بثه في مخطوطه، ثم سبب آخر هو كون “هذه الصفة -أي الفقر- قدم النبي  اختار الفقر على الغنى والزهد على التكاثر”()، ثم بعد ذلك يوضح الطريقة الإجرائية لكي يكون الإنسان السالك على قدم النبي  مقتفيا أثره بقوله: “الفقر إلى الله اضطرار أن يجمع العالم سيما ذله”().
ثم هناك أيضا أسلوب تربوي آخر عند ابن عبيديس يتمثل في اليأس من النفس لكونها ليست فاعلة بذاتها في تصريف المقادير والأرزاق المادية والمعنوية، لذلك فلحظة اليأس من النفس حين يشعر بها الإنسان هي بداية الفقر الحقيقي إلى الله في كل شأنه، يقول: “من يئس من نفسه افتقر”()، وهو في هذا السياق وبهذا الأسلوب يكون عمله أشبه بتقرير قواعد السلوك الصوفي العبيديسي، كما أنه يعلق النتائج بالمقدمات إذ يقول: “ومن عرف هؤلاء افتخر”، وهو تأكيد على الإحساس بوجود حال الفقر في صاحبه، لكن علو همة الشيخ ابن عبيديس والمنهاج الذي يرسمه لسالكي طريقته لا يريد أن يقف بالمريد عند إحساساته وحظوظه النفسانية الذاتية فيطلب منه “الفناء” عن كل ذلك حتى يظفر بالمطلوب الأعلى، يقول: “ومن فني عن نفسه غاب عن الفقر والغنى برؤية من أفقر وأغنى”()، والفقير على الحقيقة بالنسبة إليه هو “من استغنى بالله”()، كما أنه لا غني على الحقيقة إلا “من افتقر إلى الله”.()
نلفي ابن عبيديس يرجع من جديد ليعدل عن الفعل البشري الذي يسميه المكاسب إلى المنح الربانية التي ينعتها بالمواهب ونسبة الأشياء إلى باريها ليقول مؤكدا سيرا على مهيعه في الجمع بين الشريعة والحقيقة: “والفقر إلى الله اختيار يوتيه الله من يشاء من فضله”()، فلا سبيل إلى ذلك إلا باختصاص الله تعالى للعبد، ولا دخل للبشرية في هذا الاِختصاص إلا من جهة العمل بأسبابه، مستشهدا بأنموذج الذكر الذي يذكره المريد، موضحا العلاقة بين فعل الإنسان وفعل الله عموما إذ يقول: “وذكرنا أوجده ذكره فهو الذاكر المذكور الشاهد المشهود الموجد الموجود”(). هذا ليحسم في المسألة بحقيقة وجودية وهي أن “ما سوى الحق موجود بإيجاده، مشهود بإشهاده، وهو الغني الحميد الرفيع المجيد العزيز الذي لا يذل، والغني الذي لا يفتقر”().
لم يقف ابن عبيديس في بسطه وتفصيله لهذا الأصل من أصول تصوفه على الجوانب المعنوية من حياة المريد، بل استوعب في بسطه الجانب المادي، وكيف ينبغي للمريد أن يؤسس لعلاقته مع الحياة المادية، خاصة إن كان هذا المريد ممن بسطت عليه يد الرحمة من الرزق فصار من أهل الوجد المادي.
يهيب ابن عبيديس بالمريد متوجها إليه بخطاب يجمع بين الشريعة والحقيقة، لكي يؤسس لعلاقة واضحة بينه وبين الأشياء تنبني على الاِستقلالية التامة من حيث الإرادة والقصد وهو ما ينعته بـ”الحرية”، مبينا له أسسها ومبانيها فيقول له: “الحر من لا يتملكه شيء إلا الله تعالى باعتبار إرادته الله”، هذا من جانب الحقيقة، أما من جانب الشريعة “الحر من يتملكه كل شيء باعتبار أن يتملكه حق الله في كل شيء”()، فالحقوق الشرعية سواء كانت في الأموال أو الأعيان واجبة تقيم الإنسان في مقام العبودية” ومن أقام أمر الله لم يعزل” عن العبودية “فإن الله باق” باعتبار الحقيقة “وأمره باق”() باعتبار الشريعة والحقيقة معا.
لا يدعو ابن عبيديس في تصوفه المريدين إلى الخروج المطلق عن ملكية الأشياء، بقدر ما يوجه هذه المطالب المادية للجسد لتندرج في سياق العبودية لا لتتناقض معها في سيره القلبي إلى الله، فالعبد الحقيقي عنده هو عبد الله”والحر عن رق الله تعالى عبد لغير الله تعالى” لكن “العبد لغير الله تعالى من أجل الله تعالى عبد لله”()، وما ذلك إلا لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فإذا كان القصد عبودية غير الله لأجل الله فهي عبودية لله. يفصل ابن عبيديس في طبيعة هذه العلاقة وكيفية أداء حق الربوبية في حالة الغنى مبينا أن الواجبات الشرعية تكون أتم وأكمل إذا تأسست على أرضية العبودية المطلقة لله تعالى، لا على أرضية الواجب المجرد، حيث يقول: “يطالب الغني بالاِفتقار إلى الله تعالى في غناه، فإذا افتقر إلى الله طالبه أمر ﴿وَأَنْفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ فرضه ونفله حتى يفتقر إلى الله تعالى اضطرارا واختيارا “().
هذا بالنسبة إلى الفقير من جهة الإرادة الغني من جهة الملكية، أما بالنسبة إلى الفقير من جهة الإرادة والملكية معا فابن عبيديس يهيب به إلى ارتداء أشرف الملابس والأثواب تناسب حاله ويدعوه إلى الرضا بقدر الله له وبقسمته له، حيث يقول: “ومن أشرف الملابس لباس الفقير ثوب شكر الشكور” ويبقى “الحمد لله على كل حال خلع أهل الكمال”()، وهو المطلوب بالنسبة للسالك بغض النظر عن حالته المادية. لكن ابن عبيديس يحسم مذهبه في قضية التملك وعلاقة المريد بالأشياء مفضلا “قصر الأمل والزهد وإيثار الفقر ورفع حجاب الدنيا لتطيب الآخرة وليرى بالباطن فضل الله أو المفضل في الدنيا والآخرة أو فضل الله بالظاهر والباطن في الدنيا والآخرة”()، وعلى هذا الأساس المبني على مبدإ “طي الزمن” بكل تداعياته المادية والروحية من تجاوز لمظاهر الاِرتباط الشديد بالمادة المعيقة للإنسان عن السمو إلى عالم الحقيقة حيث السعادة الحقيقية، فإن المريد إن “أغناه الله بالقناعة ربح الدنيا والآخرة وإن أغناه بالمال أفقره بالآمال والحرص والرغبة”() في الدنيا ثم يعود ابن عبيديس ليعطي المعنى الحقيقي لمفهوم الغنى بعيدا عن الاعتبارات المادية، يقول وبالجملة فلا “غني إلا ذو قناعة ولا فقير إلا ذو ضراعة. القناعة رضى عن الله والضراعة إلى الله أمارة الراضين عن الله”.()
–  الأصل الثالث : علو الهمة
تتأكد أهمية علو الهمة() في السلوك الصوفي بالنظر إلى طبيعة الأهداف والمقاصد الوجدانية التي يسعى السالك إليها ويروم تحقيقها في ذاته، أو المعاني الروحانية التي يصبو الصوفي إلى تشييد أركان وجدانه عليها، لذلك لا يمل ابن عبيديس من التذكير بهذا الأصل في السلوك الصوفي باعتباره أحد الأركان الأساسية التي لا يمكن الاِستغناء عنها في الطريق، وفي هذا السياق يقول مخاطبا المريد الصادق الذي يبرهن على صدق طلبه موجها نظره إلى أهل المحبة والعشق الإلهي: “إن كنت مغرى بهم فارحل كما رحلوا لا يقعدن بك الكسل عن بلوغ الأمل”()، وذلك لأن السفر بعيد كما يقول ابن عبيديس، لذلك لا ينبغي الاِطمئنان والأنس بدار الاِغترار. كما يوجه نظر السالك إلى طبيعة السير والمسير المملوء بالعقبات والأخطار فينصحه بقوله: “لا يهولنك اقتحام الأخطار، والنقلة من دار إلى دار، فالدهر دول، وقد قالت الأول: والنفس تحمل ما لا تحمل البدن”.() فمهما تكن الطريق مليئة بالعقبات والأخطار فإن الإمكان الكمالي المبثوث في النفس البشرية لبلوغ الكمال يبقى قائما ما بقي الإنسان، يعطي السالك قوة التحمل والثبات، ويزيده إصرارا وعزما للمضي في السير، هذا فضلا عن جمال الغاية الباعثة على السير والتحمل التي أشار اليها ابن عبيديس في شكل قاعدة سلوكية تنضاف إلى باقي القواعد المبثوثة في كتابه: “من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن هان عليه ما يبذل فلفضل ما استبذل”().
ولما كان السلوك الصوفي يهتم في المقام الأول بعلاج النفس وحملها على مفارقة المألوفات فأي شيء يمكن أن يحمل الإنسان على طلب ذلك؟ يجيب ابن عبيديس محددا البواعث الحقيقية في ذلك بقوله: “حملهم على الخروج عن صفاتهم ومفارقة عاداتهم سماع لسان شوق ﴿وعجلت إليك رب لترضى﴾()”().
هكذا إذاً يكون علو الهمة عند ابن عبيديس رحلة تتنوع بحسب التكاليف الشرعية والأداب المرعية كما يقول، والرحلة عنده رحلتان: “رحلة بالأقدام جهادا وحجا وخطا في سبيل الله، من عيادة مريض، وحضور جمعة، وجماعة، وحضور مجلس للعلم، أو الذكر، أو زيارة أخ في الله، أو رجل صالح، أو زيارة قبر رسول الله ، أو الرباط في ثغور المسلمين”، “فهذا النوع من الرحلة في أبعادها المادية هي في الوقت نفسه حمل النفس على ملابسة الأعمال التعبدية والخيرية لتبذل الجهد وتخرج عن أنانيتها. وهذا التصور للرحلة يعطي للمريد فهما يبقى معه حاضرا في واقعه المادي ويكرس تفاعله معه بشكل ايجابي. أما الصنف الآخر من الرحلة فهو “رحلة بالأقدام تقيم بالمباني وترحل بالمعاني”. لا يحدث ابن عبيديس في هذا الصنف من الرحلة قطيعة مع المقام الأول، بل يؤسس عليه كعادته في الجمع بين الشريعة والحقيقة، فلا تستقيم الرحلة بالمعاني إن لم يؤسسها المريد على المباني الشرعية ويقيمها العبد السالك في ذاته. ثم يمضي بعد تقرير هذه القاعدة إلى تفصيل طبيعة هذه الرحلة حيث يقول: “ترحل عن المذموم عادة وعقلا وشرعا إلى المحمود عادة وعقلا وشرعا، ترحل عن الدنيا إلى الأخرى، وترحل عن الخلق إلى الحق؛ ترحل من تدبيرك إلى تدبير الله، ومن تقديرك إلى تقدير الله، ترحل من العادة إلى العبادة، ومن المجاهدة إلى المشاهدة”()، هذه الأصناف من الرحلة والاِنتقال من عالم إلى عالم إنما هو انعكاس وتجل لدلالة هو علو الهمة. يرجع ابن عبيديس، بعد الفراغ من تفصيل مراتب الرحلة وتجلياتها، إلى بساط الشريعة والعبودية ليؤكد من جديد على طبيعة الرحلة بتعبير آخر، ويقرر من خلالها العبودية المرجوة من كل أفعال الإنسان السالك حيث يقول: “وبالجملة ترحل عن المنهي إلى المأمور به، وعن النهي والأمر إلى الآمر، وترحل عن فعلك إلى فعل الله، وعن نفسك إلى الله، ومن الله إلى الله تحت حجاب لطف وبر وعطف وامتنان وإحسان”.() هذا من ناحية الشريعة، أما من ناحية الحقيقة فيرجع إلى تقرير العبودية والفقر فيها بقوله: “أن ترحل من النعمة إلى المنعم، أو من الفضل إلى المفضل”() تأصيل للعبد في الأمر والنهي، وتأصيل نسبة المريد إلى الأمر والناهي. فمدار علو الهمة عند ابن عبيديس في كل النصوص المصرح فيها بها أو المتضمنة لها إنما هي بقصد الخروج عن الصفات البشرية إلى الصفات الربانية، أو الخروج من صفات الناسوت إلى نعوت اللاهوت. فالإنسان بصفة عامة جزء من العالم، و”العالم كله نعمة من الله وفضل منه، والمنعم… مشهود في نعمته، موجود محمود، والمفضل بذلك كله مشهود في فضله”()، والعالم بما هو “كله شبكات حضوض ومرقات لحوض”()، والإنسان بما هو العالم الأصغر فهو كذلك على صورته “وطيور الأنفس أخيذة لتلك الشباك غافلة عن الشباح”، لكن “أرواح الهمم لم تعلق قط بشباك لمشاهدتها الشباك قد ملأت شباك صفات فعله الأمكنة والأزمنة كما تنزهت ذاته عن الأزمنة والأمكنة”()، فهذا هو المطلوب من علو الهمة، المقصود بها الخروج من الحظوظ المادية التي تتقيد بأبعاد الزمان والمكان. والسالك لما ترقت روحانيته خرج عن صفات الناسوت وعلقت روحه بنعوت اللاهوت، وهذا ما أكده ابن عبيديس بقوله: “فمن رقي عن حظوظه تروحن، ومن رقي في حظوظه إلى لحوظه تمكن، فكان في حظوظه أخيذ لحظوظه، يأخذه الآمر أو أمره، قد استوى علنه وسره وغيبه وجهره”(). يرجع ابن عبيديس من سماء الروحانية إلى أرض العبودية، يرجع من عوالم الخيال والمثل إلى عالم المادة ومطالب الجسد، لكن على أساس الترابط والتراتبية التي تكون فيها الروح ومطالبها الأساسَ والبوصلة التي تنير الطريق وترسم المعالم وتحدد الصوى. ولما كان العالم هو الفضاء المادي الذي يسير فيه الإنسان السالك، فهو مدعو في نظر ابن عبيديس إلى رفع الهمة حتى تستوفي النعم منه، لكن إذا “ارتفعت الهمم وترقت الذمم وشوهد الملك في الملك وجبت الطاعة لتستدام النعم وترتفع النقم”()، فهنا يربط ابن عبيديس بين الطاعة والنعم، كما يوضح طبيعة الاِرتباط بينهما، بحيث إذا كان وجود النعمة مقرونا بالطاعة “ففائدة الطاعة التزحزح عن النار ودخول الجنة، وفائدة الأدب في الطاعة مشاهدة المطاع في الدنيا والآخرة”().
كما تبرز قيمة هذا الأصل في السلوك الصوفي عند ابن عبيديس في علاقته بالعلم، إذ يشير إلى ضرورة ترقي الهمة والاِرتفاع بالعلم إلى درجة العمل، مؤكدا على ذلك بقوله: “لابد مع هذا التحقق بالعلم أن يكون التخلق بالعمل، ثم بعد التحقق بالعلم والتخلق بالعمل تحقيق بإخلاص واختصاص وفناء في التوحيد عن الإخلاص والاختصاص برؤية من لا تبقى مع رؤيته عبارة ولا إشارة، ولا تبقى أيضا رؤية الفناء مع وجود إفناء الله وإبقاء”(). فعلى أساس الجمع بين الشريعة والحقيقة وبين العلم والعمل فإن ابن عبيديس لا يفوته التذكير برفع الهمة من الاِنشغال بالدنيا على الرغم من أهمية ذلك في تحصيل سبل المعاش، إذ يقول: “طلب المعاش سياسة للجسم، وطلب العلم سياسة للنفس: والنفس أشرف من الجسم لأنها لا تفنى والجسم يفنى، فالاِعتناء بالنفس أشرف وأحق”()، وإذا كانت النفس أعلى من الجسد فإن الله  أعلى من النفس والجسد وأشرف، والعلة في ذلك عند ابن عبيديس أن “الله  أعلى وجودا من الجسم والنفس، لأنه لم يزل باقيا ولايزال”()، لكن ولوجود علاقة بين الاِعتناء بالنفس والوصول إلى من تقدس يكون “الاِعتناء بطريق الله أولى ومعرفته في الدارين أعلى”().
–  الأصل الرابع : الحياء من الله
الأصل الذي بنى عليه ابن عبيديس مدار السلوك هو حديث جبريل المبرز لمراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان، كما بنى على أصل حديث شعب الإيمان الذي قال فيه : “والحياء شعبة من الإيمان”()، لذلك فابن عبيديس يتخذ من هذين الحديثين أصلا لبناء صرح طريقته، بناء مباشرا على أساس الكتاب والسنة، وقد أفصح عن ذلك من خلال استحضار كتاب”شعب الإيمان”() لعبد الجليل القصري، وكتاب”منازل السائرين”() للإمام الهروي، وهي إشارة منه وبيان للأصول التي يحاكيها، لذلك نجده جعل من الحياء أصلا من الأصول السلوكية لكونه مستغرقا لجميع شعب الإيمان.
للحياء عند ابن عبيديس مراتب يذكرها على الترتيب التالي:
• الحياء من الله في ترك المناهي كلها؛ يقول: “فيستحيي العبد من مولاه حتى يترك المناهي كلها”()، وهو حياء يحفظ به إيمانه من أن تشوبه المعاصي والذنوب.
• الحياء من الله في فعل الأوامر؛ يقول فيه: “حياء آخر أعلى من هذا، فيستحيي العبد من ربه حتى يفعل ما أمره به فرضا”() .
• حياء الفعل والترك لله؛ يقول فيه: “ثم حياء آخر أعلى من هذا وهو أن يترك ما نهى الله عنه، ويمتثل ما أمر به من حيث إنه نهي الله وأمر الله، لا من حيث هو منهي عنه أو مأمور به أو مذموم أو محمود، ومن النتائج القلبية لهذا الحياء أنه “يكسب الحرمة لله والتعظيم والهيبة”()، وهي من مقامات السلوك إلى الله تعالى، وهو ـ كما عبر عنه الشيخ الدقاق ـ “الحياء انقباض القلب لتعظيم الرب”().
• حياء التقرب بالنفل بعد الفرض؛ ومع هذا الحياء لا يبقى ـ يقول ابن عبيديس ـ “خوف ولا قبض ولا وحشة إلا بالإرجاع إلى النفس أو الغفلة عنه، وهو أن يستحي العبد من ربه حتى يتقرب بالنوافل بعد أداء الفرائض تركا وفعلا حتى يحبه الله كما نص في الحديث”()، فينتقل مع هذا الحياء إلى “الأنس والرضى والمحبة وكان الحال بسطا في بسط”().
• حياء لزوم الذكر؛ يقول فيه: “وحياء آخر أيضا عليّ، وهو لزوم الذكر، يستحيي العبد أن لا يغفل عن ذكر الله، فيلزم الذكر بقلبه ولسانه، وموارده السرور دون الحزن”()، فبعد ترك المناهي، وفعل المأمورات، والنظر إلى الناهي الآمر، والتقرب بالنفل بعد الفرض، يأتي لزوم الذكر مع الاِستغراق الزمني فيه مع عدم الغفلة، وهو انتقال إلى أعلى شعب الإيمان التي هي قول لا إله إلا الله.
• حياء البقاء والفناء؛ يقول ابن عبيديس: “وحياء آخر لا يبقى فيه عن ذكر الله، ولا يستطيع البقاء على ذكر الله مع رؤية ذكر الله في ذكره، فيحدث الله عن هذا الحياء فناء وبقاء، الفناء عن المذموم والبقاء بقاء بالمحمود، ثم الفناء عنهما للعبد والبقاء للرب”(). فهو يعطي للفناء معنى عمليا مرتبطا بالواقع الحسي.
• حياء رؤية الفضل؛ يقول فيه: “وحياء آخر عليٌّ أن يستحيي العبد من ربه كيف أهله لذكره أو جعله من أهل ذكره، ومن للميت أن يعامل الحي، ومن للمعدوم أن يذكر الموجود”()، وهذا الحياء هو الذي عبر عنه الإمام الجنيد عندما سئل عن الحياء فقال: “رؤية الآلاء ورؤية التقصير”().
• حياء ذكر الله للعبد الذاكر؛ يقول ابن عبيديس: “وحياء آخر عليّ وهو أن يستحيي من ربه كيف ذكره ربه وهو الغني، وأنى للغني بوجه أن يذكر الفقير بكل وجه.. إلى أن يحصل عن هذا الحياء خجلة العريان بين المكسوين، والجائع بين الشباع، والفقير بين الأغنياء، والقبيح بين أهل الجمال، والسيء الجار والجوار، والنجار بين أهل الشرف والمروءة”()، وهذه الخجلة هي من تجليات أهل المعرفة بالله، وفيها يقول ابن عبيديس: “وهذه خجلة أهل المعرفة بالله وبأنفسهم عند ذكر صفات أنفسهم في صفات سيدهم ومولاهم ومتولي أمورهم، والله أعلى وجودا وشهودا”().
وبهذا يكون الحياء مستغرقا لكل شعب الإيمان حتى يبلغ السالك مرتبة الإحسان وهي مرتبة أهل المعرفة.
–  الأصل الخامس : إحصاء الأسماء والصفات
مما تقرر عند علماء الإسلام بشاهد الحديث النبوي الشريف أن “لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة”. وهذا ما يؤكد عليه ابن عبيديس من ناحية التصور والاِعتقاد حيث يقول: “إن الحق سبحانه له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وهي كلها له واجبة بالسمع والعقل ويستحيل عليه أضدادها”(). إلا أن الصوفية كان لهم دائما تصور خاص للأسماء الحسنى والصفات العلى بخلاف التصور السائد عند علماء الكلام المرتكز على المنحى الجدلي، فالمدرسة أو المشرب الصوفي له تصوره الخاص لهذه القضية، يبرز من خلال الحضور القوي والمكثف لمعنى الإحصاء في سياق تمثل مدلولاته العملية والأخلاقية، فأسماء الله بالنسبة إلى ابن عبيديس، باعتباره صوفيا “كلها حسنى فهي معارج لعبيده”()، يتمثلونها في ذواتهم سلوكا ومنهاجا للتفكر والعمل حتى يحصل لهم الاِرتقاء من خلالها وبها، كما أن الخلق لهم “صفات على وأسماء حسنى بتحقيقهم في العلم وتخلقهم بالعمل، وتلك الصفات بالجملة أفعال مأمورون بها وخلق حميد، وهي لهم جائزة بالعقل ولا تستحيل عليهم أضدادها من حيث هي جائزة أيضا”().
لكن شتان بين صفات الحق وصفات الخلق لأن “صفات الخلق ممزوجة عدل وظلم، عز وذل، فقر وغنى، حياة وموت، علم وجهل، قدرة وعجز”، وصفات الحق بخلاف كل ذلك، لكنها صفات الخلق الحسنى في نظر ابن عبيديس و”معارج إلى الترقي لمعرفة صفاته ومحبته”()  .
بعيدا عن الجدل الكلامي فإن المقصود من استحضار الأسماء الحسنى والصفات العلى هو التطبيق العملي لكيفية الإحصاء، وهو ما يحاول ابن عبيديس التركيز عليه في بيان أصول طريقته الصوفية حيث يقول: “والمقصود من الكل الاتصاف بالصفات المحمودة شرعا وعقلا”()، فبقدر ما يحصل من الإحصاء لهذه الأسماء الحسنى يكون الشرف للمحصين لها، ودرجات الإحصاء لها متفاوتة جدا، لكن لكل إحصاء منها شرف حسب ابن عبيديس. وأما مراتب الإحصاء عنده فهي كالتالي:
• مراتب الإحصاء الثلاث الأولى: وهي المراتب الدنيا للإحصاء التي لا عناء فيها، وهي كتبها وشرحها وحفظها.
• المرتبة الرابعة للإحصاء: معرفة المعدود المراد بعددها وتعيين ذلك من الكتاب والسنة، وهذه الأطوار الأربعة الأولى بالنسبة إلى ابن عبيديس إنما هي “شرف إضافي بالنسبة إلى من جهل ذلك”().
• المرتبة الخامسة للإحصاء: معرفة ذلك اشتقاقا من اللغة.
• المرتبة السادسة للإحصاء: التخلق بما يصح منها للإنسان اتصافا به جائز لا واجب بالعقل بل واجب بالشرع أو مندوب بالشرع أو مندوب إلى ذلك الوصف بالشرع.
• المرتبة السابعة للإحصاء: معرفة سريانها في العالم كله. وهذا الإحصاء السابع أعلى المراتب، وأشقها على النفس استعمالا وتحليا.
–  الأصل السادس : التفويض والتسليم
يقابل هذا الأصل عند ابن عبيديس الاهتمام بالنفس وتدبير معاشها وشؤونها، والاشتغال بأمورها الدنيوية بالتفويض والتسليم. ويبدو جليا أن التفويض والتسليم عند ابن عبيديس الصوفي أحدُ الأصول التربوية السلوكية التي لا بد للمريد من العمل على تمثله والسلوك على منواله، لأنه لما كانت النفس هي أعدى أعداء الإنسان ـ  والنفس هي الأمارة بالسوء، وهي الشاغلة للإنسان عن الاشتغال بالمولى ـ  كان لزاما الاختيار الواضح بين التسليم والتفويض لله تعالى وبين الاِشتغال بالنفس والاهتمام بالمقادير المقدرة من فوق سبع سماوات. هكذا يخاطب ابن عبيديس مريديه ومرتادي طريقته، خطابا مباشرا لا عوج فيه، خطاب يطرحه للمريد الصادق لا مناص له من التفاعل معه بشكل مصيري، لأن الجواب من جهة الهمة والإرادة أمر مصيري أيضا، يقول ابن عبيديس إن المريد متى “أخذ عن حضرة الحق إلى حضرة الخلق أو عن حضرة الأنس بالله إلى الأنس بالنفس تحير وتغير وافتقر، وإذا رجع إلى مولاه صفا وافتخر”()، هذه أولى معالم الطريق يبسطها واضحة أمام المريد لكي يسلك إلى الله تعالى، ولاشيء أمامه سوى النفس وحضرتها الشاغلة عن حضرة الحق تعالى.
ولمزيد من إيضاح الفروق الجوهرية بين النفس والحق، ورفع الهمة إلى المعالي يقول ابن عبيديس: “فحضرة الحق جمال كلها نور كلها، وحضرة النفس وهم في وهم، ظن في ظن، ظلمات في ظلمات بعضها في بعض، لأنها لا وجود لها من نفسها، ولا تحصيل ولا قدرة على اتقاء إيحاشها ولا أنسها، ولا جلب غيمها ولا شمسها، لأنها مدبرة في تدبيرها مقدر ما تقدر في تقديرها، محتاجة أبدا إلى التبيين والتعليم، لا راحة لها إلا في التفويض والتسليم”()، لأن اشتغالها بشيء لم تخلق له خروج عن مقاصد وجودها، لذلك فلا راحة لها إلا في التفويض والتسليم، كما يقول ابن عبيديس، بل الأكثر من ذلك “فالاهتمام لها مما يقطعها عن الحق ويعلقها بالخلق”، فمسألة السلوك لا تقبل الثنائية، لأن حضرة الحق تغار على روحانية المريد أن تشاركها فيها غيرها، والنفس أول من يشارك حضرة الحق في الروح، لذلك فإن ابن عبيديس كان واضحا في هذا الأمر مشددا عليه وعلى خطورته في سلوك المريد إذ يقول: “أكثر ما يقطع الخلق عن الله  النفس، والاِهتمام لها يحجب العبد عن الله أن يريد غير ما أمر الله، أو يطلب غير ما قدر الله، أو يكون في غير ما أمر الله”()، فالنفس دائما تسير في غير مراد الله، وتأخذ الإنسان في غير إرادة صلاحه. من هذا المنطلق كانت دعوة ابن عبيديس إلى اليأس من النفس تأخذ مشروعيتها، حيث يقول: “من يئس من نفسه لجأ إلى الله”()، نتيجة قطعية لا محالة، ونتيجة مبنية على مقدمة أساسية متى أحكمها المريد أفلح وكان على هدى في سلوكه إلى الله تعالى، على هدى منه لأن من “خرج عن نفسه اختيارا أو تدبيرا وإرادة لاختيار الله وتدبير الله وإرادة الله”()، انعدمت بينه وبين الحق الحجب المانعة من الوصول إلى الله تعالى وتجلى له الله، فكان “بلا كون لمشاهدة المكون وتكوينه في الدنيا والآخرة”().
إن أهم محك يختبر فيه المريد تسليمه وتفويضه هو محك الأقدار، حيث تتعاوره أقدار السراء والضراء، “والمومن يسجد لله في السراء وكراهة في الضراء، وباطنه في جنة المحبة لله والثناء على الله”()، لكنه إذا ارتقى إيمانه فإنه “يكون في جنة الرضى عن الله، فتتساوى لديه الضراء والسراء والشدة والرخاء”(). أما إذا ارتقى السالك من إيمانه إلى إيقانه فإنه “يتلذذ بالبلوى، وتنعدم منه الشكوى، ويتنعم بالنجوى، وكل ذلك في الدنيا موافقة لما يرضاه المولى، وفي الآخرة جنة المأوى”()، حتى يبلغ من ذلك غاية التسليم والتفويض، ويصير موحدا خالصا على رأي أهل التصوف في التوحيد كما قال ابن عبيديس: “والتوحيد عند أهل التصوف فناء عن رؤية الأعمال بعد إيجاد الله لها في العبد الفاني عن رؤيتها برؤية منة الله”()، فلا ينظر لا إلى صبره إن كان في جنة المحبة، ولا إلى تساوي الأقدار إن كان في جنة الرضى، ولا إلى التلذذ بالبلوى حتى ينعدم منه الإحساس بقدر الله، وبسرائه وبضرائه فلا يبقى إلا الله “الذي أفلس العالم كله حقه حتى لم يبق لأحد حق إلا من أجله”().

لعل هذه الجملة من الأصول التي عرضنا لها في هذه المقالة تسلط الضوء على نموذج من نماذج التصوف التي عرفها بلاد الأندلس التي ترتكز في بناء السلوك الصوفي على أساس الكتاب والسنة، ولا تخرج في مجموعها عن الأصول المتعارف عليها في التجربة الصوفية كما عرفتها في بداياتها الأولى مع الإمام الجنيد وغيره من كبار الصوفية، بل إن متابعة هذه الأصول في مخطوط ابن عبيديس “نزهة الألباب في صفات الأحباب” يعطي اليقين أن التجربة الصوفية كما عرفها الأندلس في القرن السابع الهجري مع ابن عبيديس وغيره لم يتم عرضها وتقديمها من قبل المهتمين بالتصوف في هذه المرحلة بالشكل المطلوب، حيث نجد عناية الباحثين قد صرفت إلى دراسة تجربة واحدة وخطاب واحد متعلقين بالتصوف في بلاد الأندلس. لكن الحقيقة التي تعبر عنها التصوف في هذه الفترة التاريخية تجعلنا نعيد النظر في تصورنا عن تصوف هذه المرحلة إن لم يحصل لنا اليقين. لذلك أعتقد أنه من المفيد جدا أن تتم العناية بشكل كبير بهذه المرحلة التاريخية من التجربة الصوفية على الأقل لكي يتقلص الانطباع السائد الذي يفيد أن الخطاب الصوفي الفسلفي هو المهمين على التجربة الصوفية في هذه المرحلة.
بيبليوغرافيا
    •    الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين ابن الخطيب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 2001م.
    •    إحياء علوم الدين، الغزالي أبي حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي، دار صادر، بيروت، 2000م.
    •    إيضاح المكنون، الحسن بن عبدالله بن محمد بن عمر العباسي المصرى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د ط، د ت.
    •    إيقاظ الهمم في شرح الحكم، أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، المكتبة الثقافية، بيروت، د ط، د ت.
    •    بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أ إبراهيم، مطبعة عيسى الحلبي، ط1، 1964م.
    •    الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، ابن فرحون المالكي، تحقيق:الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، مصر، د ط، د ت.
    •    الرسالة القشيرية، عبد الكريم القشيري، تحقيق معروف رزيق دار الجيل بيروت، ط2، 1990م.
    •    طبقات الأولياء، ابن الملقن، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1998م.
    •    عنوان الدراية، أبو العباس الغبريني، تحقيق: عادل نويهض، لجنة التاليف والترجمة والنشر، بيروت، ط1، 1969م.
    •    قواعد التصوف، ابو العباس أحمد بن محمد زروق، دار الجيل، ط1، 1992م.
    •    المعزى في مناقب أبي يعزى، احمد بن أبي القاسم الهروي، تحقيق: احمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2006م.
    •    منازل السائرين إلى الحق جل شأنه، ابو إسماعيل الهروي الأنصاري، مطبعة مصطفى البابي، مصر، ط2، 1966م.
    •    نزهة الألباب في صفات الأحباب، دراسة وتحقيق د. هشام حجاج، أطروحة مرقونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس، 2009-2010.
    •    هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل باشا البغدادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د ط، 1955م.
    •    الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي أيبك، دار صادر، ط2، 1991م.