الرئيسية / افتتاحية ندوة الشورى.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : افتتاحية ندوة الشورى.

الكاتب(ة) : +

عدد من البحوث المقدمة حاول الاقتراب من الموضوع الذي يعبر عنه، عنوان الندوة، ولكن يبدو أن عقدة العقد فيه ما تزال عصية عن التحليل وعن إمكانية التفكير في مراجعتها، وتجاوز التنظير المجرد إلى البحث عن الصياغة القابلة للمناقشة والتطبيق.
الموضوع الأساس المرغوب في مناقشته، وتبادل الرأي فيه بهدف طرح أفكار ومقترحات ممكنة التطبيق والتنفيذ ـ هو تدبير الشئون العامة لحياة المجتمع وضبط علاقات التعايش بين أفراده وهو ما كان يطلق عليه قديما مصطلح “المعاملات” ويمكن أن يعبر عنه اليوم بتنظيم الحياة المدنية للمجتمع.
موضوع أضحى منبتا للفتنة، ومعول هدم وتفتيت لطاقات المجتمعات الاسلامية وإرادتها، وجرحا غائرا دائم النزيف … وذلك بالرغم من كون الفكرة المحورية فيه تبدو عناصر الائتلاف فيها أقوى من عناصر الاختلاف. ويؤكد ذلك أن الاتجاه العام للمجتمع الاسلامي يرى:
ـ الاحتكام إلى الشريعة وعدم تجاوزها إلى غيرها.
ـ مع كثرة الأحكام التفصيلية في المراجع الفقهية التي تجاوزت الوقائع الممكنة إلى افتراضات مستحيلة الحدوث ـ تأكدت ضرورة:
* التعديل لبعضها على الأقل مراعاة لملابسات الواقع وظروفه.
* الإضافة لأحكام أخرى لما استجد من أوضاع وعلاقات لم يكن لها وجود من قبل.
    ـ الحكم الاجتهادي ظني ومرتبط بحكمته التي تدرك بالعقل () وهي تحقيق مصلحة أو درء مفسدة. ولذلك: الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، والحكم مرتبط بمآله في التطبيق، وهو ما يعني أن الأحكام الاجتهادية قابلة للتعديل والتغيير.
ـ ما تقرره المؤسسات التمثيلية المعاصرة هدفه تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
ـ “المجتهد” الذي ينظﱠر له في أصول الفقه لم يتفق على وسيلة عملية لوجوده، ولو وجد ـ جدلا كما يقول الفقهاء ـ ما استطاع الجواب عن كل ما يتطلبه تنظيم مجتمع اليوم.
ـ قدمت عدة اقتراحات لما سمي بالاجتهاد الجماعي كما أثير الاجتهاد المقاصدي، ولكن تعذر تطبيق أي واحد منها. والسبب انها جميعها بقيت حبيسة “الطائفة” و”التخصص المعرفي” وأهملت الجانب التمثيلي الذي لا يريد مجتمع اليوم عنه بديلا.
لهذه الأسباب ولما آل إليه الجدل حول “أحكام الشريعة” و”القانون الوضعي” اقترحت مؤسسة دار الحديث الحسنية موضوع إمكانية تطبيق الشورى والاستشارة في التجربة المعاصرة ساعية بذلك إلى تحقيق هدفين:
الأول: التمييز بين الشورى والاستشارة وتجاوز القراءة التي وحدت مفهوم المصطلحين وذلك بإبراز عناصر “الشورى” التي تفصلها جوهريا عن “الاستشارة”.
والثاني: الكشف عن العناصر الجامعة بين “الشورى” وبين “مؤسسات التجربة المعاصرة” وكيف يمكن علاج ما قد يكون بينهما من الاختلاف سواء في البناء والشكل أو في الأداء والجوهر.
جاء في بيان لجامعة الأزهر وجماعة من المثقفين المصريين مؤرخ في 19 يونيو 2011 حول ما يجب أن يقوم عليه بناء الدولة:
” أولا: دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد دستورا ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب بما يتوافق مع المفهوم الاسلامي الصحيح حيث لم يعرف الاسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه، ما يعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية … بل ترك للناس حرية إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الاسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع …
ثانيا: ـ اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الاسلامية بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات، ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وتوخي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شئون الدولة بالقانون ـ والقانون وحده ـ … “.
ان ما جاء في هذا البيان يبدو خطوة متقدمة في سبيل تجسير الهوة المظنون وجودها بين نظام الشورى وبين النظام الدستوري الحديث ومع ذلك يبقى ما ورد في البيان مثيرا لسؤالين أساسيين هما:
ـ هل ستكيف جامعة الأزهر مضمون التكوين فيها بما ورد في هذا البيان أم يبقى على نمطه الحالي الذي لا يعترف بالصفة الشرعية إلا للأحكام المدونة في المراجع الفقهية المذهبية، ويصنف كل ما تصدره المؤسسات الدستورية القائمة بـ “القانون الوضعي” بالدلالة التي لا تحتاج إلى بيان ؟.
ـ اشتراط توافق التشريع “مع المفهوم الاسلامي الصحيح” و”ان تكون المبادئ الكلية للشريعة الاسلامية هي المصدر الأساس للتشريع” ليس موضوع معارضة من الأغلبية الساحقة على الأقل. لكن يبقى التساؤل عمن له صلاحية الحكم على أي تشريع بأنه موافق أو مخالف للإسلام الصحيح، أو لمبادئه الكلية ؟.
هنالك من المعاصرين من اقترح تكوين ” هيئة عليا من الفقهاء المتضلعين في أحكام الشريعة وأدلتها ومقاصدها، والمطلعين على أحوال العصر وتياراته لمراجعة كل قانون جديد يصدر من الجهات المختصة، لإقراره بمقتضى الشرع أو إلغائه إن خالف نصا أو قاعدة “.
ويبدو حظ هذا الاقتراح في التطبيق ضئيلا لسببين:
الأول: المآسي التي خلفها التاريخ الذي كانت الكنيسة تتولى فيه حراسة الدين في الحياة العامة، وحتى تاريخ المجتمعات الاسلامية لم يخل من عشرات حوادث السجن والتعذيب والقتل عن أفكار اعتبرتها فتاوى “علماء” زندقة أو مروقا من الدين.
وصاحب الاقتراح الذي أشرنا إليه هو نفسه يقول:” ان جهاد الكفار والإلحاد والعلمانية والتحلل وما يسندها من قوى داخلية وخارجية هو الآن فريضة العصر وواجب اليوم “.
والثاني: ميل الأغلبية المطلقة من “العلماء” إلى التمسك بأحكام السابقين التي أنتجت في ظروف اجتماعية مغايرة، ولا يقدمون اجتهادات تراعي كليات الشريعة ومقاصدها، والنصوص الثابتة ولا تهمل ملابسات الواقع وحاجاته المتجددة، ويؤكد ذلك ما يقدم في مؤسسات التكوين باسم “فقه المعاملات”.
نعم ان مؤسسات التجربة المعاصرة ليست بريئة من النقد وفي مقدمتها البرلمان الذي توضع بين يديه صلاحية التشريع. فبالنظر إلى طبيعة تركيبه المتأثر بالولاء الحزبي والايديولوجي، يمكن ان يصدر منه ما لا ترتضيه أغلبية المجتمع.
وفي هذه النقطة بالذات يمكن أن نستفيد من تجربة الغرب: ()
فردا على ما عاناه من الاستبداد اعتبر النظام النيابي غاية الإصلاح والصلاح واعترف بالسلطة المطلقة للبرلمان حتى قيل ان له أن يفعل كل شيء ما عدا أن يحول الرجل إلى امرأة أو العكس. غير ان الاعتراف بالسمو المطلق للقانون لم يدم طويلا بعد أن لوحظ تطاول بعض مقتضياته على الدستور، وهذا ما دفع أغلبية الدول إلى إحداث محكمة دستورية عهد إليها بمراقبة القوانين التي يصدرها البرلمان وإلغاء ما قد يكون منها مخالفا للدستور.
والشريعة أي نصوص الوحي هي الدستور الأسمى لكل مجتمع مسلم، فيكون من المرغوب فيه وجود هيئة يرجع إليها في ما قد يدعى من مخالفة ما لتلك النصوص، على أن يتم الانتداب الدوري لأعضائها من المتوفرين على تجربة ورصيد معرفي يقرؤون بهما نصوص الوحي في ظل قيمها العليا وظروف الواقع وملابسات الحياة المعيشة، وليس من الذين لا يحسنون إلا حكاية تفسيرات كانت لها ظروفها الاجتماعية والزمنية الخاصة وإلباسها لبوس الشريعة التي لا تغيير فيها ولا تبديل.
وأخيرا نأمل أن يثير موضوع “مجالات تطبيق الشورى والاستشارة في التجربة المعاصرة” مزيد الاهتمام من الباحثين :
1 ـ لتدقيق التمييز بين “الشورى” وبين “الاستشارة”.
2 ـ لتقديم أفكار ناضجة وعملية عن “الشورى” تجعل منه نظاما مؤسسيا يستجيب لثقافة المجتمع الحديث ويلبي له حاجاته، وينهي ثنائية “أحكام الشريعة” و”القانون الوضعي” وفي ذلك فليتنافس المنافسون.

أحمد الخمليشي

في 5 ماي 2012