الرئيسية / الفروق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية وأثرها في توجيه الاجتهاد التنزيلي.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : الفروق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية وأثرها في توجيه الاجتهاد التنزيلي.

الكاتب(ة) : د. عبد الرزاق وورقيــــــة

إن موضوع تمييز أحوال النبي  ذو أهمية عظيمة في مجال التشريع الإسلامي، فإذا كانت السنة هي الأصل الثاني للأحكام بعد كتاب الله، وكان النبي  هو صاحب الشريعة المكلف بتنزيلها، فإن ما صدر عنه من تصرفات أقوالا وأفعالا وتقريرات في حاجة إلى عملية تمييزية، لتحديد الجانب التشريعي المقصود بالتكليف بالنسبة لأمته (ﷺ)، فمن المعلوم أنه ليس جميع ما صدر عنه موجبا للاتباع التكليفي، فمما صدر عنه نجد التصرف الجبلي، والتصرف الخصوصي، وكذا التصرف في الأمور الدنيوية المحضة، ولم تكلف الأمة بهذه الأنواع كلها، وإنما كُلّفت بما صدر عنه (ﷺ) على سبيل التشريع، وهو الذي يشكل غالب السنة الصادرة عنه (ﷺ)، إلا أنها بدورها تتنوع أيضا إلى أنواع مختلفة تبعا لاختلاف الأوصاف التي صدرت عنها، فقد تصرف النبي (ﷺ) على سبيل التشريع بوصفه رسولا مبلغا، وبوصفه قاضيا حاكما، وبوصفه إماما أعظم، وكل نوع من هذه التصرفات كانت له مقتضيات تشريعية خاصة.
ونظرا لتوقف كثير من الفروع الفقهية والفوائد التشريعية على التمييز بين هذه الأوصاف النبوية، ارتأيت في هذا البحث دراسة الفروق المميزة بينها وتتبع آثارها على فقه تنزيل الأحكام، وبناء على ذلك سوف أتطرق في هذا العرض للتصرفات النبوية التشريعية من حيث المفهوم والأنواع والفروق فيما بينها، مع بيان آثارها على الاجتهاد التنزيلي، ويمكن بسط هذه المسائل في أربعة مطالب:
    •  المطلب الأول: التصرفات النبوية التشريعية وأنواعها.
    •  المطلب الثاني: الاجتهاد التنزيلي مفهومه ومناصبه.
    •  المطلب الثالث: الفروق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية.
    •  المطلب الرابع: أثر الفروق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية في توجيه الاجتهاد التنزيلي.
المطلب الأول :
التصرفات النبوية التشريعية وأنواعها.
1 – مفهوم التصرفات النبوية التشريعية :
هذا الضرب هو معظم السنة الصادرة عن النبي (ﷺ) لأنه كلف أصلا ببيان التشريع لقوله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾() وقد وضح هذا الإمام الشافعي في “الرسالة” فنص على أن من «جماع ما أبان الله لخلقه في كتابه… ما سنَّ رسول الله (ﷺ) مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله (ﷺ) والانتهاء إلى حكمه فمن قبل عن رسول الله  فبفرض الله قبل»().
ذلك أن الله تعالى قال: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾() وقال عز وجل: ﴿وأتِموا الحج والعمرة للّه﴾() «ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض من الصلوات ومواقيتها وسننها وعدد الزكاة ومواقيتها، وكيف عمل الحج والعمرة، وحيث يزول هذا ويثبت، وتختلف سننه وتتفق…»().
وهكذا في كل التكاليف المجملة في القرآن الكريم فهي مبينة بتصرفات صاحب الشريعة  الذي جعله الله «عَلَمًا لدينه بما افترض من طاعته وحرم من معصيته وأبان من فضيلته، بما قَرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به»().
وانتهى الشافعي إلى القول بأن: «سنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد: دليلا على خاصه وعامه»().
وقد ميز الأصوليون في حديثهم عن السنة بين الأقوال والأفعال فألحقوا الأقوال بمبحث الكتاب، من حيث كيفية استنباط الأحكام الشرعية فما كان أمرا أعطي دلالة الأمر وما كان نهيا أعطي دلالة النهي فطبقت على الألفاظ الصادرة عن النبي (ﷺ) قواعد العربية التي طبقت على كلام الله لبيان الأحكام ومراتبها وأوصافها. فمثلا إذا صدر عن صاحب الشريعة أمر حمل على الوجوب ما لم يصرفه صارف من دليل أو قرينه عن هذا الوجوب…
إلا أن أفعاله (ﷺ) خصص لها الأصوليون مبحثا خاصا بها لاختلافهم في دلالتها على التشريع. فما كان من تصرفاته (ﷺ) الجبلية فعلى الإباحة بالنسبة له ولأمته، وما كان من خواصه فلا يشاركه فيه أحد، وما كان بيانا منه (ﷺ) لأمته فعلى سبيل التشريع:
والمقرر عند الأصوليين أن «ما عُرِفَ كون فعله بيانا فهو دليل من غير خلاف»() وقد حدد سبل معرفة ذلك:
منها: صريح مقاله: كقوله (ﷺ): “صلوا كما رأيتموني أصلي”() وكقوله: خذوا عني مناسككم().
والأفعال المبينة بهذا السبيل في حكم الأعلام وإنما المتبع هنا الأقوال().
ومنها: قرائن الأحوال: «وذلك كما إذا ورد لفظ مجمل، أو عام أريد به الخصوص، أو مطلق أريد به التقييد، ولم يبينه قبل الحاجة إليه، ثم فعل عند الحاجة فعلا صالحا للبيان، فإنه يكون بيانا حتى لا يكون مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة وذلك كقطعه يد السارق من الكوع، بيان لقوله تعالى: ﴿فامسحواْ بوجوهكم وأيديكم﴾() ونحوه. والبيان تابع للمبين في الوجوب والندب والإباحة»().
هذا في التصرفات التي عرفت كونها بيانا، أما التصرفات غير الجبلية وغير الخاصة بصاحب الشريعة، والتي لم تعرف كونها بيانا لا نفيا ولا إثباتا، قسمها الأصوليون إلى قسمين:
أحدهما: ما ظهر قصد القربة فيه فاختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: ذهب جماعة من المعتزلة والحنابلة وابن سريج (ت306هـ) وابن أبي هريرة (ت345هـ) والباجي() إلى أن هذا النوع من الفعل محمول على الوجوب في حقه وحقنا واستدلوا بأدلة منها: قوله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه﴾() وفعله من جملة ما يأتي به، فكان الأخذ به واجبا().
واستدلوا كذلك بإجماع المسلمين: «قبل اختلاف الآراء على أنه يجب على الأمة التأسي برسولها ومتابعته، ومن متابعته أن يوافق في أفعاله»().
والمذهب الثاني: ذهب أصحابه إلى القول بالندب في حقه وحقنا: وهو قول الشافعي واختيار الجويني (). وقول بعض المالكية().
والمذهب الثالث: قال أصحابه بالوقف وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالصيرفي والغزالي وجماعة من المعتزلة().
وأما القسم الثاني من التصرفات التي لم تظهر دلالتها على البيان ولم يظهر فيه قصد القربة، فقد اختلف الأصوليون في حكمه على نحو اختلافهم في القسم الأول بين القول بالوجوب والندب والإباحة والوقف، والمختار كما عند إمام الحرمين والآمدي أن التصرف النبوي الفعلي الذي لم يظهر كونه بيانا ولم يقصد القربة فيه، هو «دليل في حقه على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير وكذلك عن أمته»(). والمستند فيما ذهبا إليه هو «أن أصحاب رسول الله (ﷺ) لو اختلفوا في حظر أو إباحة، فنقل الناقل في موضع اختلافهم فعلا على المصطفى، لفهموا منه أنه لا حرج على الأمة في فعله»().
وإذا تبينت أضرب القسم التشريعي البياني من التصرفات النبوية بقيت الإشارة إلى أن هناك ضربا مترددا بين الجبلي والتشريعي كالحج راكبا «والظاهر أن يلحق بالجبلي لأن الأصل عدم التشريع فلا يستحب لنا، ويحتمل أن يلحق بالشرعي لأن النبي (ﷺ) بعث لبيان شرعيات فيستحب لنا»().
ومما يلحق أيضا بالتصرفات النبوية التشريعية تقريرات النبي ، وتتصور فيما «إذا فعل واحد بين يدي النبي (ﷺ)، فعلا، أو في عصره، وهو عالم به قادر على إنكاره، فسكت عنه وقرره عليه من غير نكير عليه»().
هذا النوع من التصرفات لا يخلو من حالين(): أحدهما: أن يكون صاحب الشريعة قد عرف قبح ذلك الفعل وتحريمه من قبل: وفي هذه الحال إما أن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله وعُلِم من النبي (ﷺ) الإصرار على قبح ذلك الفعل وتحريمه، كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم… أو لم يكن ذلك. فإن كان الأول: فالسكوت عنه لا يدل على جوازه وإباحته إجماعا ولا يوهم كون التحريم منسوخا().
وإن كان الثاني: فالسكوت عنه وتقريره له من غير إنكاره يدل على نسخه عن ذلك الشخص، وإلا لما ساغ السكوت لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الحال الثاني: أن لا يسبق النهي والتحريم من صاحب الشريعة عن ذلك الفعل ولا عرف تحريمه، فسكوته عن فاعله وتقريره له عليه ولاسيما إن وجد منه استبشار وثناء على الفاعل، فإنه يدل على جوازه ورفع الحرج عنه، لأن الرسول (ﷺ) لا يسكت على المنكر().
ويلحق بتقريرات صاحب الشريعة ـ زيادة على ما أورده الأصوليون ـ الإضافة التي جاء بها أهل المقاصد في المسلك الرابع للكشف عن مقصد الشارع أي سكوت النبي (ﷺ) عن الحكم، وقد قسمه الشاطبي إلى ضربين():
أحدهما: سكوته (ﷺ) عن الحكم حيث لا داعية تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله، كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله (ﷺ) فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها.
وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم: كجمع المصحف، وتدوين العلم، وتضمين الصناع،… فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال، فالقصد الشرعي فيها معروف() أي من مسالك أخرى كالاستقراء والقواعد الكلية الثلاث الضرورية والحاجية والتحسينية، فلا يقال هذه أمور سكت عنها صاحب الشريعة فلو كان قاصدا إباحتها أو تشريعها لتكلم بذلك وعليه فمن فعلها بعده فقد ابتدع فالجواب أن هذه الأمور لم تفعل في وقته ولم يقم داع يقتضيها في زمانه كي يعتبر سكوته أصلا للمنع.
والضرب الثاني: هو سكوته (ﷺ) عن الحكم وموجبه المقتضي له قائم، دون تقرير أي حكم ـ عند نزول النازلة ـ زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب، السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص… وقد مثل الشاطبي لهذا الضرب بمسألة سجود الشكر في مذهب مالك().
وخلاصة هذا التفصيل  تتبين من خلال ما ورد في هذا المطلب أهمية التمييز بين تصرفات صاحب الشريعة، ذلك أن المجتهد عليه أن يعرف أوصاف الأفعال والأقوال والتقريرات الصادرة عن النبي (ﷺ) وأسباب ورودها ومراتبها كي يتسنى له معرفة الجواب المناسب للمناط المناسب وهذا أصل عظيم في فقه تنزيل الأحكام. ولكي يكتمل ضبطه لابد من إيراد تقسيم آخر للتصرفات النبوية أثاره الأئمة المجتهدون وقعَّده أهل المقاصد فيما بعد: مفاده أن صاحب الشريعة في بيانه التشريعي لم يتصرف بوصف واحد، بل قد تصرف بوصف الإمامة، وتصرف بوصف الفتيا، وتصرف بوصف الرسالة والتبليغ، كما تصرف بوصف القضاء.
ولما كانت هذه التصرفات أصولا لمناصب الاجتهاد التنزيلي وكانت ذات أثر فقهي عظيم، كان لزاما علينا في هذا البحث أن نجري لها ذكرا وتفصيلا. وهذا ما ستتضمنه الفقرة الآتية.
2 – أنواع التصرفات النبوية التشريعية :
لما تقرر فيما سبق أن التصرفات النبوية منقسمة إلى التشريعي وغيره، تمهد السياق للكلام عن أقسام التصرفات التشريعية بحسب الأوصاف الصادرة عنها.
وأول من أثار هذه القضية الأئمة المجتهدون في سياق اختلافهم حول مسائل فقهية كإحياء الأرض الموات، وسلب القتيل، ومسائل أخرى اختلفوا في الحكم الذي نص عليه الرسول (ﷺ) بصددها: هل هو تصرف بالفتيا أم بالسلطنة أم بالقضاء. وقرروا نتيجة ذلك أن «النبي (ﷺ) يتصرف بالفتيا والسلطنة، وكل من الأمرين ناشئ عن الله تعالى، فإنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى»().
هكذا أثيرت هذه القضية عند المتقدمين، إلا أن شهاب الدين القرافي رحمه الله تنبه لهذه المسألة وعمق البحث فيها، وأفرد لها كتابا سماه “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام”، ويعتبر بهذا أول من قعَّد هذه المسألة تقعيدا ميز به بين أنواع تصرفات صاحب الشريعة التشريعية، ومن جامع كلامه في هذا الصدد قوله: «اعلم أن رسول الله (ﷺ) هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم، فهو (ﷺ) إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته، فهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة. غير أن غالب تصرفه (ﷺ) بالتبليغ، لأن وصف الرسالة غالب عليه، ثم تقع تصرفاته منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا، فمنهم من يغلب عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى..»().
وقد ذهب العلامة بدر الدين الزركشي ت794هـ إلى مثل ذلك بقوله في “البحر المحيط”: «تصرفاته (ﷺ) () تنحصر فيما يكون بالإمامة، والقضاء والفتوى»().
وذهب العلامة ابن عاشور من المحدثين إلى توسيع دائرة هذه الأقسام من حيث عد اثني عشر حالا، منها ما وقع في كلام القرافي ومنها ما لم يقع، وهي: «التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرد عن الإرشاد»().
والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن هذا توسيع من ابن عاشور لا غير، لأن هذه الأنواع كلها خادمة للتشريع، لأن النبي (ﷺ) بعث صاحب شريعة، والتقسيم الذي قرره القرافي هو أضبط للأوصاف التي صدر عنها هذا التشريع. ونفصّل فيما يلي الكلام عن كل وصف من هذه الأوصاف على حدة، مبينين بعض الآثار الفقهية المترتبة عن التمايز بين هذه الضروب، وكذا انتهاض هذه الأوصاف أصولا لمناصب الاجتهاد التنزيلي.
أ – تصرف صاحب الشريعة بالرسالة والفتيا :
  بالنسبة للتصـرف الرسالي، فالرسول: إنسان بعثه الله إلى الخلق لتبليغ الأحكام(). وقد ثبت في
علم العقائد أن الرسول مأمور بتبليغ الشرع الذي أوحى إليه()؛ لذلك قال الله تعالى: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزِل إليك من ربك﴾(). فالأساس الذي قام عليه التصرف بالرسالة هو التبليغ عن الله، قال القرافي موضحا: «وتصرفه (ﷺ) بالتبليغ هو الرسالة، والرسالة هي أمر الله تعالى له بذلك التبليغ، فهو (ﷺ) ينقل عن الحق للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى، فهو في المقام مُبلِّغ وناقل عن الله تعالى»().
وبهذا يكون تصرف النبي (ﷺ) بوصف الرسالة شاملا لما سواه من التصرفات التشريعية، أو بالتدقيق: الرسالة هي كل ما أمر الرسول بتبليغه للناس من تشريعات وعلوم وأخبار… وهذا مضمون الكتاب والسنة، لذلك فالفئة التي ورثت عن رسول الله (ﷺ) هذا المقام «المحدثون رواة الأحاديث النبوية، وحملة الكتاب العزيز لتعليمه للناس»(). وأضف إلى ذلك كل من تولى تعليم العلوم المنبثقة عن هذين الأصلين الخادمة لهما، وفي هذا تأصيل لعمل العلماء والمدرسين والمصنفين والمؤلفين القاصدين تبليغ الشرعيات وما يخدمها.
وأما بالنسبة لتصرف النبي (ﷺ) بالفتيا، فقد قال القرافي: «إن تصرف رسول الله (ﷺ) بالفتيا هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك وتعالى…»(). وقد كان الرسول (ﷺ) يستفتى ويُفْتِي يعني يسأله الصحابة رضوان الله عليهم عن الحكم الشرعي في النازلة فيجيبهم أي يخبر عن الحكم المناسب لها وقد ذكر الله تعالى استفتاء الصحابة في القرآن فقال (ﷺ): ﴿ويستفتونك في النساء﴾().
قال الراغب: «والفتيا الجواب عما يُشْكَلُ من الأحكام»().
وهكذا كان صاحب الشريعة يُفتي جوابا على استفتاء أو بغير استفتاء قائما بمنصب الفتوى ومؤسسا لمشروعيته لمن بعده من المجتهدين. وقد قال ابن القيم كلاما حسنا في هذا نورده بطوله: «وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، فكان يُفْتِي عن الله بوحيه المبين… فكانت فتاويه (ﷺ) جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا…
«ثم قام بالفتوى بعده برك الإسلام وعصابة الإيمان وعسكر القرآن وجند الرحمن أولئك أصحابه  ألين الأئمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأحسنها بيانا، وأصدقها إيمانا وأعَمَّها نصيحة وأقربها إلى الله وسيلة…»().
وذكر صاحب الإعلام بعد هذا، أن الذين حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مائة ونيف وثلاثون نفسا بين رجل وامرأة()، ويمكن أن يجمع من فتاوى كل واحد منهم سفر ضخم().
وإذا تبينت كلا من الرسالة والفتوى وظهر أنهما تشتركان في أن كليهما تبليغ وإخبار عن الله إلا أن هناك فرقا بينهما، إذ الرسالة أشمل وأعم()، فالفتيا جزء من الرسالة، بل وسيلة من وسائل تبليغ بعض ما جاءت به الرسالة، لذلك فالفتيا أخص لكونها إخبارا بالحكم الشرعي فقط بعد استفتاء أو سؤال أو ما أشبههما من الأسباب والمناطات التي ترد عليها الفتيا.
ب – التصرفات النبوية بوصف القضاء :
ومن التصرفات النبوية التشريعية قضاؤه (ﷺ) ذلك أن من بين جوانب رسالته فصله بين المتخاصمين والمتشاجرين حتى قال الله تعالى في هذا: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾().
فالمكلفون لما لم يكونوا على وزان واحد من الإيمان والانضباط للشرع فإنه تقع مخالفات ومنازعات حول الأنفس والأموال والأعراض والدماء وباقي أصول المعاملات، هذه المنازعات تحتاج إلى فصل وحد للخصام المؤدي إلى التهالك وتفويت الحقوق، لذا كان القضاء لازما لأداء هذا الغرض الجليل. والرسول (ﷺ) بصفته صاحب الشريعة العادلة تصدى لهذا المنصب، فنقل العلماء أقضيته وأحكامه، وكانت أصلا في شرعية هذه الخطة الدينية. وقد حاول أحد أئمة المالكية ابن فرج الطلاع القرطبي (ت497هـ) جمع الأقضية النبوية فأتى على أهمها في مؤلف نفيس رتبه حسب الأبواب الفقهية.
هذا وإن العلماء الأجلاء لما تطرقوا لتصرف النبي (ﷺ) بوصف القضاء: عرفوا الحكم القضائي النبوي وقالوا: «الحكم إنشاء وإلزام من قبله  بحسب ما يسنح من الأسباب والحجاج»().
ولبيان كيفية قضائه (ﷺ) سوف نورد في خاتمة هذه الفقرة بعض الأمثلة من أقضيته (ﷺ) فمنها:
ـ ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير قال: «خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج من الحرة، فقال النبي (ﷺ): يا زبير اسق ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله إن كان الزبير ابن عمتك. فتلون وجه النبي (ﷺ) ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء. فاستوفى النبي (ﷺ) للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه  الأنصاري، كأنه أشار إليه بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: ما أحسب هذه الآيات نزلت إلا في ذلك: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم﴾()»().
ومنها ما رواه الإمام مالك أن «ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله (ﷺ): أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار. وأن ما أفسدت المواشي بالليل، ضامن على أهلها»().
ومن هذا النمط المروي عن صاحب الشريعة كثير، وكتب الفقه طافحة به، وقد خصص له الأئمة المجتهدون مباحث مستقلة ضمن مصنفاتهم عنونوها بـ”كتاب الأقضية”، ومنهم من أفرد له التأليف كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ت – التصرفات النبوية بوصف الإمامة :
ومن جوانب تصرفاته (ﷺ) التشريعية تصرفه بوصف الإمامة، إذ هو كما عبر القرافي: «وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء»().
فتصرف صاحب الشريعة بهذا الوصف يتعلق بتدبير الشأن العام من جلب المصالح العامة للأمة ودرء المفاسد العامة عنها. ذلك أن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة وقتل الطغاة وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس() من وظائف ومهمات أمير الدولة وما يتفرع عنها، وهذا النوع من التصرف النبوي يتميز عن التصرف بالفتوى وعن التصرف بالحكم، ذلك أن الفتيا ـ كما مر ـ «مجرد الإخبار عن حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة، وتحقق الحكم بالتعدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة»() التي هي من اختصاص المتصرف بالإمامة.
وقد لخص العلامة ابن الشاط (ت723هـ) في تهذيبه للفروق() الكلام عن هذه المناصب فقال: «إن المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى وتصرفه هو الرسالة، وإلا فهو المفتي وتصرفه هو الفتوى، وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه فإما أن يكون تنفيذه بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء وإما أن لا يكون كذلك، فإن لم يكن كذلك فذلك هو الإمام وتصرفه هو الإمامة، وإن كان كذلك فذلك هو القاضي وتصرفه هو القضاء…»().
وفيما قاله ابن الشاط إشعار، بل بيان أن هذه التصرفات إما تعريف للحكم الشرعي أو تنفيذ له، وكلا الأمرين اجتهاد تنزيلي، وعليه فتصرفات صاحب الشريعة هي تأسيس وتأصيل لمناصب هذا النوع من الاجتهاد، فتوى وقضاء وإمامة، وتبقى الرسالة أصلا للتعليم، وهكذا تبرز المناصب التي تتولى مهمة تنزيل الأحكام الشرعية. وسوف نتطرق للفروق بين أنواع تصرفاته (ﷺ) لما لها من آثار فقهية عظيمة في مجال تنزيل الأحكام.
المطلب الثاني
الاجتهاد التنزيلي مفهومه ومناصبه
1 ـ مفهوم الاجتهاد التنزيلي وموضوعه وغايته :
الاجتهاد التنزيلي لغةً صفة وموصوف، فالاجتهاد هو الموصوف وهو عند أهل اللسان ـ كما سبق ـ «بذل الوسع والمجهود في طلب الأمر»(). وأما الصفة فهي “التنزيلي” أي نسبة إلى التنزيل، والتنزيل من نَزَّلَ يُنزلُ و«نزَّلتُ هذا مكان هذا أقمته مُقَامه. وقال ابن فارس: التنزيل ترتيب الشيء… والنازلة المصيبة الشديدة تنزل بالناس»().
ولما كان التنزيل هو الترتيب فلفظ “التنزيلي” في اللغة يرادفه لفظ “الترتيبي” ولذلك أطلق على القرآن “التنزيل” لما كان نزوله مرتبا منجما، فـ«التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقا ومرة بعد مرة»().
وحصيلة هذه التعريفات عند أهل البيان هي أن الاجتهاد التنزيلي هو بذل الوسع في طلب الأمر على الترتيب أو مرتبا.
اصطلاحا: في الحقيقة لم يكن لهذا اللفظ ـ أقصد الاجتهاد التنزيلي ـ ذكر في مدونات المتقدمين، ولكن ذُكرَت معانيه وصوره المتمثلة في القياس وتحقيق المناط والاستحسان وسد الذرائع… إلى غير ذلك من الأدلة التبعية أو “الموهومة” كما سماها الغزالي().
إلا أن المتأخرين بخلاف المتقدين كانوا أكثر تعرضا لهذا النوع من الاجتهاد فقد ذكروا لفظ “التنزيل” وحاولوا تعريفه ووضع قواعد تضبطه، وأكثر ما نجد مثل هذه القواعد في كتب الفتوى والقضاء، وما يسوغ ذلك هو أن القضاء والفتوى من مظاهر وصور الاجتهاد التنزيلي.
وللتوصل إلى تعريف مُرض لهذا النوع من الاجتهاد سوف ننطلق من مقالات المتأخرين في الموضوع.
تعرض المتأخرون في سياق حديثهم عن علمي الفتوى والقضاء للكلام عن معنى الاجتهاد التنزيلي وعن ضرورته. وفي هذا الصدد قال الإمام السيوطي رحمه الله: «وإن خاضوا تنزيل الفقه الكلي على الموضع الجزئي، فذلك يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته…»().
فالسيوطي بهذه المقالة يكون من الأوائل الذين أطلقوا لفظ “التنزيل” وقصدوا به عملية إلحاق الحكم الملائم بالواقعة الجزئية.
فقوله “الفقه الكلي” يعني به تلك الأحكام الكلية المطلقة المجردة غير المخصوصة بنازلة معينة().
كما أن قوله “الموضع الجزئي” يدل على الواقعة الجزئية المعينة المشخصة. ولتنزيل ذلك الحكم الكلي عليها يحتاج الفقيه إلى «تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته…». وهذا مشعر بأن حفظ الأحكام المجردة ـ سواء بعد استنباطها أو بعد نقلها عن المستنبطين ـ غير كاف وحده للتوصل إلى حكم شرعي نهائي صالح لواقعة معينة مشخصة.
فالتبصر الزائد على حفظ الأحكام وأدلتها يعني ذلك العلم بكيفية تنزيل الحكم على النازلة. إذن فاللازم من ذلك هو مسمى الاجتهاد التنزيلي.
وقريبا من هذا ما أطلقه بعض المالكية على هذا النوع من الاجتهاد حيث سماه: العلم بكيفيات «انطباق كليات الفقه على جزئيات الواقع». قال ابن عبد السلام المالكي ت749هـ: «ولا غرابة في امتياز علم القضاء عن غيره من أنواع علم الفقه، وإنما الغرابة في استعمال كليات علم الفقه وانطباقها على جزئيات الوقائع بين الناس، وهو عسير على كثير من الناس»().
وهذا المعنى المذكور هو مضمون الاجتهاد التنزيلي، وقوله «وهو عسير على كثير من الناس» مشعرٌ باقتضاء هاته العملية التنزيلية لبذل الجهد من قبل فئة مخصوصة وقليلة من العلماء، ذلك أنها نوع من الاجتهاد المتعسر على القاصرين عن رتبته.
ونظير هذا الذي تقدم ما ذكره بعض المتأخرين من المالكية في سياق تفريقه بين علم القضاء وفقه القضاء، حيث قال: «والفرق بين علم القضاء وفقه القضاء، فرق بين الأخص والأعم، فقه القضاء أعم لأنه الفقه بالأحكام الكلية، وعلم القضاء هو العلم بتلك الأحكام الكلية مع العلم بكيفيات تنزيلها على النوازل الواقعة»().
وعلم القضاء بما هو علم بكيفية تنزيل الأحكام الكلية على النوازل الواقعة فهو نوع من الاجتهاد التنزيلي وصورة من صوره؛ إذ هو «إخبار بالحكم الشرعي النهائي على سبيل الإلزام».
وابن فرحون المالكي (ت799هـ) عندما تناول علم القضاء أضاف إشارة مهمة مفادها أن هذا النوع من الاجتهاد «يفتقر إلى معرفة أحكام تجري مجرى المقدمات بين يدي العلم بأحكام الوقائع الجزئيات، وغالب تلك المقدمات لم يجر لها في دواوين الفقه ذكر ولا أحاط بها الفقيه خبرا، وعليها مدار الأحكام»().
ومؤدى هذا الكلام أن عملية تنزيل الأحكام في حاجة إلى تقعيد أصول لها، وهذه الأصول كانت غائبة عن الفقهاء المتقدمين رغم أنها هي الركائز المفضية للأحكام.
وعضد صاحب التبصرة تقريره هذا بما وقع لأبي أصبغ بن سهل حيث حكى ذلك بقوله: «لولا حضوري مجلس الشورى مع الحكام ما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه الأمير سليمان بن الأسود، وأنا يومئذ أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن…»().
وهذا المعنى الذي اشتهر عند المتأخرين أصبح متداولا عند المحدثين خاصة بعد انحصار دائرة تطبيق الفقه، فقد أطلق عليه بعضهم «الاجتهاد في التطبيق» وسوّى بينه وبين الاجتهاد الاستنباطي في الأهمية، يقول الدكتور فتحي الدريني: «وليس الاجتهاد في التفهم والاستنباط بأولى من الاجتهاد في التطبيق»()، ويضيف مفصلا: «إذ التفهم للنص التشريعي يبقى في حيز النظر، ولا تتم سلامة تطبيقه إلا إذا كان ثمة تفهم واع للوقائع بمكوناتها وظروفها، وتبصر بما عسى أن يسفر عنه التطبيق من النتائج؛ لأنها الثمرة العملية المتوخاة من الاجتهاد التشريعي كله. على أن النظر إلى نتائج التطبيق ومآلاته أصل من أصول التشريع»().
وذهب بعض المعاصرين إلى تسمية عملية تنزيل الأحكام بـ”الاجتهاد في الصياغة”، وفي هذا المعنى يقول الدكتور عبد المجيد النجار: «وربما كان الاجتهاد في الصياغة أبين في فقه الفتاوى منه في فقه الأحكام، فهذا الفقه عند الأئمة المجتهدين خاصة يمثل قمة الاجتهاد في الصياغة بما هو تنزيل للحكم الشرعي المجرد على نوازل عينية مشخصة تنزيلا يصاغ فيه من تلك الأحكام ما يعالج تلك النوازل العينية فيتحقق التدين المطلوب»().
إضافة إلى هذا، هناك إطلاقات وتعريفات أخرى للمحدثين تصب في المعنى نفسه لا داعي للتطويل بها إذا فهم المقصود.
ويتلخص لدينا من كل ما سبق أن الاجتهاد التنزيلي ـ وكما اتفقت عليه كلمة العلماء ـ هو بذل الجهد للتوصل إلى تنزيل أحكام الشريعة على الوقائع الجزئية. إلا أنه بقي أن نضيف قيدا لهذا التعريف مفاده أن هذا التنزيل يجب أن يحقق المقصد الشرعي من الحكم، ومستند هذا القيد هو القاعدة المقررة عند علماء المقاصد مؤداها أن الأحكام شرعت لتحقيق المقاصد، إذ «التشريع مقاصد وسائلها الأحكام»(). فإذا لم يفض تطبيق الحكم إلى مقصده، فقد أصبح تطبيقه غير ذي جدوى. والضابط في ذلك أن «الوسيلة إذا لم يترتب عليها المقصد لا تشرع»().
وبعد إضافة هذا القيد نتوصل إلى أن معنى الاجتهاد التنزيلي هو بذل المجتهد الوسع لتنزيل حكم شرعي على واقعة معينة بصورة يفضي فيها هذا التنزيل إلى المقصد الشرعي من الحكم المنَزَّل.
فالاجتهاد التنزيلي يدور موضوعه على الحكم الشرعي من جهة تعلقه بالنازلة، أما غاية هذا النوع من الاجتهاد فهي تطبيق الحكم الشرعي بما يوافق مقاصد الشريعة. فإذا كانت ثمرة الفقه والأصول هي الحكم الشرعي كما قرر الغزالي() ـ إذ الحكم هو غاية الاجتهاد الاستنباطي ـ فإن الاجتهاد التنزيلي المقاصدي ينظر إلى مدى إفضاء الحكم إلى المقصد، إذن فالثمرة هنا هي “المقصد الشرعي”.
2 ـ مناصب الاجتهاد التنزيلي :
إن المتأمل في تاريخ تطبيق الشريعة وتنزيلها يجد أن الأحكام الشرعية كانت تنزل على وقائع المسلمين عبر ثلاثة مناصب: الإفتاء والقضاء والإمامة، وكلها ترتبط بالنموذج النبوي التطبيقي بسند متين، ذلك أن التصرفات النبوية إن تتبعت مع أسباب ورودها لم تلف على نمط واحد وإنما هي منقسمة باعتبارات عدة إلى أقسام عدة:
فمن جهة إفادة التشريع وعدم إفادته تنقسم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، ومن جهة الأوصاف الصادرة عنها تنقسم تصرفاته  إلى تصرف بالرسالة، وتصرف بالفتوى، وتصرف بالقضاء، وتصرف بالإمامة، وكذا إلى ضروب أخرى ملحقة بها.
والمتقدمون من الأصوليين تطرقوا إلى التقسيم الأول ـ أي بحسب إفادة التشريع أو عدم إفادته ـ بالتفصيل وترتيب أحكامه، ولكن التقسيم الثاني لم يحظ بما حظي به الأول، بل لا تكاد تجده مذكورا مفصلا في كتب المتقدمين إذ هو من صنيع المتأخرين() الذين توصلوا إليه عندما اعترضتهم إشكالات التنزيل والتقعيد المقاصديين، فعندئذ اتخذوا السنة التشريعية موضوعا للدرس قصد التمييز بين أنواع الأحكام وتحديد مراتبها وصفاتها ومقاصدها. فكانت النتيجة أن الأحكام الشرعية منها ما يختص بتنزيله القاضي أو المؤسسة القضائية بتعبير العصر، ومنها ما يختص به الإمام، ومنها ما يكون مجالا لأهل الفتوى.
المطلب الثالث
الفروق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية
فإذا علمنا معنى التصرفات النبوية التشريعية، وأنواعها، وعرفنا مفهوم الاجتهاد التنزيلي ومناصبه، فيستقيم لنا بعد ذلك الربط بين الجانبين، ببيان أثر الفروق الموجودة بين أنواع تصرفات النبي  على فقه تنزيل الأحكام  الشرعية :
1 ـ الفروق بين تصرفات النبي (ﷺ) القضائية وتصرفاته الإفتائية:
يمكن استنباط مجموعة من الفروق المحددة لنوع التصرف النبوي بناء على نوع الوصف الصادر عنه، وذلك عبر ثلاثة فروق:
    • الفرق الأول مجال التصرف: القضاء النبوي كان مجاله النزاع والخصومات الناشئة بين الناس في الأمور الدنـيوية، فهو لا يتعـلق بالأمور الأخروية، على خلاف فـتواه، فهي تشمـل الأمور العبادية
ذات البعد الأخروي.
    • الفرق الثاني: مستند الحكم، فإذا كانت فتواه  تعتمد ـ إضافة إلى الأدلة الشرعيةـ المعرفة الظاهرية بالمكلف، كما تعتمد المعرفة الباطنية به كمعرفة قصده ونيته، وبعض أحواله الخاصة، عند تنزيل الحكم على الوقائع المشخصة، فتصرفه  بالقضاء كان يعتمد فيه الحجج والبينات الظاهرة، لذلك حمل المسؤولية لأصحابها إن لم تكن حقيقية، فقال (ﷺ): “إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها”()، هذا وإن كان الإمام جلال الدين السيوطي قد ألف كتابا تحت عنوان “الباهر في حكم النبي (ﷺ) بالباطن والظاهر” أورد فيه مسائل حكم فيها النبي (ﷺ) فيها بعلمه، وعلى كل لم يكن ذلك هو الغالب، وإنما الغالب ما تم ذكره من قبل أن القضاء يعتمد الحجج الظاهرة، على خلاف فتواه (ﷺ) التي كان النبي (ﷺ) يعتبر فيها المناطات الخاصة الباطنية.
    • الفرق الثالث: هو نوع الإلزام، فالإلزام في الفقه الإسلامي على نوعين: أحدهما الإلزام الدياني الأخروي، والنوع الثاني: الإلزام الدنيوي، فهنا يفترق تصرفه (ﷺ) عن تصرفه القضائي في كون أن فتواه ملزمة ديانيا، بمعنى أن مخالفها آثم، ولكن قد لا يتلقى أي عقاب دنيوي، بخلاف قضائه (ﷺ) كان ملزما دنيويا أي له سلطة تنفيذية في ذلك. فالفتوى تعريف وإخبار، والقضاء إخبار وإلزام.
2 ـ الفروق بين تصرفات النبي (ﷺ) القضائية وتصرفاته الإمامية :
الفرق الأول : يتمثل في أن تصرف النبي (ﷺ) بالإمامة أعم من تصرفه بالقضاء،  فالقضاء جزء من تصرفه الإمامي، فهو الذي يعين القضاة ويفوض لهم الحكم باسمه، كما عين في عهده  قضاته، كتعيينه معاذ بن جبل على اليمن، وبوصف الإمامة يمكن أن يقضي بين الناس أيضا.
الفرق الثاني : يتجلى في مجال التصرف، فتصرفه (ﷺ) بالإمامة مجاله مصالح المسلمين العامة وما يلحق بها من السياسات الشرعية وأحكام الولايات وغالب التدابير العامة المتعلقة بالشأن العام، أما تصرفه (ﷺ) القضائي فكان مجاله النزاعات والخصومات التي كانت تقع بين الناس، فيكون حكمه فاصلا فيها، ويشترط فيها وجود طرفين متنازعين، أي مدع ومدعى عليه، لذلك اشتبه عن العلماء بعض أحكامه (ﷺ) التي لم يتوفر فيها هذا الوصف هل هي تصرف قضائي أم لا؟
وفي هذا السياق قد ميز الإمام القرافي مجال تصرف النبي (ﷺ) بالقضاء فقال: “ومتى فصل  بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان ونحوها بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها فنعلم أنه  إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها لأن هذا شأن القضاء والقضاة”.()
وميز تصرف النبي (ﷺ) بوصف الإمامة وحدد بعض مجالاته  كتنظيم الجيوش، وصرف أموال بيت المال في جهاتها، وجمعها من محالها، وتولية القضاة والولاة العامة، وقسمة الغنائم، وعقد العهود، حتى قال: “هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم، فمتى فعل  شيئا من ذلك علمنا أنه تصرف فيه  بطريق الإمامة دون غيرها”()
الفرق الثالث : وهو مستند الحكم، فتصرفه (ﷺ) بالإمامة منوط بالمصلحة الشرعية في الغالب؛ لذلك قرر العلماء قاعدة نفيسة مفادها «أن تصرف الإمام منوط بالمصلحة»() لذا فالإمامة تتميز عن القضاء بأنها أعم منه، وفي الغالب لا تختص بالقضايا الجزئية، كما أنها متوسعة في المصالح المرتبطة بالسياسة الشرعية()، ولكن تصرفاته (ﷺ) القضائية تتبع الحجج والبينات الظاهرة المقدمة من قبل المتنازعين.
3 ـ الفروق بين تصرفات النبي (ﷺ) الإفتائية وتصرفاته الإمامية :
الفرق الأول : في المجال، فمجال تصرفه (ﷺ) الإفتائي هو ما يتعلق بالعبادات، والمعاملات من جهة ترتيب الحكم التكليفي وتبليغه بآثاره الدينية، بينما يمتد تصرفه (ﷺ) الإمامي إلى جميع ما يتعلق بالمصالح العامة وتدبير أمور الأمة، فنظره الإمامي أعم من نظره الإفتائي، وهو الذي يعين المفتين والمبلغين انطلاقا من وصف الإمامة، وفتواه (ﷺ) متجهة إلى المجال العبادي والمعاملاتي من جهة تعلق الحكم التكليفي به وترتب الأجر أو العقاب الأخرويين على ذلك.
قال القرافي في بيان مجال فتوى النبي (ﷺ): “وكل ما تصرف فيه  في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني فأجابه فيه فهذا تصرفٌ بالفتوى والتبليغ، فهذه المواطن لا خفاء فيها “().
الفرق الثاني: مستند الحكم، ففي تصرفه (ﷺ) الإفتائي يكون النبي (ﷺ) ناقلا للوحي ومبلغا له، ومنزلا له مع مراعاة خصوصيات المكلفين، ولكن في تصرفه الإمامي واستنادا إلى الإذن الشرعي العام باتباع المصالح الشرعية ففي أغلب تصرفاته عدا ما ورد فيه النص، يستشير الرسول (ﷺ) مع أصحابه في تحقيق المصالح حتى إذا تبين له وجهها أمضى ذلك.
وهكذا يتبين الفرق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية، وتتضح القواعد المنظمة لهذه المجالات الشرعية، وقد أكد القرافي على أهمية هذه الفروق حتى سماها بـ” القانون”، حيث قال: “وعلى هذا القانونِ وهذه الفروقِ يتخرج ما يرِد عليك مِن هذا البابِ من تصرفاته ، فتأمّل ذلك، فهو من الأصول الشرعيَّة.”()
وهنا نتساءل، ألم يكن العلامة القرافي هنا سباقا إلى تقعيد نظرية التمييز بين مجال السلطات، التي جاء بها بعد ذلك بقرون مونتسكيو؟
المطلب الرابع :
أثر التمييز بين التصرفات النبوية التشريعية في توجيه الاجتهاد التنزيلي
1 – حاجة المجتهد إلى فهم تصرفات صاحب الشريعة :
لما كان المجتهد مبلغا عن صاحب الشريعة (ﷺ)، ونائبا عنه في تنزيل الأحكام كانت حاجته ملحة إلى العلم بأحوال الرسول (ﷺ) لفهم مقاصد الشريعة والتمييز بين مراتب الأحكام وأنواعها وأوصافها، وهذا ظاهر من وجوه:
الوجه الأول: فقد تقرر بالنظر إلى صنيع فقهاء التنزيل أن غاية الاجتهاد التنزيلي إصابة المقاصد الشرعية، فمن ثم كان لزاما على المجتهد التمييز بين مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عن صاحب الشريعة، إذ به تنظر كثير من أوجه المقاصد الشرعية كما هو مقرر عند علماء المقاصد ـ أنفسهم ـ يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: «وللرسول (ﷺ) صفات كثيرة صالحة لأن تكون مصدر أقوال وأفعال منه، فالناظر في مقاصد الشريعة بحاجة إلى تطلع تعيين الصفة التي فيها صدر منه قول أو فعل»().
الوجه الثاني: مؤداه أن كثيرا من المشكلات يتوقف حلها على المعرفة بهذا الموضوع. وما رسوخ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ العلمي، وفهمهم الدقيق لمقاصد الشريعة، واستيعابهم الشامل لوقائع زمانهم قضاء وفتيا وتدبيرا، إلا لأنهم «كانوا يميزون بين ما كان من أوامر الرسول (ﷺ) صادرا في مقام التشريع، وما كان صادرا في غير مقام التشريع، وإذا أشكل عليهم أمر سألوا عنه»().
وقد أورد أهل المقاصد أمثلة كثيرة في هذا الباب استخرجوها من وقائع زمن النبوة من خلال ما ورد في سنة الرسول (ﷺ) وسيرته ومن هذه الأمثلة:
ـ قضية بريرة لما أعتقها أهلها وكانت زوجة لمغيث العبد، فملكت أمر نفسها بيدها بالعتق، فطلقت نفسها. وكان مغيث شديد المحبة لها، وكانت شديدة الكراهية له. فكلم مغيث رسول الله (ﷺ) في ذلك، فكلمها رسول الله في أن تراجعه، فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: إنما أشفع، قالت لا حاجة لي فيه().
فهذه الجارية استفسرت عن هذا التصرف النبوي: هل هو تشريع منبعه الوحي فتكون الطاعة عليها لازمة، أم هو رأي صادر عن غير تشريع، فلا إلزام لها بذلك.
ـ ومنها استفسار الصحابي الحباب بن المنذر يوم بدر لرسول الله (ﷺ) عن الموقع الذي نزل فيه: هل كان نتيجة تشريع ووحي أم هو فن من فنون الحرب التي للمختصين فيها الخبرة المطلوبة، قال الحباب: «يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”…»().
ومن هنا نرى أنه لما كانت المسألة تخص خبراء الحرب ترك صاحب الشريعة المجال لهم بصفتهم محققي المناط في هذه القضية.
إذن فهذه المسائل وغيرها ـ مما يشبهها ـ أصل عظيم الفائدة، وظاهر الأثر في تنزيل الأحكام وفق مقاصدها. وبجهلها شذت طائفة وتطرفت وألزمت الناس أمورا لم تصدر عن النبي (ﷺ) على سبيل التشريع… واتهمت من خالفها بالابتداع، وبذلك أوقعت فتنا وأساءت إلى الشريعة أيما إساءة.
وبجهل هذا الأصل كذلك تنطعت طائفة أخرى فأخرجت من دائرة التشريع جوانب من الحياة الإنسانية خاصة المعاملات وما شابهها من أمور المصالح العامة، وكأن الشريعة لم تشرع أحكاما في ذلك، فأثارت هذه الفئة شبهات مستندة في زعمها إلى تصرفات صاحب الشريعة وفهمتها على غير وجهها، ولم تميز بين مراتبها وأنواعها، وما ذلك إلا لجهلها بمقاصد الشريعة وروحها.
وقد تنبه أهل المقاصد وما زالوا إلى هذه القضية، فالأستاذ علال الفاسي (ت1394هـ) رحمه الله قد أكد كذلك على أن تبيين هذا الموضوع «مما يوضح المقاصد الشرعية»().
2 ـ أثر الفروق بين التصرفات النبوية التشريعية في توجيه الاجتهاد التزيلي :
إذا تبينت الفروق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية، وتبين أيضا أن هذه التصرفات تمثل أصولا لمناصب الاجتهاد التنزيلي، وتقرر أيضا أن المجتهد في حاجة إلى فهم الفروق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية، فينبغي التنبيه على أن لهذه الفروق آثارا فقهية تنير الطريق للمجتهد لفك مجموعة من الإشكالات المتعلقة بتطبيق الحكم الشرعي، وتحديد مجالات المكلفين بذلك واختصاصاتهم. وفي هذا الصدد قرر العلماء ثلاثة ضوابط توجيهية لعمل المجتهد على قدر كبير من الأهمية:
الضابط الأول: مفاده أن الاقتداء بتصرفات النبي (ﷺ) بالإمامة متوقف على إذن “إمام الوقت”. قال الإمام القرافي: «ما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم وتفريق أموال بين المال على المصالح وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش وقتال البغاة وتوزيع الإقطاعات في القرى والمعادن ونحو ذلك فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه (ﷺ) إنما فعله بطريق الإمامة وما استبيح إلا بإذنه»().
وتبعا لهذه القاعدة يدخل في عصرنا هذا، في هذا النطاق جميع النظم الإدارية والسياسية وتدبير المرافق العامة، والقوانين التعزيرية والتنظيمة، الضرورية لاستمرار الدولة واستقرارها ووحدتها.
وهنا توجد مساحة شاسعة متاحة لتصرف الحاكم في تدبير المصالح العامة في ضوء الكليات الشرعية.
الضابط الثاني: مؤداه أن اتباع تصرفات النبي (ﷺ) القضائية متوقف على حكم القاضي فما «فعله عليه الصلاة والسلام بطريق الحكم كالتمليك بالشفعة وفسوخ الأنكحة والعقود، والتطليق بالإعسار عند تعذر الإنفاق والإيلاء والفيئة، ونحو ذلك: فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر اقتداء به (ﷺ) لم يقرر تلك الأمور بالحكم فتكون أمته بعده (ﷺ) كذلك»().
وبناء على هذا الفرق منح الشرع سلطة تقديرية كبيرة، وحرية في تجديد النظر في الوقائع المعروضة طبقا للحجج والإثباتات، لذلك فالمجال مفتوح للقضاء في عصرنا على استيعاب جميع أنواع الوقائع والحجج والإثباتات مهما تطورت وتجددت.
ومنح الشرع للقاضي أيضا سلطة إنشاء الأحكام نيابة عنه، ومن هنا يمكن تسويغ الاجتهاد القضائي في ضوء الكليات الشرعية والقواعد المرعية.
الضابط الثالث: هو أن اتباع التصرفات النبوية الصادرة عن وصف الفتيا متوقف على ورود أسبابها وثبوت عللها وشروطها، وهنا قال الإمام القرافي: «وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه من غير اعتبار حكم حاكم ولا إذن إمام، لأنه (ﷺ) مبلغ لنا ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب، وخلى بين الخلائق وبين ربهم»().
إذن فالمفتي يجري ما توصل إليه من أحكام بناء على أصلين أساسين:
الأصل الأول: يتمثل في أدلة الشرع المعتمدة.
والأصل الثاني: تحقيق المناط المقاصدي، فالواقعة حتى وإن وردت فيها فتوى نبوية، فينبغي أن يتحقق المفتي من تطابق الأسباب والشروط والموانع مع الواقعة الأصلية من جهة، وأن يحتاط من المآلات الفاسدة، وأن يتعرف على مقاصد المكلفين عند التنزيل من جهة ثانية.
وإذا تقرر هذا فقد حاول العلماء تقسيم ما يقع في الواقع من تصرفات بحسب تبعيته لهذه الأنواع من التصرفات النبوية إلى أربعة أقسام أوردها القرافي:
القسم الأول: «ما اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة، كالإقطاع، وإقامة الحدود، وإرسال الجيوش ونحوها»() من السياسات الشرعية الإمارية… وقد ذكر مؤلفو كتب الأحكام السلطانية بعضا من ذلك وفصلوا القول فيها().
القسم الثاني: «ما اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء كإلزام أداء الديون وتسليم السلع، ونقد الأثمان وفسخ الأنكحة ونحو ذلك»().
وجميع أنواع المعاملات المتعلقة بالمصالح الدنيوية التي يقع حولها النزاع وقد أورد العلماء في كتب القضاء كثيرا منها.
القسم الثالث: «ما اتفق العلماء على أنه تصرف بالفتيا، كإبلاغ الصلوات، وإقامتها، وإقامة المناسك ونحولها()».
ومن الأسرار التي يليق ذكرها بعد هذه الأقسام لاتصالها بها: هو أن التأليف الفقهي طيلة التاريخ الإسلامي خاض فيه المتخصصون على حسب أنواع هذه التصرفات، ففي الفتيا نجد المدونات الفقهية وكتب الفتاوى والنوازل، وفي القضاء نجد كتب الأقضية وما يتصل بها من كتب الوثائق والشروط… وفي الإمامة نجد كتب الأحكام السلطانية والسياسات الشرعية.
وهذه المؤلفات تشكل اليوم رصيدا للاجتهاد التنزيلي لكونها جمعت اجتهادات وتجارب وعلوما وتقعيدات المتقدمين.
القسم الرابع: ما وقع منه (ﷺ) مترددا بين الأقسام السابقة، اختلف فيه العلماء على أيها يحمل، وتبعا لذلك التردد نشأ خلاف في الفروع الفقهية التابعة لهذه الأنواع، والغريب في الأمر أن فقهاءنا لم يصنفوا ذلك في أسباب الخلاف الفقهي، ولربما لأنهم كانوا قد أغفلوا التمييز بين هذه الأنواع أصلا، وفيما يلي سوف نورد بعضا من المسائل الفقهية التي ترجع إلى التردد بين هذه الأقسام، وفيها تتبين أهمية معرفة الفروق في الاجتهاد التنزيلي:
المسألة الأولى: وفيها يتبين التردد بين التصرف بالفتيا والتصرف بالإمامة، وتتعلق بقضية إحياء الموات الواردة في قوله (ﷺ): من أحيى أرضا ميتة فهي له().
ذهب أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ إلى أن هذا منه (ﷺ) تصرف بالإمامة فلا يحيي أحد بدون إذن إمام الوقت، فجرت عنده مجرى مال بيت المال والغنيمة والفيء والإقطاعات، ففي كل زمان يجتهد إمام الوقت فيما يراه أصلح().
وذهب مالك() والشافعي إلى أن هذا تصرف منه (ﷺ) بالفتيا، وبذلك أجريا الموات مجرى سائر المباحات المأذون فيها من قبل إمام الأئمة عليه الصلاة والسلام، ثم لأن الغالب من تصرفاته (ﷺ) التبليغ، فيحتمل عليه تغليبا للغالب الذي هو وضع الرسل عليهم السلام().
المسألة الثانية: يظهر فيها كذلك التردد بين الإمامة والفتيا وهي مسألة سلب القتيل الواردة في الحديث من قتل قتيلا فله سلبه().
ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن هذا تصرف بالإمامة، وعليه فلا يجوز لأحد أن يختص بسلب قتيله في الجهاد إلا بإذن الإمام، فشرطه بأن يقول من قتل قتيلا فله سلبه ترغيبا للجيش في القتال، كما فعل رسول الله (ﷺ). ولهذا فالإمام متى رأى مصلحة في ذلك أذن فيه().
وذهب الشافعي إلى أن هذا تصرف منه (ﷺ) على سبيل الفتيا فيستحق القاتل السلب بغير إذن الإمام، لأن هذا من الأحكام التي تتبع أسبابها كسائر الفتاوى النبوية، واحتج بأن الغالب على تصرفه (ﷺ) الفتيا، لأن شأنه الرسالة والتبليغ().
المسألة الثالثة: ويظهر فيها التردد بين القضاء والفتيا، وهي مسألة هند بنت أبي عتبة عندما تقدمت عند الرسول (ﷺ) بشكوى مفادها أن زوجها رجل شحيح لا يعطيها ما يكفيها من النفقة فقال لها (ﷺ): خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف() فذهب الشافعي وجمع من العلماء إلى أن هذا تصرف منه (ﷺ) بالفتيا، وعليه «فمن تعذر عليه أخذ حقه من غريمه فظفر بجنس حقه أو بغير جنسه إذا لم يظفر بالجنس… جاز له استيفاء حقه»() دون حاجة لحكم القاضي وفصله.
في المقابل ذهب مالك ـ في المشهور عنه ـ وجمع من العلماء إلى أنه تصرف منه (ﷺ) بالقضاء بعد الدعوى التي قدمتها هند، وعليه لا يجوز للمرء أن يأخذ جنس حقه إذا ظفر به وإن تعذر عليه أخذ حقه ممن هو عليه. وهذا الرأي جعله بعض العلماء أصلا في القضاء على الغالب، وبعضهم جعله أصلا في القضاء بالعلم؛ لأن هندا لم تُقِم بينة على دعواها().
هذه هي القضايا الخلافية التي ذكرها القرافي في معرض التمثيل بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية، وهنا أورد أمثلة أخرى يمكن أن تخرج على هذا المنوال:
المسألة الرابعة: حكم الرسول (ﷺ) في الجاسوس وهو متردد بين التصرف بالإمامة والتصرف بالفتيا، فلقد روى عن الرسول (ﷺ) أنه حكم مرة بقتله() ومرة بإعفائه().
لذلك اختلف فيما إذا كان تصرفا من صاحب الشريعة بالفتيا فكان حكم القتل هو الأصل المستأنف على مر العصور، كلما اكتشف حال الجاسوس وإلا نفذ حكم القتل أم هو تصرف بالإمامة يعني أن القتل يحتاج إلى حكم الإمام بعد نظره في جوانب المصلحة والمفسدة في ذلك المتعلقة بالعلاقة مع الدولة المتجسسة.
المسألة الخامسة: هي من باب الزكاة متعلقة ببيان قوله عز وجل: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليمٌ حكيمٌ﴾().
اختلف العلماء حولها: هل الزكاة تقسم أثمانا أم على الاجتهاد وحسب ما يراه الإمام؟().
فالشافعي رأى أنها تقسم أثمانا طبقا لما جاء في الآية حسب البيان النبوي الوارد في الحديث أن رجلا سال النبي (ﷺ) أن يعطيه من الصدقة فقال له رسول الله (ﷺ): إن الله لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء. فإن كنت من تلك الأجزاء، أعطيتك حقك().
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها لا تقسم أثمانا، وإنما على الاجتهاد وعلى حسب ما يراه الإمام، وعلى هذا تصرف أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في الزكاة فاجتهد في منع سهم المؤلفة قلوبهم اعتمادا على المصلحة الشرعية.
فالشافعي أخذ البيان النبوي للآية على سبيل التشريع الدائم، ومالك نظر إلى أن صرف الزكاة دائر مع الحاجة والمصلحة فهو متروك للاجتهاد ونظر الإمام.
المسألة السادسة: حول ادخار لحوم الأضاحي الواردة في الحديثين المتعارضين، أحدهما ورد فيه نهى رسول الله عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث().
والثاني ورد فيه: كلوا وأطعموا وادخروا… إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت().
هذه المسألة تردد الشافعي فيها كثيرا بين القول بنسخ الإباحة للنهي، والقول بأن الإباحة رخصة، والقول بأن النهي كان لعلة().
وتنبه محقق الرسالة أحمد محمد شاكر لهذا التردد ونفى أن يكون هناك نسخ، ورجح القول بأن النهي عن الادخار بعد ثلاث إنما كان من النبي (ﷺ) لمعنى دف الدافة، وأنه تصرف منه (ﷺ) على سبيل تصرف الإمام والحاكم فيما ينظر فيه لمصلحة الناس، وليس على سبيل التشريع في الأمر العام…().
المسألة السابعة: وهي المسألة المعروفة بمسألة “الحمر الأهلية” أو “الإنسية”()، وقد أورد القرضاوي أقوالا لابن عباس مشعرة بأن النهي عن أكلها كان تصرفا منه (ﷺ) بالإمامة، ولكن الذي أراه ـ والله أعلم ـ أن هذا بعيد جدا، لأن في الواقعة نفسها ما يشعر بغير ذلك أن رسول الله (ﷺ) أمر بإكفاء القدور()، وكانت كلها لحما، فلو كان النهي مظروفا بظروف معينة أي واردا على صفة الفعل، لم يأمر الرسول (ﷺ) بإكفاء القدور، لأن فيها تضييعا للحم، وهذا عبث تنزه عنه (ﷺ)، ذلك أن العلة التي أوردها القرضاوي ونسبها لابن عباس: وهي الحمولة غير منطبقة على اللحوم التي سبق طبخها.
ولذلك أرى أن النهي عن أكل الحمر الأهلية ليس فقط لأجل الحمولة بل هو فتيا منه (ﷺ) على سبيل التأبيد والدوام.
فهذه سبع مسائل من هذا الباب الواسع الذي يعتبر مدركا بديعا للمجتهدين، فمن اطلع عليه وفهمه حق الفهم فقد أدرك من المقاصد الشرعية غايتها.
من خلال هذا البحث حاولت إثارة انتباه الباحثين إلى موضوع بديع، ما زال طريا يحتاج إلى توسيع المعرفة به، لما فيه من الفوائد العظيمة في فقهنا الإسلامي، وقد عرّفت بأنواع التصرفات النبوية، وأوردت فروقا مميزة بينها، وقمت بربط تلك القواعد بمقتضياتها الفقهية، ولاسيما في مجال فقه التنزيل، وتبين أن ترتيب العلاقة بين هذه الأنواع تحصل منه فوائد مقاصدية جمة، منها ما يتعلق بمجال التصرف والاختصاص، ومنها ما يتعلق بمستند الحكم، ومنها ما يتعلق بمجال المصالح العامة الذي منح فيه صاحب الشريعة نظرا واسعا لإمام الوقت للاجتهاد في تحصيل المقاصد الشرعية الضرورية لوحدة الأمة واستمرارها.
وختاما أهيب بالباحثين المجدين للسعي إلى الكشف عن كثير من الجواهر والدرر التي ما زالت مكنوزة في هذا الموضوع الطري، وإنه لمجال للمجتهد “صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغِب()، جار على مقاصد الشريعة” بتعبير الشاطبي.