الرئيسية / النص التراثي وإشكال تعاقب التحقيقات « دلائل الإعجاز » لعبد القاهر الجرجاني نموذجا.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : النص التراثي وإشكال تعاقب التحقيقات « دلائل الإعجاز » لعبد القاهر الجرجاني نموذجا.

الكاتب(ة) : د. عبد الله الرشــــــــــــدي

أستهل هذا العرض العلمي بالأسئلة التالية:
– هل التحقيق مجرد نظام من التقنيات والقواعد، والخطوات العلمية، يمارسها محقق النص أثناء عملية التحقيق، أم أنه يرقى إلى مستوى قـراءة إنتاجية تراعي خصوصية النص المحقق، وتجيب عن أسئلة الذات (القارئة/ المحقق)، ومقاصدها الذاتية والموضوعية؟
– هل الحاجة إلى تعاقب التحقيقات على النص الواحد حاجة علمية وحضارية ملحة؟
– ألسنا في حاجة إلى مراجعة الكثير من التحقيقات التي أنجزت في الثقافة العربية الإسلامية؟
– ألسنا تبعا لذلك في حاجة إلى تأسيس نقد تاريخي للتحقيق، يستفيد من معطيات الدراسات النقدية والتاريخية الحديثة، لاسيما التأويلية منها من جهة، ومن معطيات علم المخطوطات ومكتشفاته من جهة أخرى؟
– ما الإضافات العلمية التي يمكن أن تجنى من فعل تعدد التحقيقات للنص التراثي الواحد؟
آثرت هذه المداخلة العلمية أن تجيب عن هذه الأسئلة وغيرها من الإشكالات المماثلة، انطلاقا من تعدد تحقيقات مصـدر بلاغي أثير؛ التفت إليه المحققون فـي المشرق، والمغـرب، والغرب على حد سواء؛ إنه كتاب “دلائل الإعجاز” للشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ).
وقد وقع اختياري على تحقيقات ثلاثة للكتاب، هي على التوالي:
أ/ تحقيق رشيد رضا ومحمد عبده والشنقيطي.
ب/ تحقيق محمد ابن تاويت التطواني.
ج/ تحقيق أبي فهر محمود محمد شاكر.
وهو اختيار يخدم مقاصد هذه الدراسة وأهدافها، ويسعف في تبين إشكالات موضوع تعدد التحقيقات. وليس إقصاؤنا لبقية الجهود في تحقيق هذا النص: (تحقيق هلموت رويتر/ تحقيق فايز ورضوان الداية/ تحقيق ياسين الأيوبي…) من قبيل استصغار هذه الجهود؛ بل هو من مقتضيات المعالجة المنهجية للموضوع.
يعتبر مقصد تحقيق النصوص التراثية مقصدا شريفا من مقاصد البحث و الكتابة عند العرب والمسلمين. ولقد قامت الحاجة العلمية عندهم لهذا اللون من ألوان البحوث العلمية بعدما عرفوا صناعة الطباعة والنشر، على إثر حملة نابليون بونابرت (Napoléon Bonaparte) أواخر القرن الثامن عشر الميلادي على بلاد مصر: (1798م). ولقد انتبه علماء الأمة منذ القرون الأولى إلى أهمية تحديد مجالات البحث والتصنيف؛ فحصروا تلك المجالات، وقيدوها بالضبط. ونذكر من المصنفات التي اعتنت بهذا الموضوع:
– (التقريب لحد المنطق) لابن حزم الأندلسي (ت456هـ).
– (المقدمة) لابن خلدون (ت808هـ).
– (أزهار الرياض في أخبار عياض) للمقري التلمساني (ت1041هـ)….
ولم تكن كلمة (تحقيق) بمعناها المتداول اليوم معروفة عند العرب؛ ذلك أن هذا المعنى إنما جاء ترجمة للكلمة الإنجليزية: (authentification)؛ وهي تعني الفحص العلمي للنصوص من حيث مصدرها، وصحة نصها، وإنشاؤها، وصفاتها، وتاريخها().
ولقد عبر العرب والمسلمون عن وعي متقدم بأهمية تحقيق النصوص وضبطها منذ القرون الأولى؛ وهذا ما تفسره عمليات كثيرة من قبيل نسخ الكتب، وجمعها، وشرحها، وتلخيصها، ونظمها، وتحشيتها ؛ فهذه كلها ألوان وصور من صور الاعتناء بالنص؛ وهذا نشاط قديم؛فليس إحياء التراث إذن أمرا حديثا، بل هو عمل طبيعي قامت به الأجيال القديمة على امتداد الدهر، وعلى صور شتى().
كما أن المدرسة الإسلامية في تحقيق الحديث جاءت بعلم غير مسبوق في تحقيق تراث الأمم. وقد بذل المحدثون جهودا جبارة لمراجعة ما جمعوا من حديث، للتأكد من صحة نسبتها إلى رسول الله ؛ فتحدثوا عن المتواتر، والآحاد، والضعيف، والصحيح، والصحيح لنفسه، والصحيح لغيره، والحسن، والغريب… الخ.
واستشعر علماء الأمة في مناسبات عديدة المخاطر المحدقة بالتراث، فكرسوا جهودهم لحفظه وتوثيقه. ولقد كشف خطاب مقدمات مصادر التراث عن هذا الوعي العميق؛ ولم يكن الخطاب النقدي والبلاغي بمنأى عن هذا الوعي؛ فقد عبر الخطاب المقدماتي لهذه المصادر عن سؤال حفظ التراث بشكل جلي()؛ وذلك على إثر النكبة التي عرفتها الأمصار الإسلامية في فجر القرن الهجري السابع بسبب الزحف المغولي؛ فقد لحق الدمار والخراب كل المناطق التي دخلها التتار؛ ومنها بغداد، وبخارى، وخوارزم…. وانمحت مع هذا الزحف كثير من آثار حضارة الأمة وتراثها. ولقد خرج الوطن الإسلامي الكبير من محنة التتار: “منهوك القوى، مثخنا بالجراح، مجردا من كنوز عقوله المسجلة في روائع الكتب التي ألقيت في نهر دجلة، فطمته، وسود مدادها صفاء مائه لفترة من الزمان، كانت شاهدة على أكبر جريمة ارتكبت في حق المعرفة الإنسانية على مر الدهور”().
أولا ــ التحقيق العلمي للنص في الغرب : النشأة والتطور .
اعتنى المستشرقون في القرن التاسع عشر بوضع الأصول والقواعد المتعلقة بتحقيق المخطوطات. كما عمدوا إلى تحقيق بعض نصوص التراث العربي الإسلامي؛ ككتاب (الفهرست) لابن النديم (ت385هـ)، وكتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي (ت626هـ)() وغيرهما كثير.
ولقد كانت عناية الغربيين في مرحلة النشأة الأولى للتحقيق:(القرن الثامن عشر) منصبة على تفحص لغة النص، وتركيبه، و وزنه، وأسلوبه ؛ فكأنهم سعوا إلى أن يجعلوا النص يصحح نفسه بنفسه؛ وخير من يمثل هذا الاتجاه في التحقيق الباحث بانتلي/ Pantelé().
إن التحقيق العلمي بالمعنى العام يراد به إخراج النص المحقق للوجود مطبوعا، بصورة يرتضيها مؤلفه؛ وهو عمل ينضبط لسلسلة من الإجراءات والتقنيات.
أما الاهتمام بالنص من الخارج فلم يبدأ إلا في نهاية القرن الثامن عشر؛ حيث ظهر النقد التاريخي مع الألماني ويخلمان (wikhlman) ؛ ثم ازدهرت الأبحاث الفيلولوجية مع ألمانيين آخرين مثل: (كود وفروا هـيرمان (Herman)/ وبويخ (Bouikh) / وولف (Wolf)/.
وتناسلت الأبحاث في الغرب حول التحقيق؛ وظهرت فروع معرفية أخرى تثري التحقيق العلمي للنصوص؛ منها علم المخطوطات، وتاريخ النصوص، ونقد النصوص. ويعتبر الباحث األفونسو دان/ Alfonso Dain() رائد علم المخطوطات من خلال كتابه: (المخطوطات/ Les manuscrits ).
إن تاريخ النصوص يهتم بالدرجة الأولى بالكيفية التي وصلتنا بها نصوص العهد القديم؛ وهذا مجال علمي جديد يرجع إلى زمن الألماني لاخمان(). أما علم المخطوطات فيعنى أساسا بالزوايا المادية للمخطوط؛ وهذا معناه أنه لا ينشغل بما يضمه المخطوط في متنه من أفكار تاريخية، أو أدبية، أو فكرية، أو ما شابه ذلك.كما أن هذا العلم لا يهتم بالخطوط، ونوعيتها، وهندستها()، وإنما يشتغل أساسا على الجوانب الصامتة في المخطوط: (نوعية الورق، الكراسة، نظام التزويق، والزخرفة، وكيفيات طي الورق، إلخ().
ثانيا ــ حركة تحقيق النصوص في البلاد العربية الإسلامية :
أسلفت الحديث عن بعض مظاهر وعي علماء الأمة بأهية تحقيق النصوص؛ ولقد كانت جهود علماء الحديث جليلة حقا في هذا الباب. واستعمل العلماء قديما مصطلحات تحمل دلالة هذا المفهوم؛ من قبيل: الضبط، والمراجعة، والمقابلة، سيما في مجال علم الحديث. وكانت لهم دراية بمعظم القواعد المتعلقة بعلم تحقيق المخطوطات؛ فكانوا يتحرون عن صحة نسبة النص إلى صاحبه، ويهتمون بضبطه وتوثيقه، ويقابلون بين أوجه، أو روايات النص المختلفة لانتقاء أوثقها().
ويعكس هذا الوعي القديم بأهمية تحقيق النصوص، وضبطها وجود مجموعة من المباحث والمطالب ذات الصلة بالموضوع في بعض التصانيف؛ ومنها:
– (الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع) للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت455هـ).
– (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) للحافظ أبي بكـر أحمـد بن علي بـن ثابت الخطيب البغدادي (ت 463هـ).
– (المعيد في أدب المفيد والمستفيد للعلموي) (ت720هـ).
– (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العلم والمتعلم) لابن جماعة (ت733هـ)… إلخ.
وحديثا نشطت حركة تحقيق النصوص في البلاد العربية الإسلامية، بعد انتقال المطابع إلى هذه الديار؛ وبلغت هذه الحركة ذروتها في منتصف القرن العشرين. وصاحب نشاط تحقيق نصوص التراث جهود محمودة في التنظير؛ لعل من أوائلها كتاب تحت عنوان: (تحقيق النصوص ونشرها) لشيخ المحققين عبدالسلام هارون؛ وهو أول كتاب عربي في هذا الفن، استنادا إلى شهادة مؤلفه. وقد صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1954م/ 1374هـ. وأوحت هـذه الدراسة لمجموعة من الباحثين بفكرة البحث في الموضوع، حتى وصلت البحوث النظرية في هذا الحقل المعرفي حد التخمة().
وبصرف النظر عن القيمة العلمية لكثير من هذه الأعمال التحقيقية، فقد مكنت هذه الحركة الفاعلة جمهور الدارسين والباحثين العرب من التعرف على مواد مكتبات العلوم على اختلافها؛ وتشكلت مع هذه الحركة معالم مواد هذه المكتبات؛ فنشطت عقب ذلك حركة التأريخ لكثير من العلوم والفنون.
ولم يكن النقد غائبا عن هذه الحركة، بل كان موازيا لها. ويمكن التمثيل لهذه الجهود النقدية بجهد عائشة عبدا لرحمان في نقد طائفة كبيرة من منشورات التراث نقدا منهجيا، وموضوعيا، وتوجيهيا، اضمحل على إثره ذلك العبث الذي كان يمارسه بعض ناشري التراث().
ويمكن أن نضم إلى هذه الجهود جهود فئة أخرى من الدارسين، منهم: حمد الجاسر، والسيد صقر، ومحمد عبد الغني حسن، وشوقي ضيف، وعبد الستار فراج، وعبد العزيز مطر، وعبد الفتاح الحلو، ومصطفى جواد، ومحمد جبار المعيبد وغيرهم().
ثالثا ــ التحقيق والقراءة والتأويل :
يقف الباحث على تعاريف مختلفة لمفهوم التحقيق، تحاول كلها الإحاطة بموضوعه وغايته. يقول عبد السلام هارون: “…والذي اتفق عليه المحققون من ذلك أن يؤدى متن الكتاب أداء صادقا كما وضعه مؤلفه كما وكيفا بقدر الإمكان”.(4)
إن تحقيق متن الكتاب بهذا المعنى: “ليس تحسينا أو تصحيحا، وإنما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ؛ فإن متن الكتاب حكم على المؤلف وتأريخ لتفكيره. وهو كذلك حكم على عصره وبيئته. وهي اعتبارات تاريخية صادقة لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير أو التنقيح”().
إن هذا المطلب إذن ليس يسيرا، وربما احتاج من الجهد إلى ما لا يحتاج إليه التأليف، كما ذهب إلى ذلك أبو عمرو بن بحر الجاحظ (ت255هـ) حين قال: “ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفا أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام”(). ولقد عبر عبد السلام هارون عن نفس هذا الرأي بقوله: “وتحقيق متن الكتاب أمر جليل يحتاج إلى من الجهد والعناية إلى أكثر مما يحتاج إليه التأليف”().
إن تحقيق النص يقع في صلب عملية القراءة؛ وليست القراءة في أبسط تعاريفها إلا ذلك الوقع الذي يحدثه فينا النص؛ فتحصل الاستجابة بأشكال مختلفة من التلقي: شرحا، اختصارا، نظما، تحشية، تعليقا، تقييدا، ترجمة، تحقيقا.. إلخ. إن مفهوم القراءة يتسع ليشمل كل أشكال التفاعل مع النص. ومعلوم أن كل قراءة هي محاولة لفهم النص المقروء؛ وتتفاوت قدرات القراء في تحقيق هذا المقصد وإدراكه. ثم إن القراءة تتوسل بالتأويل سبيلا لإدراك معنى النص؛ وهي بقدر ما تحترم قداسته، تمنح لنفسها إمكانية المساهمة في بناء مكوناته، بما يفصح عن أسئلة الذات القارئة، الخاصة، وانتظاراتها الأساسية.
وبناء على ذلك يمكن اعتبار تحقيق النصوص من آليات قراءة التراث وتأويله؛ وهذا يفترض معه: ” أن تقوم الذات المتلقية بتكوين تصورات وبناء ذهني لما تتلقاه، متخذة من قدرتها الخاصة وإمكاناتها المتاحة لها ما تقوم به على صياغة تصور للموضوع المتلقي. وتكون هذه الذات محكومة في هذه العملية من التلقي بما اكتسبته من قبل، وما تستحضره أثناء عملية القراءة (…) فالعقائد، والقناعات، والمعايير، والأنماط، والقوالب المشكلة لدى القارئ من خلال ما أشبع به من مفاهيم، وما جهز به من أنماط معرفية، وجمالية، والتموضع الاجتماعي والثقافي والديني والأخلاقي، كل ذلك يلعب دورا أساسيا في هذه العملية”().
إن النظر في التعاريف المختلفة التي يسوقها كثير من الدارسين لمفهوم التحقيق تركز بالأساس على الجانب الشكلي/ التقني في إخراج النص؛ فترسخت مع هذه التعاريف سلسلة خطوات وإجراءات عملية، يقوم بها محقق النص من قبيل: المقارنة، والموازنة بين النسخ، وتخريج النقول بإرجاعها إلى مظانها، وضبط أسماء الأعلام، وتخريج غريب اللفظ، وملء الخروم…الخ. ولا يحتل جانب فهم النص، وتأويله بالقدر الذي يرقى بالتحقيق إلى مستوى قراءة إنتاجية توحي بدلالات جديدة للنص أهمية كبيرة هنا.
ولقد أثرت هذه النظرة القاصرة للمفهوم على المنجز في باب إحياء التراث وتحقيق نصوصه؛ ذلك أن الطابع العام الذي وسم هذه الأعمال التحقيقية – على الجملة- هو اختزال عمل المحقق في مجرد قواعد علمية إلزامية، الهدف منها توثيق النص، وإخراجه في صورة شكلية أكثر دقة؛ دون أن يكون المطمح تقديم قراءة إنتاجية تراعي سياقات النص المختلفة، بالشكل الذي يمكن الذات القارئة من ضبطه وبنائه، ثم جعله يحيا بيننا قويا، محافظا على تاريخه الخاص من جهة، ومستجيبا لتطلعاتنا الراهنة من جهة أخرى().
رابعا ــ (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني: وحدة النص وتعدد التحقيقات:
إن المتأمل للنصوص المحققة في التراث العربي الإسلامي، يسجل ظاهرة تعاقب التحقيقات العلمية على النص التراثي الواحد؛ ولا تخص هذه الظاهرة مجالا علميا أو معرفيا واحدا، بل تكاد تعم كثيرا من مجالات هذا التراث: (فكرا، ولغة، وأدبا.. إلخ).
يحاول هذا العرض العلمي أن يقارب إشكال تعدد تحقيقات النص التراثي ؛ وهو ينطلق من كتاب (دلائل الإعجاز) للشيخ عبد القاهر الجرجاني نموذجا في الدراسة.
أ ـ (دلائل الإعجاز) بتحقيق رشيد رضا ومحمد عبده والشنقيطي: سؤال التعليم مدخلا للتحقيق.
يعتبر كتاب (دلائل الإعجاز) بتحقيق محمد عبده، ورشيد رضا، و الشنقيطي من أوائل التحقيقات التي ظهرت لهذا الكتاب؛ وكان ذلك سنة 1321هـ/ 1903م بعدما نشر كتاب (الأسرار) سنة 1320هـ.
ويذكر رشيد رضا أنه هاجر إلى مصر لإنشاء مجلة (المنار الإسلامي) سنة 1315هـ، فوجد الشيخ محمد عبده – رئيس جمعية إحياء العلوم العربية – منكبا على تصحيح كتاب: (دلائل الإعجاز). وكان عند عبده وقتها نسخة أراد أن يقابلها بنسختين امتلكهماّ؛ الأولى من المدينة المنورة، والثانية من بغداد. وقد أشرك محمد عبده في تحقيق هذا الكتاب إمام اللغة وآدابها في عصره: الشيخ محمد محمود التركيزي الشنقيطي.
وبعدما أتم محمد عبـده تدريس كتاب (أسـرار البلاغة) بالأزهـر، عهد إلى رشيد رضا بطـبع كتاب(الدلائل) حتى يقرأه بعده؛ فشرع رشيد رضا في الطبع، وشرع عبده في التدريس؛ وبذل رشيد رضا جهدا كبيرا في تصحيح النص، وشرح بعض ألفاظه، وبيانها.
وقد بدأت عملية طبع الكتاب في مطبعة الموسوعات، ثم أنشأت مجلة المنار مطبعتها الخاصة، وهناك ثم استكمال طبع ما تبقى من كتاب (الدلائل).
ولم ينه عبده تدريس الكتاب حتى تم طبعه. وقد لاحظ رشيد رضا وجود بعض الأخطاء، فعمد إلى تصحيحها اعتمادا على الأخطاء التي يحصيها عبده في نسخة التدريس. يقـول رشيد رضا: ” وبذلك يصح لنا أن نحكم بأن هذا الكتاب من أصح الكتب العربية المطبوعة، إن لم نقل أصحها؛ إذ لا طريق إلى كمال التصحيح مثل قراءة الكتاب درسا؛ لاسيما إذا كان المدرس في مثل الأستاذ الإمام في سعة العلم، وصحة الحكم، وحسن التقرير، والحرص على الإفهام، والمعرفة بصناعة الطبع. ولا شك أن من يقرأ الشيء وحده، ويحاول تصحيحه يكون عرضة للسهو، والذهول عن بعض الكلم؛ ولاسيما إذا كان معنى الكلام الذي يقرؤه واضحا جليا كجلاء كلام الشيخ عبد القاهر رحمه الله”().
إن التحقيق كما أسلفنا قراءة تطمح إلى تقديم فهم للنص، ككل القراءات الأخرى. وهذا الفهم يرتبط بالأساس بالسؤال الذي تعد هذه القراءة جوابا عنه.
وبالنظر إلى هذا التحقيق يمكن أن نحدد مدخله في سؤال التعليم؛ إن الغاية التربوية هي المحرك الأساس لهذا التحقيق. وقد كشفت المقدمة عن هذا الهم، وصورته بجلاء. وهذا المقصد لا يخفي مقصدا ثابتا في هذه المرحلة؛ إنه مقصد إحياء علوم العربية.
لقد كان هم الشيخ محمد عبده إصلاح مناهج التعليم وبرامجه بالأزهر الشريف، للرقي بأحوال العلم والمحصلين؛ هكذا أقدم على إجراء تغييرات جوهرية على طرق التدريس، والمتون المقررة في فصول الدراسة؛ وهذا ما عبر عنه بقوله: “إني ألقيت في الأزهر بذرة يستحيل أن يبقى معها على ما كان عليه من الجمود والخمود، فإما أن يصلح، وإما أن يسقط” ().
وفي سياق تغيير برنامج مادة البلاغة ومنهجها، قرر عبده تدريس (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، بعدما كانت السيطرة المطلقة لبلاغة السكاكي (ت626هـ)، وملخصه الخطيب القزويني (ت739هـ)، منذ القرن الهجري السابع في المشرق والمغرب. يقول رشيد رضا في سياق نقده للمصنفات البلاغية التي سارت على نهج السكاكي في التصنيف البلاغي: “وقد خلف من بعدهم خلف جعلوا البلاغة صناعة لفظية محضة.. واختار أهل هذه الأزمنة الأخيرة هذه الكتب المجدبة، القاحلة، على مثل كتب عبد القاهر الخصبة، الحافلة، لكثرة الحدود والرسوم، والقواعد، والمشاغبات في كتب المتأخرين، فكان أثرها فيهم أن حرموا من البلاغة والفصاحة، حتى إن أعلمهم بهذه الكتب، وأكثرهم اشتغالا بها، هو أعياهم وأعجزهم من الإتيان بالكلام البليغ، قولا وكتابة”().
إن تحقيق كتاب (دلائل الإعجاز) عند هذا الثالوث مسكون بسؤال التعليم؛ بما يمكن أن يعيد لمحصل البلاغة ذوقا رفيعا، يؤهله لتذوق الكلام، والتمييز الدقيق بين أنواع الأساليب، وإدراك الفروق الخفية بينها، بعدما خفت أثر الذوق، وانمحى سلطانه، أو كاد.
لقد كان هم عبده هو تدريس الكتاب داخل فصول الأزهر بدافع إحياء علوم هذه اللغة الشريفة؛ فاتخذ التدريس مدخلا للتحقيق؛ وهو -ولاشك- من أوكد المداخل لقراءة النص وتصحيحه؛ سيما وأنه كان يقوم بالمقابلة بين نسخه التي امتلكها؛ فكم معضلة في النص لا تنكشف إلا بالدرس، وكم من مسألة مستغلقة لا تسلم نفسها للناظر إلا بعد طول تأمل ونظر، وكم من كلمة، أو عبارة، أو فقرة يتيه القارئ في قراءتها، ولا يهتدي إلى الصواب إلا بعد الضرب بجهد… إن عملية تدريس النص تجعل المدرس أكثر التصاقا به، وقربا منه، كما تجعله أكثر قدرة على استنطاقه، ومساءلته؛ بل إن المدرس يفترض أسئلة المحصلين، ويحمل نفسه على إيجاد الأجوبة المناسبة لها. وإذا تقرر لديك هذا، علمت أن مدخل التعليم مدخل مهم لتحقيق النص وتصحيحيه.
ووازت عملية شروع رشيد رضا في نسخ الكتاب عملية تدريس عبده للفصول المنسوخة، مع تصحيحها، وتهذيبها بإشراك عالم لغوي نبيه في ذلك الزمن هو محمد محمود الشنقيطي. ولعل هذه المزايا مجتمعة هي التي بوأت هذا العمل العلمي منزلة رفيعة، لا يمكن أن تنكر.
وما يلفت الانتباه حقا في المقدمة هو غياب مصطلح التحقيق؛ وسجل هذا الغياب أيضا على مستوى العتبة الفرعية لعنوان الكتاب؛ والمثبت هو: التصحيح والتعليق. وتصادفنا في المقدمة كلمات من قبيل: الطبع، والنشر، والتصحيح، والعناية. ولم يتغير الأمر في مقدمة الطبعة الثانية: (1321هـ)؛ وسجلت كلمة التحقيق نفس الغياب. و جاءت الطبعة الثانية بشهادة رشيد رضا بكثير من الضبط للكلم بالشكل، استنادا لضبط الشيخ عبده، وكثير من التفسير للكلم الغريب، وللشواهد من الشعر والنثر()؛ وهذا كله انسجاما مع مقتضيات سؤال التعليم.
ب- (دلائل الإعجاز) بتحقيق محمد ابن تاويت التطواني: سؤال التأريخ مدخلا للتحقيق:
يعكس تحقيق محمد بن تاويت التطواني (1917م- 1993م)() لكتاب (دلائل الإعجـاز) للشيخ عبد القاهر الجرجاني التفات المغاربة إلى مصدر من أهم مصادر البلاغة العربية؛ وظهر أواسط الخمسينات من القرن العشرين.
إن كتاب “(دلائل الإعجاز) لم يكتب له الرواج في بيئة المغرب الأقصى إلا في القرون الأخيرة. ولقد أشارت أبحاث كثيرة إلى أن مصنفات الجرجاني ظلت غائبة في الأوساط العلمية المغربية. وحظ المغاربة من هذا الكتاب حظ أهل اليمن منه().
ويبدو من خلال المقدمة أن السؤال المهيمن في هذا التحقيق هو سؤال التأريخ؛ بما يقتضيه هذا السؤال من ضرورة التعرف على مواد المكتبة البلاغية؛ وفي طليعتها كتاب (الدلائل). يقول ابن تاويت: “وها نحن نريد أن يعرف الكتاب بالمغرب، وأن يبعث فيه كما بعث بالمشرق”(). وهذا الوعي امتداد للإحساس الذي عبر عنه جيل الدارسين والباحثين المتشبعين بأفكار الشيخ عبده، ومن جاء بعده من المجددين؛ ومنهم أمين الخولي (ت 1973م). وقد لقيت هذه الدعوة صدى طيبا عند محمد ابن تاويت؛ لأنه كان من جملة الطلبة المغاربة الذين نهلوا من المؤسسات العلمية بمصر: (جامعة فؤاد الأول ما بين 1938و 1949).
إن مقصد ابن تاويت في هذا التحقيق إذن هو إعادة بعض الاعتبار لهذا الكتاب، وتحقيق نوع من المصالحة بين المتلقي المغربي وكتاب “الدلائل” بعد قرون من الهجران غير المبرر؛ واستطاع من خلال تحقيقه أن يضيف اسمه لبعض أسماء المحققين في المشرق والغرب، ممن عانقوا متن هذا الكتاب موضوعا ومنهجا.
وتكشف مقدمة التحقيق عن سؤال التاريخ بجلاء؛ ويشهد على هذا تصديره لتحقيقه بتاريخ مختصر للبلاغة العربية، مع ما يكتنف مشروع التأريخ لهذا العلم من مزالق وأخطار: “فإننا رأينا أن نقدم له – يقصد تحقيق الدلائل – بمقدمة في تاريخ البلاغة؛ نعرض فيها تلك المراحل عرضا رفيقا موجزا؛ لأن قصة البلاغة العربية بالخصوص قصة ذات عقد شتى؛ بل هي قصة اللغة العربية بنفسها، حين نمت وترعرعت، وأصبح لها كيان خاص في الوجود. وما أحسب أن إنسانا بقادر على هذا التاريخ بمعنى الكلمة. وما أحسب أن إنسانا بـقادر على تسجيل مرحلة من مراحل هذه الحياة بكل دقة واطمئنان”().. إلى أن يقول: “وعلى هذا فتاريخ البلاغة أعوص من تاريخ الأمم والشعوب؛ وهو تاريخ لا يقوى على بعض ما فيه إلا جماعة، بل جماعات يهيئها الله لهذا العمل”().
ويعكس كلام ابن تاويت وعيا نظريا متقدما بالمخاطر التي تحيط بمشروع كتابة تاريخ البلاغة العربية. إن كتابة هذا التاريخ محفوفة بالمزالق المعرفية والمنهجية؛ وفي طليعة تلك المزالق غياب رؤية واضحة لمضامين المكتبة البلاغية؛ وهو غياب يوازيه أيضا غياب المعرفة بالمضامين العلمية لهذه المواد؛ وهذا شيء طبيعي ينسجم مع خصوصية المرحلة التاريخية: (بداية الخمسينات من القرن الماضي). ذلك أن القارئ المتخصص يجد عنتا كبيرا في معرفة مضامين المصنفات البلاغية؛ لأن كثيرا من هذه المصادر لا يزال مخطوطا في المكتبات الخاصة والعامة.
إن مشروع كتابة تاريخ للبلاغة العربية في أواسط الخمسينات من القرن العشرين ثورة علمية في مجال الدراسات النقدية والبلاغية تسد فراغا كبيرا في بابها.
لقد جاء تحقيق ابن تاويت إذن ملونا بلون سؤال التاريخ؛ ولا أجد عمل مؤرخ العلم بعيدا عن عمل محقق نصوص العلم؛ إن نهاية هذا الأخير هي بداية الأول؛ إن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بتكامل الأدوار بين المحقق والمؤرخ. إن تحقيق النص وإخراجه للوجود ينتهي معه عمل المحقق، ليبدأ عمل المؤرخ.
ولقد أحوجت مجموعة من العوامل إلى كتابة مثل هذا التاريخ؛ ومنها:
– حاجة المثقف العربي إلى معرفة تراث هذا العلم، أسوة ببقية العلوم. ونمت هذه الحاجة بشكل كبير في الجامعات العربية.
– تحقيق جزء كبير من نصوص التراث البلاغي والنقدي؛ وهذا يشجع مؤرخ العلم للإقبال على عملية التأريخ. وإذا علمنا بأن شوقي ضيف كتب في تاريخ البلاغة العربية مؤلفه النفيس: (البلاغة تطور وتاريخ) سنة 1965 أمكن أن نتصور القيمة العلمية لهذا المختصر حول تاريخ البلاغة العربية، الذي قدم به ابن تاويت لتحقيق (الدلائل) أواسط الخمسينات. إن هذا المختصر إذن حلقة مؤسسة في تاريخ البلاغة العربية، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها.
وسيلهم ابن تاويت وضيف غيرهما من البلاغين كتابة تاريخ البلاغة العربية على اختلاف المناهج، ووفق ما يستجد من أسئلة في قراءة التراث من جهة، وأيضا وفق ما يستجد من نظريات نقدية ولسانية تعنى بقراءة النصوص؛ وهذا صنيع جماعة من مؤرخي البلاغة العربية، نذكر منهم:أحمد مطلوب، وعبدا لعزيز عتيق، وبدوي طبانة، وأحمد نائل أحمد، وحمادي صمود، ومحمد العمري، وغيرهم.
زاوج ابن تاويت بين مصطلحين في إخراج كتاب (دلائل الإعجاز)، هما: التحقيق والتعليق؛ يقول: “وبعد فهذا كتاب دلائل الإعجاز نقدمه للطبقة المستنيرة من القراء بعد ما قدمنا بتحقيقه بقدر المستطاع، والتعليق عليه بما رأيناه لازما في درسه؛ متوخين في ذلك الاقتصار وعدم الإطالة؛ لأننا لسنا ممن يعجب بالتعليق الممل والشروح والحواشي المحيرة؛ ولولا أننا رأينا أن تلك الإيماءات الخفيفة لازمة، لازبة لما أقدمنا عليها”()، وأما التعليق فالمقصود به في عرف المصنفين جملة الملاحظات، والتعقيبات، والإضاءات التي يوشح بها القارئ النص المقروء؛ وهذا تقليد قديم في الكتابة والتأليف عند العرب والمسلمين. وأما التحقيق، فسأعرج على تقويم منجز ابن تاويت فيه.
لقد حدد ابن تاويت طبيعة المتلقي الذي يتوجه إليه بهذا العمل: “وبعد، فهذا كتاب دلائل الإعجاز نقدمه للطبقة المستنيرة من القراء”()؛ وهو لا يقصد هنا إلا جمهور المهتمين من شيوخ العلم، وطلبته، وعموم المنشغلين بعلوم العربية.
ولا بد من الإشارة إلى أن هيمنة سؤال التاريخ هنا لا يخفي أثر سؤال التعليم؛ فقد صورت المقدمة هذا الهم واستحضرته؛ يقول ابن تاويت: “كان من حسن حظ التعليم أن قرر كتاب “دلائل الإعجاز” ضمن منهج الدراسة بالمعهد الديني العالي. وعلى ما نعلم فإن هذا الكتاب كان – بذلك – لأول مرة يدرس بالمغرب عموما… لهذا وقد غمر الكتاب بالمشرق لم يكتب له أن يعرف بالمغرب”().
لقد تقرر كتاب (دلائل الإعجاز) بالمعهد الديني العالي بتطوان في زمن ابن تاويت؛ علما أن المغاربة لم يعتمدوا هذا الكتاب من قبل في برامجهم التعليمية. وتدل كثير من البحوث والدراسات على هيمنة مصنفات السكاكي وملخصيه وشراحه على البرامج التعليمية بالمغرب انسجاما مع التوجه العام للمناهج التعليمية ببلاد الغرب الإسلامي، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته(). ثم إن المصنف البلاغي في المغرب عامة لا يخلو من مقصديتين: إيديولوجية وتعليمية().
ولاشك أن ابن تاويت كان وراء اختيار (دلائل الإعجاز) متنا بلاغيا بالمعهد العالي بتطوان؛ وهو مدرس مادة البلاغة بهذه المؤسسة الدينية العتيدة، بعدما رجع من بلاد مصر؛ فأراد خـدمة هذا الكتاب خدمة مزدوجة: تدريسه وتحقيقه.
ويربط ابن تاويت بين اختيار (الدلائل) بالمغرب واختياره بالمشرق، على يـد المجدد المصلح الشيخ محمد عبده: “قيض الله للأمة الإسلامية أن تنهض، أو تحاول أن تنهض من كبوتها،وأن تنبعث من موتها، فنظرت -لا غرو- إلى الماضي؛ لأن الماضي كان فيه مجدها وعظمتها. نظرت إلى الماضي في كل شيء.. فكان نتيجة ذلك أن يبعث من جديد كتاب “دلائل الإعجاز” في الشرق على يد مصلحه الشيخ محمد عبده، الذي كان يقوم بتدريسه لطلابه، بعدما مضى على ذلك الكتاب وهو في سباته العميق زهاء تسع مائة سنة”().
ولا نعثر في المقدمة على ما يمكن أن يفيد في تبين منهج ابن تاويت في تحقيق كتاب “دلائل الإعجاز”؛ والذي أقصده هنا خطواته وإجراءاته في تحقيق النص. وكل ما نملكه في هذا هو كلام له سابق: “قدمنا بتحقيقه بقدر المستطاع، والتعليق عليه بما رأيناه لازما في درسه؛ متوخين في ذلك الاقتصار وعدم الإطالة؛ لأننا لسنا ممن يعجب بالتعليق الممل والشروح والحواشي المحيرة؛ ولولا أننا رأينا أن تلك الإيماءات الخفيفة لازمة، لازبة لما أقدمنا عليها”(). وهذا كلام عام تخفى معه خطوات المحقق، وإجراءاته في التحقيق.
والغريب في مقدمة ابن تاويت أنه لم يشر إلى النسخ التي اعتمدها في تحقيقه؛ وهذا أمر مثير للدهشة حقا؛ إذ كيف السبيل للحديث عن تحقيق علمي دون علم بالنسخ المعتمدة:
هل يمكن أن نتحدث عن تحقيق علمي في غياب معرفة النسخ التي اعتمدها المحقق؟ ما السر في إحجام ابن تاويت عن ذكر هذه النسخ؟ هل خفي عليه أن التحقيق يقوم بالأساس على عملية جمع النسخ والمقابلة بينها في سبيل تحقيق النص وإخراجه للوجود؟ لا نملك أجوبة شافية عن هذه الأسئلة وغيرها من الإشكالات.
وإذا ما سمحنا لأنفسنا بتجاوز مقدمة التحقيق إلى متن النص المحقق، يمكن أن نسجل أن عمل ابن تاويت شمل مجموعة من المستويات في تناول النص من الداخل؛ ومنها:
– المستوى المعجمي: من خلال إيضاح معاني بعض ألفاظ النص().
– المستوى التركيبي: من خلال تفسير بعض القضايا النحوية في النص().
– تقويم بعض الآثار الأدبية، اعتمادا على ما يذكره البلاغيون والنقاد المتقدمون().
– تقويم بعض الآثار اعتماد على فهمه الخاص().
– توثيق بعض نقول الجرجاني بالإحالة عليها في مظانها.()
– توثيق بعض نصوص الشواهد، بذكر القصائد التي أخذت منها، أو بذكرها بروايات وردت بها في مصادر أخرى().
– تدقيق القول وتحقيقه في بعض القضايا البيانية اعتمادا على ما ذكره المتقدمون من البلاغيين().
– توضيح بعض معاني كلام الجرجاني، مع أنه أحيانا لا يحتاج إلى توضيح().
– مقارنة فهم الجرجاني لبعض الآثار بفهم غيره من البلاغيين().
– الترجمة لبعض الأعلام الذين وردت أسماؤهم في نسيج النص().
هذه بعض مستويات عمل ابن تاويت في التحقيق؛ وغابت هنا الموازنة والمقابلة بين نصوص النسخ المنتخبة أصولا للتحقيق. وهذه المستويات – على الجملة- بسيطة لا ترقى إلى مستوى قراءة إنتاجية للنص المحقق.
ج-  تحقيق (دلائل الإعجاز) لأبي فهر محمود محمد شاكر/ سؤال فهم النص مدخلا للتحقيق.
ظهر كتاب (دلائل الإعجاز) بتحقيق أبي فهر محمود محمد شاكر سنة 1404هـ/ 1984م؛ وهو عمل يندرج ضمن مشروع عام أسس له، ويروم من خلاله قراءة نصوص التراث قراءة مستوعبة وواعية، بعد أن اعتكف لسنوات طويلة، يراجع هذه النصوص، ويسائلها مساءلة رجل خبير بتاريخ قضاياها، وأسرار لغتها. وتشهد إسهاماته في التحقيق على توجه متميز في القراءة؛ ومنها: (طبقات فحول الشعراء) لابـن سلام الجمـحي: (ت231هـ)، و(جامع البيان) للطبري (ت310هـ)…إلخ. ولعل هذا التوجه الخاص في التحقيق هو ما حمل عباس محمود العقاد على نعت أبي فهر بالفنان المحقق.
ويحرص شاكر على إثبات عبارة: (قـرأه وعلق عليه) علـى ظهر الكتب التي يحققها. يقول محمد الربيعي: “وهذه العبارة هي الحد الفاصل بين طبيعة عمله وطبيعة عمل غيره من شيوخ المحققين؛ إنه يوجه النص ويبين معناه بنوع من التوجيه أو القراءة التي تجعله محررا؛ لأنها قراءة ترفدها خبرة عميقة بطريقة الكتابة العربية. وهو إذا مال بالقراءة ناحية معينة أتى شرحه مقاربا، وضبطه مقنعا، وأفق فهمه واسعا، فخلع على النص بعض نفسه، وأصبح كأنه صاحبه ومبدعه”.()
ويرتبط هذا الاختيار في اعتقادنا بتصور محكم عند شاكر يقوم على اعتبار التحقيق صنو عملية القراءة الإنتاجية التي تشارك في بناء المعنى. واختياره لكلمتي التعليق والقراءة يدل على وعيه بالإمكانات التأويلية التي تتيحها هاتان الآليتان في ضبط النص المقروء، ومراعاة الانسجام بين مختلف سياقاته؛ وإدراكا منه أيضا لصعوبة إصابة مطلب التحقيق، الذي هو طلب الحق في النص().
ويرتبط منهج شاكر في تحقيق النص التراثي بمنهجه عامة في القراءة؛ وهو منهج ابتكره بنفسه- بعد فترة خلوة خاصة للقراءة والتأمل، نتيجة اصطدامه بموقف طه حسين (ت1973م) من الشعر الجاهلي سنة 1926م؛ أسماه منهج تذوق الكلام. يقول شاكرا في وصف منهجه: “منهجي في تذوق الكلام معني كل العناية باستنباط هذه الدفائن، وباستدراجها من مكامنها، ومعالجة نظم الكلام، ولفظه، معالجة تتيح لي أن أنفض الظلام عن مصونها، أو أميط اللثام عن أخفى أسرارها، وأغمض سرائرها. وهذا أمر لا يستطاع ولا تكون له ثمرة إلا بالأناة والصبر، وإلا باستقصاء الجهد في التثبت من معاني ألفاظ اللغة، ومن مجازي دلالتها الظاهرة والخفية بلا استكراه ولا عجلة، ولا بذهاب مـع الخاطر الأول، ولا بتوهم مستبد، تخضع له نظم الكلام ولفظه”().
وليس منهج تذوق الكلام قصرا على الدراسات الأدبية، بل أراد له صاحبه أن يمتد إلى كل علم وصناعة؛ يقول شاكر: “ليس قواما للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضا قوام كل علم وصناعة على اختلاف ذلك كله وتباين أنواعه وضروبه….فحسن التذوق يعني سلامة العقل، والنفس، والقلب من الآفات؛ فهو لب الحضارة وقوامها؛ لأنه أيضا قوام الإنسان العاقل المدرك، الذي تقوم به الحضارة”(). إن منهج تذوق الكلام بهذا المعنى منهج ذو أبعاد إنسانية وحضارية.
إن قراءة أبي فهر محمود محمد شاكر لكتاب (دلائل الإعجاز) قراءة موجهة بسؤال فهم هذا الكتاب فهما جيدا، يؤمن للقارئ حسن تلقيه. يقول: “وجعلت همي أن يكون قارئ الكتاب ماضيا في قراءته دون أن يتعثر أو يتلفت تلفتا يعوقه عن المضي في قراءته”(). و أنجز أبو فهر هذه القراءة في ظل منهجه الموسوم بمنهج تذوق الكلام.
لقد أراد شاكر لعمله أن لايبقى مجرد عمل تقني، الغاية منه تصحيح النص وإخراجه؛ وإنما مقصده الأسمى الفهم الصحيح للنص؛ فحينما قرأ في مرحلة من مراحل حياته كتاب (دلائل الإعجاز) استعصى عليه فهم بعض الأقوال هناك؛ من ذلك تكرار بعض الألفاظ والعبارات: “وفتشت ونقبت، فلم أظفر بجواب أطمئن إليه، وتناسيت الأمر كله إلا قليلا، نحوا من ثلاثين سنة”(). إن قراءة شاكر لنصوص التراث وفق هذا الكلام عمل قراءة مستمرة، ومحاولة فهم دائمة.
إن كثيرا من هذه الإشكالات التي اصطدم بها شاكر أثناء قراءته لكتاب (دلائل الإعجاز) سيجد لها أجوبة شافية حينما سيظهر كتاب “المغني” للقاضي أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الفقيه، الشافعي، المتكلم، المعتزلي (ت415هـ)، سنة 1381هـ /1961م. يقول شاكر: “فلما قرأته، ارتفع كل شك، وزال، وسقط النقاب عن كل مستتر”(). ونقل شاكر بعض النصوص من كتاب (المغني) ليدل على أن الجرجاني إنما كان يعني بأصحاب هذه الأقوال القاضي عبد الجبار؛ إن أبا فهر يجعل مفتاح فهم كتـاب ” دلائل الإعجاز” هو ربطه بكتاب (المغني)؛ لأن الجرجاني وعلى امتداد كتابه كان همه إبطال آراء عبد الجبار في الفصاحة، وبيان فساد أقواله في اللفظ. و هذا في نظرنا بحث في الأنساق الخفية في درس البلاغة العربية، يتجاوز عمل المحقق في صورته التقليدية.
إن خلاصة ما قدمه الجرجاني في (دلائل الإعجاز) هو رؤية عالم أشعري لإعجاز القرآن الكريم، مؤداها أن إعجاز القرآن الكريم في حسن نظمه، الذي لا يقدر على مثله العباد. وهي رؤية تقف على طرفي نقيض من رؤية أهل الاعتزال في الموضوع. ويؤسس الجرجاني بهذا التصور – حسب شاكر – لعلم جديد اهتدى إليه، واستدركه على من سبقه، وشق له الطريق، ومهده.
ولم يحجب سؤال الفهم هذا سؤال التعليم في قراءة أبي فهر، وهو الذي ساءه وضع التدريس في المؤسسات العلمية في زمانه؛ فسعى جاهدا إلى تقريب متن الكتاب من محصلي علم البلاغة: ” فإن كلامه ربما شق على كثير من أهل زماننا، حين كتب عليهم أن يهجروا كتب أسلافهم من الفحول الأفذاذ”().
وضمن شاكر مقدمة التحقيق حديثا مفصلا عن النسخ المعتمدة في القراءة؛ اثنتان نفيستان؛ تعود الأولى إلى سنة (568هـ)، والثانية رجح أن تعود للقرن الهجري السادس أو السابع. وجعل شاكر النسختين أصلا لقراءته وتعليقه. كما اعتمد أبو فهر مطبوعة الشيخ رشيد رضا لدلائل الإعجاز: (1321هـ)، والتي حدثناك عنها فيما مضى في موضع من هذا العرض.
وألقى سؤال الفهم بظلاله على منهج شاكر في تحقيق النص: “وجعلت همي أن يكون قارئ هذا الكتاب ماضيا في قراءته دون أن يتعثر، أو يلتفت تلفتا يعوقه عن المضي في قراءته، فأعنته بتقسيمه إلى فقر مرقمة، ودللته على سياق كلام عبد القاهر”().
إن هم شاكر في كل إجراء أو خطوة يعمد إليها أثناء قراءة النص، إنما هو حسن الإفهام والإبانة، حتى لايتيه القارئ، ويضيع منه معنى النص؛ وهذا الجهد منه تجده في مستويات متعددة من عمله في القراءة، ونذكر من صوره:
اجتهاده لوضع عناوين صغيرة لفقرات الكتاب ومقاطعه؛ ذلك أن فصول “الدلائل” تعرف حالا من التداخل، يصل إلى حد التناقض الظاهري في بعض الأحيان. ولا شك أن هذه العناوين تؤمن الفهم الجيد للقارئ، وتقربه منه.
– صرف العناية إلى ترقيم فقرات الكتاب؛ وهذا إجراء تقني يروم من وراءه أبو فهر التحديد الدقيق لموضوعات الكتاب، من أجل تلافي التشويش على القارئ.
– التنبيه على مواطن الاتصال والترابط بين فقرات الكتاب ومقاطعه، حتى تظهر للقارئ في غاية من السبك والرصف، فتسلم معناها بنفسها، دونما حاجة إلى إجهاد النفس لإدراك سياقات الكلام، وأوجه التكامل والترابط بين أجزاء الكتاب.
– تذليل عويصات النص، ومبهماته تحقيقا لمطلب الإيضاح والإبانة.
وهذه المستويات كاملة إنما هي من مقتضيات سؤال الفهم ؛ وهو السؤال المؤطر لقراءة أبي فهر محمود شاكر لكتاب: (دلائل الإعجاز)؛ فأنت إذا تتبعت هذه الجهود تجدها تصب في اتجاه واحد، وتنزع نحو منزع فريد، يروم تمكين القارئ من الأدوات القمينة بتأمين الفهم السليم للنص المقروء.
والحق أن هذه الجهود مكنت هـذه القراءة من اعتلاء منزلة متميزة ضمن سلسلة القراءات المنجزة حول نص ” دلائل الإعجاز” تحقيقا، فصارت قبلة الباحثين المتخصصين في موضوعها.
اقتصرنا لغاية منهجية على نماذج من تحقيقات كتاب (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني. ولا شك أن المنجز في كل تحقيق له ميزته وخصوصيته؛ فالثالوث عبده ورضا والشنقيطي كان همه بالدرجة الأولى تيسير الكتاب للمحصلين، انسجاما مع مشروع إحياء علوم العربية، الذي رفعه الشيخ عبده في زمانه؛ فجاءت جهود المحققين وفاء لما يحقق هذا المطلب الرئيس.
وكان مقصد ابن تاويت تاريخيا بامتياز؛ ولعل حرصه على تعريف القارئ بالمغرب الأقصى على هذا الأثر البلاغي هو ما حذا به إلى وضع هذا الهدف الكبير نصب عينيه، حتى وإن كان ذلك على حساب ضابط مهم من ضوابط التحقيق؛ أقصد ضابط المقابلة بين النصوص، والموازنة بينها. وظلت جهود ابن تاويت على الجملة محدودة جدا لا تتجاوز مستوى إخراج النص، وفق الإمكانيات المتاحة.
أما أبو فهر محمود محمد شاكر فكانت قراءته مسكونة بسؤال الفهم الجيد لنص (دلائل الإعجاز)، انسجاما مع مشروعه الأصيل في قراءة التراث وفق منهج تذوق الكلام.
وهذا التعدد مشروع من زاوية اعتبار التحقيق ضربا من القراءة الإنتاجية. وسعي القارئ إلى استنطاق النص هو ما يبرر تعاقب القراءات؛ وهذا التعاقب فعل مشروع “لأن التراث موجود لغوي قائم الذات باعتباره كثلة من الدوال المتراصفة، وإعادة قراءته هي تجديد لتفكيك رسالته عبر الزمن”.()
وإذا كان التحقيق يحمل خصوصية ما، تكسبه تفرده، وتحفظ له كيانه، فإن قيمته إنما تكمن في مدى قدرته على إنتاج قراءة موازية للنص المحقق، تحفظ قدسيته، وتؤمن فهمه فهما جيدا يراعي سياقه الجديد.
ويبقى تعدد التحقيقات فعلا مشروعا مادام هذا الفعل قادرا على الإسهام في بناء معرفة جديدة حول النص. وقد تتقوى شرعيته أكثر كلما توفر للمحقق/ القارئ نسخ أخرى لنفس النص، يمكن أن تغني معناه، وأن تخصبه. ومن مسوغاته أيضا أن يتوسم المحقق في نفسه القدرة على تحقيق النص تحقيقا جيدا يتجاوز به منجز سابقيه.
ولابد من الإشارة أخيرا إلى ضرورة انفتاح التحقيق باعتباره قراءة على المعارف الجديدة المحيطة به من علم المخطوطات، ونقد النصوص، وغيرهما.
أ/ المصادر :
    •    البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، ط؟، دار الجيل، بيروت، (1410هـ- 1990م).
    •    التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات، أبو المطرف أحمد بن عميرة، تقديم وتحقيق محمد بن شريفة، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، (1412_، 1991م).
    •    دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمد بن تاويت، ط؟ (د.ت).
    •    دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمد عبده ورشيد رضا والشنقيطي، تعليق وشرح محمد عبد المنعم خفاجي، ط1، مكتبة القاهرة، (1969م).
    •    – دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه أبـو فهر محمـود محمد شاكـر، ط5، مكتبة الخانجـي، القاهـرة، (2004م).
    •    المقدمة، عبد الرحمان بن خلدون، تحقيق حجر عاصي، ط؟، دار ومكتبة الهلال، بيروت، (1986م).
    •    منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تحقيق محمد الحبيب ابـن الخوجة، ط3، دار الغرب الإسلامـي، بيروت، (1986م).
ب/ المراجع :
    •    – أباطيل أسمار، محمود محمد شاكر، ط1، مطبعة المدني، القاهرة، (1972م).
    •    – التفكير اللساني في الحضارة العربية، عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، تونس، (1981م).
    •    تلخيص المفتاح وجهود شارحيه: السبكي وابن يعقوب المغربي، عبدا لله الرشدي، أطروحة دكتوراه، تحت إشراف الدكتور مبارك حنون، مرقونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز فاس، الموسم الجامعي: (2001م- 2002م).
    •    قطوف أدبية. دراسات نقدية في التراث العربي حول تحقيق التراث، عبدا لسلام هارون، مكتبة السنة، القاهرة، (1409هـ).
    •    المتنبي. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. أبو فهر محمود محمد شاكر، ط1، دار المدني بجدة ومكتبة الخانجي بمصر، (1407هـ- 1987م).
    •    المختصر الدقيق في فن التحقيق، عبدا لله حسين السادة وباسم عبود الياسري، ط1، دار الوراق، لندن، (2005م).
    •    مقالات في علم المخطوطات، مصطفى طوبي، ط1، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، (2000م).
    •    مناهج التأليف عند العلماء العرب، مصطفى الشكعة، ط2، دار العلم للملايين، بيروت، (1974م).
ج/ مقالات :
    •    “التحقيق بين سلطة القاعدة وسلطة القراءة”، عبد القادر بقشى، مجلة المنارة، تصدرها جمعية تنمية التعاون المدرسي، فرع مراكش المنارة، العدد الخامس، سنة (2004م).
    •    “الشيخ الذي لم يكن تقليديا”، محمد الربيعي، مجلة العربي، العدد: 469.
    •    “من أجل تلق نسقي”، محمد مفتاح، ضمن كتاب: من قضايا التلقي والتأويل، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، (1994م).
    •    “النص بين التلقي والتأويل”، أحمد بولحسن، ضمن كتاب: من قضايا التلقي والتأويل، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، (1994م).