الرئيسية / تخريج قصيدة الحج والزيارة في رحلة بناصر الدرعي…

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : تخريج قصيدة الحج والزيارة في رحلة بناصر الدرعي…

الكاتب(ة) : د. عبد الهادي التازي

تخريج قصيدة الحج والزيارة
في رحلة أحمد بناصر الدرعي …

د. عبد الهادي التازي
عضو أكاديمية المملكة المغربية،الرباط

 كنت وما أزال ولعلي أبقى، من الذين يهتمون بالرحلة والرحل، لأني أعتبر أن هذا النوع من الأدب يهدف أولا وبالذات إلى معرفة الآخر، وأعتبر أن هذا النوع من التعرف ضرب من ضروب التصوف؛ قصَد بعض الرحالة ممارسته حتى يعرفوا ما وراء بيوتهم… حتى لا يبطروا معيشتهم ولا يستهينوا بما يوجد داخل بيوتهم.
  إن كل الكتب التي نستمتع بقراءتها، على اختلاف فنونها، تقتصر على أن تجعل منا قراء لما يحرره أولئك الكتاب دون ما أن نعرف شيئا عنهم هم، عن مشاعرهم، عن اختياراتهم، الحوار مفقود بين الكتاب وقارئه إلا مع الرحالة … أنت ترافقه وتقارن وتفارق بينه وبينك، بين زمانك وزمانه، تفرح بما تفوقت عليه فيه… ذلك جانب من جوانب فائدة الرحلة والرحالة …
  وقد كان من تلك الرحل التي لازمتني وكتبت عنها رحلة أبي العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد بن ناصر الدرعي … أعجبت بها لما احتوته من فوائد تؤكد لي على الوضع الدولي الذي أمسى لمكة بعد فرض ركن الحج … ولا سيما والشيخ يهتم بالتاريخ السياسي للعالم الإسلامي عندما نبه مثلا إلى ما نقله عن ابن بطوطة مما يتصل بالتاريخ الذي يجمع بين أقطار المغرب الكبير على عهد السلطان أبي عنان.
  كانت الرحلة مصدرا من مصادر تاريخ المغرب وخاصة منه الجانب الثقافي والاجتماعي، وأنه بالرغم من اشتغال الباحثين بها فإن الرحلة ما تزال في حاجة إلينا لتتبع مسالكها واستجلاء غوامضها …
  وقد كان مما استرعى انتباهي فيها قضية توثيق ما فيها من الشعر وتخريجه على حد تعبير النقاد.
  تتبعت شيخنا العلامة الواصل أبا العباس فيما استشهد به من أشعار… وكانت ملاحظاتي العامة أنه كان يكتفي بقوله: ولله در القائل … أو قال الشاعر…
  وقد عايشته في هذا السلوك منه ولم يهمني، بصراحة، أن أعرف عن بعض الأبيات الشعرية التي اعتاد الناس ترديدها، إلا أنني وجدت نفسي مع قصيدة ذات قافية مختومة بالهاء المرفوعة … ردد أبياتها أكثر من مرة دون أن يوثقها وينسبها لقائلها … الأمر الذي استوقفني كثيرا …
  وقد كنت شخصيا من بين “الغافلين” إذا صح هذا التعبير، الغافلين الذين تعرضوا للتعقيب والمتابعة مشرقا ومغربا عندما أهملت توثيق بعض الأشعار التي وردت في تحقيقي لرحلة ابن بطوطة التي صدرت عن أكاديمية المملكة المغربية.
  ولكني رحبت بالزملاء الذين تعقبوني واعتبرت ذلك من باب إثراء البحث وإغنائه، فإن العلم على المناقشة أثبت منه على المتابعة كما كان شيوخنا يقولون!
  وقد زاد في فضولي واستطلاعي أن بعض الرحالة اللاحقين تمثل بأبيات من هذه القصيدة، أمثال الغنامي، وأبي مدين الدرعي، والمنالي الزيادي، 1163= 1750 وابن الطيب الشركي 1170 = 1757 والورتيلاني 1193 = 1779.
وكان البصيص الأول الذي هداني إلى الطريق أن أقف على بعض هذه القصيدة يتمثل بها المقري الحفيد 1041=1632 أثناء طوافه مشيرا بأسلوبه الأدبي الخاص إلى صاحب القصيدة الذي نعته بقوله : (من ربعه بالتقوى مشيد البغدادي الشهير بابن رشيد):
  لقد كان المقري يقصد دون شك إلى ابن رشيد البغدادي صاحب الوتريات، الذي حج عام 661=1263 وليس ابن رشيد السبتي الذي يشكل يضم الراء مصغرا… والذي حج بعد هذا بنحو ستة عقود …
  وهكذا توفرنا على اسم الشاعر الذي اهتم به – بصفة محدودة – بعض المؤلفين المغاربة في الماضي والحاضر … وبقي علينا أن نجمع شتات هذه الأبيات لنقف على سائر ما قاله ابن رشيد البغدادي الذي، كما أشرنا يعرف بالوتري لأنه نظم عددا من القصائد الوترية في مدح خير البرية، وقد ترجمه ابن عبد الملك المراكشي في تأليفه الذيل والتكملة… ترجمة واسعة ولكن من غير أن يذكر شيئا عن قصيدته الهائية هي موضوع حديثنا … ولو أنه أي المراكشي قدم لنا معلومة هامة تتعلق بإعلان ابن رشيد في مجالس وعظه بمراكش، عن الحادثة الشنعاء التي وقعت في بغداد يعني اجتياح التتر للعاصمة العباسية عام 656 … ومعنى هذا أن أخبار المشرق كانت تصل إلى المغرب على نحو ما تصل أخبار هذا المغرب إلى المشرق، كما كنا نسمع من ابن بطوطة وهو يتحدث عن أخبار بلاده التي كانت تصله وهو يتنقل من مكان إلى مكان …
  ويظهر من كلام ابن عبد الملك المراكشي أن ابن رشيد أقام بمراكش مدة، ثم رحل إلى الأندلس ودخل غرناطة … ثم كر راجعا إلى مراكش حيث أقام بها فترة قبل أن يلتحق بالمشرق بغية القيام بأداء فريضة الحج في موسم 661=1263.
  وبعد أداء المناسك أخذ الطريق إلى المغرب مؤملا العودة إلى مراكش لكن أجله أدركه بتونس عقب صلاة الجمعة لليلة بقيت من المحرم سنة ثلاث وستين وستمائة (21 نونبر 1264).
  فماذا عن نشاطه في الحرمين الشريفين ؟ وهل إن مثل ابن رشيد يمكن أن يمر بتلك الديار دون أن يترك بصمات هناك ؟
  وهذا ما حدا بي إلى العودة إلى المصادر الشرقية التي لم يفتها الحديث عن بعض الشخصيات المغربية الوازنة التي كانت تمر بتلك الجهات، وهل ننسى ما ألفه الإمام العلامة الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي المكي المالكي أحد قضاة مكة المتوفى عام 832، هل ننسى ما ألفه عن مكة والمدينة.
  لقد كان مما أسهمت به استجابة لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي التي يوجد مقرها في لندن، بمناسبة إعلان مكة عاصمة للثقافة، كان مما أسهمت به تأليفي (رحلة الرحلات) الذي يقع في مجلدين اثنين.
  هنا وأنا أعد (فهرس القوافي) لتأليفي هذا اكتشفت أمر حجة ابن رشيد، اكتشفت أخبارها، التي غابت عن أهل المغرب الذين ودعوه منذ عام 661=1263 ولم يمكنهم أن يقتفوا أثره بعد ذلك التاريخ إلا بترديد أخبار نعيه وهو على أبواب تونس … ولم يستثن من هذا الصمت المطبق أحد من السابقين بمن فيهم ابن عبد الملك المراكشي واللاحقين بمن فيهم زميلنا الراحل الشيخ عبد الله كنون …
  ويتساءل الباحث كيف أن سائر الذين تحدثوا عن خزانة تامكروت، أجمعوا على أن المؤسسين كانوا حريصين على تغذيتها بأعيان المؤلفين، لكن القصيدة موضوع الحديث والتي أوردها الشيخ أبو العباس دون شيخه أبي سالم، لم يرى لمؤلفها ذكر …
وهنا أذكر تشييع الجاحظ على الذين يرددون عبارة “ما ترك الأول للآخر ما يقول فلو سكت آخرنا لما تمت الفائدة لمن يأتي بعدنا!
  هناك في المشرق وفي مكة المكرمة بالذات حيث لبيت الدعوة لحضور لقاءات جامعة أم القرى بمناسبة الاحتفال بمكة، كان مما خفف عني العبء أن تقع يدي على جزءي (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) تأليف قاضي مكة الإمام تقي الدين محمد بن علي الفاسي المكي المالكي(ت 832). ثم كان وقوفي شخصيا على مخطوطتين اثنتين لشفاء الغرام بمكتبة جامعة أم القرى كأننا وراء حسم الموضوع تقريبا حيث تحصلت لدي جل المعلومات التي كنت أتوق إليها. هذه الفائدة الجليلة التي لم تعلق بها يد أحد من قبل، لا في الصيف ولا في الشتاء والله يؤتى فضله من يشاء !
  وقد تأكد لي أنه كان لابن رشيد البغدادي نشاطه الملحوظ بمكة المكرمة وبسائر المناسك: تجلى في صدر ما تجلى في نظمه لقصيدة طويلة بلغت في مجموعها زهاء مائة وخمسين بيتا، رويها الهاء المرفوعة …
  وقد حملت القصيدة عند تقي الدين الفاسي عنوانا جميلا وشاملا لموضوعيها الاثنين : هو حسب المخطوطتين اللتين توفرنا على صورتهما “الذهبية في الحجة المكية والزورة المحمدية”.
  وهكذا نرى أن هذه القصيدة “الذهبية” وصلت إلى التقي الفاسي عن طريق سند صحيح موصول يرويه الفاسي عن المعمر بن محمد بن داود الصالحي إذنا مكاتبة، وعن طريق الأصيلة أم الحسن فاطمة، بنت مفتي مكة شهاب الدين أحمد بن قاسم العمري إذنا مشافهة عن الإمام المحدث فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان المالكي أنشدهما إذنا مشافهة، قال: أنشدنا الأديب أبو بكر محمد بن [محمد] بن عبد الله بن رشيد البغدادي، قال في قصيدة نفيسة سماها “الذهبية في الحجة المكية والزورة المحمدية”.
  وأفضل أن آتي على ذكر القصيدة على نحو ما فعله التقي الفاسي عندما اختار منها هذه الأبيات على ما يدل عله تعبيره (ومنها قوله) الذي تكرر خمس عشرة مرة على أن آتي فيما بعد بما بقي منها مما التقطته محيلا على مراجعه …
   قال التقي الفاسي : جاء في الذهبية :

   فيا أين أيام تولت على الحما ونحن لجيران المحصب جيرة

   وليل مع العشاق فيه سهرناه ونوفي لهم حسن الوداد ونرعاه

   ومنها قوله :

فهاتيك أيام الحياة، وغيرها ويا ليت عنا أغمض الدهر طرفه! وترجع أيام المحصب من منى وتسرح فيه العيس بين ثمامة

ممات، فيا ليت النوى ما شهدناه!! ويا ليت وقتا للفراق فقدناه ويبدو ثراه للعيون وحصباه وتستنشق الأرواح طيب خزاماه!

ومنها قوله :

فشدوا مطايانا إلى الربع ثانيا ففي ربعهم لله بيت مبارك يطوف بها الجاني فيغفر ذنبه وكم لذة ! كم فرحة لطوافه نطوف كأنا بالجنان نطوفها فيا شوقنا نحو الطواف وطيبة فمن لم يذقه لم يذق قط لذة ترى رجعة أو عودة لطوافنا فو الله لا ننسى الحمى، فقلوبنا و والله لا ننسى زمان مسيرنا وقد نسيت أولادنا ونساؤنا تراءت لنا أعلام وصل على اللوى جعلنا إله العرش نصب عيوننا وسرنا نشق البيد للبلد الذي رجالا وركبانا على كل ضامر نخوض إليه البحر والبر والدجا ونطوي الفلا من شدة الشوق للقا ولا صدنا عن قصدنا فقد أهلنا وأموالانا مبذولة، ونفوسنا

فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه! إليه قلوب الناس تهوي وتهواه ويسقط عنه إثمه وخطاياه فلله ما أحلى الطواف وأهناه! ولا هم، لا غم، جميعا نفيناه فذلك طيب لا يعبر معناه فذقه تذق، يا صاح، ما نحن ذقناه وذلك الحمى، قبل المنية نغشاه هناك تركناها، فيا كيف ننساه إليه، وكل الركب يلتذ مسراه وإخواننا والقلب عنهم شغلناه فمن ثم أمسى القلب عنهم لويناه ومن دونه خلف الظهور نبذناه بجهد وشق للنفوس بلغناه ومن كل فج مقفر قد أتيناه ولا مفظع إلا إليه قطعناه! فنمشي الفلا نحكي، السجل طويناه ؟ ولا هجر جار أو حبيب ألفناه ولا نبغي شيئا منها منعناه

ومنها قوله :

عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله ولو قيل : إن النار دون مزاركم

فهان علينا كل شيء بذلناه دفعنا إليها والعذول دفعناه!

ومنها قوله:

ترادفت الأشواق، واضطرم الحشا وأسرى بنا الحادي وأمعن في السرا

فمن ذا له ضرم وتضرم أحشاه وولى الكرى، نوم الجفون نفيناه

ومنها قوله:

  نحج لبيت حجه الرسل قبلنا دعانا إليه الله عند بنائه وما زال وفد الله يقصد مكة فضجت ضيوف الله بالذكر والدعا وقد كادت الأرواح تزهق فرحة وطفنا به سبعا، رملنا ثلاثة كذلك طاف الهاشمي محمد وسالت دموع من غمام جفوننا ونحن ضيوف الله جئنا لبيته فنادى بنا : أهلا ضيوفي تباشروا فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا

  لنشهد نفعا في الكتاب وعدناه فقلنا له : لبيك داع أجبناه إلى أن بدا البيت العتيق وركناه وكبرت الحجاج حين رأيناه لما نحن من عظم السرور وجدناه وأربعة مشيا كما قد أمرناه طواف قدوم، مثل ما طاف طفناه على ما مضى من إثم ذنب كسبناه نريد القرى نبغي من الله حسناه وقروا عيونا فالحجيج أضفناه! وأي ثواب فوق ما قد أثبناه

ومنها قوله:

فطيبوا وسيروا وافرحوا وتباشروا ولا ذنب إلا قد غفرناه منكم

وتهنوا وهموا، بابها قد فتحناه! وما كان من عيب عليكم سترناه!

ومنها قوله:

   ويوم منى، سرنا إلى الجبل الذي فلا حج إلا أن يكون بأرضه   إليه فؤاد المرء يشعر بالهنا وبتنا بأقطار المحصب من منى وسرنا إليه طالبين وقوفنا على علميه للوقوف جلالة وبينهما جزنا إليه برحمة ولما رأيناه تعالى عجيجنا وفيه نزلنا بكرة بذنوبنا وبعد زوال الشمس كان وقوفنا

   من البعد قد حيانا كما قد حييناه! وقوف، وهذا في الصحاح رويناه ولولاه ما كان الحجاز سلكناه!! فيا طيب ليل بالمحصب بتناه عليه، ومن كل الوجوه أممناه فلا زالتا تحمى وتحرس أرجاه فيا طيبها ! ليت الزحام رجعناه نلبي، وبالتهليل منا ملأناه وما هو من ثقل المعاصي حملناه إلى الليل، نبكي والدعا قد أطلناه

ومنها قوله:

على عرفات قد وقفنا بموقف وقد أقبل الباري علينا بوجهه وعنكم ضمنا كل تابعة جرت أقلناكم من كل ما قد جنيتم

به الذنب مغفور وفيه محوناه! وقال : ابشروا فالعفوا فيكم نشرناه! عليكم، وأما حقنا قد وهبناه! ومن كان ذا عذر إلينا عذرناه

ومنها قوله :

وطوبى لمن ذاك المقام مقامه نرى موقفا فيه الخزائن فتحت

وبشراه في يوم التغابن بشراه! ووالى علينا الله منه عطاياه
ومنها قوله:
  ودارت علينا الكأس بالوصل والرضا فإن شئت تسقى ما سقينا على الحمى

  سقينا شرابا مثله ما سقيناه فخلى التواني واقصد محلا حللناه

ومنها قوله:

  فظل حجيج الله لليل واقفا أفيضوا وأنتم حامدون إلهكم وسيروا إليه، واذكروا الله عنده وفيه جمعنا مغربا لعشائنا وبتنا به (منه) التقطنا جمارنا ومنه أفضنا حيث ما الناس قبلنا ونحو منى ملنا، بها كان عيدنا فمن منكم بالله عيد عدنا وفيها رمينا للعقاب جمارنا

فقيل : انفروا، فالكل منكم قبلناه إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه فسرنا ومن بعد العشاء نزلناه ترى عابد جمع، بجمع جمعناه وربا ذكرناه على ما هداناه أفاضوا، وغفران الإله طلبناه ونلنا بها ما القلب كان تمناه فعيد منى رب البرية أعلاه ولا جرم إلا مع جمار رميناه
ومنها قوله:

  وبالخيف أعطانا الإله أماننا وردت إلى البيت الحرام وفودنا وطفنا طوافا للإفاضة حوله ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة ونلنا أمان الله عند دخوله فيا منزلا قد كان أبرك منزل ترى حجة أخرى إليك ودخلة فإخواننا، ما كان أحلى دخولنا فإخواننا أوحشتمونا هنا لكم وبالحجر الميمون لذنا فإنه نقبله من حبنا لإلهنا على لثمة للشعث والغبر رحمة وذاك لنا يوم القيامة شاهد ونستلم الركن اليماني طاعة وملتزم فيه التزمنا لذنبنا وكم موقف فيه مجاب لنا الدعا وصلى بأركان المقام حجيجنا وفيه الشفا، فيه بلوغ مرادنا وبين الصفا والمروة الحاج قد سعى

  وأذهب عنا كل ما نحن خفناه رجعنا لها كالطير حن لمأواه ولذنا به بعد الجمار وزرناه كأنا دخلنا الخلد حين دخلناه!! كما أخبر القرآن فيما قرأناه نزلناه في الدنيا وبيت وطئناه! وذاك على رب العلا نتمناه إليه، ولبثا في حماه لبثناه فيا ليتكم معنا وأنا حققنـاه!! لرب السما في أرضه يمناه فكم لثمة طي الطواف لثمناه فكم أشعث، كم أغبر قد رحمناه! وفيه لنا عهد قديم عهدناه ونستغفر المولى إذا ما لمسناه عهودا وعفو الله فيه لزمناه دعونا به، القصد فيه نويناه وفي زمزم ماء طهور وردناه لما نحن ننويه إذا ما شربناه فإن تمام الحج تكميل مسعاه

ومنها قوله:

  وبينا حجيج الله بالبيت محدق تداعت رفاق بالرحيل فما ترى لفرقة بيت الله والحجر الذي وودعت الحجاج بيت إلهها فلله كم باك وصاحب حسرة ولا يشهد التوديع يوما لبيته فما فرقه إلا والله إنه

  ورحمة رب العرش تدنوا وتغشاه سوى دمع عين بالدما مزجناه لأجلهما شاق الأمور شققناه! وكلهم تجري من الحزن عيناه يود بأن الله كان توفاه !!   وإن فراق البيت مر وجدناه أمر وأدهى، ذاك شيء خبرناه

ومنها قوله:

  ووالله لولا أن نؤمل عودة ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا

  لذقنا طعام الموت حين فجعناه رحلنا إلى قبر الحبيب ومغناه!

  وأعتقد أننا لمسنا بحاجة لأن نستعرض موضوعات القصيدة، لكنا نذكر إن هناك ملاحظتين اثنتين:

  الأولى أن أسلوب ابن رشيد في “الذهبية” لم يكن يختلف عن أسلوبه في “الوتريات” فهو يفضل البحر الطويل، وهو يسير على هواه وتلقائيته دون التعلق بالأساليب المتكلفة التي قد تحيد به عن بساطته ووضوح كلامه.

  الملاحظة الثانية : أن ما عهدناه في ابن رشيد، وهو في الوتريات، من الإشارة، في بعض الأبيات لأية قرآنية أو حديث نبوي هو نفس الأسلوب الذي ركب متنه وهو ينظم (الذهبية) …

لنقرأ هذه الأبيات مثلا:

  وسرنا نشق البيد للبلد الذي رجالا وركبانا على كل ضامر نخوض إليه البحر والبر والدجا

  بجهد وشق للنفوس بلغناه!   ومن كل فج مقفر قد أتيناه! ولا مفظع إلا إليه قطعناه!
  وسيكون من السهل جدا أن نتلمس هذا المعنى في معظم المناسك التي ذكرها فلا حاجة إذن لتتبع تفاصيل كل ذلك …
  فماذا بعد هذا عما استأثر الرحالة المغاربة بذكره من “الذهبية” مما لم يقع عليه اختيار التقي الفاسي ؟ !
  هنا نذكر أن نصيبا أوفر من هذه الأبيات يوجد في الرحلة عند الشيخ احمد بن ناصر.
  وحتى أستوعب كل الأبيات سواء منها المختارة من لدن المصادر الشرقية أو المذكورة في المصادر المغربية، فإني أورد هنا ما عثرت عليه في الرحلة. وهكذا ففي الجزء الأول من الرحلة المطبوعة بفاس: يقول الشيخ الناصري من غير أن ينسب شعر :

  وسرنا كأموات لففنا جسومنا لعل يرى ذل العباد وكسرهم ينادونه : لبيك ! لبيك ! ذا العلا ولو كنت يا هذا تشاهد حالهم وجوههم غبر وشعث رؤوسهم لتزداد روعا من خضوع لربنا وذاك قليل في كثير ذنوبنا إلى زمزم زمت ركاب مطايانا تؤم مقاما للخليل معظما ونحن نلبي في صعود ومهبط فكم نشز عال قد علته وفودنا نحج لبيت حجه الرسل قبلنا دعا إليه الله عند بنائه أتيناك، لبيناك، جئناك،ربنا ووجهك نبغي، أنت للقلب قبلة فما البيت؟ ما الأركان؟ ما الحجر؟ ماالصفا؟ ؟وأنت منانا، أنت غاية سؤلنا إليك شددنا الرحل نخترق الفلا كذلك ما زلنا نحاول سيرنا إلى أن بدا إحدى المعالم من منى ونادى بنا الحادي البشارة والهنا

  بأكفاننا، كل ذليل لمولاه فيرحمهم رب يرجون رحماه وسعديك كل الشرك عنك نفيناه لأبكاك ذاك الحال في حال مرآه فلا رأس إلا للإلاه كشفناه وما كان من درع المعاصي خلعناه فقد طال ما رب العباد عصيناه! ونحو الصفا عيس الوفود صففناه إليه استبقنا، والركاب حتثناه كذا حالنا في كل مرقى رقيناه وتعلو لنا الأصوات حين علوناه لنشهد نفعا في كتاب وعدناه فقلنا له : لبيك داع أجبناه إليك هربنا والأنام تركناه إذا ما حججنا أنت بالحج رمناه وما زمزم ؟ أنت الذي قد قصدناه ! وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه فكم من فدفد في السواد خرقناه ! نهارا وليلا عيسنا ما أرحناه! وهبت نسيم للوصال نشقناه! فهذا الحمى، هذا تراه غشيناه!!
  يضاف إلى هذا العدد 21 بيتا ما ورد أيضا بالرحلة المطبوعة صفحة 190-191 من أبيات تصل إلى عدد 22 وقد أوردها الشيخ الناصري غير منسوبة هكذا: قال قائلهم:

ومازال وقد الله يطلب مكة فضجت وفود الله بالذكر والدعا

إلى أن بدا البيت العتيق وركناه وكبرت الحجاج حين رأيناه

  وقد كادت الأرواح تزهق فرحة تصافحه الأملاك من كان راكبا وطفنا به سبعا، رملنا ثلاثة كذلك طاف الهاشمي محمد

  لما نحن من عظم السرور شهدناه وتعتنق الماشي إذ تتلقاه! وأربعة مشيا كما وعدناه طواف قدوم، مثال ما طاف طفناه

  وسالت دموع من غمام جفوننا ونحن ضيوف الله جئنا لبيته فنادى بنا : أهلا ضيوفي، تباشروا غدا تنظرون في جنان خلودكم فأي قرى يعلو قرانا لضيفنا؟ وأبدانكم قد طهرت من ذنوبكم وكل مسيء قد أقلنا عثاره ولا نصب إلا وعندي جزاؤه سأعطيكم أضعاف أضعاف ضعفه رفعت لكم ما لم تر العين مثله فيا مرحبا بالقادمين لبيتنا علي الجزا مني المثوبة والرضى وجاهي وإجلالي وعزي ورفعتي فطيبوا سرورا وافرحوا وتباشروا ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم فهذا الذي نلناه يوم قدومنا

على ما مضى من إثم ذنب كسبناه نريد القرى، نبغي من الله حسناه وقروا عيونا فالحجيج أضفناه وذاك قراكم مع نعيم ذخرناه وأي ثواب فوق ما قد أثبناه وما كان من رين القلوب غسلناه ولا وزر إلا عنكم قد وضعناه وكل الذي أنفقتموه حسبناه فطيبوا نفوسا فضلنا قد أفضناه ولا علمت نفس بما قد رفعناه إلي حججتم لا لبيت بنيناه ثوابكم يوم الجزا نتولاه وجودي ومن قد أمنا ما رددناه وتيهوا وهيموا بابنا قد فتحناه! وما كان من عيب عليكم سترناه وأول ضيق للصدور شرحناه()

  ويضاف إلى هذه القطعة المؤلفة من 22 بيتا ما ورد أيضا في الرحلة المطبوعة جI، ص 193-194-195 وعددها 39 بيتا وقد أوردها الشيخ الناصري كذلك من غير نسبة لقائلها:

  فكم حامد ! كم ذاكر ! كم مسبح ! وكم خاضع، كم خاشع متذلل وساوى عزيز في الوقوف ذليلنا ورب دعانا ناظر لخضوعنا ولما رأى تلك الدموع التي جرت تجلى علينا بالمثاب، وبالرضى وقال : انظروا شعثا وغبرا نداهم وقد هجروا أموالهم وديارهم إلي، فإني ربهم ومليكهم ألا فاشهدوا : إني غفرت ذنوبهم فقد بدلت تلك المساوئ محاسنا فيا صاحبي، من مثلنا في مقامنا على عرفات قد وقفنا بموقف وقد أقبل الباري علينا بوجهه وعنكم سمحنا كل تابعة حرث أقلناكم من كل ما قد جنيتم فيا من أسا، يا من عصا لو رأيتنا وددت بأن لو كنت حول رحالنا وقمنا إليه تائبين من الخطأ أمرنا بذاك الظن، والله حسبنا عليه اتكلنا واطمأنت قلوبنا فطوبى لمن ذاك المقام مقامه نرى موقفا فيه الخزائن فتحت وصالح مهجورا وقرب مبعدا ودارت علينا الكأس بالوصل والرضى فإن شئت تسقي ما سقينا على الحمى وفيه سطنا للرحيم أكفنا واعتقنا كلا، وأهدر ما مضى وإبليس مغموم لكثرة ما يرى على رأسه يحثوا التراب مناديا وأظهر منه حسرة وندامة تركناه يبكي بعدما كان ضاحكا وكم من منى نلنا بيوم وقوفنا وكم ذا رفعنا للإلاه مسائلا وخصصت الآباء والأهل بالدعاء كذا فعل الحجاج هاتك عادة فظل حجيج الله لليل واقفا أفيضوا وانتم حامدون إلاهكم وسيروا إليه واذكروا الله عنده

  وكم مذنب يشكو لمولاه بلواه وكم سائل مدت إلى الله كفاه فكم ثوب ذل في الوقوف لبسناه خبير عليم بالذي قد أردناه وطول خضوع مع خشوع خضعناه وباهي بنا الأملاك حين وقفناه أغثنا، أجرنا يا إلاها عبدناه وأولادهم، والكل يرفع شكواه لمن يشتكي المملوك إلا لمولاه؟ ألا فانسخوا ما كان عنهم كتبناه! وذلك وعد من لدنا فعلناه ومن ذا الذي قد نال ما نحن نلناه ! به الذنب مغفور وفيه محوناه وقال : أبشروا فالعفو فيكم نشرناه عليكم وأما حقنا قد وهبناه ومن كان ذا عذر إلينا عذرناه!! وأوزارنا ترمى، ويرحمنا الله !! ونرجو رحيما كلنا قد رجوناه وغفراننا من ربنا قد طلبناه عليه، وهذا في الحديث نقلناه لما عنده من وسع عفو عرفناه وبشراه في يوم التغابن بشراه ووالى علينا الله منها عطاياه فذاك مقام الصلح فيه أقمناه! سقينا شرابا مثله ما سقيناه فخل ألونا واحلل محلا حللناه فقال : كفيتم عفونا قد بسطناه وقال لنا : كل العتاب طويناه من العتق محقور دليل خزيناه بأعوانه، ويلاه ذا اليوم ويلاه وكل بناء قد بناه هدمناه فكم مذنب من كفه قد سلناه وكم من أسير للمعاصي فككناه ولا أحدا ممن نحب نسيناه وكم صاحب نودي به ودعوناه وما فعل الحجاج نحن تبعناه فقيل : انفروا، فالكل منكم قبلناه() إلى مشعر جاء الكتاب بذكراه ذكرنا كما رب العباد هداناه!

  وقد أورد الشيخ الناصري وهو في أعقاب طواف الإفاضة عشرين بيتا من الذهبية من غير أن ينسبها مكتفيا بهذه العبارة كما قيل:

  وردت إلى البيت الحرام وفودنا وطفنا طوافا للإفاضة حوله ومن بعد ما زرنا دخلناه دخلة ! ونلنا أمان الله عند دخوله فيا منزلا قد كان أيرك منزل ترى حجة أخرى إليه ودخلة وإخواننا ما كان أحلى دخولنا وإخواننا قد أوحشتمونا هنا لكم نطوف به والله يحصى طوافنا وبالحجر الميمون لذنا فإنه تقبل من حبنا لا لا هنا على لثمة للشعث والغبر رحمة وذاك لنا يوم القيامة شاهد ونستلم الركن اليماني طاعة وملتزم فيه التزمنا لربنا وكم موقف فيه يجاب لنا الدعا ولما قضينا للإلاه مناسكا فمن طالب حظا لدنياه ما له ومن طالب حسنا بدنياه ناويا

  تحن له كالطير حن لمأواه ولذنا به بعد الجمار وزرناه كانا دخلنا الخالدين دخلناه كما أخبر القرآن فيما قرأناه نزلناه في الدنيا وبيت وطئناه وذاك على رب الورى نتمناه إليه، وبتنا في حماه لبثناه فيا ليتكم معنا أوان حففناه ليسقط عنا ما نسينا وأحصاه لرب السما في الأرض للخلق : يمناه فكم لثمة طول الطواف لثمناه !    فكم أشعث ! كم أغبر قد رحمناه وفيه لنا عقد وعهد عهدناه ونستغفر المولى إذا ما تسلمناه عهودا، وعفو إليه فيه لزمناه دعونا به والفضل فيه نويناه ذكرناه والمطلوب فيه سألناه! خلافا لأخراه إذ الله لاقاه وحسنا بأخراه وذاك يوفاه

  وآخر لا يبغي من الله حجة

  سوى نظرة في وجهه يوم يلقاه
  وحيث إننا قرأنا عند التقي الفاسي هذا البيت من (الذهبية) :
  ومن بعد ما طفنا طواف وداعنا

  رحلنا إلى قبر الحبيب ومغناه
فلنتتبع قول ابن رشيد في المدينة المنورة، حيث نجده يقول الشعر مرتين أولاهما عندما زار الروضة عند الوصول، والثانية عندما أتى ليودع الروضة:

وهكذا وجدناه يقول في البداية : (الرحلة الناصرية، ج II، ص 9)

وصلنا إليه واتصلنا بقربه وقمنا وسلمنا عليه وإنه ورد علينا بالسلام سلامنا كذا كان خلق المصطفى وصفاته ومن كان وصى بالسلام لأحمد وثم دعونا للأحبة كلهم وملنا لتسليم الإمامين بعده

فلله ما أحلى وصولا وصلناه ليسمعنا من غير شك شككناه وقد زادنا فوق الذي نحن زدناه بذلك في الكتب الصحاح وصفناه فبشراه بلغنا السلام ونبناه وكم من حبيب بالدعا خصصناه فإنهما حقا هناك ضجيعاه!
وكان شعره عندما ورد للوداع هكذا (الرحلة النسخة المطبوعة،ج II، ص 102)  
وقفنا تجاه المصطفى لوداعه ولا صبر، كيف الصبر عند فراقه؟ أيصبر ذو عقل لفرقة أحمد؟ فوا حسرتاه من وداع محمد فيا وقف توديع له، ما أمره! أ مولاي!  مالي اليوم جرم جنيته؟ و والله ما اخترت الفراق، وإنما سأبكي عليه قدر جهدي فناظري عسى الله يدنيني لأحمد ثانيا فيا ربنا ارزقنا لمغناه عودة! رحلنا وخلفنا لديه قلوبنا ولما تركنا ربعه من ورائنا لنغنم منه نظرة بعد نظرة فلا عيش يهنا بعد فقد محمد! دعوني أمت شوقا إليه وحسرة

فلا دمع إلا للوداع صببناه   وهيهات حسن الصبر عنه صرفناه فلا والذي من قاب قوسين أدناه وأواه من هذا التفرق أواه!! ووقت اللقاء والله ما كان أحلاه!! فأخرج من دار الحبيب ومغناه؟ قضاء جرى، والله يقضي قضاياه من الشوق لا يرقى من الدمع جفناه فيا حبذا قرب الحبيب ومدناه ؟ فإن زمانا لا نراه كرهناه !! وكم جسد من غير قلب قلبناه ! فلا نظر إلا إليه رددناه فلما أغبناه، السرور أغبناه!! إلا فقد محبوبي وعيشي أهناه وخطو على قبري : بأني أهواه!!

والآن لنعد إلى إطلالة على “الذهبية” أو بالحري لنبق مع ابن رشيد في رحلته إلى تلك الديار عام 661هـ1205، عن طريق البحر أحيانا والبر أحيانا على ما قد نفهمه من البيت رقم (22) من تعداد التقي الفاسي.
وقد ظهر من ابن رشيد في قصيدته أنه يحدو حذو الشعراء الأوائل من افتتاح قصائدهم بما يلفت النظر إلى الحبيب أو الديار أو الحمى، ومن هنا نراه يتحدث عن أيام المحصب في منى ونحن نعلم عن القولة المشهورة لأبي الطيب المتنبي : ( إذا قيل شعر فالنسيب المقدم ..) فابن رشيد يجري في صدر قصيدته على نحو ما يكون من سائر الشعراء.
لقد أطال في هذا المعنى متخيلا أن المحبوب جدير بكل ذلك التذلل وتلك الأتعاب والمشاق مهما عظمت. فالكل يهون أمام الوصول إلى المحبوب الذي يشعر المحب أمامه بأنه ضعيف لا يقدر على شيء مهما كانت قوته وبلغت قدرته وعظم سلطانه.
ونحن الموالي في الأراضي جميعها
*
وفي حي ليلى من أقل عبيدها!!
  أهوال الطريق بما يصحبها من جوع ونوع، وتعب ونصب. وبعد كل هذا يصل إلى مكة … وهنا نجده يقدم صورة دقيقة للجماهير الحاشدة التي تجد نفسها لأول مرة في المسجد الحرام أمام البيت العتيق : البكاء والدموع والدهشة، والعي عن الكلام …
   وتكون البداية بطواف القدوم وهنا يأخذ ابن رشيد وقته في هذه العبادة التي لها أكثر من دلالة … يغرق في الطواف مستعينا بهذا المشهد الفريد، تم يتحدث عن اتجاهه نحو منى وعرفات والمبيت بالمحصب .. وهنا يردد ما ورد في المأثور حول يوم عرفات، مضمنا شعره ما تناقلته المصادر عن أهمية هذا المكان، وهذا الزمان بحيث تشعر وكأن ابن رشيد يكتب مذكراته شعرا عن تحركاته في المنطقة المحرمة على غير المسلم …
  وبعد هذا يتحدث عن المصطلح المعروف بالنفر … يعني الانطلاق من عرفات إلى المشعر الحرام : المزدلفة … حيث جمع بين العشائين وتفرغ لالتقاط الجمرات قبل الالتحاق بمنى حيث نجده يعبر عن فرحته الكبرى مفتخرا على الآخرين بقضاء العيد هنا .!! تم يقصد العقبات الثلاث لرمي الجمرات … تم يعود إلى المسجد الحرام بمكة مشبها الحجاج بأنهم كالطيور التي تحن لمأواها الأول. هناك يقوم بطواف الإفاضة.
  ويسجل ابن رشيد هنا لقطة هامة في حجته قلما تتحقق لحاج من الحجاج… ويتعلق الأمر بالدخول إلى البيت الحرام، إلى داخل الكعبة … وقد سجل هذه اللقطة في أبيات لا تخلو من إشارة إلى الآية الكريمة (ومن دخله كان آمنا).
  ويتعلق ابن رشيد بالملتزم، ويقف عند الركن اليماني … ويصلي عند مقام إبراهيم … ويشرب من ماء زمزم الذي ورد فيه الحديث المتداول بين الناس … ويختم بالسعي بين الصفا والمروة … على نحو ما اعتدنا قراءته عند الحجاج والعمار …
  وبعد هذا يحكي عن حالات الرحيل وآثاره ويذكر طواف الوداع …
  ولم يبق أمامه من مخطط إلا أن يقوم بزيارة المدينة المنورة حيث قرأنا عن القطعتين من الشعر اللتين أوردهما من غير سند لهما على ما أسلفنا.
  ومرة أخرى نذكر أننا لا ندري كيف حصل عندما انقطعت الأخبار عند المغاربة عندما لم يذكروا ولو كلمة واحدة عن “الذهبية” التي جادت بها قريحة أستاذهم في مكة المكرمة وفي ضواحيها …
  ولا ندري أيضا كيف أن بعض الرحالة المغاربة إلى الديار المشرقية، وأقصد بهم الحجاج، ظلوا أو بعضهم على الأقل، ينقلون من هذه القصيدة في مذكراتهم دون ما أن ينسبوها إلى قائلها ابن رشيد باستثناء المقري الحفيد وابن الطيب الشركي على ما أسلفنا …
  والمهم بالنسبة إلينا، نحن الذين نؤرخ لأدب الرحلات وما دونه الحجاج والمعتمرون، أننا اكتسبنا رحلة جديدة لشخصية مغربية لفها النسيان رغم مكانتها العلمية والأدبية …
  وهكذا أضفنا إلى ما عرف في التاريخ الوسيط حول الخطاب المتعلق  ببث الأشواق لحج بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي عليه السلام، أضفنا هذه القصيدة على نحو ما قرأناه للمقري من قصائد في مدح خير البرية، وما قرأنا عن أبي سالم العياشي، ومحمد بن الطيب العلمي صاحب (القصائد العشرة في الشوق للبقاع المطهرة)، أضفنا إلى كل ذلك : “الذهبية” التي فلتت – حسب علمي – لجميع المهتمين بهذه الأدبيات المتصلة بتعلق المغاربة بالحرمين الشريفين().
  ويبدو لي أن الفضل في التنبيه إليها والتدليل عليها يرجع، أول الأمر، إلى مغربي حج عام 820 = يناير 1418 واطلع على كتاب (شفاء الغرام) للتقي الفاسي وقرظه ونوه بصاحبه أيما تنويه على ما نقرأ في العقد الثمين … ويتعلق الأمر بالشيخ أبي القاسم العبدوسي المتوفى عام 837=1434() …
  أعتقد أن العبدوسي توفر على نسخة كاملة من القصيدة الذهبية وهذا لا يمنع أن تكون “الواسطة” أيضا في حمل أصداء القصيدة الذهبية هو المقري الحفيد الذي افترض كذلك أنه بمناسبة حجته عام 1028=1619 وقف أيضا على مخطوط شفاء الغرام التي تضمنت هائية ابن رشيد …
  وقد دلتني على ذلك إشارتان اثنتان :
  الإشارة الأولى تمثل المقري بأبيات مفصلية هامة من القصيدة الهائية.
  الإشارة الثانية أنه ذكر في النفح إلى جانب وتريات ابن رشيد ما سماه “المذهبة”، يقصد “الذهبية” التي لم نر من ردد لها ذكرا بين المؤلفين المغاربة.
  وبعد المقري تمهد الأمر للشيخ أبي العباس أحمد بن ناصر الذي كان له الفضل في إبرازها بطريقة لافتة للنظر جعلتنا نتتبع أثارها إلى أن قدمناها لزملائنا… الذين كنت أجد في تشجيعهم ومساعدتهم ما حملني على جمع هذه القصيدة مغتنما هذه الفرصة لأدعو وبإلحاح إلى دراستها فإنها ما تزال في أمس الحاجة إلينا ولا سيما وصاحبها علم من أعلام المغرب والمشرق : ابن رشيد البغدادي المراكشي.
  إن مثل هذه الشخصيات، تمثل جسورا قوية ربطت بين المغرب والمشرق على نحو ما هو الحال بالنسبة لعدد من الرجال الذين التحقوا بالمشرق، واندمجوا مع إخوتهم هناك، فيهم من احتفظ بكنيته واسم أسرته ومنهم من اكتسب أسماء أخرى وانتسب إلى أسر أخرى… ويكفي أن نذكر كمثل تلك الطوائف، هاته الحشود من الأسر المغربية المتناثرة في مختلف الديار المشرقية، فيهم من أصبح ذا مركز مسؤول أو متنفذ على ما تتحدث به كتب التراجم، ضمن لائحة العلماء والأئمة والقادة الذين كان لهم دور أي دور في صنع تاريخ المناطق والأقاليم التي وصلوها أو قطنوا بها ممن نقف على أسمائهم وتآليفهم وأعمالهم هنا وهناك، ويكفي أن نضرب المثل اليوم باستحضار هذا البغدادي الأندلسي، المراكشي الحجازي التونسي: ابن رشيد الذي ابتدأ الحديث عنه بالمغرب وانتهى بالمشرق !
  صورة من مخطوطة جامعة أم القرى (مكة المكرمة، شفاء الغرام للتقي الفاسي الورقة 498-499: “القصيدة الذهبية في الحجة المكية والزورة المحمدية” لابن رشيد …
  نجدد الشكر للمساعدة الثمينة …
  صورة من مخطوطة الخزانة الملكية بالرباط، رحلة الشيخ أحمد بن محمد بن ناصر الورقة 79 ب والصفحة 135. نجدد الشكر للمساعدة الثمينة.