الرئيسية / تصرفات الرسول بالإمامة من حيث المفهوم والأنواع والتمييز والآثار.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : تصرفات الرسول بالإمامة من حيث المفهوم والأنواع والتمييز والآثار.

الكاتب(ة) : د. خليفة با بكر الحســن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا بحث عن تصرفات الرسول  بالإمامة من حيث المفهوم والأنواع والتمييز والآثار) جعلته في ثلاثة مباحث وخاتمة، المبحث الأول عن تصرفات الرسول  عموما. والثاني عن تصرفات الرسول  بالإمامة: المفهوم والسمات والتمييز. أما الثالث فعن الأثر الفقهي العملي لتصرفات الرسول  بالإمامة وحكمها.
أسأل الله تعالى التوفيق فيما أنا بصدده، كما أسأله أن يجعل جهدي هذا في ميزان حسناتي يوم الدين ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾.
المبحث الأول : تصرفات الرسول  عموما.
مضت سنة الله في الكون أن يصطفي رسله وأنبياءه ويبعثهم إلى أقوامهم لتستقيم الحياة، ويسلم الوجود، وتصان الحقوق، وتؤدى الواجبات، وتدرأ المشاحنات، وتتحقق العدالة، ويتفرغ الإنسان لأداء واجبه في تحقيق مقتضيات الخلافة في الأرض ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾().
والهداية التي جاءت بها كتب الله فضل من أفضاله السابغة على عباده، ورحمة من رحماته المطلقة بهم لئلا يضلوا في الحياة ويشقوا ﴿فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾(). وهي أيضا وعده حين هبط أبونا آدم عليه السلام من الجنة: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾، ﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾() على أن تلك الهداية أخذت أطوارا مختلفة في تاريخ البشرية الطويل: ﴿ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك﴾().
وحين غلبت على الناس الأثرة والأنانية والظلم بشكل واضح كان تشديد الله عليهم في التوراة: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾(). ثم كانت النصرانية بتوجيهاتها الأخلاقية لتخرج الدين من الإطار الضيق الذي حصره اليهود فيه ببغيهم وظلمهم، إلى أن جاءت الرسالة التي ختمت الرسالات وعبرت عنها جميعا: «إن كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت للناس كافة»()، فحان وقت الدين الذي ارتضاه الله للبشر جميعا: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون به، ويقولون لولا هذه اللبنة، وأنا تلك اللبنة».
ولأن الرسول  هو الرسول الخاتم ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين﴾()، فقد جاءت رسالته عامة لكل الناس وخاتمة لكل الرسالات، ودائمة في كل الأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا﴾()، ﴿تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا﴾().
كما جاء كتابه كلمة البارئ العظيم إلى كل مخلوقيه مصدقا لما بين يديه من الكتب، ومهيمنا على ما سبقه من الشرائع:  ﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه﴾()، ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾().
وتبع ذلك أن أمر الرسول  بالبلاغ بحكم رسالته هو والرسل الذين سبقوه ﴿فهل على الرسل إلا البلاغ المبين﴾(). ولما كان البلاغ لا بد أن يكون واضحا كان على الرسول  البيان: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾(). ولما كانت رسالة الرسول  هي الرسالة الخاتمة وكانت عامة للبشر جميعا كما سبق بيانه اقتضى ذلك أن تتعدد أنحاء ذلك البيان لتفي بالغرض المراد، لهذا كانت سنته متمثلة فيما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير().
والسنة القولية هي الأحاديث التي قالها النبي  في مختلف المناسبات، مثل قوله : “إنما الأعمال بالنيات”()، وقوله: “لا ضرر ولا ضرار في الإسلام”()، وقوله: “لا وصية لوارث”().
والسنة الفعلية هي الأعمال التي قام بها الرسول  مثل أداء الصلوات الخمس، مع قوله صراحة: “صلوا كما رأيتموني أصلي”()، وأداء شعائر الحج، وقوله في ذلك: “خذوا عني مناسككم”().. وغير ذلك كثير.
والسنة التقريرية هي سكوت النبي  عن إنكار فعل أو قول صدر أمامه أو في عصره وعلم به، وذلك إما بموافقته أو استبشاره أو استحسانه مثل أكل الضب على مائدته()، ومثل إقراره لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في خطته القضائية، ومنهجه في الوصول إلى الأحكام الشرعية.()
وقد جمعت سنة النبي  كل هذه الجوانب، لأن إعراب النبي  عن بلاغ أو بيان تأكيدا أو تفصيلا أو تخصيصا أو تقييدا أو بتشريع جديد، لا يعدو أن يكون بقوله، أو بفعله، وتدخل فيه الإشارة والكتابة،  أو بإقراره، كما أن النبي  بشر ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد﴾() وله، ترتيبا على ذلك أوضاعه البشرية، وتصرفاته الناجمة عن ذلك، سواء كانت تلك الأوضاع تجارب حياة مجردة، أو كانت صفات جبلية، كما أن له خصوصياته التي اختصه الله بها، أو اختص ـ هو نفسه ـ بها غيره.
وهنا لا بد من الوقوف للإشارة لبيان أن ما صدر عنه  من أقوال وأفعال إنما يكون حجة على المسلمين يجب عليهم متابعته فيما صدر عنه بوصفه رسولا، وكان المقصود به التشريع()، وغير ذلك ليس بتشريع في عمومه. ومنه:
1 ـ ما صدر عنه بمقتضى طبيعته البشرية من قيام وقعود ومشي ونوم وأكل وشرب فليس تشريعا، لأن مبعث هذه الأفعال ليس رسالته بل بشريته، وحكمه أنه مباح بالنسبة له ولأمته، على أن مثل هذا الفعل يكون تشريعا إذا دل دليل على الاقتداء به فيه، وفي هذه الحال يكون تشريعا بالدليل الذي دل على ذلك لا بحكم طبيعته.() مثاله: أنه  كان إذا شرب تنفس ثلاثا ويقول إنه أهنأ وأمرأ. وأنه كان يأكل بيمينه وأمر بذلك،  ويأكل مما يليه وأمر بذلك.()
وهذا على رأي جمهور العلماء، وفيما وراء ذلك فقد ذهب قوم إلى أن حكم متابعته في أفعاله الجبلية مطلقا هو الندب، ومن المأثور عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يتتبع مثل هذه الأفعال ويحرص على تقليد الرسول  فيها().
2 ـ ما صدر عنه بحكم خبرته في الحياة، وحذقه لشؤونها، وهذا أيضا ليس تشريعا، لأنه آيل إلى بشريته، ومن الجائز أن يعتقد فيها شيئا فيظهر الأمر بخلافه، ولعل أبرز حادثة في هذا الشأن حادثة تأبير النخل التي مؤداها أن الرسول  مر بقوم على رؤوس النخل، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحونه بجعل الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله : ما أظن يغني ذلك شيئا. فأخبروا بذلك، فتركوه فشاص، فأخبر رسول الله  بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إن حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله().
3 ـ ما صدر عنه ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به كتزوجه بأكثر من أربع من النساء، وكإباحة الوصال له في الصيام، واختصاصه بوجوب صلاة الضحى والوتر، والتهجد بالليل، أو قبوله لشهادة خزيمة وحده فهذا أيضا ليس بتشريع().
وتصرفات الرسول  جمع تصرف، والتصرف في اللغة التقلب في الأمور، والسعي في طلب الكسب()، أما اصطلاحا فلم يرد تعريف محدد عند القدماء، على أنه يمكن تعريف “التصرف” أخذا من كلامهم بأنه: ما يصدر عن الشخص بإرادته ويرتب الشرع عليه أحكاما مختلفة().
وعلى هذا فإن المراد بتصرفات الرسول  الدوافع والبواعث التي حدت به إلى ما صدر عنه من أقوال وأفعال وتقريرات، لأن تصرفات الرسول  صدرت عنه بإرادته السنية في إطار بعثته وأوامر ربه له بالتبليغ والبيان.
ويؤيد هذا المفهوم أن الفقهاء قسموا ـ فيما بعد ـ تصرفات المكلفين إلى تصرفات قولية، وتصرفات فعلية، والتصرفات الفعلية ما يكون مصدرها عملا وفعلا غير اللسان، وتدخل في ذلك الكتابة والإشارة، أما التصرفات القولية فهي ما يكون منشؤها اللفظ دون الفعل().
وقد اهتدى إلى قريب من هذا المعنى أحد الباحثين المعاصرين فوصفها بأنها تدابيره  التي تصدر عنه سواء منها الفعلية أو القولية أو التقريرية ().
وفي كل الأحوال، فإن مصطلح “تصرفات” يرجع إلى الإمام القرافي (ت684هـ) الذي عقد الفرق السادس والثلاثين من فروقه للتمييز بين قاعدة تصرفه  بالرسالة، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى، وهي التبليغ، وبين قاعدة تصرفه بالقضاء، وقاعدة تصرفه بالإمامة()، مع حرصه على هذا المعنى الذي توسع فيه في كتابه: “الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام”(). وتبع القرافي في ذلك ابن فرحون (ت799هـ) في كتابه “تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام”، والطرابلسي الحنفي (ت844هـ) في كتابه: “معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام”.
وقد خصص العز بن عبد السلام في قواعده قواعد للتصرفات بهذا المعنى، مثل “قاعدة في بيان حقائق التصرفات”، وأن “التصرفات تختلف باختلاف مصالحها”، وأن “كل تصرف يتقاعد عن تحقيق مقصوده باطل”، وأن “أحكام التصرفات تختلف باختلاف مصالحها”().
كما ظهر أثر هذا التقسيم من بعد عند ابن تيمية (ت728هـ) في كتابه: “منهاج السنة المحمدية”، وعند ابن قيم الجوزية (ت751هـ) في كتابيه: “زاد المعاد “، و”الطرق الحكمية”، وبدر الدين الزركشي(ت794هـ) في كتابه: “البحر المحيط”.() وقبل ذلك فإن الإمام القرافي قد استلهم هذا التقسيم الذي عمد إلى التمييز بين أقسامه من خلال فرقه المشار إليه من الاختلافات التي وقعت بين الفقهاء وهم بصدد تناول الأحكام المستنبطة من أحاديثه الشريفة  بالإضافة إلى إشارات العز بن عبد السلام (ت660هـ) إلى الإمامة خاصة في كتابه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”.
على أن الأمر يمكن مده إلى أبعد من ذلك بكثير واستلهامه من الأحاديث التي وردت عن الرسول  نفسه والتي تشير إلى نوع التصرف الذي يتصرفه سواء كان بحكم بشريته أو بحكم العادة أو بحكم الخبرة، أو بحكم السياسة العامة، أو وفق الحجج والبينات، أو على سبيل الإرشاد أو على سبيل الخصوصية. ومن خلال تقسيمات الأصوليين  والفقهاء والمحدثين للسنة بدءا من الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابه الرسالة الذي تناول فيه أوجه السنة() والخطيب البغدادي في كتابه: “الفقيه والمتفقه” الذي ميز فيه بين السنة التي سنها الرسول  بوحي، والتي سنها بغير وحي.أو من خلال تعريفهم للسنة نفسها وبيان أحكامها() على أن بعضهم كان يسمي تلك التصرفات بالأحوال أو المقامات.()
وقد حصر الإمام القرافي هذه التصرفات في الرسالة والفتيا والقضاء والإمامة ـ كما سلفت الإشارة ـ وجعل الفروق بين الأقسام الأربعة قانونا يتخرج عليه ما يرد من تصرفاته ، وأصلا من الأصول الشرعية المقررة().
وتبعه في ذلك الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه المميز: “مقاصد الشريعة” فوصل بهذه الأقسام إلى اثني عشر قسما، لكنه سماها أحوالا كما أنه تناولها في فقرة “انتصاب الشارع للتشريع” باعتبار أن تمييز مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عنه  تهدي إلى مقصده. ولذلك توسع فيها بحسب دلالات ومقاصد كل مقام من تلك المقامات مؤكدا على أن الناظر في مقاصد الشريعة بحاجة إلى تعيين الصفة التي صدر عنها من النبي  قول أو فعل.
وفضلا عن ذلك فقد شرح تلك الأحوال بإفاضة، وطبق كل واحدة منها على سنة رسول الله القولية والفعلية بمهارة، وبذلك أثرى باب مقاصد الشريعة بهذا المبحث النفيس، كما رفد مباحث السنة النبوية وأصول الفقه بنظراته العملية والتطبيقية العالية().
وقد آثرت في هذه المرحلة من البحث أن أجمع بين النظرين: نظر الإمام القرافي في عد هذه التصرفات، ونظر الإمام ابن عاشور الذي تعتبر الأحوال التي ذكرها امتدادا وتوسيعا لما بدأه القرافي، مع التزام تقسيم الإمام القرافي كأساس، ومن ثم تخريج الأحوال التي ذكرها الإمام ابن عاشور عليه، وجعلها امتدادا له بحسب طبيعة كل حالة من الأحوال الاثنتي عشرة التي ذكرها، وما خرج من بوتقة التقسيم الرباعي يمكن الإشارة إلى طبيعته.
وفي ضوء ذلك أعود لتقرير أن رجوع تصرفات الرسول  إلى الأقسام التي ذكرها القرافي أساسه في الجملة القسمة الحاصرة التي ذكرها ابن الشاط وهي: أن تصرف الرسول إما أن يكون تصرف تعريف، أو تصرف تنفيذ. فإن كان تصرف تعريف فهو الرسالة والفتيا، وإن كان تصرف تنفيذ فهو القضاء والإمامة().
وفي إطار هذه القسمة يمكن التعريف بكل تصرف من هذه التصرفات، وبيان آثاره بإيجاز مع المقارنة بينها، وبيان السمات التي تميز كل تصرف منها عن الآخر.
1 ـ الرسالة :
أصلها من “أرسل” يقال: أرسل الكلام: أطلقه من غير تقييد، وأرسل الرسول بعثه برسالة(). وتصرف الرسول  بالرسالة يعني تبليغه للخلق ما وصل إليه من ربه عز وجل(). وهو التصرف الأساس، لأن الرسول  بعث رسولا، جاء ذلك في القرآن بأسلوب الحصر ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل﴾().  بل هو خاتم الرسل: ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما﴾(). ولهذه الخاصية كان وصف الرسالة غالبا على تصرفاته، وألزم له، لأن رسالته لن تعقبها رسالة أخرى، وفي شأن غلبة تصرف الرسالة على تصرفاته الأخرى جاءت عن الأصوليين قاعدة وهي: “أن أفعال الرسول  كلها محمولة على التشريع إلا ما ثبت فيه دليل الخصوصية”(). كما أن الصحابة رضي الله عنهم كان دأبهم دائما التأسي والاقتداء به  من غير سؤال عن العلة والسبب كقول سيدنا عمر رضي الله عنه عند تقبيله للحجر الأسود: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك().
ونلاحظ في هذا الصدد أن الفقهاء عند اختلافهم في شأن الأفعال المترددة بين الجبلي والتشريعي من تصرفاته في العبادات يميلون إلى تقديم التشريعي على الجبلي غالبا(). كما أن الأصوليين حملوا الأفعال التي لم يثبت كونها من الجبلية، والتي لم يثبت كونها من خصائصه وهو ما يسمونه بالأفعال المجردة على التشريع، وجعلوا حكمها التكليفي تابعا لما جاءت بيانا له إن كان ذلك الفعل بيانا لمجمل أو تخصيصا لعام أو تقييدا لمطلق. كما أن البيان عندهم في مثل هذه الأحوال يعرف بقوله الصريح كـ”صلوا كما رأيتموني أصلي” و “خذوا عني مناسككم” أو بقرائن الأحوال، وإن لم يظهر كون الفعل للبيان، بل ورد ابتداء، فإما أن تعرف صفته الشرعية أو لا تعرف، فإن عرفت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة فإن أمته مثله في الحكم، وإن جهلت صفته نظر؛ فإن ظهر فيه قصد القربة بأن كان مما يتقرب به إلى الله كصلاة ركعتين من غير مواظبة عليهما فيدل على الندب، وإن لم يظهر فيه قصد القربة كالبيع والمزارعة فقال الإمام مالك رضي الله عنه: إنه يدل على الإباحة، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: يدل على الندب، وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة، واختار الآمدي والإسنوي في حال ظهور قصد القربة أنه دليل على القدر المشترك بين الوجوب والندب: وهو ترجيح الفعل على الترك، أي مجرد المشروعية، وفي حال عدم ظهور القربة: أنه دليل على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح  هو رفع الحرج عن الفعل.()
كما أن من قواعد الأصوليين المقررة في هذا الصدد في باب العام أن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”()؛ بمعنى أن تشريعه  الذي يأتي مقرونا بسبب خاص تكون العبرة فيه العموم لا خصوص ذلك السبب إلا أن يدل دليل خاص على ذلك.
وبإزاء كل ذلك فإن مما يدل على غلبة الرسالة على تصرفاته :
1- سعيه الدائم لتبليغ الأحكام وإشاعتها بين الناس عن طريق أمره بذلك، “مروا فلانا فليؤذن في الناس”()، والخطابة كخطبه في العيدين، وخطبه في الصلوات التي تكون للأهوال الكونية كالخسوف والكسوف، أو للتضرع كصلاة الاستسقاء، وفي الانتصارات والفتوح كفتح مكة التي توجها  بخطبته الشهيرة في حجة الوداع التي قال فيها عقب خطابه: “ليبلغ الشاهد منكم العائب”()، وبعثه أبا بكر رضي الله عنه فيمن يؤذن في الناس يوم النحر بمنى: “لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي  وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ فقالوا: يوم النحر. قال: هذا يوم الحج الأكبر.()
كما اشتهر في ذلك  بالدعوة قبل الحرب()، ومن وسائله التشريعية الكتابة، ككتابه في الديات()، وكتابه في الصدقة()، وكتبه لملك الروم وللنجاشي ملك الحبشة ولعظيم الفرس وللمقوقس عظيم القبط()، حتى إحصاء الناس آنذاك حرص عليه : “اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس ” قال حذيفة رضي الله عنه: فكتبنا له ألفا وخمسمائة().
2 ـ حرصه على العلم وأمره به، والنهي عن كتمانه، وكل ذلك حرصا على الرسالة واستمرارها  حية بين الناس، قال : “من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”، كما قال : العلماء هم ورثة الأنبياء.. من أخذه أخذ بحظ وافر، من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا في الجنة().
3 ـ تعبه  في سبيل الرسالة، وتحمله لما جرت عليه من أهوال ومصاعب، عن جابر رضي الله عنه: كان النبي  يعرض نفسه في الموقف فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي().
وأخيرا فإن حكم ما صدر عنه  من التصرفات في إطار هذا الباب الكبير الذي تفرعت عنه سائر التصرفات الأخرى من جهة أن تفويضها جميعا كان مردودا له عن طريقها هو كونه حكما عاما ماضيا على الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأمورا به أقدم عليه بنفسه، وكذلك المباح، وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه.
2 ـ الفتيا :
الفتيا في اللغة تبيين المشكل من الأحكام. ويراد بتصرف الرسول  بالفتيا إخباره عن الله تعالى كإبلاغ الصلاة وإقامتها على هيئة مخصوصة، وإقامة المناسك ونحو ذلك().
وإفتاء الرسول  جزء من رسالته، علمه الله سبحانه وتعالى له منذ بداية دعوته حينما كان الناس يستفتونه ويسألونه عما يعرض من قضايا وأحوال، وشاهد ذلك قوله : ﴿ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن﴾()، وقوله: ﴿يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة﴾()، وقوله: ﴿ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو﴾()، وقوله: ﴿ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير﴾()، وقوله: ﴿ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض﴾().
وهكذا نلاحظ أن الرسول  باشر الفتوى كجزء من دعوته وتشريعه الخالد منذ أمد مبكر بأمر ربه حينما كان يستفتى، فيتولى الوحي الإجابة على تلك الاستفتاءات التي نلاحظ أيضا أنها تدور في كثير من جوانب حياة الناس، الميراث، والأسرة، والإنفاق، ومعاملة اليتامى، والعلاقات الإنسانية الخاصة، كما كان الوحي ينبهه إذا أفتى من نفسه في شيء فاحتاج ذلك الحكم إلى توجيه وتسديد، ومن ذلك إجابته لخولة بنت ثعلبة رضي الله عنها التي ألحت عليه حينما ظاهر منها زوجها فقال لها: ما أراك إلا حرمت عليه، حتى نزل قول الله : ﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير﴾(). ()
والفتيا جزء من الرسالة لأنها بيان، والرسول مأمور بالبيان: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾.()
ولحرصه  على الرسالة التي أنيطت به وتبليغها كان  حريصا على الإجابة فيما يستفتى فيه، حتى أنه  كان يفتي في قارعة الطريق. وبوب البخاري ذلك في كتاب الأحكام من صحيحه()، كما كان يقول لسائله: سل عما بدا لك، ويقول لسائليه: سلوني(). وكان يفتي بالإشارة أحيانا، روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي  سئل يوم النحر عن التقديم والتأخير؟ فأومأ بيده أن لا حرج().
وكان  يبين وجه فتواه ويعلل لها، روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت حبيش رضي الله عنها جاءت إلى النبي  فقالت: إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله : لا إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي(). وقال للتي جاءت تسأله في النيابة عن أمها في الصوم بعد موتها. أرأيت أن لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء(). وقال للذين جاءوا يسألونه عن بيع الرطب بالتمر؟: أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن(). بل وكان الرسول  حينما تكثر عليه تفاصيل الاستفتاءات يضع قاعدة تكف الناس عن التفاصيل: عن  أسامة بن شريك قال:  “حججنا مع رسول الله ، فسئل عمن حلق قبل أن يذبح أو ذبح قبل أن يحلق فقال لا حرج. فلما أكثروا عليه قال: يا أيها الناس، قد رفع الحرج إلا من اقترض من أخيه شيئا ظلما، فذلك الحرج”.()
وعموما فإن فتاوى الرسول  كثيرة، منها في الصلاة:
ما جاء عن يعلى بن أمية رضي الله عنه في شأن قصر الصلاة: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ﴿وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا﴾(). فقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله  فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا من الله صدقته.()
وما جاء في شأن صلاة الليل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله عن صلاة الليل، فقال: مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى.()
وما جاء في شأن الصلاة الأفضل، عن جابر رضي الله عنه: سئل رسول الله  أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت.()
وفي الصيام حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: هششت يوما فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي  فقلت: صنعت أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، فقال : أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قال لا بأس بذلك. فقال : ففيم؟()
وعن عائشة رضي الله عنها أن بلالا قال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟  فقال : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلم بما أتقي. والرجل الذي سأله عن كفارته حين أفطر في رمضان بالجماع عامدا.()
وفي الزكاة: ما جاء عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله  عن الحمير هل فيها زكاة؟ فقال: ما جاءني فيها شيء إلا هذه الآية: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره﴾﴿ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾(). ()
وما جاء عن علي رضي الله عنه أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه سأل النبي  في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك.()
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص فسألت النبي فقال: لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه().
وفي الحج عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فكيف تأمرني أهل؟ فقال: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني. قال: فأدركت(). وما جاء عن سؤاله  عن نفقة الحج(). بل وقف في حجة الوداع على ناقته بمنى للناس يسألونه عن أحكام الحج().
ومجال الفتيا كما يقرر القرافي ـ هو التبليغ()، فهي داخلة فيه، كما أن حكمها حكم الرسالة من حيث عمومها إلى يوم القيامة، إلا أن يدل دليل خاص أو قرينة حال على الخصوصية، فقوله  في شأن البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته() حينما سئل عن ذلك حكم عام مقرر وماض إلى يوم القيامة، وعلى ذلك تأسست قاعدة: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” التي سلفت الإشارة إليها في تصرفه  بالرسالة. ومن الفتاوى التي صحبها ما يدل على الخصوصية قوله  لأبي بردة بن نيار رضي الله عنه في شأن التضحية من المعز: “تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك”.() وجعله شهادة خزيمة رضي الله عنه بشهادة رجلين.() ومن صور ذلك أيضا حديث سهلة بنت سهيل التي سألت الرسول  في شأن سالم مولى أبي حذيفة الذي بلغ مبلغ الرجال وعقل ما يفعلونه، وأنه يدخل على نساء البيت، فقال النبي: “أرضعيه تحرمي عليه.”() وقد حمل الصحابة والتابعون وجمهور الفقهاء هذا الحديث على أنه مختص بها وبسالم().
وفي كل الأحوال فإن قضايا الأعيان التي من هذا الصنف كثيرة في باب التشريع المباشر أكثر منها في باب الفتيا، والخلاف بين العلماء فيها كثير من حيث التسليم بالقرائن التي صحبتها أو عدم التسليم بها().
والخلاصة أن الأصل في تصرفاته  بالرسالة العموم، وكذلك الفتوى، لأنها ملحقة بها إلا ما دل دليل صريح على الخصوصية، أو قامت قرينة على ذلك. وهذا باب واسع يحتاج إلى عمل كبير في استقصاء ما جاء من سنة الرسول في قضايا الأعيان وتحديد أحكامها سواء كان ذلك في باب الرسالة أو في باب الفتيا. وسواء كانت تلك الخصوصية صريحة فيها أو واردة خلال التعليلات التي صحبت تلك الأحكام في أثناء خلافات الفقهاء ومناقشتهم في هذا الصدد، وقد يتبع ذلك البحث في باب العام والخاص عند الأصوليين للتمييز بين التشريع والفتوى العامين وبين الحالات الخاصة، فإن ذلك أضبط وأنفع وألحق بفكرة الإمام القرافي في التمييز بين تصرفات الرسول  التي اتجه بها الإمام إلى التقسيم الواسع والتمييز بين أنواع التصرف، بناء على أصل الفكرة في التصرف وتمييزها بين الرسالة والفتيا التي تقوم على التشريع، وبين القضاء والإمامة التي تقوم على التنفيذ مع ما عساه أن يكون بين هذين القسمين من تداخل أحيانا والله أعلم.
3 ـ القضاء :
القضاء هو الفصل بين الناس حسما للتداعي وقطعا للنزاع بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة(). وهو من أعمال الرسل يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين فهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين﴾(). وقوله: ﴿يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب﴾(). ومن هنا كان التصرف بالقضاء من تصرفات الرسول ، ويدل على ذلك أكثر تكليف الله سبحانه بالحكم في قوله: ﴿فاحكم بينهم بما أنزل الله﴾()، وقوله: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾().
وقد باشر الرسول  القضاء بالفعل، وفي أحاديثه الشريفة طائفة كبيرة من الأحكام والقضايا يكفي أن نذكر منها في هذه العجالة بعض ما ورد فيه أنه قضى صراحة:
مثل حديث أم سلمة زوج النبي  الذي ذكرت فيه أن رجلين جاءا إلى رسول الله  يختصمان في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله : إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقتطع له قطعة من النار.()
وما أخرجه أبو داوود أن رسول الله  قضى أن الحكمين يقعدان بين يدي الحاكم(). وما أخرجه أبو داوود وابن ماجه أن رسول الله  قضى بيمين وشاهد.()
    وما جاء عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه تقاضى ابن أبي حدرد  دينا كان له عليه في المسجد. الحديث.()
وما جاء بمادة ” الخصومة” كقول الأشعث بن قيس: “كان بيني وبين رجل خصومة فاختصمنا إلى رسول الله  فقال: شاهداك أو يمينه.. الحديث(). وما قاله أيضا أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي ().
وما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله () وأن آخرين تدارآ في دابة().
وكان في قضائه يباشر الإجرءات القضائية اللازمة يسمع الحجج ويعرض اليمين على المتخاصمين وإذا تسارعوا إليه يسهم بينهم(). وكان يحلف الخصوم ويأمرهم بالصدق()، وينهى عن شهادة الزور، ويشيد بخير الشهود().
كما كان يأمر بملازمة الغريم()، ويحبس في التهم. أخرج أبو داوود والترمذي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن الرسول  حبس رجلا في تهمة().
وقد أورد شاه ولي الله الدهلوي عددا من القضايا التي قضى فيها رسول الله  منها: قضية بنت حمزة في الحضانة، وقضية ابن وليدة زمعة في الدعوى، وقضية الزبير والأنصاري في شراج الحرة، وناقة البراء بن عازب، والشفعة فيما لم يقسم(). وقد أجمل تصرفه  القرافي فقال: متى فصل بين اثنين في قضايا الأموال أو أحكام الأبدان ونحوها بالبينات والأيمان والنكولات ونحوها فعلم أنه إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة وغيرها، لأن هذا من شأن القضاء والقضاة().
    فتصرفه بالقضاء يعني حكمه وفصله بين خصمين متنازعين رفعا الأمر إليه، وهذا الفصل والحكم يقتضي النظر في الواقعة وتقديرها، واستخدام الأدوات المعينة على ذلك من بينات وتحليف، حتى إذا ما تم تكييفها نزل عليها الحكم الشرعي المناسب، وهذا الحكم الذي يطبقه  على الواقعة قد يكون من التشريعى العام كالحكم بحد الزنا إذا ثبتت موجباته أو السرقة إذا تحققت شروطها وهكذا، وقد يكون اجتهادا إذا لم يكن في المسألة نص من الوحي لكنه يمضي ـ بعد ذلك _ بحكمه تشريعا لأن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” كما تقدم.
وعلى أنه كان إذا قضى اجتهادا ثم نزل القرآن بغير ما كان قد قضى يمضي اجتهاده، ويعمل بالقرآن في المستقبل. روى الشعبي أن رسول الله  كانت تنزل به القضية فيقضي فيها، ثم ينزل القرآن بغير ما كان قضى، فيمضي ما كان قضى على حاله، ويستقبل بالقرآن.()
وكان الرسول  مع مباشرته للقضاء يوكله للصحابة رضوان الله عليهم في حضرته، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله  أن أقضي بين قومي. فقلت يا رسول الله ما أحسن أن أقضي. فقال : “إن الله مع القاضي ما لم يحف عمدا ثلاث مرات”.()  
وعن عتبة بن عامر قال: كنت عند النبي  يوما فجاءه خصمان فقال لي: اقض بينهما. قلت: على ما ذا يا رسول الله؟ قال: اجتهد فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة.()
وعلى هذا فإن المراد بتصرفه بالقضاء إثبات الواقعة المعروضة عليه ’ ثم تطبيق الحكم الشرعي عليها، وهذا القدر اجتهادي قطعا، وهو ما يسميه الأصوليون تحقيق المناط، أما الحكم المطبق نفسه فهو تشريع سواء كان وحيا أو اجتهادا، وتدخل في ذلك الآليات كالبينات والحلف، فإن أساسها محدد بالشرع كما هو معلوم ما عدا ضرب الآجال والمواقيت أو التعازير في الأحوال التي لا تثبت فيها الحدود، أو في المسائل التي ليس لها حد أو حكم مقرر شرعا، فإن هذه الأخرى اجتهادية.
وفي هذا المعنى يقول شاه ولي الله الدهلوي: واعلم أن القضاء فيه مقامان: أحدهما: أن يعرف حقيقة الحال الذي تشاجرا فيه. والثاني: الحكم العدل في تلك الحالة. ثم قال ـ فيما بعد ـ وقد ضبط النبي  كلا المقامين بضوابط كلية وذكر في المقام الأول: الشهادات والأيمان وما يتعلق بهما، كما ذكر أن المقام الثاني شرع فيه النبي صلى اله عليه وسلم أصولا يرجع إليها، منها الترجيح إذا كانت الحالة جلية في النزاع، والاحتكام إلى العرف والعادة في حال ما إذا كانت هناك سابقة من عقد أو غصب يرعى كل واحد منهما أحقيته فيه،  ويكون لكل واحد منهما شبهة().
ويقول الشيخ محمد الخضر حسين: وأما تطبيق الأحكام فيرجع النظر فيه إلى مبادئ يتوقف عليها حفظ الحقوق كالاستناد إلى البينات وضرب الآجال لإقامتها، وأما المبادئ فإنها قائمة في دلائل الشريعة دون أن تشذ منها كبيرة أو صغيرة، وأما النظم الزائدة على ما يعد ركنا للعدالة فذلك يجيء على حسب ما يقتضيه حال الزمان والمكان، ولهذا فقد وكله الشارع إلى اجتهاد القائم على منصب القضاء.()
ومجال تصرف الرسول  بالقضاء عام من حيث موضوعه فيشمل أي نزاع في مسائل الأحوال الشخصية من الزواج والطلاق والميراث أو المسائل المدنية من جهة إلزام الديون وتسليم السلع، ونقد الأثمان ونحو ذلك كثير()، مما يطلق عليه أهل القانون “القانون الخاص”، لكنه لا يسري على العبادات.
أما حكمه وهو المقصود في أصل التمييز بين تصرفاته  فهو عدم جواز إقدام أحد عليه إلا بحكم حاكم أو قاض() في زمن من يطلب الحكم في الحادثة التي عرضت له، لأن هذا التصرف فيما يتصل بتطبيق الحكم على الحادثة يتبع فقه من تولى النظر في الحادثة وقناعته وحتى فيما يتصل بالحكم الذي يطبق فقد يكون في بعض أحواله اجتهاديا متغيرا بتغير الأعراف والمصالح.
الإمامة :
أما تصرف الرسول  بالإمامة فهو معالجته لأمور السياسة العامة مع قوة التنفيذ لما يتعلق بها ويتعلق بالأحكام القضائية، ويكون ذلك بضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد.()
وبما أن البحث يتركز في أساسه على خصوص هذا التصرف فسوف ندع التفصيل فيه إلى أن يأتي موضعه، غير أننا قبل أن نصل إلى ذلك لا بد من أن نميز بين أنواع التصرفات الأربعة التي بنى عليها الإمام القرافي تقسيمه، لأن تلك التقسيمات لم تأت عنده إلا بغرض ذلك التمييز ومن ثم ما يترتب عليه من آثار فقهية كبيرة، وقد يكون من الأجدى في ذلك أن نميز أولا بين كل نوعين يرجعان إلى فصيلة واحدة أو قاسم مشترك: كأن نقارن بين الرسالة والفتيا ثم نقارن ـ بوجه مستقل ـ بين القضاء والفتيا، ومن ثم بين القضاء والإمامة ثم نجري المقارنة ثانيا بين الرسالة والفتيا من جانب، والقضاء والإمامة من جانب آخر.
أ ـ التمييز بين الرسالة والفتيا:
الرسالة والفتيا تشتركان في أنهما تبليغ وتشريع، وتتمايزان عن بعضهما في:
ـ أن الرسـالة تعـني التبليغ في كـل شيء بينـما الفتـيا هي الإخـبار عن الله تعالى، فمرجعها إلى المواطن التي تشكل على المكلفين.
ـ يترتب على الفرق السابق أن الرسالة أعم من الفتيا.
ـ أن الرسالة من حيث هي رسالة قد لا تقبل النسخ في عهد الرسول  بأن تكون خبرا صرفا أو تكون من أساسات الفضائل وقطعيات الدين وأصوله، أما الفتيا فمهيأة بطبيعتها لقبول النسخ في عهد الرسول ، لأنها تعالج أحكاما شرعية جزئية، أما بعد عهد الرسول فهي تشريع لا ينسخ.
ب ـ التمييز بين الفتيا والقضاء:  
الفتيا والقضاء يشتركان في أنهما إخبار عن حكم الله تعالى، وهذا الإخبار ينجم عنه تطبيق للتشريع إذا كان في المسألة المقضي أو المستفتى فيها قاعدة شرعية أصلية فتطبق القاعدة على تلك المسألة فتغدو تلك المسألة منضوية تحت تلك القاعدة وجزءا منها، ومتى ما غدت كذلك فقد آل هذا التطبيق نفسه إلى أنه تشريع، لأنه من الرسول  وصورة من صور البيان المأمور به . أما إذا كان ذلك الحكم في الفتوى والقضاء لا نص فيه فهو اجتهاد يؤول إلى تشريع ما لم ينبه الوحي إلى خطأ فيه فيكون التشريع ما جاء به الوحي. ويتمايزان من حيث:
ـ أن التصرف النبوي بالقضاء ملزم بقوة الحكم وبالتشريع، أما الفتيا فملزمة في فتواه  بقوة التشريع، وعليه فإن عبارة ” القضاء ملزم والفتوى غير ملزمة ” فمنصرفة إلى أمته بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ولا تجري على خصوص الفرق بين قضائه وفتواه في حياته وهو المقصود هنا.
ـ التصرف بالفتيا ـ من حيث موضوعه ـ أعم من القضاء من جهة جريانه في العبادات والمعاملات وسائر الشؤون الدينية الأخرى، لأنه فرع الرسالة والتشريع ويقوم مقام الإخبار عنها، بينما القضاء لا يكون في العبادات وإنما يكون في المعاملات لتعلقه بالحقوق والواجبات، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وفي هذا يقول القرافي: ” وكل ما تصرف فيه الرسول  في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني فأجابه فيه فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ.()
ـ التصرف بالفتوى دافعه الإجابة على سؤال المستفتي بينما تصرفه بالقضاء لا يكون إلا لفصل الخصومات وفض المنازعات ” إنكم تختصمون إلي “.
ـ ناتج تصرفه  بالفتيا سنة تشريعية عامة بينما ناتج تصرفه بالقضاء خاص بمورده الذي جاء فيه، ولهذا فإن تصرفاته  بالقضاء هو رد الأمر إلى القضاء في الزمن الذي ينشأ فيه النزاع.
ـ تصرف الرسول  بالفتيا يقبل النسخ كما سبقت الإشارة عند التمييز بين الرسالة والفتيا بينما التصرف بالقضاء لا يقبله. ()
ج ـ التمييز بين الإمامة والقضاء:
ـ الإمامة والقضاء يشتركان في أن ناتج كل منهما حكم تنفيذي، وهو ما عبر عنه ابن الشاط بالتنفيذ، كما أن هذا الحكم بطبيعته يقبل التحرك ليتصرف فيه الإمام والقاضي في الزمان والمكان، فهو متجدد بحسب الزمان والمكان، ويتمايزان عن بعضهما فيما يأتي:
ـ أن القضاء هو التصدي لفصل الخصومات المباشرة التي تنشأ بين فرد وآخر، أو بين مجموعة من الناس وأخرى في مسائل المعاملات الدنيوية والزواج والطلاق والميراث والوصية، والمعاملات المالية ونحو ذلك، بينما التصرف بالإمامة يعني مباشرة السياسة العامة.
ـ أن الإمامة أعلى من القضاء؛ لأن الإمام هو الذي يعين القضاة، وينفذ أحكامهم في إطار ماله من صلاحيات إدارة السياسة العامة وتنظيمها.
ـ القضاء  ـ لأن شؤونه محددة ـ يعتمد على الأدلة الشرعية التفصيلية غالبا النصوص والقياس والمصالح لكنه لا يعتمد على المصدر الأخير كثيرا، بينما الإمامة لسعة الشؤون المتعلقة بها وتغيرها، وضرورة ارتباطها بالمصالح العامة فقد تعتمد على المصالح وروح النصوص الشرعية أكثر، وبالنسبة للرسول  فإن المصالح التي يقدرها ويعتمدها بوصفه إماما أو قاضيا  تؤول إلى نصوص” سنة “لكن تبقى مراعاة تلك المصالح ملاحظة فيها فتتغير بحسب الزمان والمكان في إطار السلطة الزمنية المتحركة إمامة أو قضاء.
د ـ الفرق بين الرسالة والفتيا من جانب، والإمامة والقضاء من جانب آخر.
1 ـ الرسول  في الرسالة والفتيا مبلغ صرف إنشاء وإخبارا، وفي الحكم القضائي وأحكام السياسة العامة مطبق للأحكام وفق الأسباب والحجاج، ومقتضيات الزمان والمكان، ومراعاة المصالح، وإن لم يكن منشئا بإطلاق لحقيقة الأحكام وأصولها، لأن الوحي رقيب عليه.
2 ـ المطلوب من الرسول  في الرسالة ـ بحسب طبيعتها ـ مجرد التبليغ، وفي الفتيا مجرد الإخبار، وهذا المعنى لا يستلزم أنه فوضت إليه السياسة العامة والقضاء إلا بموجب النصوص الخاصة التي دلت على ذلك  في إطار الرسالة في عمومها.()
3ـ ترتب على الفرقين السابقين الفرق الأساسي وهو أن ما صدر عن الرسول  بالرسالة تشريع دائم مقرر إلى يوم الدين فيجب اتباعه من غير حكم حاكم ولا قضاء قاض، أما ما تصرف فيه بطريق الإمامة فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن الإمام، وما تصرف فيه بطريق القضاء لا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بحكم القاضي في الوقت الخاص بذلك.
تعقيب :
ويحسن بعد أن بين البحث أنواع تصرفات الرسول  مع شرحها والتمييز بينها أن نشير إلى أن الأقسام التي أضافها الإمام الطاهر بن عاشور يمكن ردها إلى الأنواع التي ذكرها الإمام القرافي، فما جاء في مجال الهدي والإرشاد يلحق بتصرفات الرسول  بالرسالة وحتى لو لم يكن تشريعا ملزما فإن الحكم الشرعي تتفاوت درجاته بين واجب ومندوب ومحرم ومكروه ومباح، وما جاء في باب المصالحة فيدخل في باب تصرف الرسول   بالإمامة أو القضاء، وقد أدخله الإمامان البخاري ومسلم في ذلك حيث أدخله الإمام البخاري في كتاب الأحكام ” باب الإمام يأتي قوما فيصلح بينهم “، والإمام مسلم في كتاب الأقضية، والتصرفان متقاربان من حيث الحكم حيث يرد الحكم فيهما إلى القاضي أو الإمام كما سبق تقريره، وعليه فإن الصلح إذا كان بين فرد وآخر ففي باب القضاء لقوله : ﴿والصلح خير﴾()  أما إن كان بين فئة وأخرى تنازعتا فمرده إلى الإمام: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما﴾.()
أما حال التجرد عن الإرشاد فداخل في التصرفات الجبلية، وأما حال الاستشارة على المستشير ففي الفتوى، وكذلك حال النصيحة، وأما حال طلب النفوس على الأكمل فهو من باب التشريع الخاص، وكذلك حال تعليم الحقائق العالية، أما حال التأديب فهو تشريع قصد منه الحث والحمل على أداء الواجبات، والانتهاء عن المحرمات.
وخلاصة القول أن إضافات الإمام الطاهر بن عاشور وإن كانت خادمة لجانب المقاصد لكن نظر الإمام القرافي لم يكن لهذا الجانب وحده وإنما كان للحصر لبيان أن الرسالة والفتوى تشريع، وأن القضاء والإمامة تنفيذ، ورتب على ذلك الأحكام والآثار الفقهية الناتجة عن كل قسم فمسلكه مسلك فقهي فني، الغرض منه الضبط والتحرير لترتيب الأحكام بصورة مباشرة، ولتسهيل الإبانة وتيسير الكشف عن تلك الأحكام، على أننا إذا أردنا الجمع بين هذا الاتجاه الفقهي الذي قصده القرافي والمقاصدي الذي نحا إليه الإمام ابن عاشور وهو ضروري في إطار كثرة السنة وتشعب الأحوال فيها فيمكن اعتماد تقسيم التشريع إلى عام وخاص، على أن تلحق الفتوى بالتشريع العام، ويتناول الخاص القضاء والإمامة وقضايا الأعيان على أن يكون ذلك بعد تحرير الأقوال ومحاملها في قضايا الأعيان خاصة واعتماد الراجح منها بناء على ربطها بمقاصدها والله أعلم.
المبحث الثاني
تصرفات الرسول  بالإمامة : المفهوم والسمات والتمييز
لعل أنسب ما نبدأ به الحديث عن تصرفات الرسول  بالإمامة هو تعريف الإمامة نفسها، وهي في اللغة مصدر أم القوم وأم بهم إذا تقدمهم وصار لهم إماما(). ولفظ الإمامة يطلق عموما على كل من ائتم به واتبع سواء كان على صراط مستقيم ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين﴾()، أم كان على ضلال كما في قوله تعالى: ﴿وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون﴾.()
وقد توسع هذا الإطلاق اللغوي حتى غدا لفظ الإمامة يطلق على كل قدوة في فن من الفنون، فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم قدوة وأئمة في الفقه والأحكام العملية، والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داوود والنسائي وابن ماجه أئمة في الحديث، وهكذا.
وفي كل الأحوال فإن مثل هذا الاستخدام مرتبط بإضافة لفظ الإمام إلى ذي فن من الفنون أو علم من العلوم، أما إذا أطلق فهو ينصرف إلى الإمامة الكبرى أو العظمى.()
والإمامة الكبرى ـ وهي محل البحث ـ في الاصطلاح تعني: الرئاسة العامة في الدين والدنيا خلافة عن النبي ، وسميت “كبرى” تمييزا لها عن إمامة الصلاة.()
والرسول  هو أصل الإمامة بهذا المعنى، وغيره خليفة له فيها كما يقضي بذلك منطوق تعريفها الاصطلاحي. كما أنها ثابتة للأنبياء الذين سبقوه، قال تعالى في شأن أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين﴾()، كما جاء عن ابن خلدون في هذا المعنى وهو يبين المراد بالإمامة: “وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء، ولمن قام مقامهم وهم الخلفاء”. ()
والرسول  أصل الإمامة وغيره خليفة له، لأنه الرسول الذي بعثه الله بالرسالة الخاتمة بكل ما تنطوي عليه من عقيدة، وأخلاق، وشريعة، ومنهج يؤهلها لقيادة البشرية، وإصلاح شأنها في الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما تحقق لها الفلاح في الآخرة حيث السلامة من أهوال الدنيا وشرورها ومتناقضاتها والخلود إلى نعيم دائم وملك لا يبلى ﴿والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾() ﴿سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾().
وهذه المهمة العظيمة وهي الأمانة التي أشار إليها الله  في قوله: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا﴾() لا بد أن تتصل بها السلطة التي تحميها، وتدافع عنها، وتنشر دعوتها وفكرها، وترعى هديها، وتحمل الناس على أحكامها: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن “().
من هنا كان الرسول  إماما، كما كان قاضيا ومفتيا، وقبل ذلك رسولا تلتقي في ظل رسالته كل هذه المعاني والاعتبارات، وفي هذا المعنى يقول ابن خلدون: ومقصود الشارع بالناس إصلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم().
ويقول القرافي: فجميع المناصب الدينية فوضها الله إليه في رسالته.()
وتأسيسا على ذلك كانت كل موجبات الإمامة وخصائصها ثابتة له بالنصوص القرآنية القطعية في ثبوتها ودلالتها من حيث أن :   
1 ـ طاعته واجبة بعد طاعة الله مباشرة: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾()، ﴿وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون﴾()، بل إن طاعته من طاعة الله: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾()، كما أن من يشاقه متوعد بالعذاب الأليم: ﴿ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب}()، ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾().   
2 ـ ومن حيث إن الله  أسند إليه الحكم صراحة في قوله: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾()، ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا﴾(). وكلفه بالمهام التي تدخل في إطار الإمامة كالقتال دفاعا عن الدين: ﴿يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال﴾()، ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير﴾()، وكالبيعة: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم﴾()، ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة﴾()، ﴿يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم﴾()، والشورى: ﴿وشاورهم في الأمر﴾()… وغير ذلك من موضوعات الإمامة ومهامها كما يأتي شرحه وبيانه.
هذا وينبغي الوقوف هنا للتأكيد على عدة أمور هي:
1 ـ أن إمامته قبس من نبوته ومرتبة عليها ـ كما سلفت الإشارة ـ فلولا الرسالة ما كانت الإمامة، وفي هذا يقول ابن عابدين في حاشيته: استحقاق النبي  التصرف العام إمامة مرتبة على النبوة.()
2 ـ أن إمامته لما كانت قبسا من نبوته فقد خلت من صولجان الملك وعظمة السلطان وأبهته وسطوته، وفي هذا يروى أن أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه لما مر رسول الله  أمامه يوم فتح مكة في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله  في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. قال: يا أبا سفيان ويحك إنها النبوة(). ولما خير  بين أن يكون نبيا ملكا أو يكون عبدا رسولا اختار أن يكون عبدا رسولا().
3 ـ أن إمامته  كما كانت لنشر الدعوة، ومعالجة قضايا المسلمين آنذاك، واتخاذ التدابير اللازمة لتثبيت الكيان الإسلامي فقد كانت بما ذخرت به من أحكام، ومعالجات، وتوجيهات معينا ثرا اعتمد عليه المفكرون والساسة المسلمون وغيرهم في بلورة وتفسير النظام السياسي الإسلامي والدستوري، كما كانت خطا صاعدا أبدا في طريق الشورى، والعدالة، والمساواة. هذا فضلا عن ناتجها العظيم، وسجلها الحافل في مجالات الرحمة، والأدب مع الآخرين، والرفق بهم في حالي السلم والحرب على حد سواء.
4 ـ أن إمامة الرسول  بحكم طبيعة الإمامة والرئاسة، وبحكم أنها فرع النبوة كانت تمت إلى القضاء بسبب، وإلى الإفتاء بسبب، وإلى التعليم والتربية والإصلاح بسبب، وإلى الإدارة والحسبة بسبب، وكان الرسول  في ذلك كله القمة، وفي هذا يقول القرافي: اعلم أن الرسول  هو الإمام الأعظم، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم، فهو  إمام الأئمة، وقاضي القضاة، وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله إليه في رسالته، وهو أعظم من تولى منصبا فيها في ذلك إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة().
5 ـ أن تلك الإمامة أكدها الرسول  حين أتبعها بالولاية لما فتح الله على المسلمين بعض الأمصار فبعث ولاة عليها، فكان الوالي هو الحاكم وهو القاضي، فبعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، وعتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة، فقضوا وحكموا بين الناس في حياته الشريفة(). واستمر ذلك لما آل أمر سياسة الدولة إلى الخلفاء الراشدين فباشروا الولاية والقضاء ثم فصلت السلطة القضائية ـ بعد ذلك ـ لما دعا الحال إلى التخصص لضرورة اتساع الدولة، وازدياد المسائل التي تستدعي المعاجة القضائية، وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فولى أبا الدرداء قضاء المدينة، وولى شريحا قضاء البصرة، وولى أبا موسى قضاء الكوفة، ووجه له كتابه الذي يعتبر دستورا في القضاء، ووثيقة عالية في نظمه وآدابه ()، وبذلك بدأ فصل السلطات وتمييزها عن بعضها.
وأخيرا فلعل ما سبق يكشف عن أهمية الإمامة أصالة أو خلافة، وفي هذا يقول العز بن عبد السلام في قواعده: “ولولا نصب الإمام الأعظم لفاتت المصالح الشاملة، وتحققت المفاسد العامة، ولاستولى القوي على الضعيف، والدني على الشريف، وكذلك ولاة الإمام فإنه لا يتم أمره إلا بالاستعانة بهم للقيام بمصالح المسلمين، وكذلك الحكام لو لم ينصبوا لفاتت حقوق المسلمين، ولضاعت أموال الغيب والصبيان والمجانين”().
ولهذا فإن المتولي إذا تعين ولم يوجد من يقوم مقامه، فإنها لازمة في حقه لا يقبل العزل ولا الانعزال إلى أن يوجد من يقوم مقامه فينفذ العزل والانعزال، ولو عزل الإمام أو الحاكم أنفسهما وليس في الوجود من يصلح لذلك لم ينفذ عزلهما أنفسهما ويجب عليهما المضي فيما هما فيه().
6 ـ أن مباشرة الرسول  للإمامة، وإنجاز مقتضياتها في عهده عهد التشريع، مكنت للأصول والمناهج التي يتحتم على الأئمة مراعاتها في الإمامة من حيث التصرف بما هو الأصلح، وتجنب الفساد والضرر، واتخاذ الحيطة والحذر، وأن تكون موازناتهم دقيقة حينما تتعقد الأمور. وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام أيضا في قواعده: يتصرف الولاة ونوابهم بما هو أصلح للمولى عليه درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح، إلا أن يؤدي إلى مشقة شديدة، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم، مثل أن يبيعوا درهما بدرهم، أو مكيلة زبيب بمثلها، لقول الله : ﴿ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن﴾()، فإذا كان هذا في حقوق اليتامى فأولى أن يجتنب في حقوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة، لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكمل من اعتنائه بالمصالح الخاصة ().
ومفهوم تصرفات الرسول  بالإمامة يعني تدابيره التي يتخذها بوصفه إماما سواء كانت بالفعل أو القول أو الإقرار()، وبعبارة أخرى هي جماع تصرفاته  في شأن معالجة أمور السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد() كما تقدم. وسمات هذه التصرفات التي يمكن أن تعرف بها وبالتالي تميزها عن غيرها تتركز في أمرين أساسيين:
    ـ أولهما موضوع التصرف من حيث أنه متصل بالسياسة العامة للدولة في إستراتيجية أمنها وحربها وصلحها وما يتبع ذلك من قسمة الغنائم، وعقد العهود للكفار ذمة وصلحا، وما يتصل بسياستها الاقتصادية والمالية بجمع أموال بيت المال من محالها، وصرفها في جهاتها، ومباشرة السياسة العامة للدولة بتولية الولاة والقضاة ضمانا لحفظ الأمن وحماية مقدرات الناس المادية والمعنوية، وما يتصل بذلك من إقامة الحدود والتعازير، وإمضاء الأحكام الشرعية التي ما شرعت أصلا إلا لإصلاح حال الناس وإشاعة العدل والمواساة، والطمأنينة بينهم، والعمل على استقرارهم، وحفظ حقوقهم الذي عبر عنه القرافي بقوله: وتوطين العباد في البلاد().
ـ ثانيهما: الدلائل المباشرة التي تنم عن طبيعة التصرف من خلال أحاديث الرسول  نفسه، أو من خلال مراجعة الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ له في قراراته، أو من خلال استشارته لهم ابتداء.
ومن الأحاديث والمواقف التي جاءت في الأمر الثاني:
1 ـ ما جاء في عزمه على مصالحة قبيلة غطفان في غزوة الخندق على ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عن محاصرتها، ثم ما كان من كتابته لوثيقة الصلح الخاص بذلك وعرضها على سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما اللذين قالا له في شأن الأمر: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ قال: بل شيء أصنعه لكم()، فبين  أن تصرفه للمصلحة العامة فهو تصرف بالإمامة.
2 ـ ما ثبت أنه  قد قطع نخيل وشجر الكفار يوم بني النضير  فلما أسرع فيه قطعا قيل له: قد ودعكها الله فلو استبقيتها لنفسك، فكف عن القطع، فإن هذا التصرف منه  حين قطع وحين كف مرجعه إلى المصلحة العامة، فهو تصرف بالإمامة، لأن هذا داخل تحت واجباته فيها().
3 ـ ما ورد في الصحيحين من أنه  لما رأى الناس أوقدوا نيرانا كثيرة يوم فتح خيبر فقال: ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون؟ قالوا: على لحم؟ فقال: أي لحم؟ قالوا: لحم الحمر الإنسية. فقال : اهريقوها واكسروها. فقال رجل: أو يهريقها ويغسلها. فقال: أو ذاك.()
وواضح من نهاية الحديث أن الرسول  تراجع عن حكمه بالكسر للقدور بعد أن آنس سرعة التأهب لتنفيذ أمره، ولهذا قال النووي في شرح هذا الحديث: إن هذا محمول على أنه  اجتهد في ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده وأوحي إليه بغسلها(). ويعقب الدكتور البوطي في هذا الموطن بأنه ليس ثمة داع لإقحام الوحي فيما بين لحظتي الأمر بالكسر ثم الأمر بالغسل، وهي قليلة فضلا عن أن سماحه بعدم كسرها جاء بعد تجاوبهم مع ما أشار به أخيرا.()   
4 ـ ما ثبت عنه  بعد أن بين الزكاة ومقاديرها في الإبل أعقب ذلك بقوله: من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن أبى فأنا آخذها وشطر إبله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء. وحكمه هذا حكم بالإمامة، ويؤكد هذا ما ذهب إليه كثير من الأئمة إلى أن هذا منه سياسة سلكها في حمل الناس على دفع زكاتهم في صدر الإسلام()، فهو ضرب من التأديب أو التعزير الذي يتخذه الإمام، ولهذا فإن عمر بن عبد العزيز في عهد لاحق اتخذ نفس الموقف لكن سياسته كانت تأديبا معنويا().
5 ـ ما جاء في شأن خروجه  يوم بدر مبادرا قريشا إلى الماء، فنزل المسلمون على أول ماء من بدر، فجاءه الحباب بن المنذر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟ قال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة. قال: يا رسول الله هذا ليس بمنزل، فانهض  بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور (نذهب الماء من كل قليب (البئر) غير الذي نزلنا عنده ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال له: لقد أشرت بالرأي، وفعل كما قال(). فهذا تصرف بالإمامة وبما تقتضيه طبيعة القيادة في حال الحرب من تدبير.
6 ـ ما جاء في شأن بنائه للعريش الذي أشار به عليه سعد بن معاذ رضي الله عنه حين قال له: ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله، وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن أشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك،  فأثنى عليه  ودعا له بخير، وأمر ببناء العريش فبني له().
7 ـ ما رواه البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه من أنه قتل رجلا من المشركين بعد رؤيته له يتربص بمحارب مسلم ليقتله، وكان ذلك في غزوة حنين، فلما تراجع الناس إلى رسول الله  قال: من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه().
8 ـ ما جاء عن ابن سعد من أنه لما طال حصار النبي  لأهل الطائف وهم متحصنون بداخله لا يستطيع أحد اقتحامه عليهم فاستشار النبي  نوفل بن معاوية الدبلي في شأن المضي في الحصار أو تركه والرحيل، فقال له: هم ثعلب في جحره، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك، فأمر النبي  عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأذن في الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف فقال عليه السلام: فاغدوا على القتال، فغدوا، فأصابت المسلمين جراحات فقال : إنا قافلون غدا إن شاء الله، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله  يضحك.()
9 ـ أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما أراد النبي  أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لا يقرأون كتابا إلا أن يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة.()
10 ـ ما رواه أبو هريرة أنه لما كانت غزوة تبوك، أصابت الناس مجاعة، فسألوا النبي ذبح نواضحهم فأشار عليهم أن يفعلوا، فاعترض عمر رضي الله عنه بأن هذا الفعل من شأنه أن يؤدي إلى قلة الظهر الذي يركبونه بفعل ذبحهم لتلك النواضح، وطلب إليه أن يدعهم يتقوتون بفضل أزوادهم مع الدعاء لهم بالبركة، فاتبع الرسول  رأيه.()
11 ـ من سمات تصرفات الرسول  بالإمامة وعلاماتها ـ فوق ما ورد ـ تأويل الصحابة أحيانا لتلك التصرفات وبيان أنها مؤقتة تبعا للمصالح في زمنها، حيث فهموا من تحريمه للحمر الأهلية لحمايتها من الفناء إذا توسعوا في ذبحها(). وما يتبع ذلك من مراجعة الخلفاء الراشدين لبعض تلك التصرفات بعد انتقال الرسول  إلى الرفيق الأعلى، وهذا الاعتبار سوف يتم تناوله بالتوضيح أكثر في المبحث الخاص بأثر تصرفاته  بالإمامة وحكمها.
وأخيرا فلعل مما يوضح سمات تصرفات الرسول  ـ فيما عدا ما سبق ـ وكذلك التمييز بينها أمران هامان هما:
1 ـ تصرفات الرسول  بالإمامة بين التشريع والتنفيذ.
2 ـ تصرفات الرسول  بين الوحي والاجتهاد.
وسوف يعطي البحث نبذة عن كل واحد منهما على الوجه التالي:
تصرفات الرسول  بالإمامة بين التشريع والتنفيذ:
تصرفات الرسول  في الحكم الشرعي إما أن تكون بتعريفه، وإما أن تكون بتنفيذه، فإن كانت بتعريفه فذلك الرسالة والفتيا، وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه فذلك القضاء والإمامة() كما سلفت الإشارة إلى ذلك، فعبارة تصرفات الرسول  بالقضاء أو الإمامة تنفيذية ليست على عمومها، فهي تنفيذية من جهة الحكم بها، لأن الرسول  طبق في قضائه وفي إمامته كثيرا من الأحكام التي جاء بها القرآن في القصاص والديات أو في الحدود.
فمما طبقه من جهة كونه إماما القصاص الذي حكم به في السنة الثامنة حيث أقاد رجلا برجل من بني سليم عملا بقوله : ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى﴾().()
وفي السنة نفسها طبق حد السرقة بقطعه يد المخزومية التي سرقت بمكة بحكم قوله : ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾()، وكان قد شفع فيها أسامة بن زيد فقال له الرسول الله : أتشفع في حد من حدود الله، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها().
وفي السنة التاسعة للهجرة وقعت حادثة عويمر العجلاني حيث رمى زوجته بالزنا فأنزل الله آية اللعان فحكم بها الرسول  عليهما، وتلاعنا في المسجد النبوي، وفرق بينهما().
وطبق في السنة السادسة أو السابعة حد الحرابة وأقامه على النفر الذين حاربوا وقتلوا راعي النبي  وسمروا عينيه وغدروا وارتدوا واستاقوا ذود الصدقة.()
وفي السنة الخامسة طبق تخميس الغنائم عملا بقوله : ﴿واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾(). وكانت العرب توزع الغنائم حسب القوة والعصبية كما كان للرؤساء معظمها.().
ومثل هذه الأحكام التي جاءت في القرآن الكريم وطبقها الرسول  تعتبر سنة عملية مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم، وليس للرسول  من تنفيذ فيها سوى تطبيق الحكم الشرعي المقرر وإلا فهي تشريع ماض إلى يوم القيامة، وعلى كل حال فقد يراد بالتنفيذ هنا التطبيق وما يتصل به من إجراءات لتطبيق التشريع المقرر سلفا، وقد تدخل في ذلك تصرفات الرسول بالإمامة التي تصحب الأحكام غير المقررة في القرآن، وتكون اجتهادا منه ولم ينسخها الوحي، فهذه أيضا تشريع إلا أن يدل دليل على خصوصيتها، أو تكون بطبيعتها مؤقتة ومربوطة بظروف الزمان والمكان، وقد حاول بعض الباحثين المعاصرين تسمية هذا النوع من تصرفاته  بالإمامة بالتقنينية، تمييزا لها عن تصرفاته التنفيذية التي هي محل البحث. هذا فضلا عن أن موضوعات الإمامة والمجالات التي يدور التصرف بها فيها سواء كانت متصلة بالإمامة نفسها كمنصب ووظيفة، وما يشترط فيها، والتوجيهات الكثيرة، والأحكام الصادرة بشأنها، أو كانت متصلة بمبدأ بعث الجيوش وإعداد العدة للحرب، أو عقد العهود للكفار وشروطها واحتياطها، أو حفظ الأموال وإحسان صرفها، أو حتى مبدأ بعث الولاة والقضاة ومناهجهم التي يتبعونها جاءت فيها مبادئ في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، وكل هذا لا يمكن أن نقول إنه من باب تصرفات الرسول بالإمامة التنفيذية القابلة للتغيير بحكم حاكم جديد.
ومن هنا نصل إلى أن المراد بوصف تصرفات الرسول  بالإمامة بأنها تنفيذية خصوص المسائل والتصرفات التي باشرها الرسول  بوصفه إماما، وكان مجالها واحدا من المجالات التي يدور فيها تصرف الإمام التي ذكرها القرافي، وكانت تصرفات الرسول  فيها اجتهادية لا وحيا، وأن اجتهاده  فيها كان قائما على رعاية المصالح، وأنها مؤقتة باعتبار ظروفها وملابساتها والأوضاع التي تحف بها، كما أنها تكون ناشئة عن ضرورات وحاجات زمنية معينة كالإقطاعات وتوزيع أموال بيت المال في زمنه  وإبرام خصوص المعاهدات على أرض الواقع، أو التعازير أو تعيين وال معين في مكان معين، أو قاض على بلد معين.
وهكذا، فإن هذه هي التي يعنيها القرافي بوصف التنفيذية، لأن فيصل التفرقة بين تصرفات الرسول  الذي قصد إليه في فروقه يكمن في هذا المعنى، وعلى هذا جاءت الأحكام التي قررها بشأن الفروق بين تصرفات الرسول  والأحكام الفروعية التي أوردها،  وما عدا ذلك فتجوز في الإطلاق.
وهذا المعنى أيضا هو المعنى المراد بتصرفه بالقضاء من جهة سماع الدعاوى وملابساتها الخاصة في إطار خلطة الناس آنذاك وأعرافهم وطرق تعاملهم، وما يصحب ذلك من تقدير الرسول  وموازناته التي يبني الحكم عليها. ولعل أوضح شاهد على ذلك حديث الرسول المعروف في هذا الشأن الذي قرر فيه أنه يبني الحكم على الظاهر والله يتولى السرائر “إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من النار”().
2 ـ تصرفات الرسول  بين الوحي والاجتهاد.
رغم أن الأصوليين قد اختلفوا في جواز اجتهاد الرسول  من عدمه، كما أن الخلاف بينهم في ذلك شمل الجواز والوقوع، إلا أنهم اتفقوا على أن الرسول  يجوز له أن يجتهد في أمور الحرب، ومصالح الدنيا، وأن ذلك وقع منه فعلا.()
ونورد في هذا الصدد أقوال الأصوليين في ذلك، فابن حزم يقول: “وأما أمور الدنيا ومكايد الحرب فلسنا ننكر أن يدبر النبي  كل ذلك حسب ما يراه صلاحا”(). والغزالي في المستصفى يقول وهو يشير لحالة من حالات اجتهاده : “فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا، وذلك جائز بلا خلاف”(). أما البخاري في كشف الأسرار فيقول بعد أن ذكر مذاهب الأصوليين في موضوع اجتهاده : “وكلهم اتفقوا على أن العمل يجوز له بالرأي في الحروب وأمور الدنيا(). وابن مفلح يحكي الإجماع في ذلك حيث يقول: “يجوز اجتهاده  في أمور الدنيا ووقع منه إجماعا”(). ويتبعه في هذا الصدد ابن النجار في “شرح الكوكب المنير” فيقول: “ويجوز اجتهاده في أمور الدنيا ووقع، قال ابن مفلح: إجماعا”(). كما يحكي هذا الإجماع الزركشي في البحر المحيط أثناء حديثه عن اجتهاد الأنبياء فيقول: “أجمعوا على أنه كان يجوز لهم أن يجتهدوا فيما يتعلق بمصالح الدنيا، وتدبير الحروب ونحوها، وقد فعلوا ذلك كما قال سليم”(). وينقل كل ذلك الشوكاني فيقول: “وأجمعوا على أنه يجوز الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب ونحوها. حكى هذا الإجماع سليم الرازي وابن حزم “().
ويلحق الإمام القرافي القضاء بالإمامة من حيث الإجماع على جواز الاجتهاد فيه خلافا للفتوى(). وقد حكى ذلك عنه أيضا الإسنوي في نهاية السول ()، والزركشي في البحر المحيط()، والشيخ حلولو في شرح تنقيح الفصول ().
    ومن أقوال الأصوليين هذه يتضح أن اجتهاد الرسول  في تصرفاته بالإمامة محل إجماع، ولم يحك في ذلك شيء ينبئ بالخروج على ذلك الإجماع إلا ما حكاه صاحب التقرير والتحبير عن القاضي عبد الجبار والجبائي فقط().
أما صور اجتهاد الرسول  بالإمامة فهي كثيرة منها الوقائع التي سلفت تناولها في البحث في أطواره المختلفة السابقة كاجتهاده في واقعة بدر بشأن المنزل الذي ينبغي أن ينزله المسلمون، وفي غزوة الأحزاب في شأن طول الحصار، وما جاء بشأن مصالحته لقبيلة غطفان، وقطع نخيل الكفار وشجرهم في بني النضير، وما جاء في شأن إراقة لحم الحمر الإنسية، وبنائه العريش الذي أشار عليه به سعد بن معاذ رضي الله عنه، وحكمه بسلب القتيل في غزوة حنين، واتخاذه للخاتم الفضي لختم كتابه للروم، وما جاء بشأن المجاعة التي أصابت جنوده في غزوة تبوك.
ومنها أيضا بالإضافة إلى ما سبق ذكره:   
1 ـ معاملته ليهود خيبر على أن يعملوا في أرضهم ونخيلهم بالنصف.()
2 ـ إباحته لنكاح المتعة لضرورة الغزو والسفر، ثم نهى عنه في غزوة خيبر، ثم النهي عنه وإباحته في غزوة الفتح ثم في غزوة أوطاس ثم منع ().
3 ـ تعييناته بحكم الإمامة لعتاب بن أسيد رضي الله عنه الذي أمره على مكة، وتأمير عمرو بن العاص رضي الله عنه على جيش ذات السلاسل، وخالد بن الوليد رضي الله عنه وغيرهم.()
4 ـ إقطاعاته حيث أقطع أرضا من أموال بني النضير للزبير بن العوام رضي الله عنه، وكان قد أقطع المهاجرين دور المدينة لأول الهجرة، لكنه إقطاع انتفاع لا تمليك، بخلاف إقطاعه للزبير فقد كان إقطاع تمليك.() وإقراره لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استشاره في أن يقف ما حصل عليه من غنيمة خيبر(). ومع هذا وذاك فقد كان يجيز لحكامه الاجتهاد إذ أقر معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه لليمن على ذلك، وجوز لآخرين من أصحابه ذلك، وكان يقول في ذلك: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.()
وإجازته للاجتهاد لحكامه وولاته وقضاته فيه دلالة على اجتهاده من باب أولى؛ لأن من لا يملك الشيء لا ينيب غيره فيه.
ومع اجتهاده  فقد كان الوحي رقيبا عليه يصوبه ويرده إلى الرأي الأوفق، كما حدث في إذنه للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك فعاتبه الوحي:﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين﴾()، وحكمه في أسارى بدر بأخذ الفداء منهم فنزل الوحي مبينا الخطأ في ذلك () بقوله تعالى:﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم﴾().
طبيعة اجتهاده  في تصرفاته بالإمامة :
طبيعة اجتهاده  في تصرفاته بالإمامة أنها كانت تعتمد على المصالح وقد سلفت الإشارة إلى ذلك كما أن الإشارة أيضا سلفت إلى أن القرافي ضبط تلك التصرفات حين وصفها بأنها ضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد وقمع الجناة وقتل الطغاة.()
واعتماد اجتهاد الرسول  في تصرفاته بالإمامة على المصالح سببه أن قضايا تلك التصرفات وهمومها كانت كبيرة وكثيرة في الوقت نفسه، ومثل هذه القضايا لا يكافئها ويناسبها إلا الدليل الاجتهادي الواسع المرن وهو المصالح، وقد انعكس الارتباط بين اجتهاد الرسول  في تصرفاته بالإمامة والمصالح في الآتي:
1 ـ أن السلف كانوا يطلقون على المصالح السياسة الشرعية، وفي ذلك يقول ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، كما أن ابن قيم الجوزية يسمي كتابه “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية”، وأن ابن تيمية سمى كتابه “السياسة الشرعية” وهو في المصالح.
2 ـ أن الأصوليين اعتمدوا كثيرا في احتجاجهم للعمل بالمصالح على فتاوى الصحابة رضي الله عنهم، وجعلوها أصولا بنوا عليها مفاهيمهم الأصولية والمقاصدية، كجمع القرآن في عهد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتضمين الصناع في عهد سيدنا علي رضي الله عنه، واستخلاف سيدنا أبي بكر رضي الله عنه لسيدنا عمر رضي الله عنه، والمصلحة في ذلك كما يقول الباجي هي حفظ كلمة المسلمين من التفرق وتفادي اختلافهم في اختيار الخليفة في وقت كانوا في أمس الحاجة إلى الاتفاق، وكلها قضايا مرتبطة بالسياسة العامة بوجه من الوجوه، ومن فصيلة تصرفات الرسول  بالإمامة.
3 ـ أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة الذي اتسعت الدولة الإسلامية في عهده كثيرا عما كانت عليه من قبل، وكانت تصرفاته في معالجة شؤون الدولة والحكم والإدارة واسعة، وكثيرا ما كان في اجتهاداته ينزع إلى المصالح، وأثر في ذلك أنه استخلف نفرا من المسلمين ليتم اختيار الخليفة من بينهم، ولم يكن في ذلك نص، ولم يحفظ عن الرسول  فيه شيء، وأنه كان يشاطر الولاة في أموالهم ويجعلها شطرين بينهم وبين المسلمين، وفي هذا يقول ابن القيم:” وفي هذا صلاح للولاة وكف لهم عن استخدام سلطة الولاية لجمع الأموال مع ما فيه من المحافظة على المصالح العامة للأمة()، وأثر أنه أراق اللبن المغشوش بالماء تأديبا للغاش، وهذا التأديب لا نص يشهد له، لأنه من باب الحكم على العامة لأجل الخاصة()، وورد عنه أنه وجد رجلا يبيع ويرخص في السعر عما عليه أهل السوق فنهاه عن ذلك الصنيع دفعا للضرر الذي يلحق غيره من التجار(). يضاف إلى ذلك تدوينه للدواوين، ووضعه للتاريخ الهجري()، وبالجملة فإن أعمال سيدنا عمر رضي الله عنه التي باشرها بحسبانه خليفة للمسلمين، واعتمد فيها على المصالح كانت كثيرة وطاغية على اجتهاداته الأخرى.
وكل هذا يؤكد الفكرة التي قصد إليها هذا المبحث وهي ارتباط تصرفاته  بالإمامة بالاجتهاد عن طريق رعاية المصالح العامة.
4 ـ أن الفقهاء وضعوا في إطار تصرفات الرسول  الاجتهادية بالمصالح قاعدة فقهية كبيرة هي: “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”.
المبحث الثالث
الأثر الفقهي لتصرفات الرسول  بالإمامة وحكمها
    يتناول هذا المبحث الأثر الفقهي لتصرفات الرسول  بالإمامة من خلال نقطتين قررهما الإمام القرافي وهو يفرق بين تصرفاته  هما:
1 ـ أن تصرفات الرسول  بالإمامة منها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا().
2 ـ أن حكم ما تصرف فيه الرسول  بالإمامة هو عدم جواز الإقدام عليه إلا بحكم حاكم حيث يقول: وكل ما تصرف فيه الرسول  بوصف الإمامة لا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بحكم حاكم اقتداء برسول الله ().
والنقطتان مرتبطتان ببعضهما من جهة أن الحكم فيهما مرجوع فيه إلى الحاكم، لكن اختلافهما يأتي من جهة أن أولهما متفق على أنه بالإمامة، والثاني مختلف فيه كما يلاحظ أن التردد في الأخير ليس في ذات الموضوع، فقد يكون الموضوع متفقا على أنه من مجالات الإمامة لكن التردد الذي دعا للاختلاف فيه راجع إلى التقدير من جهة إلحاقه بالإمامة أو عدمها. يدل على ذلك الاختلاف المشهور في قوله  «من قتل قتيلا فله سلبه»، وقوله : «من أحيا أرضا ميتة فهي له» حيث إن موضوع كل منهما من اختصاص الإمام، وهو سلطة السماح بسلب القتيل في حالة الحرب، والثاني أيضا من اختصاصه لأنه يتصل بالإقطاع وتمليك الأرض، وهذا من سلطات الإمام. لكن الاختلاف الذي اعترى المسألتين جاء من جهة إلحاق مثل هذا التصرف بالإمامة فيرجع فيه إلى الإمام أي أنه صدر على وجه التنفيذ، أو أنه صدر على وجه الفتيا والتشريع، ولذلك فإن من أحيا الأرض الميتة فهي له، ولا يحتاج إلى حكم حاكم، وكذلك من قتل قتيلا فله سلبه من غير حاجة في ذلك إلى حكم حاكم، لأنه تشريع.
وفي كل الأحوال فإن ما صدر عن الرسول  وتم الاتفاق على أنه بالإمامة فيرجع فيه إلى الإمام بلا خلاف في ذلك، ولعل ذلك يتضح من التمثيل لتلك المسائل بتجييشه  للجيوش، وإقطاعاته الثابتة مثل ما أقطعه للأنصار انتفاعا وما أقطعه للزبير بن العوام تمليكا، وتقدم ذلك، فإن مثل هذا التصرف عند تكرره  لا بد فيه من الرجوع إلى الحاكم لسبب يسير هو أن طبيعته تقتضي ذلك من حيث موضوعه، ومن حيث سلطة التنفيذ والإمضاء التي لا يملكها إلا الحاكم، أما المختلف فيه لتردده بين جهة صدوره على وجه الإمامة تنفيذا أو عدم صدوره على وجه الإمامة تنفيذا وإنما إخبار على سبيل الفتوى فقد جرى فيه الخلاف.
ومن أمثلة المتفق عليه ـ كما يقول الشيخ محمد سعيد رمضان رحمه الله عطاءاته وإقطاعاته فيما عدا الغنائم، فقد اتفق العلماء على أن الله سبحانه وتعالى جعل لنبيه أن يعطي من يشاء من المال ما يشاء، وليس على كل خليفة بعده أن يقلده في عين ما فعل، فيعطي من أعطاهم، ويمنع من منعهم، وقد ورد عن حكيم بن حزام أنه قال سألت رسول الله  فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له، وكان كالذي يأكل فلا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»(). ولم يقل أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم أن على الحاكم إذا سأله سائل فكرر المسألة أن يفعل ما فعل رسول الله في عطائه لحكيم رضي الله عنه. وإنما قالوا أن عليه أن يتبع الحكمة التي قصد إليها رسول الله ، والحكمة في كل ساعة ومع كل إنسان على حسبها وحسبه(). كما ذكر من المتفق عليه تجييشه للجيوش الذي يتضمن تظيمها وترتيب مواقيتها وأمكنتها، وأورد في هذا الصدد قول الحباب بن المنذر رضي الله عنه الذي أشار فيه على رسول الله  حينما اختار لجيش المسلمين منزلا يتخذونه في غزوة بدر بالمنزل المناسب والأليق فتحول الرسول  إليه().
وفي إطار ذلك جاءت أقوال الفقهاء، فالقرافي يذكر أنه لا يجوز الإقدام على بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج إلا بإذن إمام الوقت الحاضر؛ لأن النبي  تصرف في ذلك وفعله بتصرف الإمامة(). يقول: “ولا يجوز الإقدام على إقامة الحدود والتعازير وتعيين الولاة والقضاة إلا بإذن الإمام في الوقت الحاضر؛ لأن النبي  فعل ذلك، وتصرف فيه بطريق الإمامة”.() ويقول: “لا يجوز قسمة الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وجمعها من محالها وتوزيع الإقطاعات من الأراضي إلا بإذن الإمام؛ لأن النبي  فعل ذلك وتصرف فيه بمقتضى الإمامة”().
أما أمثلة المختلف فيه فمنها:
1 ـ قوله : «من أحيا أرضا ميتة فهي له» فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هذا تصرف بالإمامة فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن الإمام، وقال مالك والشافعي رضي الله عنهما: هذا تصرف بالفتيا فلا يتوقف على إذن الإمام().
2 ـ قوله : «من قتل قتيلا فله سلبه» حمله الإمام مالك رضي الله عنه على أنه تصرف من النبي  على جهة الإمامة، ولذلك لا يجوز لأحد أن يختص بسلب إلا بإذن الإمام، وقال الشافعي رضي الله عنه: إن تصرفه هنا من قبيل الفتيا فيستحق القاتل السلب من غير إذن الإمام().
3 ـ تقسيم الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة، فقد ذهب المالكية والحنفية إلى أن تقسيمه خيبر بين الغزاة إنما كان من قبيل التصرف بالإمامة، فللإمام من بعده أن يجتهد في ذلك حسب المصلحة، وذهـب الشـافعي وأحـمد إلى أنه تـصرف بالفتوى لاتباعه في ذلك
نص كتاب الله تعالى().
4 ـ أورد ابن رشد في بداية المجتهد خلاف الفقهاء في الخمس وتقسيمه، والمراد بالقرابة من هم؟ ثم قال: وسبب اختلافهم في هل الخمس يقصر على الأصناف المذكورين أم يعدى لغيرهم هو: هل ذكر تلك الأصناف في الآية المقصود منه تعيين الخمس لهم أم قصد التنبيه بهم على غيرهم فيكون ذلك من باب الخاص أريد به العام؟فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به الخاص قال لا يعدى بالخمس تلك الأصناف المنصوص عليها وهو الذي عليه الجمهور، ومن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام قال يجوز للإمام أن يصرفها فيما يراه  صلاحا للمسلمين ().
5 ـ اختلف الفقهاء في مقدار الجزية: رأى مالك أن المقدار الواجب فيها هو ما فرضه عمر رضي الله عنه، وقال الشافعي رضي الله عنه: أقله محدود وهو ربع دينار وأكثره غير محدود، وذلك بحسب ما يصالحون عليه، وقال الثوري وجماعة: لا توقيت في ذلك بل هو مصروف إلى اجتهاد الإمام.()
6 ـ أورد ابن رشد في بداية المجتهد أن بعضا من الفقهاء قالوا إن الفيء غير مخمس، ولكن يقسم على الأقسام الخمسة الذين يقسم عليهم الخمس وهو أحد أقوال الشافعي، ثم ذكر سبب الخلاف بقوله: وسبب اختلاف من رأى أنه يقسم جميعه على الأصناف أو هو مصر وف إلى اجتهاد الإمام هو سبب اختلافهم في قسمة الخمس().
7 ـ أورد ابن رشد في بداية المجتهد آراء الفقهاء في حد الخمر وأنه ثمانون عند الجمهور، وعند الشافعي وأبي ثور أربعون، ثم ذكر أن عمدة الجمهور تشاور عمر والصحابة لما كثر في زمانه شرب الخمر وإشارتهم عليه أن يجعله ثمانين قياسا على حد القذف، ثم قال: وعمدة غيرهم أن الرسول  لم يحد في ذلك حدا، وإنما كان يضرب فيها بين يديه بالنعال ضربا غير محدد().
8 ـ من تصرفات الرسول  التي دارت بين التشريع وبين التصرف بالإمامة تغريب الزاني غير المحصن في قوله : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام.”()
هذا ولا بد قبل أن نختم الكلام في هذا المحور من أن نعلل للمبدأ الذي اتخذه الفقهاء من أنه لا يجوز الإقدام على تصرف تصرفه الرسول  بالإمامة على وجه التنفيذ إلا بحكم حاكم. وهنا نجد ثلاثة موجهات:
أولها: أن تصرف الرسول  بالإمامة مبني على تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
ثانيها: أن هذه المصالح أمور متغيرة بتغير الزمان والمكان، ومن ثم فلا يجوز الثبات فيها على حال واحدة.
ثالثها: أن الرجوع إلى الإمام فيما يتصل بالأمور التي تتعلق بها المصالح أمر مقرر في الفقه الإسلامي حتى في تفسير نصوص القرآن الكريم.
وأول هذه الموجهات وهو أن تصرف الرسول  مبني على تحقيق المصالح فقد سبقت الإشارة إليه، ونزيده هنا إكمالا من جهة التأكيد على أن موضوعات الإمامة قائمة أصلا على المصالح، بل إن الإمامة نفسها قائمة على ذلك، وفي هذا يقول الدهلوي: لما كان الإمام منصوبا لنوعين من المصالح اللذين بهما انتظام الملة والمدن، وإنما بعث النبي  لأجلهما، والإمام نائبه ومنفذ أمره كانت طاعته طاعة رسول الله  ومعصيته معصية لرسول الله إلا أن يأمر بالمعصية().
فالجهاد وهو من أولى واجبات الإمام مصلحته موافقة تدبير الحق وإلهامه مما فيه حفظ كيان المسلمين، والذب عنهم ليؤدوا دورهم في الحياة بحرية وسلام.
وفي هذا يقول الرسول : “مثل المجاهد في سبيل الله مثل القائم الصائم”()، وقال: “أفضل الصدقة ظل فسطاط في سبيل الله”(). وفي هذا جاء أنه يجب على الإمام أن يظهر في أسباب ظهور شوكة المسلمين وقطع أيدي الكفار عنهم ويجتهد ويتأمل في ذلك فيفعل ما أدى إليه اجتهاده مما عرف هو أو نظيره عن النبي  أو خلفائه رضي الله عنهم، لأن الإمام إنما جعل لمصالح ولا تتم إلا بذلك(). ويقول بشأن نفع الجهاد ومصالحه وتدرجه فهو مبني بعضه على بعض بمنزلة البناء يقوم الجدار على الأساس ويقوم السقف على الجدار، وذلك لأن الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا سبب دخول قريش ومن حولهم في الإسلام، ثم فتح الله على يد هؤلاء العراق والشام، ثم فتح الله على أيدي هؤلاء الفرس والروم، ثم فتح الله على يد هؤلاء الهند والترك والسودان، فالنفع الذي يترتب على الجهاد يتزايد حينا فحينا، وصار بمنزلة الأوقاف والرباطات والصدقات الجارية(). وإقامة الإمام للحدود فيه مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم، لهذا جعل للإمام إقامتها، لأن هذه الحدود ما شرعها الله أصلا إلا لدرء المفاسد. “اعلم أن المعاصي ما شرع الله فيه الحد، وذلك كل معصية جمعت وجوها من المفسدة بأن كانت فسادا في الأرض”().
وفي الأراضي جعل الرسول  الأراضي التي لا مالك لها لله ورسوله، كما جعل الحمى لله ورسوله، مراعاة للمصالح العامة ومصالح الناس، وجاء عنه في ذلك: عادي الأرض لله ورسوله، ثم هي لكم مني() كما قال: لا حمى إلا لله ورسوله.().
وهكذا نجد كل الموضوعات التي باشر الرسول  التصرف فيها مبنية على المصالح، ولو استرسل البحث في ذلك لطال الكلام، ويكفي في ذلك الاستشهاد بما أورده البحث في أصول مسائل الإمامة وشؤونها.
أما ثاني هذه الموجهات وهو تغير المصالح بين زمن وآخر فشواهده تبدأ من واقع الناس، فإن ما يكون مصلحة في عصر قد لا يكون مصلحة في آخر، أما شواهده في تاريخ التشريع الإسلامي فمنها ضمان الصناع الذين ما كانوا يضمنون إذا ادعوا تلف ما دفع إليهم؛ لأن الأمانة كانت غالبة عليهم في ذلك الزمن. فلما جاء سيدنا علي رضي الله عنه ورأى أن الناس دخلتهم الخيانة والطمع قضى بتضمين الصناع وقال: لا يصلح الناس إلا ذاك(). وضالة الإبل التي كانت تترك ولم يأذن النبي  في التقاطها، واستمر الحال على ذلك طيلة خلافتي سيدينا أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما جاء سيدنا عثمان الخليفة الثالث رضي الله عنه أمر بالتقاطها وتعريفها وبيعها حتى إذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، وجاء سيدنا علي رضي الله عنه فمضى على سياسة عثمان رضي الله عنه في ذلك غير أنه لم يسمح ببيعها، وإنما بنى لها مربدا تحفظ فيه مع ضمان علفها من بيت المال().
وقد أشار إلى تغير المصالح بحسب الزمان والمكان واختلاف التقدير من إمام لآخر الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة في أكثر من موضع فقال وهو يتحدث عن سهم رسول الله  في الغنائم والتصرف فيه بعده: فيوضع سهم رسول الله  بعده في مصالح المسلمين بعده الأهم فالأهم، وسهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب الفقير منهم والغني والذكر والأنثى. وعندي أنه يخير الإمام في المقادير، وكان عمر رضي الله عنه يزيد في فرض النبي ، ويعين المدين منهم والناكح وذا الحاجة، وسهم اليتامى لصغير فقير لا أب له وسهم الفقراء والمساكين لهم يفوض كل ذلك للإمام يجتهد في الفرض وتقديم الأهم فالأهم ويفعل ما أدى إليه اجتهاده.()
ويقول بشأن الخراج بعد بيانه لحكمه: ومن هنا يعلم أن قدره مفوض للإمام يفعل ما يرى فيه من المصلحة، ولذلك اختلفت سيرهم، وكذلك الحكم عندي في مقادير الخراج، وجميع ما اختلف فيه سير النبي  وخلفائه رضي الله عنهم().
ويذكر بشأن الصلح بين المسلمين وغيرهم وتغير أوضاعه من حال إلى حال آخر حسب المصلحة أنه كثيرا ما تقع الحاجة إلى تردد التجار وأشباههم، ويصالحهم بمال وبغير مال، فإن المسلمين ربما يضعفون عن مقاتلة الكفار فيحتاجون إلى الصلح، وربما يحتاجون إلى المال يتقوون به أو إلى أن يأمنوا شر قوم فيجاهدوا آخرين.()
أما ثالث هذه الموجهات وهو أن الرجوع للإمام أمر مقرر حتى في المسائل التي جاءت فيها نصوص لتفسير تلك النصوص فمنه:
– أن الفقهاء اختلفوا في حكم المحارب، وكان من بين الآراء في ذلك قول الإمام أبي حنيفة أنه إذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه.
وهذا القول يمتد إلى ما قبل الإمام أبي حنيفة، فقد روي عن ابن عباس، وهو أيضا قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز، ومجاهد والضحاك والنخعي، وكلهم قال: “الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل أو الصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية، قال ابن عباس رضي الله عنه ما كان في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، وهذا القول أشعر بظاهر الآية”().
كما فسروا الأنفال بأنها ما ينفله الإمام لمن شاء لما يراه من المصلحة قبل القسمة، وقال إبراهيم النخعي في الإمام يبعث السرية فيصيبون المغنم، إن شاء الإمام نفله كله وإن شاء خمسه().
ومما يشهد أيضا لمبدأ الرجوع لولي الأمر فيما صدر عن النبي  بالإمامة على وجه التنفيذ أن النصوص متناهية، والحوادث غير متناهية على أن تناهي النصوص هنا ليس مطلقا. وإنما محكوم بما جاء عن الرسول  في تصرفاته التنفيذية من حكمة ومنهج في ترتيبه للمصالح ولموازناته الفاعلة  في هذا الجانب وفي غيره، وقد كان هذا المعنى ملاحظا عند القرافي، ولهذا قال: “اقتداء برسول الله ، فاجتهاد الإمام في كل زمن محكوم بروح الشريعة ومقاصدها وجملة هدي الرسول  وإن لم يكن هناك نص عيني يأخذ به الحاكم في زمنه”.
والشواهد في هذا الباب كثيرة لمن يتتبعها في مظانها، والله أعلم بالصواب.
تناول المبحث الأول من هذا البحث عموم تصرفات الرسول  بالرسالة والفتيا والقضاء والإمامة معرفا بها ومقارنا، كما تضمن بيان أن تصرفات النبي  حسبما أراد القرافي ضبطها سليمة وفق ما قصد إليه، على أنه إن أريد أن يعم الحكم بيان كل أحوال الرسول  فإن هذا قد يحتاج إلى تقسيم أوسع يتم فيه تقسيم تصرفات الرسول  إلى عامة هي الرسالة والفتيا وخاصة هي القضاء والإمامة وقضايا الأعيان على أن يكون ذلك مصحوبا بتحرير الأقوال ومحاملها في قضايا الأعيان، خاصة بطريقة تحدد أحكامها ومقاصدها بشكل مستقل عن الإمامة والقضاء إن أمكن ذلك في إطار كثرة تلك القضايا وتشعبها وتعدد مناحيها، أو تقسيمها هي الأخرى إلى أقسام، واستنباط معايير تفرق بينها، وذلك بدراسة قضايا الأعيان في أحكام الأحوال الشخصية  على حدة، وقضايا المعاملات على حدة، وقضايا الأيمان والنذور على حدة، وقضايا الحلال والحرام في المآكل والمشارب على حدة وهكذا.
أما المبحث الثاني فقد تركز على بيان مفهوم تصرفات الرسول  بالإمامة من حيث تحديد مصطلح الإمامة والتصرفات مع الاستدلال على ثبوت الإمامة للرسول ، ثم تناول بشكل مباشر سمات تصرفات الرسول بالإمامة والتي تظهر من خلال أحاديثه  التي دارت في هذا الصدد، وهي كثيرة، ومن خلال موضوع التصرف نفسه مع الإشارة إلى موضوعات ومجالات تصرفات الرسول  بالإمامة عموما، كما تناول سمات تلك التصرفات من جهة دورانها بين التشريع والتنفيذ مع محاولة ضبط وتحرير المراد بالتنفيذ، سواء كان ذلك في تصرفات الرسول  بالقضاء أو الإمامة، ومن جهة دورانها بين الوحي والاجتهاد، وفي الاجتهاد خاصة بين المبحث طبيعة اجتهاد الرسول  في تصرفاته بالإمامة وأنها كانت اجتهادات مبينة على رعاية المصالح ودرء المفاسد، كما أشار إلى الأثر الذي ألقت به هذه التصرفات على مبدأ المصالح في أصول الفقه الإسلامي.     
أما المبحث الثالث فقد تناول الأثر الفقهي لتصرفات الرسول  بالإمامة وحكمها، وبين في ذلك تصرفات الرسول  بالإمامة المتفق عليها وأثرها الفقهي، وتلك التي جرى الاختلاف في ترددها بين الإمامة وغيرها، وأورد في هذا الصدد صورا ونماذج للمتفق عليه والمختلف فيه من تصرفاته  بالإمامة، ثم علل البحث الحكم الذي قرره الفقهاء بشأن رد ما تصرف فيه الرسول  بالإمامة إلى حكم الحاكم في الزمن الذي تجري فيه الوقائع الجـديدة من جهة:
    1.  أن تصرفه بالإمامة  مبني على تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
    2.  أن المصالح تتغير بتغير الزمان والمكان.
    3.  أن الرجوع إلى الإمام عموما أمر مقرر في التشريع الإسلامي حتى فيما وردت فيه نصوص ليفسر الإمام تلك النصوص ويبين مغازيها ويرتب أحكامه في إطار ذلك.
وقد حاول البحث في كل الأحوال أن يتبع ما تناوله بالبيان والتوضيح والاستشهاد بحسبانه إسهاما في توضيح موضوع حري بالتوضيح والبيان لما يترتب عنه من آثار في فهم السنة النبوية ومقاصدها، والتفريق بين التشريع الثابت منها والتشريع المتغير في إطار تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وهو الآخر مبدأ ثابت ومقرر شهدت له آحاد النصوص وكلياتها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد نبي الرحمة وخاتم المرسلين، وسلم تسليما كثيرا.