الرئيسية / تمييز أحوال النبي ﷺ وآثارها المتنوعة فقهاً : الإمامة أنموذجاً.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : تمييز أحوال النبي ﷺ وآثارها المتنوعة فقهاً : الإمامة أنموذجاً.

الكاتب(ة) : د. عبد الوهاب أبو سليمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فقد اختص رسول الله بأمور عديدة منها الجبلية الاختيارية، ومنها التشريعية الملزمة، وتصرفات أخرى غير ملزمة كانت ولا زالت موضع دراسة العلماء، والأمر المتفق عليه بينهم بلا استثناء أنه ﷺ:
“الإمام الأعظم، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم، فهو إمام الأئمة، وقاضي القضاة، وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصباً منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه ﷺ بالتبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه…”().
كل هذه التصرفات ناشئة بأمر من الله نعالى؛ فإنه  لا ينطق عن الهوى.
ولما كانت فترة رسالته خاتمة الرسالات السماوية قيض الله له من صحابته الكرام من نقل كل ما يتصل به من الأقوال والأفعال، والآثار بكل أمانة وإخلاص إلى أجيال الأمة لمتابعة خطاه، والاهتداء بشريعته، وهي التي اصطلح على تسميتها بالسنة النبوية، ثاني مصادر الشريعة الإسلامية، أصبحت السنة تختص اصطلاحاً عند المحدثين: “ما أضيف إلى النبي ﷺ من قول، أو فعل، أو صفة خَلْقية أو خُلُقية، وما يتصل بالرسالة من أحواله الشريفة قبل البعثة ونحو ذلك. وفي اصطلاح الأصوليين: ما صدر عن النبي غير القرآن من الأقوال، والأفعال”().
تمييز أحوال النبي موضوع من موضوعات السنة النبوية المطهرة الثابتة من أقواله، وأفعاله ﷺ باعتبارها أحد الأصول الرئيسة التي تبنى عليها الأحكام الشرعية. ولا جرم أن يكون موضوعاً مهماً في الدراسات الفقهية من حيث الأحكام الشرعية المترتبة على كل صفة من تلك الصفات: من إلزام، أو عدمه، ومن قابلية للتغير الزماني، والمكاني حسبما تقتضيه المصلحة؛ فمن ثم يمتد أثر الاختلاف في تكييف أحواله بحالة من الحالات فينشأ عنه اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية المستنبطة منها، ومقدار درجتها الإلزامية من الناحية الشرعية.
تتابعت دراسات الفقهاء لهذا الموضوع حتى العصر الحديث، ومن أهم من تعرض له بالدراسة تفصيلاً شيخ الإسلام العلامة الفقيه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور : تعالى ففصل، ووضح ما تضمنته كتابة المجدد الشيخ ولي الله الدهلوي بطريقة علمية مألوفة، فبلغت لديه اثني عشرة حالة، مزج في دراسته بين خصائص الدراستين عند الإمام القرافي، والإمام شاه ولي الله الدهلوي، فخرجت دراسته مستكملة خصائص التقسيم المنظم، المفصل، وما ينشأ عن كل نوع من الأحكام الفقهية التي توخاها كلا الإمامين  وهو ما تميزت به دراسته، فجاءت مجردة أولاً ثم مفصلة تالياً.
وقبل ختام هذا العرض الموجز لما كتب عن هذا الموضوع في تراثنا الفقهي أود لفت النظر إلى أمور منها:
أولاً: يتفق الفقهاء الباحثون في ذكر الأحوال والصفات تصنيفاً، وتقسيماً لأحواله ، ويختلفون في عناوين بعضها، وتصنيفها، ومن ثم تناولها البعض إسهاباً، أو إيجازاً، ووضع بعض الصفات ضمن بعض، أو إفرادها بالذكر، واستقلالها بالتحليل والتمثيل.
ثانياً: الاختلاف الواقع بين الفقهاء في هذا الموضوع إنما هو في تنزيل بعض المسائل والجزئيات في تصرفاته ﷺ الجزئية وتبعيتها لقسم دون قسم، كما جاء في تناول العلامة تاج الدين عبدالوهاب بن السبكي له، مثلاً: إحياء الموات في قوله  «من أحيا أرضاً ميتاً فهي له» حمله البعض على أساس أنه من قبيل الفتاوى، والبعض حمله على أنه تصرف منه ﷺ بحسب الإمامة، ما من شك أن لهذا الاختلاف نتائجه وآثاره في الفقه الإسلامي.
ثالثاً: اختلاف المؤلفين في ذكر موضوعات الفروع تحت كل قسم من الأقسام، وسيأتي تفصيل كل ذلك في موضعه المناسب إن شاء الله تعالى.
رابعاً: هذا الموضوع هو أحد أسباب اختلاف الفقهاء، وحسب ما أحاط به العلم لم أر من عرج عليه من القدماء والمحدثين.
يستقل البحث هنا بدراسة موضوع تصرفه  بحسب من خلال مباحث خمسة، الأول عن الإمامة معنى وتأصيلاً، والثاني عن إمامته ﷺ للدولة الإسلامية بالمدينة المنورة، والثالث عن تصرفاته  عموماً، والرابع عن تصرفاته  بالإمامة خصوصاً وآثارها الفقهية، أما الخامس فعن أبعاد تصرفه ﷺ بالإمامة. ويلي الخاتمة لواحق للبحث بعنوان التدوين لتصرفات النبي .
أسأل الله أن يرزقنا اتباع المصطفى ﷺ على هدى وبصيرة إنه سميع مجيب.
المبحث الأول : الإمامة معنى وتأصيلاً
يطلق المؤلفون في السياسة الشرعية عناوين عديدة فيما يخص الإمامة منها:
الإمارة، السلطة، الولاية، الإمامة، ومن تولى أحد هذه الوظائف سمي: أميراً، وسلطاناً، ووالياً، وإماماً.
“الإمرة، والإمارة وصاحبها أمير، ومؤَّمر، قال ابن الإعرابي: أَمِرَ فلان على قومه إذا صار أميراً”().
وذكر العلامة محمد مرتضى الزبيدي أن “الاسم الإمرة وهي الإمارة، ومنه حديث طلحة (لعلك ساءتك إمرة ابن عمك)…، والأمير الملك لنفاد أمره…”().
وفي الموضوع نفسه عقد العلامة عبدالرحمن بن خلدون (732 – 808ﮬ) فصلاً في معنى الخلافة والإمامة، وما استحدث من أسماء أخرى لهذا المنصب قائلاً: “الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية، والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به…، سمي خلافة، وإمامة، والقائم به خليفة وإماماً، وسماه المتأخرون سلطاناً حين فشا التعدد فيه…
فأما تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به؛ ولهذا يقال: الإمامة الكبرى، وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته فيقال: خليفة بإطلاق….”().
⬛   تعريف الإمامة اصطلاحاً
وردت تعريفات عديدة للإمامة لدى علماء السياسة الشرعية، ومن أجمعها تعريف إمام الحرمين عبدالملك الجويني : تعالى فقد جاء تعريفه تعريفاً جامعاً مانعاً في عبارة محكمة بقوله:
“الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين”().
وعرفها الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماوردي من حيث وظيفتها بأنها: “… لحراسة الدين، وسياسة الدنيا…”().
يخلص التعريف من جميع ما تقدم أن “محور الإمامة يتمثل في وجوب قيام الإمام لتنظيم المجتمع، وإقامة الدين على أصوله”().
⬛   التأصيل لتصرفه  بالإمامة
الإمامة والولاية لفظان تعني أول ما تعني المسؤوليات المتعلقة بمن تولى أمر المسلمين، فأصبح إمامهم؛ ولهذا فإن شطراً من الآيات التالية تخص إمامة النبي صلى الله عليه للمسلمين؛ إذ ولاه المولى  أمر الأمة:
يقول الله : ﴿يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً﴾().
هذه الآية الكريمة تؤصل لوجوب طاعة الرسول  باعتبار الرسالة، ووجوب طاعته باعتبار الولاية، فهو في كلتا الحالتين واجب الطاعة حتى يستقيم أمر الأمة، وتستقر أحوالها؛ ذلك أن “حقيقة الطاعة: امتثال الأمر… والطاعة مأخوذة من طاع إذا انقاد…
فمعنى ذلك امتثلوا أمر الله تعالى، وأمر رسوله ، وقد قال النبي ﷺ: «من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى أميري فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله تعالى»().
“أطلق على رئيس الدولة في النصوص الإسلامية ابتداء من الأحاديث النبوية لفظ إمام، ووردت أحاديث عديدة استعمل فيها لفظ (الإمام)، و(الأئمة) بمعنى من يتولى الإمارة والرياسة، وذكر موصوفاً بالعدل مدحاً، والجور ذماً… منها حديث الصحيحين قوله : «الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته»، وقوله ﷺ: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله…، وذكر منهم: إمام عادل»، وحديث: «ثلاثة لا ترد دعوتهم منهم: الإمام العادل»، وحديث «يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة»…”().
المبحث الثاني : إمامة النبي ﷺ للدولة الإسلامية بالمدينة المنورة
بزغت إرهاصات الدولة الإسلامية وبواكيرها من شعب العقبة بمنى حين بايع الأنصار رسول الله ﷺ على فدائه بدمائهم وأرواحهم، وأن يذودوا عنه ويحموا حياضه حمايتهم لأهليهم وفلذات أكبادهم إذا نزح إليهم، فكانت هجرته  إلى المدينة، ووفى الأنصار بما عاهدوا الله عليه، وكان وجوده ﷺ بينهم بمثابة رئيس السلطة التنفيذية في الدولة الإسلامية، فقد تولى إدارة الدولة بمساعدة أصحابه الذين كانوا ينفذون أوامره.
في دراسة لبدايات الدولة الإسلامية، بإمامة المصطفى  يذكر العلامة أبو الوليد الأزرقي : تعالى بروايته عن الصحابي الجليل “جابر بن عبدالله الأنصاري  أن رسول الله ﷺ لبث بمكة عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم بمجنة، وعكاظ، ومنازلهم بمنى يقول: من يؤويني، وينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة، فلا يجد أحداً يؤويه حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر، أو اليمن فيأتيه قومه، أو ذو رحمه فيقولون: احذر فتى قريش، لا يفتنك يمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من دور يثرب إلا وفيها منا رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله له فأتمرنا، واجتمعنا سبعين رجلاً منا، فقلنا: حتى متى ندع رسول الله  يُطرد في جبال مكة ويخاف!؟ فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فتواعدنا شعب العقبة، واجتمعنا فيه من رجل، ورجلين حتى توافينا عنده، وقلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، وأبناءكم، وأزواجكم، ولكم الجنة. فقمنا إليه نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين رجلاً إلا أنا، فقال: رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ﷺ ، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون على أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله. قالوا: أمط عنا يدك يا أسعد ابن زرارة، فو الله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلاً رجلاً، يأخذ علينا شرطه، ويعطينا على ذلك الجنة…”().
تحقق للرسول ﷺ من ذلك الهجرة إلى المدينة: المكان، والشعب؛ ذلك أن الاستقرار المكاني، والمتبعون له المؤمنون برسالته، المصرون على نصرته هما نواة الدولة الإسلامية، أما ثالثة الأثافي فهو الوحي السماوي الذي يمده بالتشريعات الإلهية، وهو القانون السماوي الذي يحكم المجتمع.
بهذا مهد رسول الله  لإقامة دولة إسلامية بالمدينة المنورة، فمنذ وصوله إليها “سارع إلى عمل ثلاثة أشياء: بناء مسجد، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، عقد معاهدة مع اليهود.
ومعلوم أن المسجد للعبادة، والاستماع للخطب النبوية والتوجيهات، وأما المؤاخاة فعمل اجتماعي، يستهدف رص الصفوف، وأن يقوم الأنصار بالتكافل مع المهاجرين الذين تركوا أموالهم وهاجروا بدينهم.
والمعاهدة مع اليهود، ويطلق عليها البعض (دستور المدينة) تنظم العلاقة بين المهاجرين والأنصار وبين المسلمين واليهود.
وفي المدينة توالت التشريعات، وأقيمت الحكومة الإسلامية، وصار رسول الله هو الحاكم في المدينة، وقد وقع اليهود معه المعاهدة بصفته رسول الله، وأن المسلمين أمة، كما أن اليهود أمة، وكل خلاف يجب عرضه على رسول الله، ومن يخرج على المعاهدة فمن حق الطرف الآخر أن يفعل ما يشاء”().
قد مهد  قبل ذلك بمكة المشرفة لهجرته إلى المدينة المنورة وإقامة نواة دولة الإسلام بها بما تم بينه وبين الأوس والخزرج في بيعتي العقبة الأولى والثانية خلال أيام التشريق بمنى.
وبالمدينة المشرفة “كانت السلطة بأجمعها… بيد الرسول  نظرياً إلا أن ذلك كان مستحيلاً من الناحية العملية، لذا فقد اعتمد في إدارة شؤون الدولة على مساعدة أصحابه.
ومنذ البداية فقد عهد الرسول ﷺ إدارة شؤون العشائر المدنية إلى ممثليهم (النقباء الاثني عشر) حينما بايعوه بيعة العقبة الثانية، وكما كان الأمر سابقاً، أما هو فقد تعهد بتولي مسؤولية أصحابه من قريش الذين كانوا يعيشون من الوظائف المتخصصة التي ازدادت أهميتها مع توسع الدولة الإسلامية ونموها، وكان أبرز هذه الوظائف ما يأتي:
1- كُتَّاب الرسول : كان واجبهم الأساس كتابة ما ينزل به الوحي على الرسول ﷺ من آيات القرآن الكريم، وكتابة الرسائل إلى الملوك، والأمراء، وشيوخ القبائل بناء على توجيهاته ، وكان العمل في هذه الوظيفة ليس دائماً، وقد مارسه عدة أشخاص مثل أبي ابن كعب، وزيد بن ثابت.
2- إمامة الصلاة: كانت هذه الوظيفة يؤديها بعامة الرسول  شخصياً.
3- الأذان: كان هدف هذه الوظيفة دعوة الناس لإقامة الصلاة في مواعيدها المحددة، وقد قام بهذه الوظيفة عدة أشخاص، كان أبرزهم بلال ابن رباح.
4- الدعوة إلى الإسلام: وكان الرسول ﷺ يباشر هذه الوظيفة بنفسه، كما كان يرسل عدداً من أصحابه إلى جهات مختلفة لتعليم الناس القرآن ودعوتهم إلى مبادئ الإسلام.
5- إمرة السرايا: كان الرسول  يعين عدداً من الأشخاص على رأس مجموعات مسلحة للقيام بعمل محدد، أو مهاجمة هدف عسكري معين.
6- قيادة الجيش: كانت القيادة العليا لجيش المسلمين بيد الرسول ﷺ ، وكان هو الذي يمارس سلطات هذه الوظيفة حينما يخرج على رأس إحدى الحملات العسكرية.
7- عامل الرسول ﷺ على المدينة: حينما كان الرسول  يخرج من المدينة في مهمة خاصة كان يعين عليها عاملاً لينوب عنه في إدارة شؤونها، وفي إمامة الصلاة.
8- عمال الصدقات: عند ما توسعت الدولة الإسلامية أخذ الرسول  يعين قسماً من أصحابه للقيام بمهمة جباية الزكاة من المسلمين المكلفين بأدائها، وكذلك أخذ الجزية من أهل الكتاب.
9- صاحب نفقاته: وقد روي أن المسؤول عن نفقات الرسول ﷺ المالية كان بلال بن رباح، كما كان خازنه معيقيب بن أبي فاطمة، ويبدو أن مسؤوليته كانت المحافظة على الأموال العامة التي لدى الرسول .
10- المحتسب: لقد نهى القرآن الكريم عن الغش في المعاملة، كما دعا المسلمين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لذا كان من الطبيعي أن يحاول الرسول ﷺ مراقبة السوق من أجل أن يمنع غش عدد من الأفراد في التعامل، وإساءة التصرف، وقد روى البخاري أن الرسول  قد عاقب من ثبت تقصيره في هذا المجال.
لقد أشير إلى أن الرسول ﷺ قد عين بعد فتح مكة سعد ابن أبي سعيد بن العاص ليعمل مراقباً على سوق مكة (محتسب) وعين عمر بن الخطاب ليعمل مراقباً على سوق المدينة…
11- القاضي: لقد عمل الرسول  قاضياً في المدينة من أجل حسم المنازعات بين الناس، كما عين عدداً من أصحابه للقضاء بين الناس في المناطق البعيدة عن المدينة…
12- تنفيذ العقوبات: لقد روي أنه كان هناك بعض الصحابة يعملون على تنفيذ العقوبات التي كان يوقعها الرسول ﷺ ضد بعض المخالفين لأحكام الشريعة، والمجرمين، وكان من أبرز هؤلاء الصحابة علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد، رضوان الله عليهم.
13- الولاة: لقد عين الرسول  ولاة على مدينة مكة والطائف، وغيرهما لحكم الناس، وإدارة شؤونهم العامة باسم الرسول ﷺ ، يقوم بإرسال رسل لنقل رسائله، وكلامه إلى الملوك، والأمراء، وشيوخ القبائل في مناسبات، وأغراض متعددة.
14- الرسل: لقد كان الرسول  يقوم بإرسال الرسل لنقل رسائله، وكلامه إلى الملوك، والأمراء، وشيوخ القبائل في مناسبات، وأغراض متعددة.
15- أمير الحج: بعد فتح مكة قام الرسول  بتنظيم مراسم الحج، ومن ثم فقد أرسل أبا بكر الصديق  في سنة 9ﮬ على رأس الحجاج المسلمين إلى مكة بصفته أميراً للحج ذلك العام…”(). تحقق كل هذا من خلال “بعث الجيوش لقتال الكفار، والخوارج، ومن تعين قتاله، وصرف أموال بيت المال في جهاتها، وجمعها من محالها، وتولية القضاة، والولاة العامة، وقسمة الغنائم، وعقد العهود للكفار ذمة وصلحاً.
هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم، فمتى فعل  شيئاً من ذلك علمنا أنه تصرف فيه ﷺ بطريق الإمامة دون غيرها…”().
“وظهر أن الإمامة جزؤها القضاء والفتيا، ولهذا اشترط فيها من الشروط ما لم يشترط في القضاة والمفتين من كونه قرشياً، عارفاً بتدبير مصالح وسياسة الخلق إلى غير ذلك مما نص عليه العلماء في الإمامة شرطاً، وكمالاً؛ ولذلك قال : «الأئمة من قريش»، ولم يقل القضاة من قريش، وما ذلك إلا لعموم السلطان، واستيلاء التصرفات والاستقلالات، وذلك لعظم أمرها، وجلالة خطرها، وهو دأب صاحب الشرع: متى عظم أمر كثّر شروطه…
لما عظم خطر الإمامة اشترط الشارع فيها ما لم يشترطه في غيرها، وما عز شيء وعلا شرفه إلا عز الوصول إليه، وكثرت القواطع دونه…”(). ومن الأمثلة التي توضح تصرفه ﷺ بالإمامة ما حدث له في مسيره إلى غزوة بدر حين “سار حتى نزل عشياً أدني ماء من مياه بدر، فقال: أشيروا عَلَيَّ في المنزل، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أنا عالم بها، وبقُلُبها، إن رأيت أن نسير إلى قُلُب قـد عرفناها فـهي كثيرة الـماء، عذبة، فننـزل علـيها، ونسبـق القوم إلـيها، ونغور ما سواها من المياه”().
كان هذا التصرف منه  تصرفاً بالإمامة لمصلحة الجيش، والأمة.
المبحث الثالث : تصرفاته ﷺ عموماً
أفرد فقهاء الإسلام تصرفات النبي  بمؤلفات عديدة على سبيل الاستقلال حيناً، وعلى سبيل التبع ضمن مؤلفاتهم أحياناً أخرى، سواء في هذا فتاواه ، أو في أقضيته، أو في إمامته، وقد اختلفت مناهجهم في أسلوب حصرها، منهم من أرجعها إلى قسمين رئيسين، ومنهم من حصرها في أربعة أقسام، ومنهم من أسهب في فصل مفرداتها.
أخذ المبادرة والريادة بتدوينها ومناقشتها نبغة الفقهاء بطريقة علمية فقهية منظمة، جاء في مقدمتهم:
الإمام أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة (213 ـ 276ﮬ) حيث قسم السنن ثلاثة أقسام:
   سنة أتاه بها جبريل ؛ عن الله تعالى.
   وسنة أباح الله له أن يسنها، وأمره باستعمال رأيه فيها، فله أن يترخص فيها لما شاء على حسب العلة والعذر.
   والثالثة ما سنه لنا تأديباً فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك، وإن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله.
ثم جاء الإمام الفقيه أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي : تعالى المتوفى سنة (684ﮬ) فتعمق في دراسة هذا الموضوع بأسلوب استنباطي فقهي؛ وذلك ببيان أحواله  واستقرائها، وما تختص به كل حالة من أحكام فقهية، ثم الاطلاع على استنباطات الفقهاء المجتهدين السابقين من كل حالة من تلك الحالات، وما يترتب عليها من آثار شرعية فنتجت دراسته : تعالى عن الحالات التالية:  الإمامة، التبليغ (الرسالة)، الفتيا، القضاء.
ثم بعد هذا قدم العلامة أبو القاسم قاسم بن عبدالله بن الشاط (ت723ﮬ) هذه الأنواع بتصور وحصر علمي منطقي آخر بأن: “المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه، وإما أن يكون بتنفيذه. فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى، وتصرفه هو الرسالة، وإلا فهو المفتي، وتصرفه هو الفتوى. وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه، فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام، وإمضاء، وإما أن لا يكون كذلك، فإن لم يكن كذلك فذلك هو الإمام وتصرفه هو الإمامة، وإن كان كذلك فذلك هو القاضي وتصرفه هو القضاء”().
وقد بلغت الثقة بهذا الإمام في تعقبه لفروق الإمام القرافي في هذا الكتاب النفيس حتى ذهب مثلاً مسلماً بين الفقهاء قولهم: “عليك بفروق القرافي، ولا تقبل منها إلا ما قبله ابن الشاط”().
ثم تعرض لهذا الموضوع بشكل موجز الإمام تاج الدين عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي : تعالى (المتوفى سنة 771ﮬ) في كتابه الأشباه والنظائر بصورة مختصرة مفيدة؛ حيث حصر أحواله  في الفتيا والسلطنة تحت عنوان: “مسألة: النبي ﷺ يتصرف بالفتيا والسلطنة، وكل من الأمرين ناشئ عن الله تعالى، فإنه  لا ينطق عن الهوى”().
ثم جاء من بعد ذلك العلامة شاه ولي الله أحمد بن عبدالرحيم الفاروقي الدهلوي، أبو عبدالعزيز في القرن الثاني عشر الهجري الملقب شاه ولي الله (1110 ـ 1176ﮬ) في كتابه الشهير (حجة الله البالغة) فأفرد هذا الموضوع بـ (المبحث السابع: مبحث استنباط الشرائع من حديث النبي ﷺ) وخصه بـ(باب بيان أقسام علوم النبي )، وقد أسهب في تحليل هذا الموضوع، وأضاف إلى ما ذكره الإمام القرافي رحمه الله إضافات جليلة مفيدة، وتقسيمات مبتكرة، فجاءت شاملة كاملة، في تقسيم محكم…() فقال: “اعلم أن ما روي عن النبي  ودون في كتب الحديث على قسمين:
 أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله : ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عن فانتهوا﴾ منه علوم المعاد، وعجائب الملكوت، وهذا كله مستند إلى الوحي، ومنه شرائع وضبط العبادات، والارتفاقات بوجوه الضبط المذكورة فيما سبق، وهذه بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها مستند إلى الاجتهاد، واجتهاده  بمنزلة الوحي؛ لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرر رأيه على الخطأ، وليس يجب أن يكون اجتهاده استنباطاً من المنصوص ـ كما يظن ـ بل أكثره أن يكون علمه الله تعالى مقاصد الشرع، وقانون التشريع والتيسير، والأحكام فبين المقاصد المتلقاة بالوحي بذلك القانون.
ومنه حكم مرسلة، ومصالح مطلقة لم يوقتها، ولم يبين حدودها، كبيان الأخلاق الصالحة، وأضدادها، ومستندها غالباً الاجتهاد، بمعنى أن الله تعلى علمه قوانين الارتفاقات، فاستنبط منها حكمة، وجعل فيها كلية.
ومنه فضائل الأعمال، ومناقب العمال، وأرى أن بعضها مستنداً إلى الوحي، وبعضها إلى الاجتهاد، وقد سبق بيان تلك القوانين. وهذا القسم هو الذي نقصد شرحه، وبيان معانيه.
 وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله  «إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر»، وقوله ﷺ في قصة تأبير النخل «فإني إنما ظننت ظناً، ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن أذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به؛ فإني لم أكذب على الله»، فمنه الطب، ومنه باب قوله  «عليكم بالأدهم الأقرح» ()، ومستنده التجربة، ومنه ما فعله النبي  على سبيل العادة دون العبادة، وبحسب الاتفاق دون القصد، ومنه ما ذكره كما كان يذكر قومه كحديث أم زرع، وحديث خرافة، وهو قول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر، فقالوا حدثنا أحاديث رسول الله ﷺ قال: كنت جاره فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته، إذا ذكر الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكر الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكر الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله .
ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ، وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبية الجيوش، وتعيين الشعار، وهو قول عمر  ما لنا وللرمل، كنا نتراءى به قوماً قد أهلكهم الله، ثم خشي أن يكون له سبب آخر، وقد حمل كثير من الأحكام عليه، كقوله ﷺ: «من قتل قتيلاً فله سلبه».
ومنه حكم وقضاء خاص، وإنما كان يتبع فيه البينات، والأيمان، وهو قوله  لعلي  «الشاهد يرى ما لا يراه الغائب»”().
ثم تتابعت دراسات الفقهاء لهذا الموضوع حتى العصر الحديث، ومن أهم من تعرض لها بالدراسة تفصيلاً شيخ الإسلام العلامة الفقيه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور : تعالى ففصّل، ووضح ما تضمنته كتابة المجدد الشيخ شاه ولي الله الدهلوي بطريقة علمية مألوفة، فبلغت لديه اثني عشرة حالة، مزج في دراسته بين خصائص الدراستين عند الإمام القرافي، والإمام شاه ولي الله الدهلوي، فخرجت دراسته مستكملة خصائص التقسيم المنظم، المفصل، وما ينشأ عن كل نوع من الأحكام الفقهية التي توخاها كلا الإمامين  تعالى وهو ما تميزت به دراسته، مجردة مجملة أولاً: “التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرد عن الإرشاد”() ثم جاء على ذكرها بالتفصيل.
المبحث الرابع : تصرفاته ﷺ بالإمامة خصوصاً وآثارها الفقهية
⬛   التصرفات الخاصة بالإمامة
يستعرض العلامة شاه ولي الله الدهلوي : في تقسيمه لأحوال الرسول  في الفقرة (وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة) ما يخص موضوع الإمامة قائلاً:
“ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ، وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبية الجيوش، وتعيين الشعار، وهو قول عمر  ما لنا وللرمل، كنا نتراءى به قوماً قد أهلكهم الله، ثم خشي أن يكون له سبب آخر، وقد حمل كثير من الأحكام عليه، كقوله : «من قتل قتيلاً فله سلبه»…”.()
وقد ذكر العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بعضاً من تصرفات الإمام قائلاً:
“وأما حال الإمارة فأكثر تصاريفه لا يكاد يشتبه بأحوال الانتصاب للتشريع إلا فيما يقع في خلال أحوال بعض الحروب مما يحتمل الخصوصية، مثل النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية في غزوة خيبر، فقد اختلف الصحابة: هل كان نهي رسول الله ﷺ عن أكل الحمر الأهلية، وأمره بإكفاء القدور التي طبخت فيها نهي تشريع فيقتضي تحريم لحوم الحمر الأهلية في كل الأحوال، أو نهي إمرة لمصلحة الجيش؛ لأنهم في تلك الغزوة كانت حمولتهم الحمير…
وقد قال رسول الله  يوم حنين «من قتل قتيلاً فله سلبه» رواه مالك في الموطأ، ورجال الصحيح، فجعل مالك ذلك تصرفاً بالإمارة فقال: لا يجوز إعطاء السلب إلا بإذن الإمام، وهو من النفل، وهو خارج من الخمس الذي هو موكول لاجتهاد أمير الجيش، وبذلك قال أبو حنيفة أيضاً، وقال الشافعي، وأبو ثور، وداود: لا يتوقف ذلك على إذن الإمام، بل هو حق للقاتل فرأوه تصرفاً بالفتوى والتبليغ”().
فـي ضوء القاعدة الفقهية المتصلة بتصرفات الإمام تم للفقهاء بيان الأمور التي ينبغي أن يستأذن فيها الإمام، وليس للأفراد التصرف فيها من عندياتهم، وفي بعضها اختلاف فـي نسبتها لقسم دون آخر، كما قرر هذا العديد من الفقهاء، وقد انتظمت تصرفات الإمام عموماً فيما يأتي:
1) تجهيز الجنود، وتحصين الثغور بما يناسب العصر، وإقامة فرض الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، وقد ولاه الله تعالى أمر الأمة لينصر الدين ويعلي الكلمة.
2) جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً، واجتهاداً من غير خوف، ولا عسف.
3) النظر في الإقطاعات، يضعها مواضعها، ويستخدم من ينفع المسلمين، ويحمي حوزة الدين، ويكف أيدي المعتدين.
4) توظيف الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، وتكله إليهم من الأموال؛ لتكون العمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
5) سد حاجة الفقراء، وسائر المستحقين، وإعطاء كل كفايته من بيت المال الذي هو فـي يده أمانة.
6) صيانة أموال المسلمين والمحافظة عليها في بيت المال، وصرفها في المصارف التي قدرها الشارع، حيث جعل لكل مال أقواماً، وقدراً.()
7) “إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتُحفظ حقوق عباده من إتلاف، واستهلاك.
8) مباشرة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة، أو عبادة؛ فقد يخون الأمين، ويغش الناصح”().
وغير ذلك مما يستجد من صلاحيات تختص بالإمام حسب تجدد الأزمنة والأمكنة.
⬛   الآثار الفقهية المترتبة على التصرف بالإمامة
تصرفات النبي  وأفعاله على اختلاف أنواعها تترتب عليها أحكام شرعية بحسبها.
التصرف بالإمامة يعني تصرف الحاكم لمصلحة الأمة بما يحفظ عليها دينها، وأمنها، يحرس مجتمعها من الاعتداءات الداخلية والخارجية، ويذود عن حياضها، يحقق لها المصالح الاجتماعية التي تنهض بمجتمعها حسب الوسائل، والطرق في عصرها، دون إخلال، أو خرق لقواعد الشريعة المعظمة. ولقد فصل الفقهاء الكثير من هذه التصرفات، وقاسوا عليها أموراً أخرى بحسب عصورهم، ليس ما صح عن النبي ﷺ من هذه التصرفات ملزماً اتباعه للأمة “ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ، وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبية الجيوش، وتعيين الشعار،…”().
أما فيما يخص تصرفه  بالإمامة فمن آثارها الشرعية، وهو محل اتفاق بين جمهور الفقهاء أن “كل ما تصرف فيه ؛ بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداءً به ؛؛ ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك”().

المبحث الخامس : أبعاد تصرفه ﷺ بالإمامة
قد أعطى تصرفه  بالإمامة، وعدم إلزام الأمة بما تصرف به مرونة تامة في التشريع في الماضي، والحال، والمستقبل، يكيف كل إمام مصلحة أمته في ضوء مقاصد الشريعة، ومقاصد المكلفين مما لا يتعارض مع القواعد والمبادئ الشرعية.
مشروعية تصرف الإمام في هذا المقام رهين بمصالح الأمة حسب الزمان والمكان، وبحسب ما تمليه المصلحة في زمانهم، ولا يتعارض وقواعد الشريعة المطهرة، ومقاصدها لبناء مجتمع مدني متقدم حسب مقاييس العصر الذي يعيشونه، دون انهزام، أو تقهقر.
إن هذا يبرر للانفتاح على الحضارات القديمة والحديثة، والاستفادة من تجاربها، ومنجزاتها، والانسجام معها في الشؤون الإدارية، والتعليمية، والسياسية، والعسكرية، والحياة المدنية، وكافة المرافق الحضارية.
بيّن هذا وأكد عليه علماء الإسلام المجتهدون، منهم العلامة أبو الوفاء علي ابن عقيل الحنبلي : (ت512ﮬ) موضحاً أن “السياسة ما كان بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول  ولا نزل به وحي…؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل المثل ما لا يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة، وكذلك تحريق علي كرم الله وجهه الزنادقة في الأخاديد، ونفي عمر نصر بن حجاج…”().
يقول الإمام القرافي :: “واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع، بل تشهد له الأدلة… وتشهد له أيضاً القواعد من وجوه:
أحدها: أن الفساد قد كثر، وانتشر بخلاف العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية لقوله  «لا ضرر ولا ضرار»، وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر، ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج.
وثانيها: أن المصلحة المرسلة قال بها مالك رضي الله تعالى عنه، وجمع من العلماء، وهي المصلحة التي لا يشهد الشرع باعتبارها، ولا بإلغائها، ويؤكد العمل بالمصالح المرسلة أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف، ولم يتقدم فيه الأمر، ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما، ولم يتقدم فيها الأمر، ولا نظير، وكذلك ترك كالخلافة شورى بين ستة، وتدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن، وغير ذلك مما فعله عمر رضي الله تعالى عنه، وهدم الأوقاف التي بإزاء المسجد يعني مسجد رسول الله ، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، وحرق المصاحف، وجمعهم على مصحف واحد… مما فعله عثمان ، وغير ذلك كثير جداً فعل لمطلق المصلحة…”.()
يقرر هذا المعنى الإمام السبكي في عبارة موجزة: “وبالسلطنة قد يختص في كل زمان بحسب المصالح…”().
وقد استنبط العلماء من النصوص الشرعية في هذا الصدد قواعد الإمامة في الإسلام، من أهمها فيما يخص هذا الموضوع قاعدة: (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة).
المصلحة المقصودة شرعاً كما قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : بأنها:
“عبارة ـ في الأصل ـ عن جلب منفعة، أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة…”().
9
خلص البحث أخيراً إلى النتائج الآتية:
1) “الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين”().
2) إمامة الرسول  إمامة متميزة سلماً وحرباً، أرسى بها  قواعد المجتمع المدني، ووسائل تقدمه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بحيث يواكب كل إمام في كل عصر تقدم أهل كل عصر واتخاذ كل ما يضمن لأمته العزة، والأمن، والسلامة.
3) من شروط تنصيب الإمام معرفته بتدبير مصالح وسياسة الخلق.
4) إحياء هذا الموضوع بحثاً في الذاكرة الفقهية تذكير للجميع بأصول هي منطلق النهضة الإسلامية قديماً، وهي كفيلة بانطلاقهم لمواكبة الركب الحضاري في عصرهم الحاضر.
5) ليس كل ما ثبت عن الرسول  قوله أو فعله هو الوجوب، ولكن تختلف الأحكام بحسب تصنيف حالته وموقفه  في تلك المناسبة.
6) كل ما صدر عنه  بوصفه إماماً ليس فيه إلزام لمن يتولى إمامة المسلمين، وإنما يحكم الموضوع المصلحة العامة في زمانه بحيث لا تتعارض مع مبادئ الشريعة.
7) “يقصد الفقهاء من لفظ (سياسة) بناء الحكم على ما تقتضيه مصلحة الأمة مما لم يرد بشأنه دليل تفصيلي خاص… مما يحتاج إليه الولاة والحكام لتدبير أمور الأمة، وإدارة شؤونها بما يحقق لها الصلاح والفلاح، والنفع العام”().
8) “السياسة ما كـان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ، ولا نزل به وحي…، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه…، وإنما هي عدل الله ورسوله…”().
9) “مجال السياسة الشرعية الوقائع، والحوادث التي تَجِدُّ، ولم يرد بشأنها نصوص صريحة تبين الحكم فيها…، وهي شاملة لنوعين من الأحكام:
 النوع الأول: أحكام الوقائع التي لا نجد لها دليلاً نصاً صريحاً، وعندئذ تستنبط لهذه الوقائع الأحكام التي تحقق المصلحة المعتبرة للأمة بطريق من الطرق التي تعترف بها الشريعة وتقرها.
 النوع الثاني: الأحكام التي من شأنها ألا تبقى على شكل واحد، وهي الأحكام الثابتة من أول الأمر بناء على المصلحة الثابتة مثلاً، والثابتة بنص مرتبط بمصلحة معينة، وإنما تختلف باختلاف العصور والأحوال، وتتبدل بتبدل المصالح وتتغير بتغير الظروف والمجتمعات”().
10) “المصلحة المقصودة شرعا المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة…”().
11) “السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها…”().
12) تتجدد وقائع السياسة الشرعية في كل حين، وتتغير بتغير العوامل والظروف.()
13) “التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع، بل تشهد له القواعد،…”().
14) تجديد المجتمع المدني في كل مرافقه المدنية حسب مقتضيات العصر مسؤولية الإمام الذي يتولى شؤون المسلمين.
15) حثت الشريعة على التفكير، والتعامل مع الواقع، والتسابق في مجال الاجتهاد، فمن ثم تركت تفاصيل بعض شؤون الحياة لمالك زمام الأمور في الأمة من أهل الحل والعقد، مثال ذلك: “قاعدة الشورى نفسها: أرشد الإسلام إلى الشورى بقوله : ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾، وقصد إلى إقامتها على وجه ينفي الاستبداد، ويجعل الحكام لا يقطعون أمراً حتى تتناوله آراء أهل الحل والعقد، وأبقى النظر في وسائل استطلاع الآراء إلى اجتهاد أولي الأمر، وإلى ألمعيتهم، فهم الذين يدبرون النظم التي يرونها أقرب، وأكمل”.()
16) “من الخطأ التسرع في الحكم بالقول بعدم مشروعية الوقائع المتجددة لمجرد عدم ورود نص بحكمها، بل الواجب الذي يقتضيه البحث العلمي في الوقائع التي لم يرد أصل شرعي بحكمها أن تعرض على عمومات النصوص من الكتاب والسنة، فإن اندرجت تحت أحد هذه العمومات أعطي لها حكم هذا العام، وإن لم تندرج كان سبيل الوصول إلى الحكم فيها هو الاجتهاد”.()
17) “عرض الوقائع المتجددة على النحو المذكور آنفاً للوصول إلى حكمها هو العمل بالسياسة الشرعية…، وهو الذي يثري الشريعة الإسلامية بالاستجابة إلى تحقيق حاجاتها المتجددة ما دامت بعيدة عن مخالفة النصوص، والقواعد العامة في الشريعة”().
18) أثمرت دراسة إمامة النبي  دراسات واسعة، واستخرج منها علوم منها:
 أولاً: (علم السياسة الشرعية) فأبدع فيها علماء الإسلام، ورث الخلف عن السلف كماً كبيراً من هذا التراث تعددت فروعه من قوانين، وآداب، وقد قدم فيها المؤلفون سنناً، وطرائق، وتصنيفات عديدة متنوعة.
 ثانياً: (القانون الدولي في الإسلام) كان رائد هذا العلم الإمام محمد ابن الحسن الشيباني (132 – 189ﮬ) وقد أثرى هذا العلم بمؤلفاته العديدة.()
*        *        *
وقبل ختام هذا العرض الموجز لما توصل إليه البحث أود لفت النظر إلى أمور مهمة في هذا الموضوع منها:
أولاً: يتفق الفقهاء الباحثون في ذكر أحوال تصرفات النبي ﷺ تصنيفاً، وتقسيماً.
ثانياً: الاختلاف الواقع بين الفقهاء في هذا الموضوع إنما هو في تنزيل بعض المسائل والجزئيات في تصرفاته  من حيث تبعيتها لقسم دون قسم، كما جاء في تناول العلامة تاج الدين عبدالوهاب ابن السبكي له، مثلاً: إحياء الموات في قوله «من أحيا أرضاً ميتاً فهي لمن سبق»، وقوله ﷺ: «منى مناخ لمن سبق» حملهما البعض على أساس أنه من قبيل الفتوى، والبعض حمله على أنه تصرف منه  بحسب الإمامة، ما من شك أن لهذا الاختلاف نتائجه وآثاره في الفقه الإسلامي.
ثالثاً: اختلاف المؤلفين في ذكر موضوعات الفروع التي تدخل تحت كل قسم من الأقسام سبب من أسباب اختلاف الفقهاء التي لم يجر التنويه عنه في علم أسباب اختلاف الفقهاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلاة الله على القائد الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وأئمة المسلمين أجمعين، وفق الله الأحياء منهم إلى النهوض بالأمة، والأخذ بأسباب القوة، ومكن لهم في الأرض لتكون كلمة الله هي العليا، إنه سميع مجيب.
لواحق
يستعرض البحث في هذه الأوراق بعض النصوص المتصلة بالبحث.
اللاحقة الأولى : تدوين تصرفاته ﷺ عموماً
تمييز أحوال النبي  موضوع من موضوعات السنة النبوية المطهرة الثابتة من أقواله وأفعاله ﷺ باعتبارها أحد الأصول الرئيسة التي تبنى عليها الأحكام الشرعية.
لا جرم أن يكون موضوعاً مهماً في الدراسات الفقهية المتعمقة من حيث الأحكام الشرعية المترتبة على كل صفة من تلك الصفات: من إلزام، أو عدمه، ومن قابلية للتغير الزماني، والمكاني حسبما تقتضيه المصلحة؛ فمن ثم يمتد أثر الاختلاف في تكييف أحواله  بحالة من الحالات فينشأ عنه اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية المستنبطة منها، ومقدار درجتها الإلزامية من الناحية الشرعية.
أفرد فقهاء الإسلام تصرفات النبي  بمؤلفات عديدة على سبيل الاستقلال حيناً، وعلى سبيل التبع ضمن مؤلفاتهم أحياناً أخرى، سواء في هذا فتاواه ﷺ، أوفي أقضيته، أوفي إمامته، وهنا يتم استعراض ما تم التوصل إليه العلم منها في هذا البحث:
⬛   أولاً : التدوين مستقلاً في عموم تصرفات النبي ﷺ
خصص العلامة أحمد بن إدريس القرافي كتاباً مستقلاً لعرض كافة تصرفات النبي  بعنوان: (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام وتصرفات القاضي والإمام).
يتحدث عن أهميته محقق الكتاب العلامة المحدث الفقيه الشيخ عبدالفتاح أبو غدة : بأنه “كتاب رفيع فريد في بابه، أجاد فيه مؤلفه الإمام القرافي أيما إجادة، وشرح به حقائق من العلم كانت عصية شاردة تستعصي على فحول العلماء قبله، فطوعها، وجعلها سهلة مأنوسة، منضبطة، وألفها أحسن تأليف، ويسر منالها لطلابها بأسلوب سهل جزل، وجاء بالجديد الكثير من العلم الذي لم يكن مطروقاً من قبل، في الفقه والأصول، وتاريخ التشريع، وملأ فراغاً لم يقم بملئه سواه، ولا ينهض للقيام به إلا الأئمة الأفذاذ الموهوبون أمثال القرافي :…
فهو كتاب في الذروة من العلم والبحث، على مستوى الأئمة الكبار من القضاة والمفتين، وأعلام الدين…”().
⬛   ثانيا ً: التدوين في تصرفاته ﷺ تبعاً
1) الإمام أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة (213 ـ 276ﮬ) في كتابه: (تأويل مختلف الحديث).
2) الإمام أحمد بن إدريس القرافي (ت684ﮬ): بذل جهداً كبيراً رحمه لتحرير تصرفات النبي ، تنظيراً، وتقعيداً، وتطبيقاً في جملة كتبه، وبخاصة في كتابه (الفروق).
الأعمال العلمية على الفروق للإمام القرافي في تصرفات النبي ﷺ
اهتم بكتاب الفروق للإمام القرافي عدد من الفقهاء المعتبرين فتناولوه بالاختصار، والتعقيب، من هؤلاء:
  الإمام شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي القاسم بن عبدالسلام التونسي المالكي : (ت715ﮬ) في كتاب: (مختصر الفروق)(). في الفرق السادس والثلاثون. ص127.
  وكذلك العلامة أبو القاسم قاسم بن عبدالله بن الشاط (ت723ﮬ) في تعقيبه على الفروق بعنوان: (إدرار الشروق على أنواء الفروق). (الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه  بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة).
  والعلامة الفقيه محمد علي بن حسين المالكي المكي (1287 ـ 1368) في كتاب بعنوان: (تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية) تناولوا هذا الموضوع في: (الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه  بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة)، ج1، ص357.
3- العلامة أحمد بن عبدالرحيم الفاروقي الدهلوي، الملقب شاه ولي الله (1110 ـ 1176ﮬ) في كتابه القيم (حجة الله البالغة)، خصص لهذا الموضوع: (المبحث السابع مبحث استنباط الشرائع من حديث النبي . باب بيان أقسام علوم النبي ﷺ)، ج1، ص128.
وفي العصر الحديث جرى دراسة هذا الموضوع بين مجموعة من الفقهاء، محور النقاش فيها يدور حول تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، وهل تعتبر كل أقوال الرسول  وأفعاله تشريعاً؟ عرض لها:
  العلامة الشيخ محمود شلتوت : في كتابه: (الإسلام عقيدة وشريعة).
  الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا العدد الافتتاحي من مجلة المسلم المعاصر تحت عنوان: (السنة التشريعية وغير التشريعية).
  الأستاذ الدكتور عبدالحميد متولي في كتابه: (مبادئ نظام الحكم في الإسلام)، تحت عنوان: (متى تعد السنة مصدراً من مصادر الشريعة).
وقد تصدى بالدراسة لهذه البحوث والمقالات الدكتور فتحي عبدالكريم في كتاب بعنوان: (السنة تشريع لازم ودائم)().
اللاحقة الثانية : التدوين في تصرفات النبي ﷺ بالإفتاء
قد اشتملت كتب السنة على مختلف فتاواه  في كافة ما يحتاج إليه المجتمع من موضوعات، وقضايا اجتماعية، ودينية، وقد اهتم بها فقهاء الأمة في كل عصر وجيل، واستخلصوا منها قواعد، وقوانين الفتيا في الإسلام وآدابها، خص كل مذهب من مذاهب الإسلام ما يتعلق بها تحملاً، وأداء، اقتباساً من مشكاة النبوة، وسير الصحابة الأعلام رضوان الله عليهم، وقد كان من مظاهر اعتنائهم بفتاواه ﷺ الكتابة والتأليف فيها تبعا، واستقلالاً.
⬛   أولاً : التدوين في تصرفات النبي ﷺ بالإفتاء استقلالاً
من المؤلفات في فتاوى النبي  استقلالاً :
(موسوعة فتاوى النبي  ودلائلها الصحيحة من السنة الشريفة) وشرحها المسمى (المنتقى في بيان فتاوى المصطفى ﷺ): تأليف ابن خليفة عليوي، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1412ﮬ/1992م): قدم لكتابه هذا ببيان أهمية الفتوى في الإسلام، وعظم شأنها، وأنه استخلص جمع مادة هذا الكتاب من دواوين السنة المعتبرة، ومصادرها الأصيلة. قد جمع المؤلف فيه ما تناثر من فتاواه  في أربعة أجزاء، يقع الجزء الأول في 303 صفحة، والثاني في 270 صفحة، والثالث في 271 صفحة، والرابع في 187 صفحة مع الفهارس.
⬛   ثانيا : التدوين في تصرفاته  بالإفتاء تبعاً
خصص العلامة ابن القيم باباً مفيداً في كتابه القيم (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، في الفتاوى التي تخطر ببال كل مسلم وتثير كثيراً من تساؤلاته، وحيرته سماه (فتاوى إمام المفتين) ﷺ، وكعادته من حيث الدقة والإحاطة الكاملة بالموضوع نظم ابن القيم هذه الفتاوى، وبوبها ووضعها في قالب سهل بسيط.()
استخرجت هذه الفتاوى في كتاب مستقل بعنوان: (فتاوى رسول الله ) يقول مستخرجها مصطفى عاشور ذاكراً أسباب استخراجها في كتاب مستقل:
“ولما كانت هذه الفتاوى من الأهمية بمكان، وبحيث لم تترك مجالاً، أو تساؤلاً إلا وقد بينت فيه الجواب الشافي فهي تحدثنا عن العقيدة ـ الطهارة ـ الصلاة ـ الموت ـ الزكاة ـ الصوم ـ الحج ـ الأضحية ـ قراءة القرآن ـ والذكر ـ الكسب ـ حق الجار ـ البيوع ـ المواريث…إلخ، هذه المواضيع والقضايا التي تهم المسلم، وتشغله في يومه، وغده.
أقول لما كانت هذه الفتاوى من الأهمية بمكان فقد رأينا أن نفرد لها كتاباً، وأن نبسطها، ونضعها على هيئة سؤال وجواب، وأن نوضح الغامض منها، ونشرح الغريب من عباراتها، ومعانيها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولسنا نجد وصفاً دقيقاً لهذه الفتاوى، وأهميتها أفضل مما قاله ابن القيم نفسه حينما وصفها بقوله: فالله ما أجل هذه الفتاوى، وما أحلاها، وما أنفعها، وما أجمعها لكل خير، فوالله لو أن الناس صرفوا همهم إليها لأغنتهم عن فتاوى فلان وفلان، والله المستعان”().
اللاحقة الثالثة : التدوين في تصرفات النبي ﷺ بالقضاء
“فإن المحدثين  تعالى ألفوا ودونوا في الحديث النبوي الشريف كتباً كثيرة لا تحصى، وتفننوا في ذلك فرتبوا كتبهم في أصناف مختلفة، وهي معروفة عند أهل العلم بالصحاح والسنن، والمسانيد، والجوامع، والمعاجم، والأجزاء، والمستدركات، والمستخرجات، والمصنفات، والأطراف، وغيرها إلا أنهم  لم يعتنوا بجمع أقضيته  في أسفار مستقلة لإظهار محاسن الحكم في الإسلام، ولمعرفة كيفية القضاء في عهد الرسالة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، اللهم إلا عالمان جليلان ذكرهما حاجي خليفة:
أحدهما: الفقيه المشهور الشيخ ظهير الدين المرغيناني، الحنفي المتوفى سنة 501ﮬ.
والثاني: الشيخ الإمام أبو عبدالله بن الطلاع القرطبي.
وقد ذكر الحافظ شمس الدين أبو بكر ابن القيم المتوفى سنة 751ﮬ في الجزء الرابع من كتابه (إعلام الموقعين) طرفاً من الأقضية النبوية التي جمعها ورتبها عالم الهند، ومحدثها ملك بهوبال السيد صديق حسن خان وسماها (بلوغ السول في أقضية الرسول).
وأما كتاب المرغيناني فقد صار من الكنوز المفقودة لا يوجد له أثر في المكتبات، وقد شاء الله البقاء لكتاب الشيخ الإمام ابن الطلاع فعثر عليه الشيخ عيسى البابي الحلبي صاحب مطبعة دار إحياء الكتب العربية في القاهرة الذي دأب على نشر التراث الإسلامي القديم، وإخراجه للناس بصورة لائقة…”().
ورد في كتاب (إعلام الموقعين عن رب العالمين) للعلامة شمس الدين ابن القيم: خطاب عمر في القضاء وشرحه، ج1، ص85-401؛ ج2، ص1-156.
اللاحقة الرابعة : التدوين في تصرفات النبي ﷺ بالإمامة
أثمرت دراسة إمامة النبي  دراسات واسعة فيما يسمى ماضياً وحاضراً (علم السياسة الشرعية)، و(العلاقات الدولية)، أبدع فيهما علماء الإسلام، فورث الخلف عن السلف كماً كبيراً من التراث تعددت فروعه من قوانين، وآداب، وقدم فيها المؤلفون سنناً، وطرائق، وتصنيفات، أما علم السياسة الشرعية فإنه مدين لأئمة هذا الفن مثل: إمام الحرمين عبدالملك الجوينى، وأبي الحسن علي بن محمد الماوردي (ت450ﮬ)، والقاضي أبي يعلى الحنبلي محمد بن الحسين بن الفراء (ت458ﮬ)، وشيخ الإسلام عبدالحليم بن تيمية (661 ـ 728)، وأبي عبدالله ابن الأزرق (ت896ﮬ)، ومحمد بن عيسى بن كنان (1074 ـ 1153) وغيرهم من علماء المشرق والمغرب الذين أثروا علم السياسة الشرعية قديماً وحديثاً، ناهيكم عن ما كتب عن النبي صلى بطريقة كاملة شاملة منها:
  كتاب (تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله  من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية) لعلي ين محمد بن سعود الخرزاعي (710 ـ 789ﮬ)،
  وكتاب (نظام الحكومة النبوية، المسمى التراتيب الإدارية) للعلامة السيد عبدالحي الكتاني : (ت1382ﮬ) لم يكن للجانب الفقهي فيهما نصيب كبير.
  أما كتاب (مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة) من تأليف الدكتور محمد حميد الله الحيدري آبادي :، فقد زودنا بجانب مهم من جوانب إمامته ﷺ.
أما علم العلاقات الدولية فيحدثنا الدكتور عثمان جمعة ضميرية عن صاحب الريادة في هذا العلم قائلاً: “وقد اهتم علماؤنا  منذ الصدر الأول بهذا الجانب، فكتبوا عن الجهاد، والسير في مؤلفاتهم الحديثية والفقهية، ثم أفردوهما بمؤلفات خاصة لا تزال معيناً ثراً لا ينضب، يرده المسلمون، والمنصفون من غير المسلمين، فيستقون منه، ويقفون أمامه وقفة إكبار، وإجلال، وكان رائد أولئك العلماء: الإمام محمد بن الحسن الشيباني (132ـ 189ﮬ) الذي أفرد لهذا الجانب كتابين اثنين هما: السير الصغير، والسير الكبير استقصى فيهما أحكام العلاقات الدولية، فتناول أحكام الجهاد، وآداب الحرب وآثارها، وأحكام الصلح، والمعاهدات، والأمان، وإرسال الرسل، والسفراء…، وكل ما يتعلق بما يعرف اليوم بالقانون الدولي العام، وكان له بذلك تأثير فيمن جاء بعده، فأقروا له بفضل السبق، والريادة، حتى إن نفراً من علماء الغرب المنصفين تداعوا لإنشاء جمعية تحمل اسمه، هي (جمعية الشيباني للحقوق الدولية)؛ لأنه الرائد في هذا العلم السابق لكل من كتب فيه من المسلمين وغير المسلمين، فحق له أن ينعت (أبو القانون الدولي)”().
وفي هذا المجال أخرج الدكتور محمد حميد الله الحيدري آبادي كتاب (مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة).
وقد أخرج نصر محمد عارف كتاباً بعنوان (في مصادر التراث السياسي الإسلامي دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل) تناول فيه الفكر السياسي في الإسلام بالتعريف كموضوع متخصص، ومستقل.
والحق يقال، فإن المؤلفات قديماً وحديثاً في تصرفات النبي  بالإمامة استقلالاً، أو تبعاً زودتنا جميعها بنسب متفاوتة بمعلومات قيمة، جهود تستحق الشكر والدعاء لما بذلوه في هذا الاتجاه مما يزود الباحثين والدارسين بزاد كبير في التعرف على حكومة النبي صلى الله عليه بإمامته العظمى ، ومن المؤلفات الحديثة كتاب (حكومة الرسول المصطفى ﷺ) للدكتور هاشم يحي الملاح عضو المجمع العلمي العراقي().
أما التأليف تبعاً وبعرض غير شامل للجانب الفقهي للإمامة فإنها منثورة في كتب القضاء والخصومات، من هذا ما خصصه العلامة برهان الدين إبراهيم ابن محمد بن فرحون اليعمري في كتابه القيم (تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام)، فذكر ما يتصل بالقضاء من السياسة الشرعية في القسم الثالث من الكتاب (في القضاء بالسياسة الشرعية) وهو يشتمل على تسعة فصول.

    •  الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبدالله بن أحمد. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، الطبعة الثالثة، دراسة وتحقيق رشدي الصالح ملحس، مكة المكرمة: مطابع دار الثقافة، عام 1398ﻫ/1978م.
    •  الأشقر، محمد سليمان، أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية،الطبعة الرابعة، بيروت: مؤسسة الرسالة، عام 1416ﻫ/1993م.
    •  البغدادي، أحمد مبارك، دراسات في السياسة الشرعية عند فقهاء أهل السنة، الطبعة الأولى، الكويت: مكتبة الفلاح، عام 1408ﻫ/1987م.
    •  الجويني، إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله، الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم، الطبعة الأولى، تحقيق عبدالعظيم الديب، قطر: الشؤون الدينية، عام 1400ﻫ.
    •  حسين، محمد الخضر، نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، تحقيق علي الرضا الحسيني، مصر: الدار الحسينية للكتاب، عام1417ﻫ/1997م.
    •  ابن خلدون، عبدالرحمن، مقدمة ابن خلدون، الطبعة الثالثة، تحقيق علي عبدالواحد وافي، مصر: دار نهضة مصر للطبع والنشر، عام 1401ﻫ.
    •  الدهلوي، شاه ولي الله أبو عبدالعزيز أحمد بن عبدالرحيم الفاروقي، حجة الله البالغة، الطبعة الأولى، مصر: إدارة الطباعة المنيرية، عام 1352ﻫ.
    •  الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي، الحنفي، تاج العروس من جواهر القاموس، الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق علي شيري، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام 1414ﻫ/1994م.
    •  السامرائي، نعمان عبدالرزاق، النظام السياسي في الإسلام، الطبعة الثانية، معلومات النشر: بدون، عام 1422ﻫ/2001م.
    •  السبكي، تاج الدين عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي، الأشباه والنظائر، الطبعة الأولى، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود، والشيخ علي محمد عوض، بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1411ﻫ/1991م، معيد النعم ومبيد النقم، الطبعة الثانية، تحقيق محمد علي النجار وأبو زيد شلبي، القاهرة: مكتبة الخانجي، عام 1413ﻫ/1993م.
    •  ابن الشاط، أبو القاسم قاسم بن عبدالله، إدرار الشروق على أنواء الفروق، بهامش الفروق، الطبعة الأولى، ضبطه وصححه خليل المنصور، بيروت: دار الكتب العلمية، سنة 1418ﻫ/1998م.
    •  ضميرية، عثمان جمعة، أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني دراسة فقهية مقارنة، الطبعة الأولى، عمّان: دار المعالي، عام 1419ﻫ/1999م.
    •  ابن الطلاع، أبو عبدالله محمد بن فرج المالكي، أقضية رسول الله ، الطبعة الثانية، تحقيق محمد ضياء الرحمن الأعظمي، بيروت: دار الكتاب اللبناني، عام 1402ﻫ/1983م.
    •  ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، تونس: الشركة التونسية للتوزيع، عام 1978م.
    •  ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبدالله الإشبيلي، أحكام القرآن، الطبعة الأولى، تحقيق علي محمد البجاوي، مصر: دار إحياء الكتب العربية، عام 1376ﻫ/1957م.
    •  عطوة، عبدالعال أحمد، المدخل إلى السياسة الشرعية، الطبعة الأولى، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام 1414ﻫ/1993م.
    •  الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، المستصفى من علم الأصول، دراسة وتحقيق حمزة ين زهير حافظ، جدة: شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر، ت. د.
    •  ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، الطبعة الأولى، تحقيق وضبط عبدالسلام محمد هارون، بيروت: دار الفكر العربي للطباعة والنشر والتوزيع، عام 1399ﻫ/1979م.
    •  ابن فرحون، برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن محمد اليعمري المالكي، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، الطبعة الأولى، خرّج أحاديثه وعلّق عليه وكتب حواشيه جمال مرعشلي، بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1416ﻫ/1995م.
    •  القرافي، أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام وتصرفات القاضي والإمام، الطبعة الثانية، اعتنى به عبدالفتاح أبوغدة، حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، عام 1416ﻫ/1995م.
    •  القرافي، أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي:الفروق وأنوار البروق في أنواء الفروق، الطبعة الأولى، ضبطه وصححه خليل المنصور، بيروت: دار الكتب العلمية، عام 1418ﻫ/1998م.
    •  ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، إعلام الموقعين عن رب العالمين، الطبعة الأولى، حققه وفصله وضبط غرائبه وعلق حواشيه محمد محي الدين عبدالحميد، مصر: المكتبة التجارية الكبرى، عام 1374ﻫ/1955م.
    •  ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، زاد المعاد في هدي خير العباد، الطبعة الأولى، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبدالقادر الأرنؤوط. بيروت: مؤسسة الرسالة، عام 1399ﻫ/1979م.
    •  ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، الطبعة الأولى، تحقيق محمد حامد الفقي، مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1372ﻫ/1953م.
    •    ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، فتاوى رسول الله ، تحقيق وتعليق مصطفى عاشور، مصر: مكتبة الاعتصام، د.ت.