الرئيسية / جهود الأمة في الإعجاز البياني للقرآن الكريم: قراءة في المسار والمآل.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : جهود الأمة في الإعجاز البياني للقرآن الكريم: قراءة في المسار والمآل.

الكاتب(ة) : د. أحمد الخمليشـــــــــــــــي

جهود الأمة في الإعجاز البياني للقرآن الكريم:

قراءة في المسار والمآل

ذ. الحسين زروق

مفهوم الإعجاز البياني

أولا – مفهوم الإعجاز:
مدار مادة «عجز» في اللغة على التأخر عن الشيء، والقُصور عن فعله()، ومنه دلالة الإعجاز على «الفوت والسبق»()، وعدم القدرة على الإدراك()، فمادة «عجز» بذلك لها علاقة بالقدرة، والسباق، والتحدي، ومنه نخلص إلى أن الإعجازَ الوصولُ إلى ما لا يمكن إدراكه، هذا من جهة الواصل، وهو من جهة المتأخر عجز عن اللحاق، وعلى تلك الدلالة بني التعريف اصطلاحا، ففي التعريفات: «الإعجاز في الكلام فهو أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق»()، وإنما يكون بالمعجزة، وهي: «أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة»()، وطبعا هذا الأمر يجريه الله تعالى على يد نبي من أنبيائه، ويجعله دليلا على نبوته.
ثانيا – مفهوم البيان:
أصل البيان «بُعْدُ الشيء وانكشافه»()، فهو يدل على الانفصال، والظهور بعد الاستتار()، فكأنه لما بعُد وانفصل ظهر وانكشف، ومدار مادته في المعاجم على الظهور، والإظهار، وما به يتم ذلك().
وللبيان في الاصطلاح معان، منها():
أ- توضيح المعنى، والكشف عنه كشفا يجعل السامع يفضي إلى حقيقته بسهولة… أو القدرة على ذلك، مع اقتدار على تصريف القول.
ب- هو ما به يتم توضيح المعنى والكشف عنه كشفا يجعل المتلقي يُفضي إلى حقيقته، أو بعبارة أخصر هو الدلالة المُبِينة.
ج- هو المنطق الفصيح الموضح للمعنى توضيحا يجعل السامع يفضي إلى حقيقته بسهولة، أو بتعبير أبي عثمان الموجز: «الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي»().
فالدلالة الأولى مرتبطة بعملية التوضيح، والثانية بأداته، والثالثة بنوع الأداة، والذي يهمنا من ذلك مما يوافق ما نحن بصدده: «الدلالة اللفظية الظاهرة على المعنى الخفي»()، ولذلك فالبيان هو هذا التواصل اللفظي المتميز الجامع بين بيان المتكلم لمراده بأفصح عبارة، وتبيُّن المخاطب بيسر لمراد المتكلم.
ثالثا –  مفهوم الإعجاز البياني :
الإعجاز البياني – بنـاء على ما سبـق – هو أن يؤدى الـمعنـى ببيان معجــز لجميـع البـيانات
الأخرى، بمعنى أنها متأخرة عنه، وعاجزة عن اللحاق به، فهو بذلك «إثبات عجز الخلق عن الإتيان بمثل بيان القرآن تصديقا لنبوة محمد (ﷺ)»().
وعند تتبع ورود المصطلح في كتاب الدكتورة عائشة عبد الرحمن “الإعجاز البياني للقرآن الكريم” – باعتبارها أول من استعمل مصطلح “الإعجاز البياني”، أو على الأقل أول من عنون به، وتأثر بها جميع من ألف في الموضوع بعدها- تبين أنها تستعمل هذا المصطلح على اقتناع بأن القرآن الكريم «ما من لفظ فيه أو حرف يمكن أن يقوم مقامَه غيرُه، بل ما من حركة أو نبرة لا تأخذ مكانها في ذلك البيان المعجز»()، ويبدو واضحا أنها تفهم دراسة الإعجاز على أنها انصراف نحو بيان أسرار الحرف والكلمة والتعبير في القرآن الكريم()، وأنه إذا كان لابد من جهد نظري في علم الإعجاز، فيجب أن لا يصرف عن تلك الحقيقة؛ بل أن يكون خادما لها، وهي تستعمل مصطلح “الإعجاز البلاغي” عند دراسة جهود العلماء القدامى()، بينما تستعمل مصطلح “الإعجاز البياني” عندما تتحدث عن فهمها للإعجاز وموقفها ومنهجها()، مما يفيد أن الإعجاز البياني عندها أعم من الإعجاز البلاغي؛ لأنه لا يكتفي بالاستعانة بعلم البلاغة؛ بل يضيف إليه علم المعجم والنحو والصرف.
ومن ثم فإنه ليس أبين من أن نشير إشارة جامعة إلى أن الإعجاز البياني – كما يفهم من سياق استعماله لدى الدكتورة عائشة وكل من تأثر بها- هو الإعجاز الصوتي اللغوي الصرفي النحوي البلاغي للقرآن الكريم.
قراءة في المسار
مرت جهود الأمة في الإعجاز البياني بأربع مراحل كبرى:
المرحلة الأولى :  مرحلة الإحساس بالإعجاز .
تستغرق القرن الأول الهجري، وتعود غالب نصوصها إلى العهد النبوي، وقد أمكن الوقوف فيها على خمسين نصا لأربعة وثلاثين شخصا شكلت قاعدة بيانات لدى عدد من علماء الإعجاز بعدُ؛ بل إنها أثارت الانتباه إلى عدد من وجوه الإعجاز، وأثرت في منهج دراسته().
وتساعدنا تلك النصوص في التمييز بين آليتين للوقوف على إعجاز القرآن الكريم وتميزه:
1- آلية المقارنة:
ففي نص لأُنَيْس أخي أبي ذر، وهو «أحد الشعراء»()، أنه: «قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر… لقد سمعتُ قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أقْرَاء الشِّعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شِعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون»()، فقد قارن القرآن الكريم بما يَعرف من أجناس القول، وأخضعه لمقاييسها، وخلص إلى أنه مختلف عنها ومتميز، ومن ثم فهو دال على صدق نبوة محمد (ﷺ) ().
2- آلية الذوق:
ففي نص لأُسَيْد بن حُضَيْر أنه قال بعد أن أسمعه مُصعب بن عُمَير القرآن الكريم: «ما أحسن هذا الكلام وأجملَه!»().
وفي نص النجاشي أنه قال بعد أن سمع سورة مريم: «إن هذا والله والذي جاء به موسى() ليخرج من مشكاة واحدة»()، وفي رواية أنه قال لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: « زِدنا من الكتاب الطيب»()، فقرأ عليهم سورة أخرى، «فلما سمعها عرف أنه الحق، وقال: صدَقتم وصدَقَ نبيُّكم، أنتم والله صديقون، امكثوا على اسم الله وبركته آمنين ممنوعين. وألقيَ عليهم المحبةُ من النجاشي»().
فاستحسان القرآن واستنتاج اتفاقه مع ما جاء به عيسى عليه السلام في المصدر وطيبه دالان على تذوق، فإذا أضفنا إلى ذلك نتيجة هذا التذوق وهي الإسلام في خبر أسيد، وتأمين المسلمين ورفض تسليمهم إلى قومهم في خبر النجاشي ظهر لنا أي ذوق هو وما مداه!
    وتدل نصوص المرحلة الأولى على ملاحظة أثر القرآن الكريم في النفوس، وقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ () دليل قوي على أن القوم وقتها كانوا على معرفة يقينية بذلك الأثر، ففيه تواص بين الذين كفروا بأمرين: عدم سماع القرآن الكريم، واللغو فيه، والإجراء الموصى به بعبارة عصرنا هو التشويش لمنع سماع القرآن الكريم وتداوله، فماذا سيكون سبب ذلك إن لم يكن يقينا من تأثيره في النفوس؟!
وذلك الأثر في النفوس له مظهران:
•  خارجي: ففي قول لأسعد بن زرارة ومصعب بن عمير عن أُسيد بن حضير بعد أن سمع كلام الله تعالى: «والله لعرفنا في وجهه الإسلامَ قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهّله، ثم قال(): ما أحسن هذا الكلام وأجملَه! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟»()، وهي الملاحظة نفسها التي لاحظها سعد بن معاذ لما رجع إليهم أُسيد: «أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم»().
•  داخلي: ففي نص لجبير بن مطعم أنه لما قدم المدينة في شأن أسرى بدر من المشركين سمع النبي (ﷺ) يقرأ في المغرب بسورة الطور، قال: « فلما بلغ هذه الآية ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾() كاد قلبي أن يطير»()، وفي رواية أخرى «وذلك أولُ ما وقر الإيمان في قلبي»()، وفي ثالثة «فكأنما صدع قلبي»()، وهي كلها دالة على تلك الهزة العنيفة التي أحس بها جبير وهو يسمع كلام الله تعالى، وقد خلخلت قلبه خلخلة جعلت تدفع عنه الكفر، وتفسح المجال للإيمان، فكانت تلك المناسبة خطوة في الطريق نحو إسلامه.
نخلص مما سبق إلى أن نصوص مرحلة الإحساس بالإعجاز أثارت ثلاث مسائل من الأهمية بمكان هي: مقارنة القرآن الكريم بأجناس القول لدى العرب، وتذوقه، وملاحظة أثره في النفوس، وهي مسائل كان لها أثرها في دراسات اللاحقين، ولا تخطئ عين الباحث الحصيف حجم حضورها لديهم، وأهميتها في توجيه منهجهم.
المرحلة الثانية : تأسيس علم الإعجاز ونضجه.
تمتد هذه المرحلة من أواخر القرن الثاني إلى أواخر القرن الخامس الهجري، وإنما كانت مرحلة تأسيس لتوفر الوعي بعلم الإعجاز وتصوره النظري والتطبيقي لدى عدد من العلماء، وغني عن البيان أن تأسيس كل علم يكون مسبوقا بمخاضات تشكل امتداده العميق.
كما أن هذه المرحلة شهدت تداخلا بين التأسيس والنضج، ومن أبرز أمثلة ذلك أن الجاحظ (ت255ه) مثلا يعبر عن نضج هذا الدرس في الاتجاه المعتزلي، بينما لا يعبر عنه في الاتجاه الأشعري سوى الجرجاني (ت471 أو 474ه) كما سنرى، وبين الرجلين قرنان وزيادة !
ولقد كان لهذا التأسيس ثلاثة عوامل:
• حضاري : فالجاحظ ألف “نظم القرآن” لأسباب منها “الرد على كل طعان”()، وألف ابن قتيبة “تأويل مشكل القرآن”، والباقلاني “إعجاز القرآن” لأسباب منها الرد على الملحدين()، وقد تولى النصارى كِبر ذلك كله()، وإنما كان الملحدون من صنعهم وتأثيرهم().
•  كلامي : إذ معظم الذين ألفوا في الإعجاز من المتكلمين، بل منهم من كان من رؤوس المتكلمة، كالجاحظ والباقلاني والقاضي عبد الجبار وفخر الدين الرازي.  
• علمـــــي : إذ الإجابة عن السؤال: ما الذي أعجز العرب في القرآن الكريم؟ تأثرت باختلاف المذاهب والاتجاهات، ودافع كل منها عن رأيه، وتكاد تكون إجابة أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام( 231ه) المعروفة بالصرفة من أبرز الإجابات التي أسالت مداد العلماء قبولا أو رفضا.
فقد رأى الرجل أن نظم القرآن الكريم غير معجز، وأن إعجازه «من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا؛ حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله: بلاغة، وفصاحة، ونظما»()، ووافقه على ذلك وشاركه فيه من المعتزلة أبو الحسن الرماني() وابن سنان الخفاجي()، ومن السنة أبو سليمان الخطابي، فالصرفة عنده وجه، لكنه بعيد()، والراغب الأصفهاني()، ومن الشيعة أبو الحسن اليزيدي()، والشريف المرتضى()، ومن الظاهرية ابن حزم()، وخالفه عدد من العلماء على رأسهم أبو عثمان الجاحظ (ت255ه) تلميذ النظام، ولعله أول من رد عليه()، وأبو بكر الباقلاني()، والقاضي عبد الجبار()، وعبد القاهر الجرجاني()، ولعل أقوى ما رُد به القول بالصرفة أمران:
• القول بالصرفة يجعل المعجز هو الصرف، لا القرآن.
• يحصر الإعجاز في وقت التحدي، والواقع أن إعجازه مستمر.
ولقد عرفت مرحلة التأسيس ثلاثة اتجاهات في دراسة الإعجاز: معتزلي، وسني أشعري، وسني غير أشعري():

    أولا –  الاتجاه المعتزلي :
لم يصلنا من كتب هذا الاتجاه سوى كتابين هما: «النكت في إعجاز القرآن» للرماني (ت386ه)، والجزء السادس عشر من المغني للقاضي عبد الجبار(ت415ه)، وهو خاص بـــــــ«إعجاز القرآن»، إضافة إلى بعض نصوص الجاحظ المتناثرة في كتبه، ومن ثم فمعرفة تصور هذا الاتجاه تمر عبر معرفة جهود هؤلاء العلماء الثلاثة: الجاحظ، والرماني، والقاضي عبد الجبار:
1 – الجاحظ :
ألف أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه) ثلاثة كتب في الإعجاز ضاعت كلها، هي: «نظم القرآن»()، و«المسائل في القرآن»()، وكتاب جمع فيه «آيا من القرآن»()، كما أسهم بنظرات في غير ذلك من المؤلفات كــــ«البيان والتبين» و«حجج النبوة».
يؤمن الجاحظ بأن نظم القرآن معجز، ففي حديثه عن كتابه «نظم القرآن» في مقدمة رسالته في «خلق القرآن» يقول: «فكتبت لك كتاباً، أجهدت فيه نفسي، وبلغتُ منه أقصى ما يُمْكِن مثلي في الاحتجاج للقرآن… فلما ظننتُ أني قد بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك، أتاني كتابك تذكر أنك لم تُرِد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردتَ الاحتجاج لخلق القرآن»(). وفي مقدمة «الحيوان» إشارة إلى هذا الكتاب وإلى هذا الرأي أيضا()، وقد ألفه قبل «الحيوان» الذي ألفه في مرضه قبل سنة 233ه بأكثر من اثنتين وعشرين سنة من وفاته()، وألف بعدهما «البيان والتبين»().
لاحظ الجاحظ أن معجزات الأنبياء جانست ما برع فيه قومهم، ومن ثم كان القرآن الكريم معجزة بيانية؛ لأن العرب «كان أغلب الأمور عليهم، وأحسنها عندهم، وأجلها في صدورهم، حسن البيان، ونظم ضروب الكلام»()، وارتبطت بذلك ثلاثة أمور عنده:
• بيان الإعجاز مرتبط بالتحدي.
• مقداره سورة في الحد الأدنى.
• موضوعه معارضة السور القرآنية «في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها»()، وذلك
«على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه»().
ولذلك خلص إلى وجه الإعجاز الأول وهو عجز العرب عن المعارضة مع شدة الدواعي()، وعن هذا الوجه ظهر الوجه الثاني وهو الإعجاز بالنظم؛ لأنه تحداهم أن يأتوا بمثل نظم القرآن وتأليفه، فـــــــ«نظمه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحجج»().
ألف الجاحظ “البيان والتبين” بعد الحيوان في مرضه الذي مات بسببه()، والذي يظهر لي أن الرجل كان يؤرقه سؤال لم يجب عنه من قبل، وهو يوشك أن يغادر دنيا الناس، وقد كتب لهم كُتبا في الإعجاز يقول فيها: إن إعجاز القرآن بياني؛ لأن صنعة العرب بيانية، وقد كشف لهم في «نظم القرآن» وغيره البيان القرآني، وبقي البيان البشري العربي: ما هو؟ وكيف هو؟ والجاحظ عليل أصيب بالفالج؟ وقد كبر، أفيدع الناس وقد أجاب عن شطر السؤال وترك شطره الثاني؟ وكيف تستقيم الإجابة بمعرفة الشطر دون غيره؟!
قدم الجاحظ في بيانه البيان الدال على عملية التوضيح، ثم أتبعه بالبيان الدال على الأداة، وأجّل البيان الدال على نوع الأداة()، «وكان في الحق أن يكون هذا الباب في أول الكتاب، ولكنا أخرناه لبعض التدبير»()، في حين أن «منزلته من البيان بالمعنى الأول، منزلة الوسيلة من الغاية، ومنزلته من الثاني منزلة البعض من الكل، إلا أنه البعض الأهم، ومن ثم كان بناء باب البيان عليه»().
وفي البيان مسألة لا تخطئها العين هي العناية الشديدة باللفظ من حيث حروفه وفصاحته وموقعه داخل الجملة()، إضافة إلى العناية بمباحث شديدة العلاقة به كالإيجاز()، والتشبيه()، والازدواج()، والسجع()، والفصل والوصل()، وحسن التقسيم()، والبديع()… وكلما اعترضه سبيل من سبل المعاني مال به إلى جهة اللفظ، وذلك كله قائم على موقفه من المعاني باعتبارها مطروحة في الطريق().
بقيت كلمة أخرناها لبعض التدبير -كما يقول الجاحظ- هي مفهومه للنظم والتأليف، وقد ورد عنده بمعنيين: مصدري دال على «ترتيب المعاني الترتيب المحمود المحقق للغرض المقصود»، واسمي دال على «الكيفية التي أنشئ وصنع عليها كلام ما»()، فله واجهتان: عملية الترتيب، وكيفيتها.
وغير خفي أن أمر النظم وإن كان للمعاني، إلا أنه في الحقيقة -بناء على مذهب الجاحظ- مرده إلى الألفاظ؛ لأن عليها المعول، والشأن شأنها، لا شأن المعاني مادامت مطروحة في الطريق.
2 –  الرماني  :
مدار كتاب “النكت في إعجاز القرآن” لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني(296-386ه) على أمرين:
أ- وجوه الإعجاز: وهي تظهر عنده من سبع جهات(): ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة، وهي باستثناء البلاغة كانت معروفة متداولة.
ب- البلاغة: وقد ذهبت بجل الكتاب، وهي عنده «إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة»()، فمدارها على أمرين: إيصال وحسن، ثم إن لهذين مستويات، فأمكن الحديث عن طبقات البلاغة ومستوياتها، وذلك ما ينحصر عند الرماني في ثلاث طبقات: عليا هي بلاغة القرآن، وهي له خاصة، ومن ثم كان إعجازه من هذه الجهة. وسطى ودنيا، وهي بلاغة البلغاء، وهما ممكنتان لمن رامهما().
  هذا عن مفهوم البلاغة وطبقاتها، وأما أقسامها فعشرة: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان().
ومنهج الرماني يقوم على ذكر المبحث البلاغي، ثم تعريفه، وذكر أقسامه، ومثاله من القرآن الكريم، واستخراج نكته، ثم مقارنته بما في كلام العرب، مع حرص شديد على التعليل وبيان نكت الاستعمال ودقائق الفروق، ومن أمثلة ذلك أن التجانس عنده «بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد في اللغة»()، وهو قسمان: المزاوجة، وهي تقع في القرآن الكريم في الجزاء كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾()، والمناسبة، وهي فيه «تدور في فنون المعاني التي ترجع إلى أصل واحد»()، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾()، إذ فيه مجانسة انصرافهم عن الذكر لصرف القلب عن الخير، والأصل واحد وهو الذهاب عن الشيء()، والعرب لا تبني بالضرورة المزاوجة على الجزاء، ومنه قولهم: «الجزاء بالجزاء»؛ لأن الأول ليس بالجزاء، وإنما هو على مزاوجة الكلام، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا        فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وهو عند الرماني «حسن في البلاغة، ولكنه دون بلاغة القرآن»()، وعلة ذلك «أنه لا يؤذن بالعدل كما آذنت بلاغة القرآن، وإنما فيه الإيذان براجع الوبال فقط، والاستعارة للثاني أولى من الاستعارة للأول؛ لأن الثاني يحتذى فيه على مثال الأول في الاستحقاق، فالأول بمنزلة الأصل والثاني بمنزلة الفرع الذي يحتذى فيه على الأصل، فلذلك نقصت منزلة قولهم: الجزاء بالجزاء، عن الاستعارة بمزاوجة الكلام في القرآن»().
منهج الرماني هذا هو الذي دفع الدكتورة عائشة عبد الرحمن إلى القول: «إن الرماني قدم في النكت محاولة جليلة من المحاولات الرائدة في التصنيف البلاغي وتنسيق أبواب ومصطلحات فيه»()، والإشارة إلى «كونه لم يخرج عن موضوع الإعجاز فيما عرض له من أبواب البلاغة، بل كان همه أن يقدم لكل باب شواهده القرآنية، وأن يلمح بذوق مرهف ما فيها من نكت بلاغية»().
بقيت مسألة ونحن نغادر الرماني: لماذا أغفل مصطلح النظم؟
أعتقد أن الجواب كامن في ازدهار المكتبة البلاغية، واتجاه علم البلاغة نحو النضج مما دفع إلى القول به وجها مقدما من وجوه الإعجاز، وحسبنا أن نشير بخصوص ذلك إلى أن معاصره أبا سليمان الخطابي (ت388ه) قال أيضا بالبلاغة وجها للإعجاز()، وأن أبا هلال العسكري (ت395ه) ربط الوقوف على إعجاز القرآن بمعرفة علم البلاغة().
والمصطلح البلاغي لدى الرماني غير بعيد عن هذا التراكم الذي عرفه علم البلاغة، غير أنه وسمه بميسم خاص لمّا أحدث فيه عددا من الأنواع والتقسيمات، واجتهد في عدد من التعريفات، ثم الأهم من ذلك أنه نزّله بمعيار النكت على كتاب الله تعالى.
3 – القاضي عبد الجبار :
الوظيفة الأولى لإعجاز القرآن الكريم عند أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد الأسد آبادي (ت415ه) هي إثبات صحة نبوة سيدنا محمد (ﷺ)()، ومن ثم خصص لذلك الجزء السادس عشر من كتابه “المغني في أبواب العدل والتوحيد”، بعد الجزء الخامس عشر الخاص بالنبوات والمعجزات، وتناوله أيضا في إجمال في كتابه “تثبيت دلائل النبوة”.
والمعجز عنده «أن يتعذر على المتقدمين في الفصاحة مثله، في القدر الذي اختص به»()، ومدار بيانه على مفتاحين: عُرْف العرب في المعارضة()، ومفهوم الفصاحة:
أما عُرف العرب في المعارضة فاتكأ عليه في تمحيص وجوه الإعجاز لدى غيره، وكان أهم سبب لديه لرد الإعجاز الغيبي()، والصرفة()، والإعجاز بالنظم بمعنى الطريقة المخصوصة().
وأما الفصاحة فهي عند القاضي عبد الجبار وجه الإعجاز()، وقد نقل عن شيخه أبي هاشم الجبائي (ت321ه) أن الكلام إنما يكون فصيحا «لجزالة لفظه، وحسن معناه»()، وذكر أنه «لابد من اعتبار الأمرين؛ لأنه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا»()، والفصاحة عنده «لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم، على طريقة مخصوصة، ولا بد من أن يكون لكل كلمة صفة؛ وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع… لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها»().
فمدار الفصاحة على ثلاثة محاور: لفظ، وضم، وطريقة مخصوصة، وكل هذا قائم على اللفظ؛ لأنه هو الذي يتصف بصفةٍ ما عند الضم، وهو الذي يُضم بعضُه إلى بعض، وأما المعاني فإنها «وإن كان لابد منها فلا تظهر فيها المزية، وإن كان تظهر في الكلام لأجلها»()، ودليل ذلك عنده أننا نجد المُعبِّرَيْن عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر، والمعنى متفق()، وثمة سبب آخر اتكأ عليه هو «أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عند الألفاظ، التي يعبر بها عنها»()، وقاده ذلك إلى القول بأن المزية إنما أن تظهر بـ”الإبدال”، وهو خاص بالكلمات، أو «التقدم والتأخر» وهو خاص بالموقع، أو “الحركات” وهي خاصة بالإعراب()، فهذه ثلاثة محاور عليها مدار الفصاحة: اختيار الألفاظ، وتقدمها أو تأخرها في الموقع، وحركاتها الإعرابية.
إن ما تناوله القاضي عبد الجبار مشحون بالخلفية المعتزلية، يلاحظ ذلك في تركيزه على اللفظ، وقوله بتبعية المعنى له، وأن الإعجاز يجب أن يكون وفق معتاد العرب مما يرتبط بنظرتهم إلى أفعال العباد.
وما كتبه القاضي عبد الجبار جهد كلامي نظري محض، لا أثر فيه لتذوق أو تطبيق، وكل ما فيه فهو مناقشة نظرية للموضوع، ومحاولة لأجرأة الفصاحة باعتبارها محور الإعجاز والوجه فيه.
على أننا قبل أن نغادر القاضي عبد الجبار نجد أنفسنا ملزمين بالجواب عن هذا السؤال: ما الذي جعل القاضي عبد الجبار يقول بالفصاحة، ويستبعد المصطلحين المتداولين لدى غيره: النظم والبلاغة؟
والذي قاد إليه النظر أن القاضي عبد الجبار لم يستبعد البلاغة إلا مصطلحا، أما مفهوما فتكاد تكون عنده مرادفة للفصاحة، فهو يقول: «واعلم أن التحدي وإن كان قد يصح بقدر منه الفصاحة والبلاغة، فمتى اختص مالِكُ قَدْر عظيم في الفصاحة بطريقة من النظم خارجة عن العادة يكون وجه الإعجاز فيه أظهر وأبين»()، وقد رأيناه يقول بالفصاحة وجها للإعجاز، وهاهنا يقول بالفصاحة والبلاغة، فلم يبق إلا القول بترادفهما لديه، ويقول: «واعلم أن القرآن حجة من ثلاثة أوجه: فكل سورة منه حجة من طريق الفصاحة والبلاغة، وهو حجة لما فيه من الغيوب، وهو حجة لما فيه من التنبيه على دلائل العقول»()، ولو كان يعتقد أن البلاغة غير الفصاحة لكان قال بأربعة أوجه، أو لكان لم يوردها.
وجواب السؤال نجده لدى ابن سنان الخفاجي(ت466ه): فـــ«الفصاحة… نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة»()، والفرق بينها وبين البلاغة « أن الفصاحة مقصورة على الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني. لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة، وإن قيل فيها إنها فصيحة. وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغ، كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه»().
وحسبنا مما سبق أن مدار الفصاحة على اللفظ، وأن مدار البلاغة على المعنى، ولذلك لما كان القاضي عبد الجبار يدافع عن وجهة النظر المعتزلية التي تؤمن بتقدم اللفظ على المعنى، كان لابد أن تكون الأداة المصطلحية طيعة تساعد على تقرير ذلك، فاختار مصطلح الفصاحة؛ لأنه أوضح في دلالته على اللفظ من البلاغة لشبهة علاقتها بالمعنى مع أنها مرادفة لها عنده.
وقد تجنب القاضي عبد الجبار استعمال مصطلح النظم حيث كان يمكنه أن يستعمله، واستعمل عوضه مصطلح الضم: «اعلم أن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم»()، وغير خاف الفرق بين مصطلح النظم ومصطلح الضم، فالأول فيه شبهة المعنى، وأداة يستعملها الخصم، والثاني ينصرف إلى الألفاظ خاصة، ولم يُعن به الخصم، فلذلك رأينا أن القاضي عبد الجبار أراد أن يميز مذهبه عن مذهب غيره حتى على مستوى المصطلحات.
والخلاصة أن الإعجاز عند الجاحظ في النظم، وعند الرماني في البلاغة، وعند القاضي عبد الجبار في الفصاحة، وهو تطور في الرؤية المعتزلية في الشكل دون المضمون، لأنهم جميعا يربطون وجه الإعجاز باللفظ، وإنما اختلف مصطلحهم لضرورات اقتضاها الصراع مع خصومهم.
ويحس القارئ لجهود العلماء الثلاثة أنه أمام مرجعية فكرية ينطلقون منها، ويستفيدون مما تتيحه لهم من إمكانيات الدفاع عن تصورهم، وفي الوقت نفسه من فتح آفاق به، ولذلك ظهر الدرس الإعجازي المعتزلي ونضج مبكرا، وقد رأينا قيمة إسهام الجاحظ في كل ذلك.
  ثانيا –  الاتجاه السنــــــــي الأشعري :
    نميز في مرحلة التأسيس والنضج لدى الأشاعرة بين محطتين كبيرتين: محطة الباقلاني، ومحطة عبد القاهر الجرجاني.
1 – الباقلاني :
مدار جهد أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت403 ه) في الإعجاز على ثلاثة محاور:
أ- تمييز كلام الله عن كلام البشر، فقد نفى الباقلاني الشعر والسجع عن القرآن الكريم()، وبين مدى التفاوت في نماذج من روائع الشعر العربي()، وخلص من ذلك إلى أن «الشعر قبيل ملتمس مستدرك، وأمر ممكن مطيع. ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم، أو يسمو إليه الفكر، أو يطمع فيه طامع، أو يطلبه طالب»()، وللسبب نفسه عرض عددا من الخطب والعهود وروائع الكلم بين يدي القارئ للمقارنة().
ب- قضايا الإعجاز: القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد المعجز()، وهو أهم معجزة لسيدنا محمد e()، أعجز الجن والإنس، والعرب الأُول والمتأخرين()، ومعنى أن القرآن معجز أنه لا يقدر العباد عليه؛ لأنه لا يصح أن يدخل في قدرة العباد، فهو إذا أمر خارق للعادة()، لا بد فيه من التحدي لإثبات العجز() بـــــــــــ«أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها، متتابعة كتتابعها، مطردة كاطرادها، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له»()؛ لأن التوراة والإنجيل أيضا عبارة عن الكلام القديم، وليس معجزا، فإذا كان ذلك موضوع التحدي، فشرطه أن يكونوا في ذلك مستأنفين لا حاكِين().
وأقل المعجز في المذهب الأشعري السورة، قصرت أم طالت، والآية إن كانت «بقدر حروف سورة»() إلا أن الإعجاز في بعضها أظهر من بعض، فلذلك لا يفتقر الظاهر منها إلى جهد، «ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق وبحث لطيف»().
وإنما يقف على إعجازِه العربيُّ الذي تناهى «إلى معرفة أساليب الكلام، ووجوه تصرف اللغة، وما يعدونه فصيحا بليغا بارعا من غيره»()، وهو «يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الإتيان بمثله»()، بخلاف العجم ومَنْ لم يَكن بليغا فلا يتهيأ لهم ذلك، إلا استدلالا بعجز العرب البلغاء، فإذا عرفوا ذلك «تبينوا أنهم عاجزون عنه»().
والقارئ بين فئتين: إما من أهل «التناهي في معرفة الفصاحات، والتحقيق بمجاري البلاغات»() فهذا يكفيه التأمل، ويغنيه التصور، وإما من أهل التوسط في المعرفة، فهذا لابد له من التقليد()، والطريق إلى الوقوف على إعجاز القرآن يمر عبر استحضار كلام العرب من شعر وخطب وعهود… لأنه بالمقارنة تظهر له حقيقة الإعجاز().
والباقلاني يرفض القول بالصرفة()، ويرى أن وجوه إعجاز القرآن كما في المذهب الأشعري ثلاثة:
•  الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه().
••  كان معلوما من حال النبي (ﷺ) أنه كان أميا لا يكتب، ولا يحسن أن يقرأ، ثم جاء بجمل ما وقع من عظيمات الأمور من خلق الله آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه().
•••  أن القرآن بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يُعلم عجز الخلق عنه().
ولذلك يكررها في كتابيه “النكت”()، و”التمهيد”()، غير أن الوجه الأخير عنده مقدم بدليل شدة عنايته به، ولذلك شرحه في ثلاث عشرة صفحة، من عشرة وجوه، هي(): اختلاف جنسه، وفصاحته مع الخلو من الاختلال والاختلاف، وعجيب نظمه، وبديع تأليفه، مقارنة بتفاوت كلام الفصحاء، وبلاغته المعجزة للجن والإنس، ووجوه تصرفه في الكلام مع الفصاحة والبلاغة، وجمعه بين تعدد المعاني واللطف والبراعة، وكلماته التي يظهر فضلها حيثما تُمثل بها، وحكمة تصرفه في الحروف وتوزيعها، ثم سهولته وقربه من الأفهام، والنظم عنده بناء على ذلك جامع بين جنس القول وتأليف الكلام وترتيبه، وهو من حيث جنسه خرق للعادة؛ لأنه أتاهم بجنس لم يعرفوه، ومن حيث تأليفه وترتيبه جمع بين جزالة اللفظ وتمكنه وحسن المعنى، أي: إن النظم بهذا المعنى الثاني يشمل الحرف والكلمة والتركيب.
ج- البلاغة والبديع والإعجاز: رفض الباقلاني أن يكون البديع مما يمكن الاستدلال به على الإعجاز؛ لأنه يمكن التوصل إليه بالتدريب والتعود والتصنع()، ومن ثم كثر لدى المحدثين؛ لأنه «ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف»()، بينما وجوه الإعجاز لا يقدر عليها البشر، إذ نظم القرآن «ليس له مثال يحتذى عليه، ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا»()، وهو لا ينفي قيمته الجمالية()، كما لا ينفي أهميته في التأثير().
    كما ميز الباقلاني في وجوه البلاغة بين مستويين: ما يمكن إدراكه بالتعلم، وهذا لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به، وما لا يمكن إدراكه بالتعلم والتَّعَمُّل، فذلك هو الذي يدل على إعجازه().
2 – عبد القاهر الجرجاني :
عرَّف أبو بكر عبد القاهر الجرجاني (ت471 أو 474ه) المعجز بأنه «ما عُلم أنه فوق قوى البشر وقدرهم إن كان من جنس ما يقع التفاضل فيه من جهة القدر، أو فوق علومهم إن كان من جنس ما يتفاضل الناس فيه بالعلم والفهم»()، وإنما يَثبت ذلك بالتحدي من جهة المتحدي، والعجز عن المعارضة من جهة المتحدى()، وموضوع التحدي «أن يجيئوا في أي معنى شاءوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه»()، وبناء على ذلك رفض الجرجاني أن يكون الإعجاز في الصرفة()، أو الكلم المفردة()، أو معانيها()، أو ترتيب الحركات والسكنات()، أو الإتيان بكلام له المقاطع والمطالع نفسها كالتي للقرآن()، أو خلو الحروف من الثقل()، أو الغريب()، أو الوزن()، أو الجريان والسهولة()، حتى إذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون في «النظم» والاستعارة، والاستعارة لا يمكن أن تجعل أصلا في الإعجاز؛ لأنها ليست في كل آي القرآن، ومن ثم لم يبق إلا النظم().
والنظم عنده «توخي معاني النحو بين الكلم»()، باقتفاء آثار المعاني، وترتبها على حسب ترتُّب المعاني في النفس، ولذلك خالف مجرد الضم، وناظر النسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير «مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون لوضع كل حيث وضع، علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح»()، ولذلك لابد من مراعاة «معاني النحو» في النظم؛ لأنه «ليس سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض»()، وتلك المراعاة تقتضي إقامة علاقات نحوية تسمح بظهور صلاح الاستعمال أو فساده().
أضاف الجرجاني بناء على ذلك مسارا جديدا لعلم الإعجاز هو مسار النحو بعد مساره البلاغي؛ لأن النظم عنده في صياغة ثالثة: «أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها…»()، وقد يكون من المفيد هنا ملاحظة أنه استهل كتابه بالدفاع عن علم النحو()، وأن عددا من المباحث مشتركة بين علم النحو والبلاغة كالإسناد، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل، والحذف والذكر…
ولقد شعر الجرجاني أن معركته مع القاضي عبد الجبار مصطلحية، فخاضها ببراعة:
أ- احتج لكون الفصاحة صفة للمعنى لا اللفظ، وإن استعملت له؛ بدليل:
– أنها مرادفة للبلاغة().
– لا يوصف اللفظ بها إلا إذا دل على مزية()، وإنما استعيرت من المعنى للفظ؛ لأنهم «كنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ»().
– المعارضة مرتبطة بالمعاني، لا أن يوضع اللفظ موضع الآخر().
– اللفظ يكون فصيحا في موضع دون آخر().
– ارتباط الفصاحة بالمتكلم لا واضع اللغة().
ب- وافق الجرجاني السابقين على أن النظم هو الوجه في الإعجاز، ولكنه ملأه بما ينسجم مع رؤِيته، فجعله دالا على إقامة عدد من العلاقات النحوية بين الكلم()، ومركز الثقل في ذلك كله هو «المعاني النحوية»، وبذلك أقام بديلا عن العناية المركزة باللفظ لدى المعتزلة، والمعاني المطروحة في الطريق التي تقابل الألفاظ مما عابه المعتزلة وفي مقدمتهم الجاحظ().
لقد كان الجرجاني عميق الوعي بحجم تماسك النظرية المعتزلية في الإعجاز، وحجم تغلغلها في الساحة العلمية، لذلك كان همه أن يُمَكِّن للنظرية الأشعرية نظرا وأجرأة، فأتى عبد القاهر بأدوات الإنجاز، ونقل الرؤية الأشعرية من النظر والأحكام الانطباعية إلى التطبيق وفق خطوات منهجية، ولذلك وجدناه يجعل علم البلاغة والنحو وسيلتين للوقوف على مكامن الإعجاز في القرآن الكريم، فأجرأ النظرية الأشعرية أولا، وضَمِن لها تميزا عن غيرها لما طعّمها بعلم النحو.
وعندما نقارن بين محطة الباقلاني ومحطة الجرجاني يتبين لنا حجم الفرق بين المحطتين، فقد كان الباقلاني متكلما شديد الشكيمة، متمكنا من الرؤية الأشعرية نظريا، لكنه كان متمكنا أكثر في أجرأتها، بينما جمع عبد القاهر الجرجاني بين المتكلم المتمرس، والمتمكن من الرؤية المذهبية، والحامل لأدوات إجرائية تنقل النظرية من التصور إلى الإنجاز، ولذلك حُقَّ لنا أن نعد محطة الباقلاني محطة تأسيس الرؤية الأشعرية، ومحطة الجرجاني محطة نضجها.
   ثالثا  –  الاتجاه السني غير الأشعري :
لهذا الاتجاه سمتان: الدوران مع النص حيث دار، وهو ديدن من عرفوا بأهل الحديث والمحدِّثين، ورفض الكلام، ومن أبرز من يمثل هذا الاتجاه ابن قتيبة والخطابي():
1 – ابن قتيبة :
رفض أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213-276ه) الكلام وأهله()، ومدح أهل الحديث وانتصر لمنهجهم()، وألف كتابه «تأويل مشكل القرآن» ذبا عن كتاب الله تعالى ضد الذين «قضوا عليه بالتناقض، والاستحالة، واللحن، وفساد النظم، والاختلاف»()، «وتعلقوا بكثير منه() لطف معناه؛ لما فيه من المجازات، بمضمر لغير مذكور، أو محذوف من الكلام متروك… وتكلموا في الكناية… وفي تكرار الكلام…» ()، فتتبع شبههم شبهة شبهة، مع بيان الوجه في الآية موضع الطعن، محتكما إلى لغة العرب وعرف الاستعمال لديها، «وإنما يعرف «فضل القرآن» من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات»()، ومن ثم رأى أن الإعجاز في « التأليف» و«النظم»()، وأن فضل القرآن لا يظهر إلا لمن كان على علم بمذاهب العرب في لغتهم وافتنانهم في أساليبهم.  
والملاحظ أن ابن قتيبة ترك الكلام، وخالف منهج المتكلمين، ولم يتأثر بهم، ولذلك اختلف رأيه في مسألة اللفظ والمعني، وذهب فيه مذهبا وسطا؛ إذ الجودة عنده قد تكون في أحدهما أو في كليهما()، وإنما سلك طريق علماء اللغة والشعر فكان عمله هذا محاولة تأسيس لاتجاه مخالف للاتجاه الكلامي في تناول موضوع الإعجاز.
2 – الخطابي :
رصد أبو سليمان حَمْد بن محمد بن إبراهيم الخطابي(319-388ه) في أول كتابه «بيان إعجاز القرآن»، أربعة وجوه للإعجاز لدى العلماء، وبين موقفه منها:
•    التحدي والعجز عن المعارضة، وهو «أبينها دلالة وأيسرها مؤونة»().
••    الصرفة، وهو عنده «وجه قريب، إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه»().
•••    الغيب، وليس عاما().
••••    البلاغة، والقائلون به «هم الأكثرون من علماء النظر»().
وأضاف إلى تلك الوجوه وجها خامسا هو: صنيع القرآن الكريم بالقلوب، وتأثيره في النفوس().
    وقد مال إلى رأي الجمهور في أن البلاغة أهم وجه للإعجاز، لكنه لام من سبقه بأنهم لا يعللون كيف ذلك()، والعلة عنده أن طبقات البلاغة المحمودة ثلاثة: عليا للبليغ الرصين الجزل، ووسطى للفصيح القريب السهل، وهي أوسط طبقاته وأقصدها، ودنيا للجائز الطلق الرَّسْل()، وقد حازتها كلها بلاغة القرآن الكريم، «فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع بين صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعا من الوعورة»()، وهذا الجمع مبني على الإحاطة باللغة، وهو أمر خارج طاقة البشر().
    ولما كان الكلام يقوم على ثلاثة أسس، هي: «لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم»()، كان القرآن معجزا؛ لأنه «جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، متضمنا أصح المعاني»().
تقوم رؤية الخطابي على ركيزتين اثنتين:  
الأولى: التركيز على عناصر ملموسة يمكن الاحتكام إليها، تسمح بأجرأة الدرس الإعجازي هي: اللفظ، والمعنى، والنظم، و«عمود البلاغة» في توظيفها وضع كل نوع من الألفاظ في موضعه الذي إذا أُبدل مكانه غيره ظهر فساد الكلام، أو سقوط البلاغة()، ومن ثم رفض الخطابي الترادف().
والأخرى: تعليل الفرق بين كلام الله تعالى وكلام الناس بكونه مرتبطا بالفرق بين علميهما، فعند وقوفه على قول الله تعالى: ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾() لاحظ أن القرآن استعمل الأكل لا الافتراس؛ لأن الافتراس دال على القتل فقط، بينما يدل الأكل على أنه أتى على جميع أعضائه، فاستعمله إخوة يوسف فرارا من مطالبة أبيهم إياهم بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه، ثم إن لفظ الأكل شائع الاستعمال في الذئب وغيره من السباع كما حكاه ابن السكيت().
ويجب أن نلاحظ ونحن نودع الخطابي أنه يرفض الترادف()، ويقول – كما مر- باللفظ والمعنى والنظم جميعا، ويرفض الأحكام الانطباعية العامة، ويركز على اللغة أكثر من غيرها، ويؤمن بالتعليل، ويترك المتكلمين وشأنهم مبتعدا عن الكلام ونهجه، وهي كلها مبادئ تجعل انتماءه إلى إحدى المدرستين: المعتزلية والأشعرية غير ممكن، فلم يبق إلا أن يكون مدرسة ثالثة هي المدرسة السنية غير الأشعرية، وقد يسمح لنا هذا في غياب باقي الكتب التي ألفها من على شاكلته أن نزعم أنه كالجاحظ يجمع في كتابه بين مرحلتي التأسيس الفعلي والنضج لهذا الاتجاه في الإعجاز.
المرحلة الثالثة : التقريب والتطبيق.
تمتد هذه المرحلة من القرن السادس إلى القرن الثاني عشر الهجري تقريبا، وقد غلب عليها أمران: “تقريب” جهود العلماء، و”تطبيق” أفكارهم:
1- التقريب : لحركة التقريب وجهتان، تقريب الكتب وتقريب الأفكار.
•  تقريب الكتب :
لكتابي عبد القاهر “الدلائل” و”الأسرار” في هذا الاتجاه الريادة؛ فـ”فخر الدين الرازي” (ت606ه) جمع بين الكتابين في كتابه “نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز”()، وعني في ذلك بالتقاط الفوائد والفرائد، مع الترتيب والتقسيم…(). و”أبو يعقوب السكاكـي” (ت626ه) جمعهما في “المفتاح” مستعينا بــــــــــــــ”نهاية الإيجاز”، ومقررا «القواعد التي جعلت من البلاغة علما ثابت الأصول، بعد أن رتب المسائل وبوبها تبويبا جعلها أقرب إلى الدقة والإحكام»()، فأمكنه أن يميز بين علم المعاني()، وعلم البيان()، ومحسناتٍ هي ما عرف بعلم البديع().
وحذا الخطيب القزويني (ت739ه) حذو السكاكي، فقدم «التلخيص في علوم البلاغة»، وشرحه «الإيضاح في علوم البلاغة»، واستوت عنده البلاغة في أقسامها الثلاثة: المعاني والبيان والبديع. ثم شرح سعد الدين التفتزاني (ت719ه) تلخيص القزويني في كتابه «المطول…»، وتتابعت الشروح والمختصرات والحواشي والمطولات، وكلها -كما لا يخفى- ذات جذور عميقة في «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة».
تلك الجهود في التقريب شديدة الصلة بملاحظة ذكية لدى الدكتورة عائشة عبد الرحمن عن طبيعة كتاب «دلائل الإعجاز»، هي أن عبد القاهر انطلق من مسلمة أن البلاغة والفصاحة هي الآلة التي بها يُفهم، ولذلك صار «الدلائل مقدمة لفهم الإعجاز ووسيلة إليه»()، فـــــ«رسَم معالم الطريق لمن جاؤوا بعده فأفردوا البلاغة بالدرس والتأليف المستقل»().
عملية التقريب تلك لم تخل من إضافات، منها:
أ- ضرورة البديع، ففخر الدين الرازي وهو أشعري جمع بين «الدلائل» و«الأسرار»، وكتاب الوطواط «حدائق السحر في دقائق الشعر»، وهو كتاب بديع، فأحدث بذلك تغييرا في مسار البلاغة، وفي الرؤية الأشعرية لها، وكان لذلك أثره لدى السكاكي لما جعل البديع ملحقا بعلمي المعاني والبيان، وبدر الدين بن مالك (ت686ه) في «المصباح»، ثم القزويني (ت739ه) فــي «التلخيص»، لما جعلاه علما ثالثا من علوم البلاغة()، فاستوت البلاغة على هذا التقسيم بعد.
ب- ضرورة الذوق، يثير السكاكي انتباهنا إلى أهمية الذوق في إدراك الإعجاز؛ لأن الإعجاز عنده «عجيب، يُدرك، ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن: تدرك، ولا يمكن وصفها، وكالملاحة»()، فمدار أمر البلاغة إذاً على تعليم المتكلم كيف يجعل كلامه بليغا، والارتقاء بملكته في ذلك إلى أن تصل إلى إدراك فضل كلام الله تعالى على كلام البشر.
••  تقريب الأفكار :
أهم ما يمثلها كتابان هما: «الطراز»، و«المعترك».
أما «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» ليحيى بن حمزة العلوي اليمني(ت729ه) فقد لخص مذاهب العلماء في الإعجاز()، والوجه الذي اختاره بناء على مقاييس «الجهابذة من أهل هذه الصناعة» له ثلاث خواص: فصاحة الألفاظ، وبلاغة المعاني، وجودة النظم().
وأما «معترك الأقران في إعجاز القرآن» لجلال الدين السيوطي(ت911ه) فهو أضخم كتاب في الإعجاز، وأكثر التآليف جمعا واستيعابا للأفكار المتداولة في الموضوع، يوشك أن يكون قد لخص مسار الإعجاز تلخيصا، إلا أنه اختار تناوله عبر وجوه الإعجاز  لا عبر القضايا، والسيوطي يؤمن بأن وجوه إعجاز القرآن الكريم لا حصر لها، لذلك لما رأى بعضهم أنهى تلك الوجوه إلى ثمانين وجها، رد قائلا: «والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه»()، وقد اكتفى هو بتتبع خمسة وثلاثين وجها.
2- التطبيق :
لجهود علماء الإعجاز  ثلاث وجهات في التطبيق:
•  التطبيق على الآية : في مقدمة ذلك كتاب «كفاية الألمعي في آية ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي﴾» لشمس الدين أبي الخير محمد بن محمد الجَزَري(751-833ه)، هدف فيه إلى كشف وجوه بلاغة الآية وإعجازها، وأتبع ذلك بخاتمة لخص فيها أفكار الدرس الإعجازي وقضاياه.
••  التطبيق على السورة :  من ذلك محاولة للزمخشري تقتصر على سورة الكوثر اختصرها فخر الدين الرازي وأوردها في خاتمة كتابه «نهاية الإيجاز»()، وذكر أنها «رسالة»، يشير بذلك إلى أنها مستقلة عن «الكشاف»، والمختصر الذي قدمه الرازي قائم على تتبع الفوائد في السورة، وهو يجمع في اقتناصها بين علم المعجم()، والنحو()، والبلاغة().
•••  التطبيق على القرآن كله : من المحاولات التي عُنيت بالقرآن الكريم كله كتابان:
أولهما «الكشاف» لأبي القاسم الزمخشري المعتزلي (ت 538ه)، وقد صرح في مقدمته أنه يهدف فيه إلى «ضمان التكثير من الفوائد، والفحص عن السرائر»()، ويجعل وسيلة تحقيق ذلك علمي المعاني والبيان()؛ لأن ذينك العلمين ركنا البلاغة وعليهما المعول في الإعجاز عنده().
والآخر «نظم الدرر» لبرهان الدين البقاعي السني (ت885ه)، وقد ركز فيه على التناسب بين الآيات والسور، مجتهدا من أجل كشف علل الترتيب؛ لأن ذلك «سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه الحال، وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها، فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة»().
    ومما نخلص إليه من تتبع مكتبة مرحلة التقريب والتطبيق أن الذين عدوها مرحلة جمود قد ظلموها ظلما شديدا()، وأنها ليست بالصورة التي قدمت بها، وأن الجهود فيها ليست واحدة، وأنها تبدأ بتلخيص جهود السابقين ولا تتوقف عندها، وأن من تلك الجهود من عني بالتطبيق، فنقل الدرس الإعجازي من المسار الذي انتهى إليه، إلى أصل منطلقه وهو القرآن الكريم، فعاد إلى كتاب الله تعالى مزودا بكل ذلك العتاد الذي راكمه الدرس الإعجازي باحثا عن اللطائف والأسرار.
المرحلة الرابعة : استواء المنهج.
تبدأ هذه المرحلة من القرن الثالث عشر الهجري، ومدار مكتبتها على أربعة محاور: التأريخ، والاستيعاب، والاستدراك، وإرساء المنهج:
1- التأريخ :
اختار هذا المسار عددٌ يصعب حصره من المؤلفات، الجامع بينها تتبع مسار الدرس الإعجازي في تطوره منذ نشأته، وأبرز من يمثله:
أ- «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية» للأستاذ مصطفى صادق الرافعي (1298-1356) يجمع الكتاب بين ميزتين: الإحاطة بمكتبة الإعجاز في التراث العربي، والنفاذ إلى عمق الدرس الإعجازي.
ب- «فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر مع نقد وتعليق» للأستاذ نعيم الحمصي، وهو أكثر الكتب أهمية في تتبع «فكرة إعجاز القرآن» في خطوطها العامة؛ ومن ثم جمع بين ميزيتن: الإحاطة بالمكتبة؛ وتتبع مسار الفكرة وتطورها منذ النشأة إلى لحظة التأليف. ولقد كان بذلك ينظر بعين إلى تلك المكتبة، وبأخرى إلى ذلك التطور، فأثمر النظر في الاتجاهين كتابا هو الوحيد الذي سلط الضوء على تلك الفكرة في بعديها الأفقي (اختلاف المصادر) والعمودي (اختلاف الأزمنة).
ج- «مفهوم الإعجاز القرآني حتى القرن السادس الهجري» للدكتور أحمد جمال العمري، وهو خلاف عنوانه يدرس الإعجاز دراسة تاريخية منذ النشأة إلى عصرنا()، وهو يجمع بين الدراسة التاريخية في الباب الأول «مفهوم الإعجاز القرآني.. دراسة تاريخية»، والدراسة الموضوعية في الباب الثاني «وجوه الإعجاز».
تلك النماذج من التأريخ للدرس الإعجازي أسهمت في التعريف بمسار الدرس الإعجازي منذ نشأته إلى عصرنا، وقربت مكتبته من القراء، وكشفت عن نقط القوة والضعف فيه، فكانت منطلقا لخطوات أخرى.
2- الاستيعاب :
مدار مكتبة الاستيعاب على اجتهادات في فهم تراث الدرس الإعجازي فهما جديدا شكل قيمة مضافة في وعينا بهذا الدرس وخصائصه، وفي مقدمة كتب هذه المكتبة كتابان:
أ- «المنحى الاعتزالي في البيان وإعجاز القرآن» للدكتور أحمد أبو زيد، وهو يدافع فيه عن فكرة كون الدرس الإعجازي عرف اتجاهين في الإعجاز هما الاتجاه المعتزلي وأبرز من يمثله الجاحظ، والاتجاه الأشعري وأبرز من يمثله الجرجاني، فهما مدرستان متميزتان لكل منهما أصولها النظرية ومنهجها في التطبيق والإنجاز()، وقد أسهم بذلك في فتح الباب للدارسين لإعادة قراءة التراث الإعجازي وفهمه فهما جديدا في ضوء تينك المدرستين.
وللدكتور أحمد أبو زيد في الموضوع نفسه كتاب «مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن»، كما أشرف على رسالة دبلوم دراسات عليا في موضوع «تأثير الأسس الكلامية للمذهب الأشعري في إعجاز القرآن» للباحث آيت اعزة أحمد().
وقد أغفل الدكتور أبو زيد مدرسة ثالثة هي المدرسة السنية غير الأشعرية كما رأينا في مرحلة التأسيس والنضج.
ب- «قضية الإعجاز القرآني وأثرها في تدوين البلاغة العربية» للدكتور عبد العزيز عبد المعطي عرفة، وقد اختار المؤلف أن يكون كتابه ممتدا في الزمان، إلا أنه تناول الموضوع من خلال محورين كبيرين هما: علاقة الإعجاز بنشأة البلاغة العربية()، وعلاقته بازدهارها(). وتكمن أهمية الكتاب أساسا في ربط نشأة البلاغة العربية بالدرس الإعجازي، وإثارة الانتباه إلى الموضوع من هذه الزاوية، متأثرا في ذلك بالدكتور محمد زغلول سلام في كتابه «أثر القرآن في تطور النقد العربي»().
3- الاستدراك :
يشكل هذا المحور الانطلاقة الثانية في الدرس الإعجازي؛ لأنه قدم إضافات تكاد تشكل مرحلة تأسيس نضج ثانية، ويمثله كتابان:
أ- «التصوير الفني في القرآن» للأستاذ سيد قطب: ينطلق الكتاب من كون القرآن الكريم له طريقة موحدة في التعبير عن جميع الأغراض هي «التصوير الفني»()، وهو «الأداة المفضلة في أسلوب القرآن»()، وقد عني به لأنه البعد الغائب في الدرس الإعجازي، و«قاعدة التعبير» في القرآن الكريم()، إذ ثلاثة أرباع القرآن «تستخدم طريقة التصوير في التعبير»()، ولا يستثنى من ذلك سوى مواضع التشريع، وبعض مواضع الجدل().
والإعجاز بناء على ذلك كامن في طريقة الأداة التي عبر عنها بـ«التصوير الفني»()؛ ومن أمثلته في ذلك أن لفظ «اثَّاقلتم» في قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾() يجعل الخيال يتصور «ذلك الجسم المثَّاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثِقَل»().
وقد صاغ الأستاذ سيد قطب فكرته تلك في «التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن»، وطبقها بشكل موسع في كتابه: «في ظلال القرآن»، ولذلك عدها الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي نظرية، وبنى على ذلك كتابه «نظرية التصوير الفني عند سيد قطب».  
ب- «دراسات لأسلوب القرآن الكريم» للأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة: جمع فيه بين حصر أساليب القرآن الكريم وترتيبها وتتبع الدقائق واختلاف الأساليب، فأمكنه بذلك أن يصحح عددا من أخطاء النحويين واللغويين()، وفتح الباب لعمل آخر لا بد من إنجازه هو حصر ما في الشعر الجاهلي والإسلامي «من حروف المعاني، ومن تصاريف اللغة، ومن اختلاف الأساليب ودلالتها»()، للنظر في إعجاز القرآن «نظرا جديدا، لا يتيسر للناس إلا بعد أن يتم تحليل اللغة تحليلا دقيقا قائما»()، ومن ذلك نخلص إلى أن ما قدمه الأستاذ عضيمة له واجهتان: الأولى خاصة بثمرة عمله، والثانية خاصة بالمنهج.
4- إرساء المنهج :
    أجادت مجموعة من الكتابات قراءة التراث الإعجازي، فاستفادت من إيجابياته، وتعلمت من أخطائه، وتمكنت من صياغة منهج يجمع بين الوضوح والانسجام والتماسك والفعالية، ومن أبرز الكتب المسهمة في ذلك والمعبرة عنه:
أ- “الإعجاز البياني للقرآن الكريم” للدكتورة عائشة عبد الرحمن: يكاد هذا الكتاب يكون فتحا في الدرس الإعجازي؛ لأنه تتبع جهود القدامى، واستفاد منهم ما يمكن أن يشكل قاعدة انطلاق درس إعجازي معاصر يعطي الأولوية للإنجاز، ويرسي منهجا يقوم على عناصر، منها رفض الترادف()، ومراعاة موقع اللفظ وسياقه()، والاستقصاء والإحصاء للألفاظ والتعابير والأساليب المراد دراستها()، وعُرف القرآن في الاستعمال()، ثم التعليل()، وقد كان توظيفها لمصطلح «الإعجاز البياني» إخراجا للدرس الإعجازي من ضيق البلاغة إلى رحابة علوم العربية، لذلك درست الإعجاز البياني في الحرف (فواتح السور، حروف العطف…) ()، والكلمة «دلالات الألفاظ»()، والتعبير «الأساليب» (القسم، والفاصلة،…)() من خلال عدد من النماذج.
تأثر بكتاب الدكتورة عائشة عدد من الدارسين للإعجاز: كالدكتور فاضل صالح السامرائي في سلسلته «دراسات بيانية في الأسلوب القرآني»، والأستاذ مصطفى الدباغ في «وجوه من الإعجاز القرآني»، والدكتور عبد العظيم إبراهيم محمد في «دراسات جديدة في إعجاز القرآن»، والأستاذ محمد السيد موسى في «الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم: دراسة وتطبيق»، والدكتور عمار ساسي في «الإعجاز البياني في القرآن الكريم: دراسة نظرية تطبيقية في الآيات المحكمات».
ب- سلسلة «دراسات بيانية في الأسلوب القرآني» للدكتور فاضل صالح السامرائي، وهو وإن تأثر بالدكتورة عائشة عبد الرحمن كما ذكرنا، إلا أنه قدم أعمالا أبان فيها عن رأي أصيل، وذوق فذ، ونتائج فيها جِدة، كل ذلك يجعله فتحا ثانيا في الدرس الإعجازي المعاصر، ومما أنجزه في ذلك:
– «التعبير القرآني»، درَس فيه عددا من الأساليب القرآنية كالتقديم والتأخير، والذكر والحذف، والتوكيد، والفواصل، والحشد الفني.
– «بلاغة الكلمة في التعبير القرآني»: درَس فيه الذكر والحذف، والإبدال، والمبني للمجهول، والوصف، والإفراد والتثنية والجمع، وتعاور المفردات…
– «لمسات بيانية في نصوص من التنزيل»: اختار فيه عددا من النصوص القرآنية من إحدى وعشرين سورة، وعني أكثر بالنصوص المتقاربة التي تتناول الموضوع نفسه، لكن بألفاظ أو عبارات مختلفة.
– «على طريق التفسير البياني»، وقد صدر منه فيما وقفت عليه جزآن، وهو يختار بعض السور ويدرسها دراسة بيانية بالمنهج نفسه في كتبه الأخرى، إلا أنه هنا ملزم بتتبع السور المختارة كاملة.
    ويثير انتباهنا في تجربة الدكتور فاضل أمران:  
أولهما: تجنبه استعمال مصطلح الإعجاز تواضعا منه وتعظيما للقرآن الكريم()، معتبرا كتاباته «خطوة في طريق قد يوصل السالك إلى طريق الإعجاز أو شيء من الإعجاز»().
والآخر: مركزية علوم اللغة العربية لديه، فهي المفتاح الثابت أكثر من غيره، به يستعين في فتح مغاليق التعبير القرآني، وبه يعلله، وعليه مدار الإقناع لديه().
قراءة في المآل
أولا – العودة إلى القرآن الكريم :
آل أمر الدرس الإعجازي من هذه الزاوية إلى بروز ثلاثة اتجاهات:
•    اتجاه شغله القرآن عن غيره، فدار معه حيث دار.
••    اتجاه شُغل مع القرآن بغيره، وفي مقدمة ما شغله مباحث البلاغة.
•••    اتجاه شغله غير القرآن عن القرآن.
لذلك لا غرابة أن نرى علاقة علماء الإعجاز بالقرآن الكريم مرت بمراحل كانت حاسمة في إفضائها إلى تلك المآلات:
– مرحــلـة إخــلاص الـعـلاقــة، وهــي مرحـلة متقدمـة كان فـيـــــها القرآن الكريم نقطة الانطلاق
والوصول.
– مرحلة البحث عن العتاد، مثلها الرماني والخطابي والجرجاني…
– مرحلة الانشغال بالعتاد، وأصولها تعود إلى أبي هلال العسكري لما عد البلاغة وسيلة معرفة الإعجاز، ثم انصرف إلى البلاغة()، وقد رأينا أن عبد القاهر الجرجاني مهد لهذه المرحلة لما جعل البلاغة وسيلة، وعني بها أكثر من الإعجاز، فتأثر به فخر الدين الرازي، والعلوي اليمني، والسكاكي، والقزويني، وانتهى دورها كما عند السكاكي إلى الوقوف على الإعجاز  والإحساس به().
– مرحلة العودة: ارتبطت بمرحلة استواء المنهج؛ لأنها بنيت على نقد مسار الدرس الإعجازي وما آل إليه، ومن الذين أسهموا في ذلك – كما رأينا – الدكتورة عائشة عبد الرحمن في«الإعجاز البياني للقرآن»، والدكتور فاضل صالح السامرائي في«سلسلة دراسات بيانية في الأسلوب القرآني».
ثانيا – الخروج من تيه علم الكلام :
    شغلت القضايا الكلامية والصراعات المذهبية علماء الإعجاز قرونا، فصرفتهم عن جوهر الدرس الإعجازي، وتسببت في كثير من الأحيان في اتخاذ مواقف متشنجة أثبت الزمن خطأها، ومن ذلك موقف الأشاعرة من اللفظ والبديع، والمعتزلة من المعنى… وكان أول ما فعله علماء الإعجاز في عصرنا تخليص الدرس الإعجازي من تلك العوالق، والانشغال بإعجاز القرآن الكريم فقط، فأمكنهم الخروج بهذا الدرس من التيه، وخطوا خطواتهم في الدرس الإعجازي على بصيرة.
ثالثا – فعالية التخصص :
تشكل اقتناع لدى علماء الإعجاز بضرورة الانتقال من النظر إلى التطبيق، ثم من التطبيق العام إلى التخصص، فالتخصص الدقيق، وأمكن بذلك الحديث عن طبقات الإعجاز البياني:
الطبقة الأولى: طبقة كتب الإعجاز البياني العامة، سِمَتُها العناية النظرية بالإعجاز في القرآن الكريم كله، والاكتفاء في التطبيق بنماذج، ومن أمثلتها:
– “الإعجاز البياني للقرآن” للدكتورة عائشة عبد الرحمن.
– سلسلة “دراسات بيانية في الأسلوب القرآني” للدكتور فاضل صالح السامرائي.
الطبقة الثانية: طبقة كتب الإعجاز المتخصصة، سمتها حصر دراستها في آيات أو كلمات أو مباحث أو علم بعينه، ومن ذلك:
– “الإعجاز الأسلوبي والنحو” للدكتور عز الدين الذهبي.
– “الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم” و”الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم” للدكتور عبد الحميد هنداوي.
– “التناسب البياني في القرآن: دراسة في النظم المعنوي والصوتي” للدكتور أحمد أبو زيد.
– “دقائق الفروق اللغوية في البيان القرآني” للدكتور محمد ياس خضر الدُّوري.
الطبقة الثالثة: كتب تدقيق التخصص، وهي إما تتناول مبحثا من مباحث كتب طبقة التخصص فتتعمق فيه، أو تختار مبحثا آخر تدقق النظر فيه، ومن أبرز أمثلة ذلك:
– «إعجاز القرآن: الفواصل» للدكتور حسين نصار.
– “أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية” للدكتور حسن طبل.
– “بلاغة العطف في القرآن” للدكتور عفت الشرقاوي.
رابعا –  مفاتيح الدرس الإعجازي :
أثبت الدرس الإعجازي حاجته الماسة إلى عدد من المفاتيح، وفي مقدمتها اللغة والنحو والبلاغة والشعر.
أما اللغة فقد التفت إلى أهميتها أبو سليمان الخطابي، وربط الإعجاز بالإحاطة بها لتعذره على البشر()، لذلك كان سر الإعجاز كامنا في النفاذ إلى عمق اللغة العربية «وسر عبقريتها التركيبية والتعبيرية وما تطيقه من حمل الدلالات والمضامين، وإخراجها من حدود العادة  اللغوية إلى حدود الإعجاز اللغوي»().
وأما النحو فقد رأينا دور عبد القاهر الجرجاني في إثارة الانتباه إلى أهميته في الإعجاز، وأنه أول من جعل النحو مركز الثقل فيه بعــــد أن كان مسار الدرس الإعـجازي مـركزا عـلــــى عـلم البلاغة، ورأينا دفاعه عنه ضد من زهدوا فيه().
وأما البلاغة فأمرها أظهر؛ لأن مسار الدرس الإعجازي كان مسارا بلاغيا، إلا أن المآل الذي آلت إليه في مرحلة الشروح والمختصرات والمنظومات جعل عددا من العلماء والكتاب يدْعون إلى ضرورة تجديدها وفي مقدمتهم الشيخ أمين الخولي().
وأما الشعر العربي فلأنه شاهد إثبات إعجاز القرآن الكريم()، إذ لا يعرف إعجازه إلا «من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب… ثم بَحَث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل»()، ومن ثم دافع الأستاذ محمود شاكر عن أهميته في الإعجاز بمناسبة تقديمه لـ«الظاهرة القرآنية»()، و«دراسات لأسلوب القرآن الكريم»().
خامسا – من الإعجاز البياني إلى التفسير البياني :
    صار الدرس الإعجازي كله مقدمة لتفسير القرآن الكريم تفسيرا بيانيا، وهو ما تطلعت إليه تجربتان رائدتان هما تجربة الدكتورة عائشة عبد الرحمن في كتابها «التفسير البياني للقرآن الكريم»، وتجربة الدكتور فاضل صالح السامرائي في كتابه «على طريق التفسير البياني»، وإذا كان هذان قد انشغلا بالإنجاز فإن جهودا أخرى عُنيت بهذا التفسير من حيث تصوره وأسسه النظرية، ومنها «خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم»() للأستاذ محمد رجب بيومي، و«المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم»() للأستاذ كامل علي سعفان.
وهذا التفسير يقوم على أربع خطوات():
•    التناول الموضوعي لما يراد فهمه.
••   فهم ما حول النص(ترتيب النزول، وأسبابه…).
•••  فهم دلالات الألفاظ اللغوية ثم القرآنية بالاستعانة بالسياق.
••••  فهم أسرار التعبير بالاحتكام إلى سياق النص.
ويقتضي التفسير البياني إعداد خمسة عشر مفتاحا تتوزعها ثلاثة محاور():
•   علوم اللغة العربية (اللغة، والصرف، والنحو، والبلاغة).
••  علوم القرآن (القراءات، وأسباب النزول، والأشباه والنظائر، والوقف والابتداء…).
••• الذوق والموهبة.
سادسا –  «علم تاريخ الإعجاز» :
آل أمر التراكم الذي نتج عن كثرة الكتب المؤرخة للإعجاز والمتتبعة لتطوره منذ النشأة حتى الآن إلى تميز اتجاه في الدرس الإعجازي يمكن أن نسميه «علم تاريخ الإعجاز»، وهو علم يقدم خدمتين جليلتين للدرس الإعجازي :
•     يتتبع جهود علماء الإعجاز وتطورها، والعوامل المسهمة في ذلك، سواء أتتبعها من حيث الفكرة أم من حيث الأشخاص.
••      يقدم مكتبة الإعجاز، ويعرف بها.
ومهمته مواكبة جهود الأمة في دراسة الإعجاز القرآني، والنظر إليها نظرة تاريخية تضع جهود كل شخص في مكانه المناسب زمانا ومكانا وأهمية، وهو ما يسمح له بنقد تلك الجهود في ضوء تطور الفكرة وتتبع نضجها، فيجمع بذلك بين مهمة المؤرخ ومهمة الناقد.
اتجه علماء الإعجاز في أول أمرهم إلى الدفاع عن القرآن الكريم مقتنعين أن إثبات إعجازه مقدمة لإثبات صحة نبوة محمد (ﷺ)، وهذه مقدمة لإثبات صحة الإسلام، واجتهدوا من أجل أن تكون دراساتهم قائمة على أسس مقنعة، وقد نشأ علم البلاغة ونضج في أحضان هذه الدراسات، وحتى عندما استقل ووصل أوجه، ظل هدفه الأسمى الوقوف على إعجاز القرآن الكريم تذوقا أو تعليلا.
ولقد كان مسار الدرس الإعجازي رحلة بحث عن الوسائل التي تسمح بالإقناع، ولكن هذه الرحلة لم تسلَم من مؤثرات داخلية وخارجية أثرت في مسيرتها (بما في ذلك الصراع مع أهل الملل الأخرى، وتأثر علماء الإعجاز بأصولهم الفكرية والمذهبية…).
آل أمر تلك الجهود في عصرنا إلى التخلص مما علق بالدرس الإعجازي أثناء تلك الرحلة مما كان يجب تجنبه منذ البداية، كما آل أمرها إلى إعادة النظر في المنهج، وإقامته على أسس متينة تجمع بين عدد مما قدمه القدامى وتضيف إليه عددا مما جدّ، فأمكن الحديث عن تصحيح للمسار، ومرحلة نضج ثانية حقيقية قوامها وضوح في المنهج، وتجاوز لأخطاء الماضي، وانشغال بالقرآن الكريم بدل الانشغال عنه، وظهر أفق جديد يجعل الدرس الإعجازي مجرد خطوة نحو التفسير البياني.
ألم يان لعلم الإعجاز بعد تلك الرحلة الطويلة أن يكون له علم أصول يجمع شتاته، وييسر الطريق أمام القادمين الجدد؟
ألم يان للجهود السابقة أن تفهرَس لتيسير جمعها والاستفادة منها؟
ألم يان للتراث الإعجازي كله أن يُجمع في موسوعة أو مكتبة تُقرب المسافة، وتُوضح الرؤية؟
ثم أخيرا: ألم يان قبل ذلك وبعده للمؤسسات أن يكون لها دور في الدرس الإعجازي، لننتقل من جهود الأفراد في الإعجاز البياني إلى جهود الجماعات والمؤسسات؟
    •    الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث، القاهرة، د.ط.ت.
    •    إثبات نبوة النبي (ﷺ): أبو الحسن اليزيدي، تحقيق د.أنور محمود زناتي ود.محمد غالب علي بركات. دار الآفاق العربية، القاهرة، ط.1، 1430هـ/2009م.
    •    أساس البلاغة: الزمخشري، مطابع الشعب، القاهرة، ط 1961م.
    •    الإعجاز البياني في القرآن الكريم، دراسة نظرية تطبيقية في الآيات المحكمات، عمار ساسي، عالم الكتب الحديث، عمان، جدارا للكتاب العالمي، إربد، ط. 1، 2007م.
    •    الإعجاز البياني للقرآن ومسائل نافع بن الأزرق: دراسة قرآنية لغوية بيانية: دة. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط. 3.
    •    إعجاز القرآن: أبو بكر الباقلاني، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، ط.5.
    •    الإعجاز القرآني من الوجهة التاريخية: محمد أحمد العزب، دار المعارف، القاهرة، سلسلة كتابك رقم 95، 1977م.
    •    إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي إيديسوفت، الدار البيضاء، ودار صبح، بيروت، ط. 1، 1428/2007.
    •    بلاغة الكلمة في التعبير القرآني: فاضل صالح السامرائي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط. 1، 2000م.
    •    بيان إعجاز القرآن: أبو سليمان الخطابي، ضمن «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن».
    •    البيان والتبين: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، د.ط.ت.
    •    تاريخ بغداد: أبو بكر الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ط.ت.
    •    تأويل مختلف الحديث: ابن قتيبة، تحقيق محمد زهري النجار، دار الجيل، بيروت، ط. 1393هـ/1972م.
    •    تأويل مشكل القرآن: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، شرح ونشر السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 3، 1401هـ/1981م.
    •    تثبيت دلائل النبوة: عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، حققه وقدم له د.عبد الكريم عثمان، دار العربية، بيروت، د.ط.ت.
    •    التصوير الفني في القرآن: سيد قطب، دار الشروق، بيروت، ط. 19، 2007.
    •    التعريفات: علي بن محمد الشريف الجرجاني، تحقيق وزيادة د.محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار النفائس، بيروت، ط.1، 1424 هـ/2003م.
    •    التفسير البياني للقرآن الكريم: د.عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط. 8. – التمهيد: أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، عني بتصحيحه ونشره الأب رتشرد يوسف مكارثي اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957م.
    •    ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: الرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، حققها وعلق عليها محمد خلف الله محمد ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، القاهرة، ط.4.
    •    حجج النبوة: الجاحظ، ضمن «رسائل الجاحظ».
    •    الحيوان: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط.3 ، 1388هـ/1969م.
    •    خلق القرآن: الجاحظ، ضمن «رسائل الجاحظ».
    •    دراسات لأسلوب القرآن الكريم: محمد عبد الخالق عضيمة، دار الحديث،  القاهرة، ط. 1425هـ/2004م.   
    •    دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة ودار المدني بجدة، ط.3، 1413هـ/1992م.
    •    دلائل النبوة: أبو نعيم الأصبهاني، حققه د.محمد رواس قلعه جي وعبد البر عباس. دار النفائس، بيروت، ط. 4، 1419هـ / 1999م.
    •    الرد على النصارى: الجاحظ، ضمن «رسائل الجاحظ».
    •    رسائل الجاحظ. تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط.1، 1411هـ/1991م.
    •    الرسالة الشافية: عبد القاهر الجرجاني. ملحقة بـ«دلائل الإعجاز».
    •    سر الفصاحة: أبو محمد عبد الله ابن سنان الخفاجي، تحقيق علي فودة، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط. 2، 1414هـ/1994م.
    •    سير أعلام النبلاء: أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط.9، 1413هـ.
    •    السيرة النبوية: ابن هشام المعافري، تحقيق وتخريج وفهرسة جمال ثابت ومحمد محمود وسيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، ط.2، 1419هـ/1998م.
    •    سيرة ابن هشام = السيرة النبوية.
    •    شرح صحيح مسلم= صحيح مسلم بشرح النووي.
    •    الشعر والشعراء: ابن قتيبة، تحقيق وشرح أحمد محمود شاكر، دار الحديث، القاهرة، ط.2، 1418هـ/ 1998م.
    •    شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: محمد بن محمد مخلوف، دار الفكر، بيروت، د.ط.ت.
    •    صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق د. صدقي  جميل العطار، دار الفكر، بيروت، ط.1: 1421هـ/2000م.
    •    صحيح سنن ابن ماجة: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط.1، 1417هـ/1997م.
    •    صحيح السيرة النبوية ما صح من سيرة رسول الله (ﷺ) وذكر أيامه وغزواته وسراياه والوفود إليه للحافظ ابن كثير: محمد ناصر الدين للألباني المكتبة الإسلامية، عمان، ط.1، 1421هـ.
    •    صحيح مسلم بشرح الإمام أبي زكرياء يحيى بن شرف النووي. ضبط وتوثيق صدقي جميل العطار، دار الفكر، بيروت، ط 1415هـ/1995م.
    •    الصناعتين الكتابة والشعر: أبو هلال العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية، بيروت، 1406هـ/1986م.
    •    الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني، أشرفت على مراجعته وضبطه وتحقيقه جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1402هـ/1982م.
    •    ظاهرة البديع عند الشعراء المحدثين دراسة بلاغية نقدية: د.محمد الواسطي، دار نشر المعرفة، الرباط، ط.1، 2003م.
    •    الظاهرة القرآنية: مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، ط. 1406هـ 1986م.
    •    على طريق التفسير البياني: د.فاضل صالح السامرائي، منشورات كلية آداب جامعة الشارقة، ط. 1423هـ/2002م.
    •    الفصل في الملل والنحل: أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم الظاهري، تحقيق د.محمد إبراهيم نصر ود.عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط. 1405هـ/1985م.
    •    فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر مع نقد وتعليق: نعيم الحمصي، قــــدم له محمد بهجة البيطار، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط.2، 1400ه 1980م).
    •    الفهرست: أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب المعروف بالنديم، ضبطه وشرحه وعلق عليه وقدم له د. يوسف علي طويل، وضع فهارسه أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1، 1416هـ/1996م.
    •    قضية الإعجاز القرآني وأثرها في تدوين البلاغة العربية: د.عبد العزيز عبد المعطي عرفة، عالم الكتب، بيروت، ط. 1، 1405هـ/1985م.
    •    لسان العرب: ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط.3 1414هـ/1994م.
    •    لمسات بيانية في نصوص من التنزيل: د.فاضل صالح السامرائي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط. 1، 1999م.
    •    المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم. صنعة أبي عبد الله عبد السلام بن محمد بن عمر علوش، دار المعرفة، بيروت، ط. 2، 1427هـ/ 2006م.
    •    المسند: أحمد بن محمد بن حنبل. شرحه وصنع فهارسه أحمد محمد شاكر وحمزة أحمد الزين. دار الحديث، القاهرة، ط.1، 1416هـ/1995م.
    •    مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين: الشاهد البوشيخي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط. 1، 1402هـ/1982م.
    •    معترك الأقران في إعجاز القرآن: جلال الدين السيوطي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، د.ط.ت.
    •    معجم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب: ياقوت الحموي، حققه وضبط نصوصه وأعد حواشيه وقدم له د.عمر فاروق الطباع، مؤسسة المعارف، بيروت، ط. 1، 1420هـ/1999م.
    •    المعجم الكبير: أبو القاسم بن أحمد الطبراني. حققه وخرج أحاديثه حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط.2 1405هـ/1985م.
    •    المغني في أبواب التوحيد والعدل، الجزء 16: إعجاز القرآن: القاضي أبو الحسن عبد الجبار الأسدآبادي، قدم نصه أمين الخولي، دار الكتب، القاهرة، ط. 1، 1380هـ/1960م.
    •    مفتاح العلوم: أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي، حققه وقدم له وفهرسه د.عبد الحميد هنداوي دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 1420هـ/2000م.
    •    مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، ط.3، 1423هـ/2002م.
    •    مفهوم الإعجاز القرآني حتى القرن السادس الهجري: د.أحمد جمال العمري، دار المعارف، القاهرة، د.ط.ت. رقم الإيداع: 1984.
    •    مقاييس اللغة: ابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، د.ط.ت.
    •    مقدمة جامع التفاسير مع تفسير الفاتحة ومطالع البقرة: أبو القاسم الراغب الأصفهاني، حققه وقدم له وعلق حواشيه د.أحمد حسن فرحات، دار الدعوة، الكويت، ط. 1405هـ/1984م.
    •    مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن: أحمد أبو زيد، دار الأمان، الرباط، ط. 1، 1409هـ/1989م.
    •    الملل والنحل: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني. تحقيق محمد عبد القادر الفاضلي المكتبة العصرية، بيروت، ط. 1422هـ/2002م.
    •    مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب: أمين الخولي دار المعرفة، القاهرة، ط. 1، 1961.
    •    المنحى الاعتزالي في البيان وإعجاز القرآن: أحمد أبو زيد، مكتبة المعارف، الرباط، ط1، 1986م.
    •    نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي. ط.1 1392هـ/1972م.
    •    النظم القرآني في كشاف الزمخشري: درويش الجندي، دار نهضة مصر، ط.  1969م.
    •    النكت في إعجاز القرآن ضمن «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن».
    •    نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز: فخر الدين أبو عبد الله،  محمد الرازي، تحقيق ودراسة بكري شيخ أمين، دار العلم للملايين، بيروت، ط. 1، 1985.