الرئيسية / ضوابط تمييز أحوال النبي.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : ضوابط تمييز أحوال النبي.

الكاتب(ة) : د. الناجي لـميـــــــــــــــــــــن

لقد كان الأئمة المتبوعون ومَن أتى بعدهم من العلماء يأخذون بعين الاعتبار، عند الاستنباط من السنة، الحال التي كانت باعثا على قول رسول الله (ﷺ) أو على فعله:
فهذا الإمام أبو حنيفة يرى أن قوله تعالى: «من أحيى أرضا ميتة فهي له» تصرّف منه بالإمامة: فلا يجوز لأحد أن يحيي أرضا إلا بإذن الإمام().
وهذا الإمام مالك يروي حديث: «من قتل قتيلا، ليس له عليه بينة، فله سلبه»، ثم يقول: “لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد..” ().
والذي أرشد العلماء إلى سلوك هذا المسلك المعالم التالية:
المَعْلم الأول: كون الرسول (ﷺ) تصدر عنه تصرفات بحكم بشريته وخبرته في الحياة، قال تعالى: ﴿قل انما أنا بشر مثلكم يوحى إلي﴾(). وقال أيضا: ﴿وقالوا مال هذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الاسواق﴾().
وقال (ﷺ): «إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهـل: أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة تقربه بها منه
يوم القيامة»().
المعلم الثاني: كون الرسول (ﷺ) فُوّض إليه، زيادة على تبليغ الرسالة، أمرُ السياسة العامة. فهناك رُسل أرسلهم الله سبحانه وتعالى ولم يأمرهم إلا بتبليغ ما أنزل إليهم من عنده، ولم يعهد إليهم النظرَ في المصالح العامة للناس().
وهكذا كان الرسول (ﷺ) يجمع بين عدة وظائف: فقد كان رسولا مبلغا عن الله سبحانه وتعالى، وكان في الوقت ذاته رئيسا للدولة الإسلامية بالمدينة، وقائدا حربيا في غزواته، وقاضيا يفصل بين الخصوم في المنازعات وفقا لحجاج/لحُجَج المتخاصمين ودعاواهم، وكان أحيانا يسعى إلى الصلح بينهم.
المعلم الثالث: مراجعة الصحابة النبيّ (ﷺ) بعضَ تصرفاته في حياته في ما لا يحصى من الوقائع والأحداث. قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: “وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان من أوامر الرسول صادرا في مقام التشريع، وما كان صادرا في غير مقام التشريع، وإذا أشكل عليهم أمر سألوا عنه” ().
من أمثلة ذلك:
ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس أن بريرة لما خيرت يوم أعتقت بين أن تبقى مع زوجها (مغيث) وأن تفارقه قال لها النبي (ﷺ): «لو راجعته». قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال: «إنما أنا أشفع». قالت: لا حاجة لي فيه. ()
المعلم الرابع: تمييز الصحابة بعد وفاته (ﷺ) بين ما كان صادرا عنه في مقام التشريع العام، وما كان غير ذلك. مثال ذلك: حكم ضوّال الإبل، فقد قال رسول الله (ﷺ): «مالك ولها، معها سقاؤها، وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، دعها حتى يجدها ربها».().
وعلى هذا استمر العمل في زمن أبي بكر ثم عمر، إلى أن جاء زمن عثمان، وتغيرت الظروف، فقضى عثمان رضي الله عنه فيها بما تقتضيه المصلحة، وذلك أنه كان يأمر بتعريفها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنَها().
أما علي رضي الله عنه في خلافته فقد بنى للضوال مربدا يعلفها فيه لا يسمنها ولا يهزلها من بيت المال، فمن أقام بينة على شيء منها أخذه، وإلا بقيت على حالها لا يبيعها. ()
ولقد أحس بعض المؤلفين في الأصول والمقاصد بأهمية هذا التمييز ففصلوا ذلك في بعض كتبهم بعض التفصيل، كالإمام القرافي في كتابيه “الفروق” و”الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام”.. والشيخ ولي الله الدهلوي في كتابه “حجة الله البالغة”.. والشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه: “مقاصد الشريعة الإسلامية”، والشيخ علي الخفيف في بحث له بعنوان: “السنة التشريعية”()، والشيخ محمد مصطفى شلبي، في كتابه: “الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية”، وغيرهم..
إلا أنهم لم يهتموا بوضع ضوابط تكون حاكمة لما فصلوا في صعيد واحد، بحيث يستطيع الطالب لمسائل السنة أن يطلع عليها، وإن كانت هذه الضوابط منثورة في أثناء كلامهم.
وفي ما أذكره في هذه المداخلة محاولة لتحقيق هذا المقصد العلمي الهام.
وقبل الشروع في بيان هذه الضوابط أود أن أنبه على أربعة أمور:
الأمر الأول: أن الأصل في أفعال الرسول (ﷺ) وأقواله وتقريراته التشريع العام؛ لأن الغالب على تصرفه (ﷺ) الفتيا والتبليغ. والغالب كالمحقق كما يقول الفقهاء. قال تعالى: ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل﴾(). فما دام قولُه (ﷺ) أو فعله لا يعارض مضمونه أصلا قطعياً من أصول الشريعة، ولا يترتب على الأخذ به حرج عامٌ أو خاصٌ مُتيقَّن، ولا يُعرِّض الشريعة للاستخفاف.. فالاحتياط الذي تفرضه أصول الشريعة اعتباره والأخذ بما تَضمَّنَه من أحكام، إلا إذا ثبت بدلالة واضحة بيّنة أن المقصود به غير التشريع العام.
الأمر الثاني: أنه لا يكاد يوجد حديث يحتمل أن لا يقصد به التشريع العام إلا تجد علماء الصحابة ومن أتى بعدهم من الأئمة قد تكلموا فيه بالاختلاف أو الاتفاق؛ لذا لا بد من اعتبار شرط هام في الحكم على الحديث بأنه لا يقصد به التشريع العام: وهو أن لا يتفق العلماء على أنه قصد به التشريع العام.
الأمر الثالث: أن النظر في الحال الذي صدر عنه قول رسول الله (ﷺ) لا تكون ثمرته التشريعية نافعة إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وإلا فإننا مأمورون باتباع رسول الله (ﷺ) أمرا عاما. كما في قوله تعالى ﴿لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾.()
وقد جاء الأثر عن عمر بن الخطاب “أنه قال للركن: أما والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولكني رأيت رسول الله استلمك، وأنا أستلمك، فاستلمه”. وقال أيضا في الرمل في الطواف: “ما لنا وللرمل، إنما راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله”. ثم قال: “شيء صنعه رسول الله (ﷺ) لا نحب أن نتركه”، ثم رمل.
فالخليفة عمر بن الخطاب الذي كان رائد الفقهاء في البحث عن علل الأحكام والوقائع توقف في هذين الأمرين، لما لم ير مصلحة في التغيير.()
الأمر الرابع: أن اعتبار هذا الأصل عند الاستنباط من السنة –أعني أصل تمييز أحوال النبي (ﷺ)- لا يوهن من حجيتها، ولا يضعف من كونها المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، بل هو تقوية لها وإعلاء من شأنها، بجعل أحكامها تضبط أفعال المكلفين بضوابط الشرع على مختلف أوضاعهم وتمايز أحوالهم ومقاماتهم في الزمن والمكان، دونما حرج عليهم أو ضيق.
والآن نصل إلى المقصود، وهو وضع الضوابط الحاكمة لتمييز أحوال النبي (ﷺ)، وأقسمها قسمين:
القسم الأول :
ضوابط السنة التي من قبيل التشريع العام.
الضابط الأول: كل ما صدر عنه (ﷺ) بوصفه رسولا مبلغا لما أوحي إليه: من بيان مجمل كتاب، أو تخصيص عامه، أو تقييد مطلقه، أو تفصيل عبادة، أو أَمَر بشيء عُلم أنه واجب، أو نَهَى عن شيء عُلم أنه منكر، فذلك شرع يجب الأخذ به؛ وهو شريعة باقية إلى يوم القيامة.
وهذا النوع من السنة لا إشكال فيه.
الضابط الثاني: كل ما كان بيانا لعقيدة، أو تعليما لعبادة، أو إرشادا إلى قربة، أو تهذيبا لخلق، أو ضبطا لعادة أو انتفاع، أو تصحيحا لمعاملة، أو تحذيرا من أمر عُلم أنه فساد وسوء، فذلك شريعة يتعين على الناس اتباعها.
فمثال ضبط العادة: قوله (ﷺ) لعمر بن أبي سلمة: «يا غلام، سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك».
ومثال تصحيح المعاملة: نهيه (ﷺ) عن بيع حبَل الحَبَلة، وعن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وكذا سائر البيوع التي نهى عنها (ﷺ).
الضابط الثالث: كل أمر من الأمور العادية تبين لنا أن الرسول (ﷺ) فعله أو أمر بفعله للحفاظ على خلق أو مروءة، أو نهى عنه لتجنب فساد أو ضرر أو إثم: فهو من قبيل التشريع العام.
ومثاله ما رواه مالك بسنده عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (ﷺ) مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله (ﷺ): «دعه فإن الحياء من الإيمان» ().
وروى مالك في نفس الباب قوله (ﷺ): «لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء».
ومن أمثلة ذلك أيضا أن رجلا أتى النبي (ﷺ) فقال: “يا رسول الله، علمني كلمات أعيش بهن، ولا تكثر علي فأنسى”. فقال رسول الله (ﷺ): «لا تغضب».()  
الضابط الرابع: كل أمر اهتم به النبي (ﷺ) وبلغه إلى العامة والخاصة، وحرص على العمل به، أو أَبْرزَه في قضايا كلية، مثل قوله (ﷺ): «ألا لا وصية لوارث»؛ وقوله: «إنما الولاء لمن أعتق»: فهو تشريع عام.
الضابط الخامس: كل “ما قضى به الرسول/رسول الله (ﷺ) من حقوق رتبها على أسبابها الشرعية التي استوجبتها” فهو تشريع عام.. ().
ومن ذلك ما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: “يا رسول الله، هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه”. وقال عبد بن زمعة: “هذا أخي يا رسول الله، وليد على فراش أبي من وليدته”. فنظر رسول الله (ﷺ) فرأى شبها بينا بعتبه، فقال: «هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر. واحتجبي منه يا سودة»، فلم تره سودة قط.
الشاهد عندنا هو قوله (ﷺ): «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، حيث رتب النسبة على الفراش. ولذلك نقل ابن فرج المالكي القرطبي في أقضيته اتفاق “أهل العراق والحجاز والشام ومصر على أن الزاني لا يلحق به نسب”. ()
ومن ذلك أيضا أن رجلا أسلف إلى رجل في نخل، فلم تخرج النخلة تلك السنة شيئا، فاختصما إلى النبي (ﷺ)، فقال: «بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله». ثم قال: «لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه».()
القسم الثاني :
ضوابط السنة التي ليست من قبيل التشريع العام
الضابط الأول: كل ما صدر عن رسول الله (ﷺ) من الأقوال والأفعال العادية المتكررة المباحة التي تدعو إليها طبيعة الإنسان وغايات البشر: فهو ليس بشرع عام. وبعبارة أخرى: كل ما يأتيه الرسول بحكم خلقته وجبلته، مما يعد من مقومات الحياة وضروراتها، ومما يعد من العادات: كالأكل، والشرب، والنوم، واللباس، والحركة، والتخاطب، والتفاهم، والسعي إلى الطعام، واتخاذ المسكن، والمشي إلى الأسواق.. وكذلك كل ما يأتيه من تصرفات مع أزواجه وذريته وأقاربه مما يشبه ما يأتيه كل إنسان: فليس بشرع عام.
ولهذا فما صح عنه (ﷺ) أنه كان ينام على الحصير، وأنه كان في غالب شأنه يتقلل من المأكل والملبس، لا يستفاد منه أن من توسع في المأكل والملبس والمسكن دون إسراف مخالفٌ سنة رسول الله (ﷺ). ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الزرق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يوم القيامة﴾().
وكذلك صح عنه (ﷺ) أنه كان يحب من الشاة الكتف. فلا يقال في الشخص الذي لا يحب الكتف من الشاة: إنه مخالف سنة رسول الله (ﷺ)، أو نرغب الناس في الأكل من هذا الموضع على أساس أنه سنة متبعة.
الضابط الثاني: كل ما صدر عن الرسول (ﷺ)، وكان سبيله التجربة والخبرة في الحياة: كالصناعة، والفلاحة، والخطط الحربية، ونحو ذلك: فهو ليس شرعا عاما.
وهذا واضح فيما رواه أنس وعائشة رضي الله عنهما أن النبي (ﷺ) مر بقوم يلقحون فقال: «لو لم تفعلوا لصلح». قال: فخرج شِيصاً(). فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا. قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».()
الضابط الثالث: كل ما صدر عنه (ﷺ) وكان وسيلة إلى غاية خاصة وهدف محدد اقتضته ظروف الزمان والمكان، وتطلبته المصلحة: فهو سنة مؤقتة، يجوز تبديلها وتغييرها إذا تغيرت الأوضاع وتبدل الزمان، وأصبحت لا تحقق الغاية المرجوة، أو المصلحة الشرعية من سَنِّها أول مرة.
وذلك كإذنه (ﷺ) لعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لمرض ألم به، وكنهيه عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال، ونهيه عن زيارة القبور، وعن النبيذ في الظروف.. ().
الضابط الرابع -وهو قريب من سابقه-: كل “ما بُـني من الأحاديث على أسباب خاصة، أو ارتبط بعلة معينة، منصوص عليها في الحديث أو مستنبطة منه، أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه الحديث”()، يُحكَم عليه بأنه تشريع خاص مرتبط بأسبابه وملابساته ومقاصده.
الضابط الخامس: كل تصرف من رسول الله (ﷺ) الشأنُ فيه أن يتولاه الأئمة والأمراء، مثل: إعلان الحرب، أو الجنوح إلى السلم، وعقد العهود، وصرف أموال الدولة وجمعها، وتولية القضاة والولاة.. فهو ليس من التشريع العام. بل هو منوط بالمصلحة العامة التي يجب أن يرعاها ولاة الأمور في الدولة.
الضابط السادس: كل ما يؤدي إلى الخصام، أو التشاجر والفتن، أو إدخال الضرر.. فنظره إلى ولاة الأمور والمسؤولين في الدولة دون غيرهم.
ومن أحسن الأمثلة لهذا الضابط قوله (ﷺ): «من قتل قتيلا، له عليه بينة، فله سلبه».
وقوله (ﷺ): «من أحيى أرضا ميتة فهي له».
الضابط السابع: كل قضاء من رسول الله (ﷺ) اتّبَع فيه البينات والأيمان: فهو ليس من قبيل التشريع العام.
فقد صح عنه (ﷺ) فيما روته أم سلمة أنه قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه الشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار».
وعلى هذا فمتى “فصل النبي (ﷺ) بين اثنين في دعاوى الأموال، أو أحكام الأبدان ونحوها، بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها، فنعلم أنه (ﷺ) إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها، لأن هذا شأن القضاء والقضاة”.()
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلما تسليما.