الرئيسية / علاقة الإنتاج الفقهي بعلم أصول الفقه المدون: دراسة في مشروع التجديد.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : علاقة الإنتاج الفقهي بعلم أصول الفقه المدون: دراسة في مشروع التجديد.

الكاتب(ة) : د. الناجي لـميـــــــــــــــــــــــن

علاقة الإنتاج الفقهي بعلم أصول الفقه المدون
– دراسة في مشروع التجديد-

الدكتور الناجي لمين
دار الحديث الحسنية ، الرباط

  لا يختلف أهل العلم في أن الفقيه لا بد من أن يعتمد في فتواه على أصل معتبر شرعا. وجاءت نصوص عن طائفة من الأئمة توضح هذا المعنى، وتؤكد على أهميته:
  من ذلك قول الشافعي: «..ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء: حل ولا حرم-: إلا من جهة العلم». وجهة العلم عنده: «الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع، أو القياس».
  ومستند إجماع العلماء على هذا المبدأ آيات وأحاديث. منها قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، وقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم). وقال  فيما يرويه ابن عباس عنه: «من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار».
  وجرى ديدن المفسرين أن يضمنوا مقدمات كتبهم في التفسير التحذير من القول بالرأي، ويقصدون بذلك الكلام في الدين بدون علم، وعلى غير أصل، «أما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا: فلا حرج عليه».
– 1 –
  وتبعا لهذا المبدأ المجمع عليه كان الصحابة والتابعون وأتباعهم ينطلقون في الفتوى والقضاء من أصول يراعونها. وجاء النقل عن الخلفاء الراشدين أن الواحد منهم كان عندما تعرض عليه المسألة ينظر في كتاب الله، فإن أعياه أن يجد لها أصلا فيه، نظر في سنة رسول الله، فإن لم يجد سأل الصحابة: هل يعرفون عن رسول الله سنة، وإلا جمع فقهاء الصحابة واستشارهم.
  ولقد حفظ لنا مالك في الموطأ وغيره من المحدثين والفقهاء نماذج من ذلك؛ منها: أن الإمام مالكا روى بسنده عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله  شيئا. فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله  أعطاها السدس. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة. فأنفذه لها أبو بكر الصديق. ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها، فقال لها: ما لك في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض شيئا، ولكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها».
  وقرر العلماء أن فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه “مصلحي”، “ذرائعي”، اعتمادا على فتاوى أثرت عنه، كقتله الجماعة بالواحد، وإيقاف حد السرقة عام المجاعة، وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وتوريث الإخوة الأشقاء مع الإخوة للأم في المسألة المسماة باليميَّة، أو الحجرية، أو المشتركة.
  لكن الملاحظ أن عادة الصحابة لا يذكرون الأقوال مذيلة بأصلها إلا نادرا، لسبب يقتضي ذلك، كالمحاججة، أو الشرح والبيان.
  من أمثلة ذلك أن عمر بن الخطاب رأي زيد بن خالد الجهني يركع بعد العصر ركعتين، فمشى إليه فضربه بالدرة، وهو يصلي كما هو، فلما انصرف قال زيد: «يا أمير المؤمنين، فوالله لا أدعهما بعد أن رأيت رسول الله  يصليهما». فجلس إليه عمر، فقال: «يا زيد.. لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما».
  فواضح من هذه القصة أن عمر لم يفصح عن أصله في إنكاره على زيد بن خالد إلا عندما قال زيد ما قال. وواضح كذلك أن أصله في ذلك هو “سد الذريعة”، عبر عنه بقوله: «..أخشى أن يتخذها الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل..»، فتصبح النافلة بعد العصر أصلا، بعد أن كانت استثناء، وذلك أنه جائز لمن ترك رتيبة من الرواتب نسيانا أو اضطرارا أن يصليها بعد العصر، كما فعل رسول الله .
  والأصل في التنفل بعد العصر والصبح هو التحريم. وقد ورد النهي بذلك عن رسول الله . وعمر كان أحد الرواة لهذا النهي.
  وشاع النقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في معرض بيان أصل رأيه في عقوبة شارب الخمر: «إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة» . فقاس حد شارب الخمر على حد القاذف، بجامع أن كلا منهما مفتر كاذب.
  كما روي عن ابن مسعود أنه قال في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل: عدتها وضع حملها، لقوله تعالى ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن). ورد على من استدل بقوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا): بـأن سورة الطلاق نزلت بعد سورة البقرة.
  أما عبد الله بن عباس فقد قال: «ألا يتقي الله زيد؟ يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا». قال هذا الكلام في مقام الاحتجاج على زيد بن ثابت الذي كان يرى إشراك الإخوة الأشقاء أو لأب مع الجد في الميراث.. وكان مذهب ابن عباس أن الجد يحجب الإخوة، كالأب..
  ثم اتسع التصريح بأصول الفتاوى والأقضية قليلا في عصر التابعين وأتباعهم والأئمة المجتهدين قبل الشافعي. نذكر من نماذج ذلك: كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، وكتاب سير الأوزاعي، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى. وكلاهما لأبي يوسف الذي صحب أبا حنيفة، ولازم أيضا ابن أبي ليلى.
  سمة أخرى كانت تميز منهج الاستنباط في هذه الفترة المبكرة من تاريخ علم أصول الفقه، وهي أن الفقيه وإن كان ينطلق في فتواه من أصول معينة، فإنه يخرج عنها أحيانا. أي أن الفقهاء كانوا لا يطبقون الأصول على الفروع تطبيقا صارما. ولقد كان مالك يقيس، لكنه كان يستحسن أيضا إذا قبح القياس. وكان أصحاب أبي حنيفة ينازعون إمامهم القياس، فإذا قال: «أستحسن»، لم يلحق به أحد.
  سمة أخرى أيضا تميزت بها هذه الفترة، وهي أن قواعد الاستنباط لم تكن موحدة. بل كانت تختلف في بعض التفاصيل (ومنها تفاصيل جوهرية) من بلد إلى آخر. ولذلك تجد المشتغلين بتاريخ التشريع يتحدثون عن أهل الرأي، وأهل الحديث.. أو مدرسة الرأي، ومدرسة الحديث..
  ومن مظاهر هذا الاختلاف وجود أصل “العمل”، فهناك عمل أهل المدينة، وعمل أهل الكوفة.. وهكذا..
  ومن مظاهر ذلك أيضا أن الحديث –وإن صح سنده- لا يأخذ به الفقيه إذا كان هذا الحديث غير معروف عند من سبقه من فقهاء بلده.
  وقد جرت عادة الفقهاء أن يقلدوا من سبقهم من العلماء: الصحابة فمن بعدهم. والغالب كذلك أن كل جماعة من فقهاء بلد معين تختار تقليد عالم من علمائها السابقين لا تعدوه إلا بدليل معروف الصحة، صريح في معناه:
  يقول ابن عبد البر: «وأما جمهور أهل العراق فيذهبون إلى قول علي في فرائض المواريث لا يعدونه إلا باليسير النادر، كما صنع أهل الحجاز بمذهب زيد في ذلك (أي في فرائض المواريث). ومن خالف زيدا من الحجازيين أو خالف عليا من العراقيين فقليل. وذلك لما يرويه مما يلزم الانقياد إليه..».
  ويقول ابن حزم: «…ثم أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار: كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجروا على تلك الطريقة: من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم…» .
  وفي اعلام الموقعين لابن القيم: «..فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد، وعبد الله بن عمر. وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود».
  ونقل الزركشي عن الأستاذ أبي منصور البغدادي قوله: «كل مسألة انفرد فيها علي بقول عن سائر الصحابة تبعه فيها ابن أبي ليلى، والشعبي، وعبيدة السلماني. وكل مسألة انفرد فيها زيد بقول تبعه الشافعي، ومالك في أكثره، وتبعه خارجة بن زيد لا محالة. وكل مسألة انفرد بها ابن مسعود تبعه علقمة والأسود، وأبو أيوب».
  ومن الذين رأيتهم من المتأخرين نصوا على هذا الأصل (أقصد عمل أهل البلد) عند العلماء قبل الشافعي: ولي الله الدهلوي. ومما قاله: «وإنه إذا اختلفت مذاهب الصحابة والتابعين في مسألة، فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه، لأنه أعرف بصحيح أقاويلهم من السقيم، وأوعى للأصول المناسبة لها، وقلبه أميل إلى فضلهم وتبحرهم». وقال: «فإن اتفق أهل البلد على شيء أخذوا (أي الفقهاء) عليه بالنواجذ؛ وهو الذي يقول في مثله مالك: السنة التي اختلاف فيها عندنا كذا وكذا. وإن اختلفوا أخذوا بأقواها وأرجحها، إما لكثرة القائلين به، أو لموافقته لقياس قوي، أو تخريج من الكتاب والسنة. وهو الذي يقول في مثله مالك: هذا أحسن ما سمعت».
  ثم إن للفقهاء في اعتبارهم هذا الأصل سلفا من أئمة الصحابة، في مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد احتج عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس بقوله تعالى (فإن كان له إخوة فلأمه السدس)، وليس الأخوان إخوة.. فقال عثمان: «لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار».
  إلا أنه مما يجب التنبيه عليه: أن هذا الأصل لا يطبق على إطلاقه، فأحيانا يخرج الفقيه عنه. ونحن قد نبهنا آنفا على أن الأصول قبل الشافعي لم تكن تطبق تطبيقا صارما.
  الحاصل أن هناك أربع سمات بارزة في منهج الاستنباط الفقهي في الصدر الأول من تاريخ علم أصول الفقه:
الأولى: أن الفقيه كان يصدر فتواه دون أن يصرح بالدليل إلا عند الحاجة.
الثانية: أن تطبيق الأصول على الفروع لم يكن تطبيقا صارما.
الثالثة: أن هذه الأصول لم تكن موحدة بين جميع الأقطار.
الرابعة: أن الفقهاء كانوا يعتبرون ما عليه أهل بلدهم، ولا يخرجون عنه إلا لمسوغ ظاهر جلي.
  والسمات الثلاث الأخيرة تعتبر إضاءة مهمة في طريق مشروع التجديد. فهي تشير إلى ثلاثة مقاصد:
المقصد الأول: أن المرونة في تطبيق الأصول على الفروع تجعل المفتي (أو القاضي) يطبق أحكام الشريعة على أفعال المكلفين مراعيا الخصوصية والاستثناء، ومراعيا المآل، والذريعة سدا وفتحا.
المقصد الثاني: أن عمل أهل البلد يساعد على الاستقرار الفقهي والقضائي في كل بلد، ويمتن علاقة الوحدة بين أفراده. فالفتوى ليست سلعة تصدر من بلد إلى آخر!
المقصد الثالث: أن علم أصول الفقه –كما الفقه- كان في الصدر الأول يعالج المشاكل الواقعة في كل مجتمع، ويراعي خصوصيات كل بلد.
أما علم أصول الفقه المجرد عن الأزمنة والأمكنة والأشخاص فهو ضروري أيضا، لأن به يقوَّم الفكر، ويعصم من الزلل: فلا بد للمشتغل بالفتوى والقضاء من علم يضبط له الثوابت ويحدد له القطعيات التي يجب أن يراعيها ولا يخرج عنها مهما اختلفت الأزمنة، وتباعدت الأمكنة، وتغيرت أوضاع الأشخاص، وتباينت أحوالهم.
لكن يجب أن يعطى لهذا العلم اسم خاص به. أو يمكن إدراجه في “علم الكلام”، أو في خانة “الفكر الإسلامي” عموما.
– 2 –
  بعد هذه المرحلة جاءت مرحلة أخرى عرف فيها المنهج الأصولي منعطفا بارزا، وذلك بظهور الإمام الشافعي إماما مستقلا، قد حفظ التراث الأثري عن رموز مكة، على رأسهم سفيان بن عيينة (ت198هـ)، وتلاميذ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (ت150هـ): كمسلم بن خالد الزنجي (ت180هـ)، وسعيد بن سالم القداح (توفي قبل200هـ)،وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد (ت206هـ)، وعبد الله بن الحارث المخزومي. ثم أخذ علم المدينة عن مالك بن أنس (ت179هـ)، وفقه العراق عن محمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ).
   ويتجلى هذا الانعطاف فيما يلي:
– أولا: أن الشافعي أول فقيه مجتهد حرص –فيما أعلم- على أن يذيل كل فرع بأصله، وعلى أن ينشر “مشروعه” الأصولي في الناس، ويناظر عليه، ويستمع إلى مخالفيه، ويعيد النظر بعد المناظرة ومطالعة كتب الفقهاء الآخرين. ولذلك فإن مما يميز فقهه: كثرة الأقوال في المسألة الواحدة، فهو يقول القول، ثم يرجع عنه، وقد يرجع إلى القول الأول مرة أخرى إذا ما عنَّ له مبرر للرجوع، وقد يقول قولين أو أقوالا، ولا يتبين له وجه الترجيح فيترك المسألة هكذا، كأن يقول: في المسألة قولان أو ثلاثة؛ ولا يرجح.
– ثانيا: أنه وضع ضوابط وشروطا محددة للقياس، فلا قياس إلا حيث لا نص، ولا قياس إلا على أصل معين، ومن اجتهد على غير أصل فقد استحسن، «وإنما الاستحسان تلذذ». وبهذا رفض الاستدلال المرسل الذي يأخذ به الفقهاء قبله، خاصة الإمام مالكا، والاستحسان الذي أكثر منه أبو حنيفة.
– ثالثا : أنه جعل السنة من أوجه بيان القرآن، فمن أخذ بها فبفرض الله أخذ. وتكلم بإسهاب عن موقع السنة من القرآن، ووظيفة النبي  في البيان، وأكثر من ضرب الأمثلة.
ومما يترتب على أنها من أوجه بيان القرآن: عدها من قبيل التشريع العام، خلافا لمالك -مثلا –الذي يرى أن منها ما هو من قبيل التشريع العام، ومنها ما قاله النبي  أو فعله باعتباره إماما للمسلمين.
رابعا: أنه وضع لقبول خبر الواحد شروطا لم يكن الفقهاء قبله يحرصون كثيرا على وجودها في الحديث حتى يقبل، وأهمل شروطا أخرى كانت محل عناية الفقهاء قبله:
فمن أهم ما جعله شرطا ضروريا لقبول الخبر: الاتصال.
وكان الفقهاء قبله لا يحتفلون كثيرا بهذا الشرط، وكانوا يحتجون بالمنقطع إذا حصل الاطمئنان إليه. أي أنهم كانوا ينظرون إلى مقصود الشرط لا إلى الشرط نفسه. فإذا حصل المقصود وهو الاطمئنان إلى صحة الحديث فقد تم المطلوب.
ولذلك ترى مالكا في الموطأ يقول: بلغني أن رسول الله  قال كذا، ويحتج بذلك، وترى أبا حنيفة يقول في كتاب «اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى» -مثلا- بلغنا كذا، ويحتج بذلك. وكذلك كان يفعل ابن أبي ليلى في نفس الكتاب.
يقول ابن عبد البر في مقدمة كتابه “التمهيد” إن مذهب مالك في خبر الواحد «إيجاب العمل بمسنده ومرسله، ما لم يعترضه العمل الظاهر ببلده. ولا يبالي في ذلك من خالفه في سائر الأمصار..» إلى أن قال: «ألا ترى أنه يرسل حديث الشفعة ويعمل به، ويرسل حديث اليمين مع الشاهد ويوجب القول به..».
  وتقرأ في اعلام الموقعين قول ابن القيم: «وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس».
  وذكر الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل، فإنه لم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين.
  قال الزركشي معقبا على قول الطبري: «كأنه يعني أن الشافعي أول من أبى قبول المرسل». ثم قال الزركشي: «وليس كما زعم، فلا إجماع سابق..».
  وسواء أقر الزركشي بالإجماع أو أنكره، فإن ذلك لا ينقض ما قررناه، لأنه حتى على فرض عدم الإجماع، فإن التقليد السائد هو عدم الحرص على شرط الاتصال. قال الباجي: «..فأما إذا علم من حاله (أي الراوي المرسِل) أنه لا يرسل إلا عن الثقات، فإن جمهور الفقهاء على العمل بموجبه كإبراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، والصدر الأول كلهم. وبه قال مالك رحمه الله وأبو حنيفة، وسائر أصحاب الحديث من المتقدمين. وقال القاضي أبو محمد (يقصد القاضي عبد الوهاب): هو مذهب متقدمي أصحابنا…».
  ومن الشروط التي كان لها اعتبار عند فقهاء الأمصار قبل الشافعي في مقدمتهم مالك: أن لا يخالف الحديث عمل أهل البلد، أو أقضية الخلفاء الراشدين. وكان الفقهاء في الكوفة وغيرها لا يلتفتون إلى الحديث –ولو صح سنده- إذا لم يكن معروفا عند من سبقهم من فقهاء بلدهم.
  والشافعي لا يعتبر ذلك، فالحديث إذا صح لا التفات إلى غيره من أقاويل أئمة الصحابة، أو العمل، وإن تقرر عند الناس واستقام معاشهم عليه، فالحديث الصحيح عنده مكتف بنفسه: لا يقويه موافقة قول صحابي أو عمل أهل بلد له، ولا يوهنه مخالفتهما له، ولا مخالفة القياس، جليا كان القياس أو خفيا.
  فنظر الشافعي في خبر الواحد –سواء تعلق بالثبوت أو الحجية- يعتبر جديدا كل الجدة، فهو وضع شروطا تتسم بالانضباط والعموم. فهي شروط «محايدة»، موضوعية: لا تتأثر بشخص الفقيه أو الراوي، ولا بقيمتهما العلمية، ولا درجة ذكائهما وفطنتهما. وحتى شرط عدم الشذوذ والعلة قصد إلى أن يجعله عاما منضبطا؛ وإن لاحظ علماء الحديث بعد الشافعي أن انضباطه يصعب جدا.
  خامسا: أن الشافعي جعل اللغة العربية هي المفسر الحاسم للنصوص، وذلك بعد جمع هذه النصوص والموازنة بينها، أو دفع التعارض عنها. ولقد ألف حول هذا الموضوع كتابا خاصا سماه «كتاب اختلاف الحديث».
  ولذلك لا محل لأصل سد الذرائع -مثلا- أو اعتبار المآل، إذا تعارض ذلك مع الأصل اللغوي، أقصد: إذا كان الفهم جرى على غير عادة قانون اللسان العربي..
– 3 –
  إن المطلع على كتب الشافعي الأصولية والكتب التي رد فيها على الإمام مالك وفقهاء العراق يظهر له جليا قصد الشافعي من كل ما كتب: وهو أن يجعل من منهج الاستنباط منهجا منضبطا لا يتغير بتغير الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، وذلك حتى لا تبقى هناك أي فرصة لمن يريد أن يتلاعب بأحكام الدين.
  فنحن نعلم أن الشافعي قد عاش شطرا من حياته العلمية في العراق، حيث يسمح لأن تظهر في مجالس الدرس والجدل والمناظرة مدارس تذيع في الناس علما غير معتمد على الكتاب والسنة، وأقوال السلف، وإنما ترتكز على محض الرأي. بل إن الشافعي وجد من ينكر السنة –من حيث هي سنة- مصدرا للتشريع، ويدعو إلى الاقتصار على ما في القرآن باعتباره هو وحده كلام الله. ومنهم من ينكر السنة –عن عمد أو خطأ- لا بالاعتبار الأول، ولكن باعتبار أن ثبوتها ظني.. والشريعة: الشأن فيها أن تعتمد على نصوص قطعية الثبوت.
  يقول الشافعي بعد أن أصل أصلا-وهو أن القرآن لا ينسخه إلا القرآن والسنة لا تنسخها إلا السنة- «..ولو جاز أن يقال: قد سن رسول الله، ثم نسخ سنته بالقرآن، ولا يؤثر عن رسول الله السنة الناسخة، جاز أن يقال فيما حرم رسول الله من البيوع كلها: قد يحتمل أن يكون حرمها قبل أن ينزل عليه (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وفيمن رجم من الزناة: قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخا، لقول الله (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)، وفي المسح على الخفين: نسخت آية الوضوء المسح، وجاز أن يقال: لا يدرأ (أي الحد) عن سارق سرق من غير حرز، وسرقته أقل من ربع دينار، لقول الله (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)، لأن اسم “السرقة” يلزم من سرق قليلا وكثيرا، ومن حرز ومن غير حرز، ولجاز رد كل حديث عن رسول الله بأن يقال: لم يقله، إذا لم يجده مثل التنزيل، وجاز رد السنن بهذين الوجهين، فتركت كل سنة معها كتاب جملة تحتمل سنته أن توافقه..».
  وفي رده على من يفرق بين السنة التي قالها رسول الله  أو فعلها باعتباره إماما للمسلمين وبين التي قالها أو فعلها يريد بها التشريع العام، قال الشافعي: «..فأما أن يتحكم متحكم فيدعي أن قول النبي : أحدهما حكم والآخر اجتهاد، بلا دلالة، فإن جاز هذا خرجت السنن من أيدي الناس».
  فصمام الأمان -إذن- هو تأصيل الأصول وتطبيقها تطبيقا صارما على الفروع، وكل استثناء في التطبيق: يفتح المجال أمام المتلاعبين بالدين والعابثين بأحكامه.
  لكن هذه الصرامة في التطبيق مخالفة لطبيعة الفقه نفسه، لأنه متعلق بأفعال المكلفين، وهم ليسوا على درجة واحدة، وأحوالهم مختلفة، وأوضاعهم غير متشابهة دائما.
– 4 –
  نسنتنج مما سلف من حديث عن الشافعي ومنهجه ما يلي:
1 – أن الإنتاج الفقهي الشافعي أصوله مدونة في كتب الإمام الشافعي نفسه. فهو مرتبط ارتباطا وثيقا بالقواعد التي دونها صاحب المذهب نفسه.
2 – أن الشافعي سار في أصوله على خط عملي تطبيقي، فربط الفروع بأصولها. وكل أصل لا عمل تحته، وليس له واقع شرعي يعالجه، لا يهتم به، ولا يورده في كتبه الأصولية.
  إلا أن أتباع الشافعي، خاصة أبا الحسن الأشعري ومن تبعه من الأصوليين المتكلمين، لم يسيروا في تآليفهم الأصولية على الخط العملي التطبيقي الذي رسمه إمامهم.
  ولهذا فإن علاقة الكتب التي ألفت على هذا المنوال بالإنتاج الفقهي الشافعي علاقة غير وطيدة. ولقد عبر عن ذلك صراحة الجويني في كتابه البرهان.
  وذلك أنه كانت لهم مقاصد أخرى من التأليف: أهمها تأسيس المشروعية المعرفية والفلسفية للعقيدة الإسلامية وعلومها، ومنها علما الفقه وأصوله؛ بعد أن شاعت مظاهر الإلحاد والزندقة والتشكيك في الإسلام.
  وعلى هذا، فإن مشروع التجديد إذا أراد أن يؤسس مشروعيته بانتقاد هذه المصنفات، عليه أن يأخذ في الاعتبار طبيعة الظرف التاريخي الذي ألفت فيه، ومقاصد التأليف عند أصحابها، وأن يلاحظ أن التأـليف على هذا النمط صار تقليدا دأب عليه جل من ألف في الأصول بعد ذلك، رغم غياب المبررات وتغير الأحوال.. وإن كنت أحبذ أن يحصر المشروع اهتمامه في تجربة الشافعي، ويستفيد منها في ناحيتين على الأقل:
  الأولى: سلوك منهج عملي يحتفل بالأصول التي تحتها عمل.
  الثانية: وضع ضوابط تخرج كل متطفل على علوم الشريعة.
– 5 –
   أما فقه مالك فإنه يستمد مقوماته الأصولية من فتاوى الصحابة الذين استقروا بالمدينة وأقضيتهم. وتأثر في النشأة بفقهاء المدينة السبعة: كسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله.. وروعيت فيه أقضية الأمراء والقضاة والمفتين بالمدينة. فهو فقه مليء بالإشارات والإحالات والتضمينات.. لا تكشف إلا بالاطلاع على شروح الموطأ، خاصة كتابي الاستذكار والتمهيد لابن عبد البر.
ومع ذلك فإن المطالع للموطأ لا تخطئه السمات العامة لأصول مالك، من أهمها:
1 – أن الإمام مالكا يقدم السنة العملية على خبر الواحد.
2 – أنه  يراعي ما جرى به عمل الناس، واستقرت عليه أحوالهم. فكان من مقاصده في الاستنباط ألا تضطرب أحوال أهل المدينة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ووسيلة ذلك التزام ما استقام عليه أمر الناس، وتعود معاشهم عليه، ما دام أنه لم يخالف صريح النصوص الشرعية.
3 – أن له نظرا خاصا في قول الصحابي، ومعيارا متميزا في قبول الأخبار: ذلك أن مالكا كان يرى أن الأصل في قول الصحابي أو قضائه أنه سنة حتى يثبت العكس، وإن لم يصرح الصحابي برفعها إلى النبي . ولذلك فإنه كان يوازن بين قوله وبين سنة أخرى مصرح برفعها إلى النبي . مثاله: مسألة التمتع بالعمرة إلى الحج: فمالك أخذ بقول عمر بن الخطاب الذي نهى عنها، ولم يصرح عمر بأن رسول الله  نهى عنها، ورجحه على حديث سعد ابن أبي وقاص الذي قال: «صنعها (أي المتعة) رسول الله  وصنعناها معه». قال مالك: «..وعمر أعلم برسول الله  من سعد».
  فمالك اعتبر قول عمر من قبيل الحديث المرفوع. فإذا عارضه حديث مرفوع كحديث سعد، وازن بينهما، وقد ترجح لديه في هذه المسألة قول عمر.
4 – أن للإمام مالك نظرا خاصا أيضا في السنة المرفوعة إلى النبي ، فهو يميز بين السنة التي قالها الرسول  باعتباره إماما للمسلمين يسوس أمورهم ويدبر شؤونهم المدنية والعسكرية، وبين السنة التي قالها الرسول  أو فعلها، وهو يريد بها التشريع العام.
  وهذا واضح في حديث أبي قتادة ابن ربعي (وفيه: “من قتل قتيلا، له عليه بينة، فله سلبه”). وقال مالك بعد روايته هذا الحديث: «لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام. ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد..».
  والحديث عام، ولذلك قال الشافعي: «وبهذا نقول: السلب للقاتل في الإقبال (أي على العدو)، وليس للإمام أن يمنعه بحال؛ لأن إعطاء النبي  السلب: حكم منه…».
5 – أن الإمام مالكا كان يقيس على أصل معين، ويقيس على الأصول العامة الشريعة؛ ويستحسن إذا قبح القياس، ويراعي الذرائع سدا وفتحا..
6- أنه مع هذه الأصول التي ذكرنا أنه يراعيها، لا يطبقها تطبيقا صارما، فهو لا يأخذ بأصل ثابت مطرد في الاستنباط، إنما الملاحظ أنه يعتمد دراسة كل حالة على حدة، ومن جوانب مختلفة، ويعالجها بأكثر من أصل.
  وهذا هو جوهر الانتقاد الذي سجله الشافعي على مالك. ومما قاله: «..وما حفظت لك مذهبا واحدا في شيء من العلم استقام لك فيه قول، ولا حفظت أنك ادعيت الحجة في شيء إلا تركتها في مثل الذي ادعيتها فيه..». وأعطى الشافعي مثالا لذلك فقال: «وزعمت أنك تثبت السنة من وجهين: أحدهما: أن تجد الأئمة من أصحاب النبي  قالوا بما يوافقها، والآخر أن لا تجد الناس اختلفوا فيها. وتردها إن لم تجد للأئمة فيها قولا، وتجد الناس اختلفوا فيها».
هذا هو الأصل. ثم بين الشافعي أن مالكا لم يحترمه. وسرد طائفة من الأمثلة، منها قوله: «..تثبت تحريم كل ذي ناب من السباع، واليمين مع الشاهد، والقسامة، وغير ذلك..»، و«لا تروي فيه عن أحد من الأئمة شيئا يوافقه، بل أنت تروي في القسامة عن عمر خلاف حديثك عن النبي ..».
  ولسنا بصدد تصويب ما لاحظه الشافعي على مالك أو تخطئته، فلذلك فرصة أخرى. لكن المهم من ملاحظة الشافعي أن مالكا كان لا يطبق ما أصله على الفروع تطبيقا لا يعرف الشذوذ والاستثناء. بل العادة عنده أنه يؤصل الأصل ويخرج عنه. وهو في ذلك متبع لسَنن من كان قبله من الفقهاء، ومدرك أن هذا المسلك منسجم مع طبيعة الفقه وواقع القضاء.
– 6 –
نخلص من هذا كله إلى استنتاج ما يلي:
1 – أن أكثر كتب أصول الفقه المدونة لا علاقة لها وطيدة بالإنتاج الفقهي المالكي، وأنه لا بد من سلوك طرق أخرى للتعرف على أصول هذا الفقه.
  وأول هذه الطرق هو موطأ الإمام مالك نفسه.
  وثاني هذه الطرق هو المدونة الكبرى التي جمعها سحنون عن ابن القاسم تلميذ مالك الذي عاشره مدة طويلة، فهو أعرف الناس بأصول شيخه.
وثالثها هي شروح الموطأ، خاصة “الاستذكار” و”التمهيد” لابن عبد البر، و”القبس” لابن العربي، لكون الشارحين قصدا إلى بيان ذلك:
فابن عبد البر ينص في مقدمة كتاب الاستذكار على أنه قصد في هذا الكتاب –من جملة ما قصد إليه-: إلى شرح ما لمالك في الموطأ «من قوله الذي بنى عليه مذهبه، واختاره من أقاويل سلف أهل بلده، الذين هم الحجة عنده على من خالفهم..». وابن العربي يقول في خطبة كتابه “القبس”: «هذا (يقصد الموطأ) أول كتاب ألف في شرائع الإسلام، وهو آخره، لأنه لم يؤلف مثله، إذ بناه مالك رضي الله عنه على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه، وسترى ذلك، إ ن شاء الله تعالى، عيانا، وتحيط به يقينا عند التنبيه عليه في موضعه أثناء الإملاء بحول الله تعالى».
ورابعها: أقوال أئمة المالكية النظار، في مقدمتهم القاضي إسماعيل بن إسحاق (ت282هـ)، له طريقة في الاحتجاج للمذهب صارت مثالا يحتذى وطريقا يسلك.
ثم أصحابه من بعده، على رأسهم أبو الحسن عبد الله بن المنتاب البغدادي؛ له كتاب الحجة لمالك، وأبو بكر ابن الجهم (ت329هـ)؛ من كتبه “الحجة لمذهب مالك” أيضا. وأبو الفرج عمر بن محمد بن عمرو الليثي (ت330 أو 331هـ)، له كتاب “اللمع في أصول الفقه”. وأبو بكر الأبهري محمد بن عبد الله (ت375هـ)؛ شرح مذهب مالك، واحتج له، وكان القائم برأيه في العراق في وقته، وله تآليف في الأصول، منها مؤلف في إجماع أهل المدينة.
ثم أبو تمام علي بن محمد البصري، له كتاب في أصول الفقه. وابن خويز منداد محمد بن أحمد، له كتاب في أصول الفقه أيضا، غير أن عياضا نص على أنه لم يكن جيد النظر، ولا بالقوي في الفقه، وله «اختيارات وتأويلات على المذهب خالف فيها المذهب في الفقه والأصول، ولم يعرج عليها حذاق المذهب، كقوله.. إن العبيد لا يدخلون في خطاب الأحرار، وإن خبر الواحد يوجب العلم». لكن آراءه الفقهية والأصولية حاضرة في كتب المالكية؛ وحتى الباجي الذي تكلم فيه وقلل من شأنه، ونص على جهله بعلم الكلام أكثر النقل عنه في كتابه “إحكام الفصول في أحكام الأصول”، وصحح بعضا من آرائه.
  ثم خاتمة النظار بالعراق القاضي عبد الوهاب البغدادي (ت422هـ)؛ له كتاب الإفادة في أصول الفقه، وكتاب التلخيص فيه أيضا.
  والديوان الذي جمع أقوال هؤلاء الأئمة المالكية، هو كتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي.
  كما أن كتاب “الفروق” للقرافي يفيد إفادة كبيرة في التعرف على أصول الفقه المالكي.
2 – النتيجة الثانية أن مجال الاستفادة من منهج مالك في الاستنباط أوسع من غيره؛ لأنه منهج يتميز بالمرونة؛ وهذا يعطيه سمة القابلية للتجدد والتكيف على مر الأزمان، وفي مختلف الأعصار. ولأنه يعتمد على دراسة كل حالة على حدة، ومن جوانب مختلفة، وبأكثر من أصل، مما يترك مجالا للاستدراك، ومجالا للعفو، ومجالا للرخصة، ومجالا للإنشاء.. ولأنه فقه “مدرسة”: أعني أنه حصيلة لاجتهادات السابقين، بدءا بعمر، ومرورا بفقهاء المدينة، وانتهاء بابن شهاب الزهري، وجعفر، وربيعة؛ فهو بهذا كله فقه “تراكمي” يحافظ على مجهودات السابقين بصياغة جديدة تستجيب لسنن الله في التغير والتطور.
  لاحظ مثلا أن مالكا لا يرى القياس عملية «تقنية» «ميكانيكية»، يكفي للوصول إلى الحكم الشرعي المناسب أن تطبقه دون خلل في التطبيق. وإنما يعتبر عملية القياس هادية إلى محاسن الشريعة، ولذلك فإنه كان يقيس على أصل معين، وإذا كان واضحا جليا مطردا يحقق مقصود الشرع قدمه على خبر الواحد أحيانا. ولكنه قد يقيس على غير أصل معين (الاستدلال المرسل)، وقد يستحسن إذا قبح القياس. ومن الاستحسان مراعاة الذرائع سدا وفتحا. وهذا الصنيع يفيد كثيرا في عصرنا الحاضر، حيث العلاقات الاقتصادية والاجتماعية قائمة على قواعد من الغش والتدليس، وإبداع الصور التي ظاهرها السلامة، وباطنها الفساد والإفساد.
– 7 –
  في مقابل مدرسة المدينة التي أسسها مجموعة من الصحابة والتابعين أبرزهم عمر رضي الله عنه وفقهاء المدينة السبعة وورثها الإمام مالك، هناك مدرسة علمية بالكوفة تجد مصدرها الفقهي والأصولي في عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. لكن التأثير الأكبر كان لعبد الله بن مسعود، لتفرغه لنشر العلم، ولسبقه إلى الكوفة قبل علي بن أبي طالب.
  ومدرسة الكوفة تلتقي مع مدرسة المدينة في عنصر هام، وهو أن عبد الله بن مسعود كان يترسم خطى عمر بن الخطاب في الاجتهاد.
  أما أركان هذه المدرسة، فهم: علقمة بن قيس (ت62هـ) التلميذ الملازم لعبد الله بن مسعود، وعبيدة السلماني (ت72هـ)، ومسروق بن الأجدع (ت63هـ)، والحارث بن عبد الله الأعور، وشريح القاضي (ت76 أو 78هـ)، والأسود بن يزيد (ت75هـ).. ومن أهم من أخذ علم هؤلاء كلهم إبراهيم بن يزيد النخعي، الفقيه المحدث المشهور.
   ويستفاد من كلام لولي الله الدهلوي أن أبا حنيفة لم ينشئ مذهبه إنشاء، وإنما يمثل حلقة من حلقات مذهب مستقر الأصول ثابت النظريات، وهو فقه إبراهيم النخعي، ومن في طبقته. يقول ولي الله الدهلوي: «وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ألزمهم بمذهب إبراهيم وأقرانه لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه..» إلى أن قال: «وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا فلخص قول إبراهيم من كتاب الآثار لمحمد رحمه الله، وجامع عبد الرزاق، ومصنف أبي بكر ابن أبي شيبة، ثم قايسه بمذهبه، تجده لا يفارق تلك المحجة إلا في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرة أيضا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة».
   وهنا نجد عنصرا آخر هاما أيضا تلتقي فيه مدرسة أهل العراق مع مدرسة المدينة، وهو أن فقهها فقه «تراكمي» يحافظ على ما أسسه السابقون ويبني عليه..
   والشيء المقرر أن أبا حنيفة لم يكن يحرص على تذييل أقواله بأصولها. لكن بأيدينا اليوم مصادر للتعرف على هذه الأصول، زيادة على ما قرره ولي الله الدهلوي:
   أولها كتب أبي يوسف ناشر مذهب شيخه أبي حنيفة وناصره، وكتب محمد بن الحسن الشيباني.. خاصة كتاب “اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى” لأبي يوسف، ففيه إشارات هامة لأصول أبي حنيفة، ذكرها عنه تلميذه أبو يوسف الذي كان أيضا تلميذا لابن أبي ليلى. وهذا الكتاب جمع فيه أبو يوسف المسائل التي اختلف فيها أبو حنيفة مع قرينه ابن أبي ليلى. وتكتمل الفائدة من الكتاب إذا درس بتعليق الشافعي عليه، لأن الشافعي قد رواه في كتابه “الأم”، وعلق على كل مسألة فيه. فنحن في هذه الحالة نقارن بين أنظار ثلاثة أئمة: ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي. وكذلك كتاب الزيادات لمحمد بن الحسن، فإن الظاهر من نقول السرخسي وعبد الله الموصلي عنه أنه كان يذكر الفروع مع التعليل.. وكذلك كتاب الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن أيضا، يرد فيه على الإمام مالك، وفيه إشارات كثيرة للأصول التي بنى عليها الأحناف مذهبهم. وتكتمل الفائدة منه بدراسة الجزء الذي علق عليه الشافعي منه. وكذلك كتاب سير الأوزاعي لأبي يوسف، فإن الأوزاعي رد فيه على أبي حنيفة، فأخذه أبو يوسف فرد فيه عليه الأوزاعي رده على أبي حنيفة. وتكتمل الفائدة منه بدراسته بتعليق الإمام الشافعي، فإنه رد فيه على أبي يوسف رده على الأوزاعي..  وكذلك كتاب الآثار لمحمد بن الحسن، وقد وقفنا على أهميته من خلال النص الذي نقلناه عن ولي الله الدهلوي.
   وثاني هذه المصادر: الشروح على كتب محمد بن الحسن الشيباني الستة، وهي: المبسوط (أو الأصل)، والزيادات، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الصغير، والسير الكبير، لا سيما شروح كبار فقهاء الأحناف الراسخين في المذهب كالسرخسي في كتابه “المبسوط”.
   أما مصنفات الأحناف الأصولية المتوفرة بين أيدينا، فلا يمكن الجزم بأنها هي الأصول التي راعاها أبو حنيفة وأصحابه الآخذون عنه، خاصة أبا يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد.. يقول ولي الله الدهلوي: «واعلم أني وجدت أكثرهم يزعمون أن بناء الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله: على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه. وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم. وعندي أن المسألة القائلة بأن الخاص مبين ولا يلحقه البيان، وأن الزيادة نسخ، وأن العام قطعي كالخاص، وأن لا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد به باب الرأي، وأن لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلا، وأن موجب الأمر هو الوجوب البتة، وأمثال ذلك: أصول مخرجة على كلام الأئمة، وأنه لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه، وأنه ليست المحافظة عليها، والتكلف في جواب ما يرد عليها من صنائع المتقدمين في استنباطهم، كما يفعله البزدوي وغيره: أحق من المحافظة على خلافها والجواب عما يرد عليه». ثم أعطى أمثلة لذلك.
   معنى هذا أن نسبة قسم كبير من هذه الأصول المدونة إلى أئمة الأحناف: أبي حنيفة والآخذين عنه، إنما هي نسبة تقريبية مبنية على الظن الراجح أحيانا، وعلى التخمين أحيانا أخرى.
   بعبارة أخرى: هي محاولة من الأتباع لرد كل قول من أقوال أئمتهم إلى أصل، لكن قد يكون الإمام منهم قد راعى أصلا آخر.
– 8 –
   نخلص من كل ما سبق من حديث عن مذهب أبي حنيفة إلى استنتاج ما يلي:
أولا : أن مذهب أبي حنيفة هو مذهب “مؤسسة”، بدأه عبد الله بن مسعود خاصة، وعلي بن أبي طالب، وتراكم الاجتهاد إلى أن وصل إلى أبي حنيفة.
ثانيا: يمكن أن نقول مطمئنين إن فقه أهل العراق وفقه أهل المدينة، وإن ميزت بينهما فروق كثيرة، تجمعهما سمات مشتركة، عمِل الشافعي بعد ذلك على نقدها لتقويضهما، وهذه السمات هي:
– مراعاة قول وعمل من سبق من فقهاء البلد، أي أن فقههما: فقه “المؤسسة” و”الجماعة”، تطور جيلا بعد جيل.
– التوسع في الاستحسان والقياس على غير أصل معين. ولقد ألف الشافعي كتابا في إبطال الاستحسان، وكرر ذلك كثيرا في كتاب “الرسالة” وغيرها، وهو يعني إبطال هذا النوع من الاستدلال.
– المرونة في تطبيق الأصول على الفروع.
– مرونة الشروط الموضوعة لقبول الأخبار وردها، فقد يُردّ حديث صحيح الإسناد، وقد يقبل حديث منقطع، إذا حصل الاطمئنان إلى صحته.

5

– يمكن أن نميز في تاريخ أصول الفقه بين ثلاث مراحل:
المرحلة الأولي: من عهد فقهاء الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى عهد الشافعي.
المرحلة الثانية : من عهد الشافعي إلى عهد أبي الحسن الأشعري.
المرحلة الثالثة: ما بعد أبي الحسن الأشعري، وهي مرحلة الأصوليين المتكلمين.
والفترة التي يمكن أن نستفيد منها هي الفترة التي سبقت أبا الحسن الشعري، وهي فترة منهج فقهاء الاجتهاد في التأليف الأصولي، وكذلك يمكن أن نستفيد من الكتب التي سارت على نهجهم بعد ذلك.
– وهكذا يمكن أن نستفيد من تراث فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، من أمثال عمر وعلي وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، ومن تراث التابعين كالفقهاء السبعة بالمدينة وإبراهيم النخعي بالكوفة.
وهذه الاستفادة تكون في المنهج دون الموضوع، لأن الموضوع يختلف حتما من عصر إلى عصر ومن مكان إلى آخر.
ومصدر هذه الثروة هي المصنفات، كمصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، وبعض كتب أمهات الحديث كصحيح البخاري، والسنن الكبرى للبيهقي، وكذلك كتاب التمهيد لابن عبد البر، والمحلى لابن حزم.
– كذلك يمكن الاستفادة من فقه مالك وريث فقه عمر، وعلماء المدينة من بعده، ومن المؤلفات الأصولية التي اهتمت بتأصيل مذهبه، اعتمادا على آراء الأئمة النظار وأركان المذهب وأتباعه..
– أيضا يمكن أن نستفيد من اجتهادات فقهاء الأمصار الآخرين الذين اندثرت مذاهبهم كالإمام الأوزاعي، والثوري، وابن شبرمة، وجابر بن يزيد البصري، وابن أبي ليلى..
وأخص بالذكر هنا في هذه الخاتمة ابن أبي ليلى لاعتبارين:
الأول أن هذا الإمام كان قاضي الكوفة ومفتيها بضعا وثلاثين سنة.
والثاني: أني عشت مع فقهه، ومنهجه في الاجتهاد ما يزيد عن ثلاث سنوات. فلقد تبين لي خلال هذه المدة أن ابن أبي ليلى ترك لنا ثروة هامة في الأصول والفتاوى والأقضية:
فكان يتوسع في القياس: فيقيس على أصل ثبت بالإجماع، أو ثبت بالقياس على أصل آخر، أو على أصل معدول به عن سنن القياس، ويقيس على الأصول العامة للشريعة (الاستدلال المرسل)، ويثبت الحدود والكفارات بالقياس، وقد يلحق فرعا بأصل بمجرد الشبه. وكان يأخذ بالمصالح المرسلة، ويستحسن لأجل العرف أو ما عليه أهل الكوفة، ويتوسع في الأخذ بسد الذرائع توسع مالك أو يزيد عليه. ويعتبر التهمة في الأحكام، وكان لا يعير اهتماما لما يسمى بأدب القاضي إذا كان ذلك يعرقل السير العادل للقضاء، وكان يأخذ بعين الاعتبار عند القضاء أحوال الناس وطبقاتهم، وعاداتهم وعوائدهم.
وكان يحدث من الأقضية بقدر ما يحدث الناس من الفجور, وهكذا نجده يحدث في القضاء «بدعة حسنة»، وهي أنه أول من سأل البينة على كتاب القاضي إلى القاضي، فأعجب ذلك القاضي البصري سوار بن عبد الله فقلده.
– جماع القول هنا إن فقهاء الأمصار من غير الأئمة الأربعة تركوا لنا ثروة فقهية وقضائية وأصولية هامة، الاعتناء بها ليس أقل شأنا من الاعتناء باجتهادات الأئمة الأربعة, وكلنا يعرف القولة المشهورة عن الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.
وبصرف النظر عن صحة مقارنة الشافعي بين مالك والليث أو خطئها فإن في كلامه هذا دلالة على أن للمذاهب المندثرة قيمة علمية كبيرة يجب أن نأخذها بعين الاعتبار في مشروع التجديد.
فشرط التجديد قتل القديم بحثا.
– وحتى لا ينخرط في مشروع التجديد من هو غريب عن علوم الشريعة، لا بد من الاستفادة من تجربة الشافعي مع أهل الأهواء والبدع، ومن يتستر بثوب الإسلام ليحاربه من الداخل:
فاعتبار اللغة في تفسير النصوص، وفرض شروط علمية على المتكلم في علوم الشريعة، واعتبار العدالة في المتكلمين باسم الدين، كلها ضوابط تحمي الشريعة من كل من يركب مطية الاجتهاد بغرض إفساد منهج تفسير النصوص و«تفكيكه»، حتى لا تصبح النصوصُ الحاملةَ للقيم، والراعيةَ للسلوك الإسلامي الذي ارتضاه الله لعباده، فتتخلخل الثوابت، ويصبح كل شيء في الدين قابلا للنقاش والأخذ والرد..
   إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي، تحقيق: عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، ط1: 1407هـ/1986م،
   آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، مكتبة التراث الإسلامي (سوريا)، ودار الكتب العلمية (لبنان).
   أصول ابن أبي ليلى من خلال آرائه الفقهية»؛ رسالة دكتوراه دولة للباحث، مرقون بدار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط، المغرب.
   أصول السرخسي: دار المعرفة، 1973م/1393هـ.
   الأم للشافعي، دار الفكر، 1410هـ/1990م.
   اعلام الموقعين لابن القيم: تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار إحياء التراث العربي، لبنان.
   الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، باعتناء: د محمود حامد عثمان، دار الحديث، القاهرة.
   الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف،لولي الله الدهلوي، باعتناء عبد الفتاح أبي غدة، دار النفائس. 1406هـ/1986م.
   الاختيار لتعليل المختار،لعبد الله الموصلي الحنفي، دار المعرفة، 1975م/1395هـ.
   الاستذكار لابن عبد البر: تحقيق: قلعجي، دار الوعي، القاهرة، ط1: 1414هـ/1993م. وكذلك طبعة دار الكتب العلمية 1421هـ/2000م.
   البحر المحيط، للزركشي، وزارة الأوقاف بالكويت. ط 1: 1409هـ/1988م.
   الجامع الصحيح، للبخاري.
   التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ط2: 1408هـ/1988م.
   البرهان لإمام الحرمين الجويني، تحقيق عبد العظيم الديب، دار الأنصار بالقاهرة، ط2: 1400هـ.
   الرسالة، للشافعي. بتحقيق أحمد شاكر، دار الفكر 1309هـ.
   الطبقات في تراجم الحنفية للتميمي: تحقيق: عبد الفتاح محمد لحلو، القاهرة، ط: 1390هـ/1970م.
   العوائد في فقه الشافعي: قضية تأثر الشافعي بالبيئة المصرية» للباحث، مجلة “الواضحة” العدد 17 “سلسلة جديدة” (دار الحديث الحسنية) 1424هـ/2003م.
   القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لابن العربي، تحقيق: د محمد ولد كريم، دار الغرب الإسلامي، ط1 : 1992.
   المغني لابن قدامة: عالم الكتب.
   الموطأ للإمام مالك، برواية يحيى الليثي، باعتناء محمد فؤاد عبد الباقي. دار الحديث، مصر.
   تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين:  الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978م، وكذلك طبعة جامعة محمد بن سعود.
   ترتيب المدارك للقاضي عياض، وزارة الأوقاف،المغرب.
   تفسير ابن كثير دار الرشاد الحديثة، البيضاء، المغرب، 1410هـ/1989م.
   توالي التأنيس لمعالي محمد بن إدريس لابن حجر، تحقيق: أبو الفدا عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، 1986م.
   سنن الدارقطني:باعتناء السيد عبد الله هاشم يماني، دار المعرفة، بيروت: 1386هـ/1966م.
   طبقات الفقهاء للشيرازي، تحقيق: د. علي محمد عمر، مكتبة الثقافة الدينية، ط1: 1418هـ/1997م.
   مجموعة رسائل في علوم الحديث للنسائي، تقديم الشيخ جميل علي حسن، مؤسسة الكتب الثقافية.
   نيل الأوطار، للشوكاني، دار القلم.