الرئيسية / عن الامتداد الفكري لابن رشد: في الأندلس: عرض كتاب الخطابة للحجاج بن طملوس.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : عن الامتداد الفكري لابن رشد: في الأندلس: عرض كتاب الخطابة للحجاج بن طملوس.

الكاتب(ة) : د. إبراهيم مشـــــــــــروح

يواصل الباحث والمحقق مارون عواد إصدار ثمرات مجهوداته العلمية الجادة؛ فبعد أن أخرج سنة 2002 تلخيص كتاب الخطابة لأبي الوليد بن رشد في ثلاثة مجلدات تضمنت النص محققا ومترجما إلى الفرنسية بمقدماته وتعليقاته()، نراه يقدم سنة 2006 على نشر عمل من نفس المستوى للطبيب والمنطقي الأندلسي الحجاج بن طملوس (حوالي 1164-1223م) موسوم بكتاب الخطابة.()
ولعل مسألة علاقة ابن طملوس بأبي الوليد بن رشد (595ه/1198م)، وتلك المقدمة التي وضعها لكتابه المعروف في أوساط الباحثين بـالمدخل لصناعة المنطق هما السبب في شهرته على نحو امتد إلى فضاءات معرفية خارج مجالي المنطق والفلسفة. وهذا الكتاب الأخير الذي اعتاد الدارسون على العودة إلى مقدمته، عند كلامهم في المسألة الأولى (مسألة العلاقة بأبي الوليد) كان قد نُشر جزء منه مرتين على الأقل: الأولى في بداية القرن الماضي (1916)، على يد المســـتعرب الإســـباني أســــين بلاثيوس؛ والثانية في بداية هذا القرن (2006)،
حيث أُعيد طبع الكتاب في نشرة مغربية لا تليق بمقام ابن طملوس؛ ذلك لأنها تعاملت مع الكتاب وصاحبه وكأنه لم يكتب عنهما شيء منذ أن كتب بلاثيوس مقدمته لنشرته المنوه بها، فكان أن استعادت ملاحظاته دون أدنى انفتاح عن الدراسات التي أنجزت في الموضوع. كما جاءت النشرة مليئة بالأخطاء المطبعية وغيرها، إضافة إلى أن الهوامش التي وضعها “المحقق” تربك القارئ أكثر مما تعينه على استجلاء معانيه أما أهمية منجز مارون عواد فتكمن أساسا في كونه أخرج عملا متكاملا يضع بين يدي القراء بالعربية وبغير العربية كتابا يحوي بين دفتيه نشرة نقدية (تحقيقا) وترجمة فرنسية لنص الخطابة لابن طملوس الذي لم ينشر من قبل، وظل مجهولا إلى الآن، كما وضع له مقدمة مطولة تكشف عن مسائله الأساسية، وتموضعه داخل التقليد الذي يعد هذا الكتاب تتويجا له، وكذا ملخصا تحليليا، وكشافات مساعدة.
وكما يظهر فالكتاب- أعني كتاب الخطابة- هو أيضا جزء من المجموع الذي يسمى المدخل لصناعة المنطق، والذي يشتمل على أجزاء أخرى لم تنشر بعد ونشرت فصوله الأولى. وقد اعتمد عواد في تحقيقه نص الخطابة لابن طلموس على المخطوط الوحيد لكتاب المدخل لصناعة المنطق المحفوظ بمكتبة الأسكوريال في مدريد ( المسجل تحت رقم 649)، كما أنه استعان أيضا بنص تلخيص كتاب الخطابة لابن رشد، وهو أمر له كبير دلالة في هذا السياق.
ولابد من الإشارة إلى أن نشر مارون عواد لكتاب الخطابة ليس أمرا عارضا في حياته العلمية، بل هو داخل في سياق انشغالاته الفكرية، فالرجل يُعدّ أحد المتخصصين في صناعة الخطابة عند المسلمين بحثا وتحقيقا، وهذا ما عكسه المدخل الذي قدم به الكتاب؛ إذ جاء غنيا بالمسائل التي عرفتها الخطابة العربية الإسلامية منذ الترجمات الأولى لنص الريطوريقا حتى ابن طملوس مرورا بالفارابي (339ه/ 950م) وابن سينا (428ه/1037م) وابن رضوان (453ه/1061).
ولا يجب أن نتعجب من غنى وتعقيد المكتبة الخطابية لابن طملوس. وهو غنى وتعقيد لا يختلفان في شيء عن ما أثبته محمد عروة في إحدى دراساته بخصوص شرح أرجوزة في الطب لابن سينا: حيث تبين أن ابن طملوس قد استعمل في شرحه ذاك لا فقط كتاب القانون في الطب للشيخ الرئيس بل أيضا كتاب الكليات في الطب لابن رشد. وكذلك الأمر في ما يتعلق بقاعدة المعطيات التي تقف خلف كتاب الخطابة لابن طملوس؛ فالأمر يتعلق بتراث كامل من الشروح التي خلفها متقدموه.
وبهذا المعنى تمكن مارون عواد من فك العزلة الثقافية عن كتاب الخطابة لابن طملوس؛ بحيث وضعه في سياقه العام بوصفه قراءة واستئنافا للقول المنطقي والخطابي في الأندلس. فقد أظهر لنا قيمة المنجز الطملسي وكذا حدوده من خلال الكشف عن قاعدة البيانات التي تقف وراء خصوبة نص كتاب الخطابة. فابن طملوس لم يتعلم المنطق وباقي الصنائع منعزلا على طريقة حي بن يقظان، بل اطلع على تقاليد معرفية كانت إمكانية الإطلاع عليها متاحة له. فكان أن أغنى ثقافته المنطقية والفلسفية بقراءة النصوص الفارابية والسينوية والرشدية، كما أخصب ثقافته الطبية والعلمية بنصوص ابن سينا وابن رشد. أما تصريحه بمصادره في هذا التكوين وبمعلميه فتبقى مسألة لها دواعي أخرى جعلته يَطْمَس بعضها ويُظْهر البعض الآخر في مقدمته المشهورة لكتاب المدخل لصناعة المنطق.
ومن هنا فأهمية نشر كتاب الخطابة تقوم أيضا على انتظام الكتاب في سياق إشكالية العلاقة بين صاحبه وأستاذه المفترض أبي الوليد. فقد عدّ مارون عواد الكتاب حلقة جديدة في مسلسل الحجج التي تسعى إلى إثبات وجود هذه العلاقة. وقد خصص فقرات وعقد مقارنات لأجل إثبات أن ابن طملوس في كتاب الخطابة كان تلميذا لفيلسوف قرطبة (ابن رشد)، عكس ما تقوله المقدمة التي ألمعنا إليها آخر الفقرة السابقة. فكتاب الخطابة الذي هو جزء من هذا المدخل يكاد يكون شرحا لتلخيص كتاب الخطابة لابن رشد. ويضع مارون عواد هذه الحجة النصية التي يقدمها للقارئ إلى جانب ما كان قد أثبته الباحثان عبد العلي جمال العمراني ومحمد عروة في دراستين مستقلتين عن تلمذة ابن طملوس لابن رشد.
يتبين لنا، من خلال عرض مارون عواد، أن ابن طملوس لم يطلع مباشرة على كتاب الخطابة لأرسطو ولا على ترجمته العربية، بل كانت بين يديه مصادر أخرى اعتمدها مدخلا مُعينا على كتاب المعلم الأول؛ ولا شيء يشير إلى أن الشرح الكبير لكتاب الخطابة للفارابي كان أحد هذه المصادر، بينما كان تلخيص كتاب الخطابة لابن رشد هو الوسيط الرئيس بينه وبين كتاب الخطابة. فوجود مقتطفات (جمل كاملة وترسانة مفهومية وأمثلة…) من التلخيص ضمن كتاب الخطابة لابن طملوس تشهد لذلك. ولم يكتف ابن طلموس بالاستعانة بكتاب تلخيص كتاب الخطابة لابن رشد بل اعتمد أيضا على شروح عربية أخرى على كتاب الخطابة لأرسطو من مثل كتاب الخطابة للفارابي (وهو غير الكتاب المفقود الذي ألمحنا إليه) وكتاب الخطابة من موسوعة الشفاء لابن سينا، فضلا عن مختصر الخطابة لابن رشد.
كتاب الخطابة للفيلسوف والطبيب الأندلسي الحجاج بن طملوس هو إذن ثمرة تقليد من الشروح الفلسفية التي عملت بالعربية على كتاب الخطابة لأرسطو. وهو تقليد لا نجد له مثيلا لا في الامتداد ولا في الغنى. ومن أجل القيام بتوطئة لصناعة الخطابة، فقد عمد ابن طملوس إلى استغلال لا فقط تلخيص كتاب الخطابة لأستاذه ابن رشد، بل كتابات أخرى من قبيل مختصري ابن رشد والفارابي في الخطابة وشرح ابن سينا لهذا الكتاب. والحالة هذه، فقد كان الرجل يسعى إلى تحقيق هدف مزدوج: من جهة كان يود عرض موقف يأخذ بعين الاعتبار مجموع الاستدلالات الخطابية (وخاصة بعض الأقيسة الاقترانية التي لم يدرسها ابن رشد في تلخيصه لكتاب الخطابة). ومن جهة أخرى كان يروم أن يظهر، أكثر مما فعل أستاذه ابن رشد، منفعة الخطابة في فاعلية الأطباء، وكذا في مجتمع يلعب فيه الوحي والعلوم الشرعية دورا مركزيا. وهكذا فقد دفع به هذا الهدف الأخير إلى أن يعطي الشهادة، التي تحظى بأهمية كبرى في تاريخ رواية الوحي ونقله وفي قواعد الفقه التي تتأسس عليها، نفس القيمة الإقناعية التي للضمير (القياس الخطابي).
لكن الواقع هو أن اعتماد ابن رشد مرجعا في قراءة أرسطو كان إلى حدود صدور كتاب عواد أمرا غير واضح تماما؛ إذ غالبا ما يرجع الدارسون إلى النصوص المنطقية المشرقية للبحث عن أصول قراءات ابن طملوس. وفعلا فقد بدت استفادة ابن طملوس من الفارابي واضحة بعد أعمال أثين بلاثيوس وعبد العلي العمراني جمال. فقد أثبت الأول من أن جزءا من المدخل لصناعة المنطق يستعيد الفصل الثالث من كتاب إحصاء العلوم للفارابي؛ بينما أظهر الثاني أن القسم المتعلق بالمقولات يحذو حذو النعل بالنعل كتاب المقولات للفارابي (العمراني). أما بخصوص ابن رشد فقد كان أثين بلاثيوس قد كتب في بداية القرن العشرين أن المشائية الرشدية لابن طملوس محتشمة ومترددة إلى درجة أنه آثر في ما يتعلق بالمنطق أن يستعمل كتب الفارابي لقراءة أرسطو وتأويله على أن يلجأ إلى شروح الفلاسفة الأسبان، كابن باجة وابن رشد أستاذه. غير أن الفحص المتأني لفصل آخر من كتاب المدخل؛ أعني كتاب الخطابة، أظهر أن ابن طملوس يلخص تلخيص ابن رشد لكتاب الخطابة لأرسطو.
ومن هنا فاعتماد ابن طملوس تلخيص كتاب الخطابة لابن رشد يقوم حجة على أنه كان تلميذا لأبي الوليد. كما أن رجوعه إلى شروح أخرى وضعها سابقون على أبي الوليد يوحي أيضا بأن مؤلف كتاب الخطابة لم يكن مجرد مقلد أعمى épigone servile لابن رشد كما سنشير في هذه العجالة:
يعد كتاب الخطابة لابن طملوس مدخلا مهما لصناعة الخطابة، وتوطئة لمن يريد تعلم هذه الصنعة على نحو أكمل وأكثر تقدما وإن لم يستوف جوانب أخرى من صناعة الخطابة. وقد كشف مارون عواد، من خلال التحليل المذهبي للنص (الغرض من كتابته والمنهج المتبع فيه)، أمرين آخرين يظهران جدة منجز ابن طملوس وخروجه عن الخط الرشدي في النظر إلى الخطابة، ويتجلى ذلك في:
أولا: تقويمه للطرق والإجراءات الإقناعية بحسب المعايير المعمول بها في علوم الشريعة والعقيدة الإسلاميين.
ثانيا: فك الارتباط بين السياسة وصناعة الخطابة، وهو أمر خرج به ابن طملوس عن ما جرت به عادة الشروح العربية السابقة لكتاب الخطابة. فإذا كنا نجد في هذه الشروح تصريحات عامة ومبدئية بخصوص المنفعة السياسية لفن الخطابة وحول طبيعة العلائق التي تجمع بين الخطابة والسياسة، فإنه لا أثر لكل هذه الأمور في كتاب ابن طملوس.
وهذا التحييد السياسي جعل هذه الصناعة لا تخدم السياسة بالقصد الأول، بل تخدم مجموع الصنائع الأخرى، كأن نقول صناعة الطب مثلا، أو بالأحرى مخاطبة الطبيب لمرضاه أو لغير الأطباء؛ وتنفع أيضا في تعليم الحقائق الميتافيزيقية لعامة الناس… وغيرها من الأغراض التي تتوافق- في نظرنا- مع العملية التي قام بها الشراح العرب عندما أقدموا (بتأثير من التقليد السكندري) على إدخال الخطابة والشعر ضمن الصنائع المنطقية.
هناك نوع من الإجماع بين الباحثين على أن نشر النصوص التراثية غالبا ما يؤدي إلى مراجعة الأحكام والتأويلات التي تكون قد بنيت على قرائن وشواهد غير مباشرة. لذلك فتحقيق نص علمي ونشره يأتي دائما بالجديد. وجملة القول إن نشر كتاب الخطابة لابن طملوس ووضعه بين أيدي الباحثين يعدان فرصة حقيقية للعمل على:
مراجعة بعض الأحكام السائرة حول بقاء كتب ابن رشد المنطقية كتبا منعزلة عن الثقافة الإسلامية، وحول انقلاب وتنكر الرجل لأستاذه ابن رشد لحساب الغزالي؛
وإنزال ابن طملوس المنزلة التي تليق به كامتداد متجدد للفكر الأندلسي عامة وللفكر الرشدي خاصة.

IBN TUMLUS : Le livre de la rhétorique

صورة الغلاف