الرئيسية / قراءة في كتاب “إثارات تجديدية في حقول الأصول”.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : قراءة في كتاب “إثارات تجديدية في حقول الأصول”.

الكاتب(ة) : د. إبراهيم مشـــــــــــروح

إشارة: “لست أُحاذر إثبات حكم لم يدوّنه الفقهاء، ولم يتعرّض له العلماء؛ فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يُلفى مدوَّنا في كتاب، ولا مُضمِّنا لباب. ومتى انتهى مَساق الكلام إلى أحكام نظمها أقوامٌ، أحلتها على أربابها وعزيتها إلى كُتّابها. ولكني لا أبتدع، ولا أخترع شيئا، بل ألاحظ وضع الشرع وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه”.
إمام الحرمين أبو المعالي الجويني
غيات الأمم في التياث الظُّلَم()
إثارة
لن نعدم دليلا على ما ندّعيه إن نحن نقلنا ما قيل في حقّ إمام المدينة إلى ما صار حقيقا أن يُقال في حقِّ الفقيه المجدِّد والمجتهد المؤسِّس؛ ذلك أن الباحثين- المتشوِّفين إلى عالمٍ يستلهم الإيمان ويُعمل الفكر، في زمنٍ تعارضت فيه آراءُ المحققين، وتضاربت فيه فتاوى المفتين- يوشكون أن يضربوا اليوم  في بطون سريع وسائل النقل العصرية المتاحة، أو يبحروا في شبكات حواسبهم السبّاحة على أن يحصلوا على مدقِّق يصقل المنهج، ويجدِّد الفهم، فلا يظفرون سوى بأولي بقيةٍ ينفرون إلى إغاثة الأمة الإسلامية، وينهضون بتجديد أمرها لرفع تحدِّي العصر، متواصين بالكدِّ والاجتهاد، لا يتراخون ولا يتوانون في سبيل ذلك ؛ ومن هؤلاء العلامة الجليل عبد الله بن بيه، فقد طلع علينا بكتاب في غاية الجدّة أفرده لمسألة التجديد، ويتعلق الأمر بـكتابه الصادر تحت عنوان “إثارات تجديدية في حقول الأصول”.
جمع هذا الكتاب بين التَّفكر والتَّمنطُق، كما يجمع بين التَّفقُّه والاجتهاد، لذلك سنعمل، في هذا المقال، على استجلاء  مظاهر هذا الاشتغال الذي يتناول قضايا المنهج والحقيقة المرتبطين بمقتضيات التجديد من خلال الطرح الفريد الذي يتمثل في ما اعتبره العلّامة الجليل عبد الله بن بيّه ‘إثارات’ لما تحمله الإثارة من شحنة دلالية قويّة ذات وقع في الأنفس والعقول، فهي ‘تقرع الأذهان’ بـــــ‘الإشارات’ و‘التنبيهات’، وتؤثر في الأنفس بإيقاظ الهمم، لتحضّ على ترشيد النظر وتسديد العمل؛ ولما كانت الإثارة تفسح دون التّفكُّر أمْداءَ جديدة فإنها تجدِّد الفهم بما يستضيء به هذا الفهم من استشكالات واستدلالات، إذ من لا يستشكل ولا يستدل فليس له من سبيل إلى التجديد، وليس له من طريق يجترحه إلى الترشيد المطلوب في هذا المنعطف التاريخي المشهود للأمة المسلمة.
لقد جاء الكتاب، كما قلنا، بطريقة في التناول غير مسبوقة، فقد انبنى على مقاربة تنطلق من الاستشكال وتعتمد الاستدلال وفق بنية منطقية محكمة نبرز، فيما يلي، بعض مكوناتها:
السؤال والانفتاح
ليس السؤال مجرد طلب يتوجه نحو غاية، فهو ليس قصدا يتغيا الظفر بالسؤل، أي المرام أو المطلوب، بل السؤال بوصفه استفهاما، أي انفتاحا على الفهم وإضاءة له تستحث الفكر وتحضه على اجتراح سبل غير مطروقة، ومن هنا يكون السؤال، على حدِّ قول الفيلسوف الألماني غادامير رائد الهيرمينوطيقا الفلسفية، هو ‘البنية المنطقية للانفتاح’، فهو يشكل بهذا التوصيف المظهر الأمثل للفكر، إذ من يتساءل إنما يفتح أفقا جديدا لأنه لا يطلب ‘ السُّؤْل’ أو المرام فحسب، بل إنه إذ يستفهم  ويدعو إلى التفكير الذي يضيء الأفق البشري، ذلك أن الفكر إنما يستنير بالتساؤل؛ وهذا المظهر ‘التِّسآلي’ يحضر بكثافة في مقاربة العلامة بن بيه في إثاراته التجديدية، فقد انطلق من تساؤلات حكمت خطّته المنهجية وتحكمت في حقيقته (=مادته) العلمية.
يلمس القارئ اللّبيب أن العلامة يعي جيدا دور السؤال، لذلك تحرك في نطاقه ووفق منطقه فجاءت مقاربته مستشكلة ومستدلة وبيان ذلك أنه فرق بين ‘الدعوة’ إلى التجديد التي تظل مشروعة وبين ‘دعوى’ التجديد التي تحتاج في نظره إلى برهان مما سوّغ له أن يتساءل عن الحاجة إلى الجديد بصورة عامة، وعن التجديد في أصول الفقه بصورة خاصة.
لم “يستثر” العلامة بن بيه المعنى فحسب، بل إنه استثار الفكر حين انطلق من السؤال، ويلاحظ أن طريقته في المعالجة غير مسبوقة، ذلك أن أعز ما يطلب في الكتابات التي تتولى النظر في قضايا الأصول، قلما تعتمد السؤال وتسعى إلى إعمال النقد والمراجعة في سبيل توجيه وترشيد الفهم الذي يتوسط الوحي الإلهي والواقع الحي.
لقد ربط العلامة بن بيه سؤال التجديد بمدى الحاجة إليه حتى تتأتى مشروعيته، فقد ظن ‘أهل الجمود على الموجود’ أن الفقه ولد كاملا، تماما مثلما ظنّ البعض أن المنطق ولد كاملا، والحال أن القوانين إنما ترسخ بإتباع القاعدة (فتغنشتاين)، وقد تتوسع وتتجدد أو تتجاوز بما يطرأ من تحول في التفاعل الحاصل بين الفهم البشري والواقع الموضوعي.
لا يتعلق داعي التجديد بالحقيقة فحسب بل يتعدّاها إلى المنهج، فهناك ملحظ تجديدي رائد يلحظه من يتعقب التدليل الذي يجريه العلامة لدعوى التجديد، فهو لا يرى، بخلاف الجم الغفير من الفقهاء، ضيرا في “إضافة ما توصلت إليه المعارف البشرية في اللسانيات والهيرمينوطيقا”(ص.161)، كما لا يرى ضيرا في أن يتغذى المجدد المجتهد ويتشبع بالمنطق حتى يكون التعليل تعقيلا منطقيا بغية “إثبات التعليل لنصوص الشريعة، وغرس شجرة التعليل في تربة المقاصد وسقيها بماء المنطق”، وبهذا ينفلت العلامة من قبضة التقليد الذي يشكل “البنية الاستباقية للفهم” حتى أنه يأنس بالخطاب الفلسفي ليتغذى من تعاطي الفيلسوف مع صناعة المفهوم، فلا يستوحش النظر القائم على التفلسف مع القدرة العالية على الجمع بين التّفقُّه والتّفكُّر [التفلسف].
لقد تفطن العلامة بن بيه إلى أمر غير مستثار لدى النظار والفقهاء المعاصرين، ويتعلق الأمر بعلاقة المفاهيم بالواقع، وهو ما جاء في معالجته لمسألة “صناعة المفاهيم بين النص والواقع”، ويمثل هذا الملمح عند شيخنا رؤية مجددة ثاقبة، فهو يعي شأنه شأن كبار الفلاسفة المعاصرين أننا ندرك العالم من خلال المفهوم الذي يحمل شحنة دلالية تحيل على الواقع، وشحنة ذهنية تحيل على الفهم؛ وإذا كانت أحكامنا إنما هي فروع من تصوراتنا، فإن صيقل التصور الحاصل في الأذهان يتوقف على حسن بناء المفاهيم بوصفها معاول التفكير:‘‘ إن مسألة صنع الأداة هي هنا القاعدة أو المفهوم الكلي، وهو أهم وسيلة لإنتاج فكر أو إصدار حكم في قضايا الواقع وفروع الشرع والقانون وتفاريع الحياة وشعاب شئون المجتمعات، ولهذا فإنبؤرة تجديد ومنبت أرومته إنما تكون في صنع هذه المفاهيم صياغة مستقلة مبتكرة ومخترعة، أو مراجعة المفاهيم المعتمدة’’ (ص.153).
البنية المنطقية والمفاهيمية
  لقد التزمت خطّة العرض بمنطق السؤال الذي يأخذ بنواصي المفاهيم الثلاثة : ‘الدليل’ و‘التعليل’ و‘التنزيل’، وهي تنتظم في نطاق المركب الأصولي بمادته وصورته وفاعله وغايته؛ وقد استلهم العلامة العلل الأربع لكي يبسط الإثارات التجديدية في أوصال مادة المركب الأصولي؛ وهكذا نظر في المادة فألفى أنها هي الأصول ولـمّـا تتعيّن أي ولـمّا تحصل على الصورة التي هي الكيفية التي تنبني بها الأصول، كما نظر في محقق المناط، أي الفقيه المجدد أو المجتهد أو المؤسس، ثم نظر بعد ذلك في الغاية.
إن الفاعل هو عمدة المركب الأصولي إذ هو الذي يحقق المناط، وهو الذي يتوسط، بفهمه البشري، الوحي الإلهي والواقع الموضوعي، وهو الذي يجري التدليل الشرعي من أجل تحقيق الغاية التي تقتنص من وراء مراد الشارع،وقد حرص العلامة بن بيه على إثارة مسألة تبدو، في نظرنا، في غاية الأهمية، وتكمن في الإشارة إلى كون الغاية من أصول الفقه إنما تنحصر في الاشتغال الفكري الذي يتوسط النص والواقع، أي إعمال “الاستنباط والانضباط والارتباط” لتحقيق ‘‘الوساطة بين الوحي الإلهي والفكر البشري”.
لقد جمع هذا الكتاب الطريف، كما سبقت الإشارة، بين التفقه والتمنطق دون أن يفرط في ارتباط العلم بالواقع الموضوعي مما يجعل مهمة الفهم موقوفة على الوعي بمدى نجوع هذا العلم، فالاستنباطات الفقهية القديمة- يقول العلامة- كانت في زمانها مصيبة و لا يزال بعضها كذلك، والاستنباطات الجديدة المبنية على أساس سليم من تحقيق المناط فهي صواب، وهي، إلى حدٍّ ما، كالرياضيات القديمة التي كانت تقدّم حلولا صحيحة، والرياضيات الحديثة الآن التي تقدم حلولا سليمة ومناسبة للعصر؛ فإذا كان هذا هو حال الرياضيات التي كانت أيقن العلوم فكيف لا يتحول الواقع الذهني الذي هو في آلياته الاستدلالية و طرائقه التعليلية ألصق بالواقع من الصوريات و التجريديات الرياضية؟
يتمتع هذا الكتاب، كما ذكرنا، بجدة الطرح وفرادة التناول، وخصوصية المعالجة؛ وسنقف على بعض المظاهر الشاهدة من خلال ما جاء فيه من إثارات خصت مكونات المركب الأصولي، وقبل ذلك نود أن نذكر بأهمية الترشيد الذي يطلبه علامتنا حثيثا لكي يوجه الأمة المسلمة قبلة العطاء الذي ينبغي أن تجسده بخيْريّتها ووسطيّتها وشهوديّتها.
يتميز الترشيد الإسلامي عن الترشيد الدُّنياني (=العلماني)، بكونه لا يتعلق بالفرد ولا يقتصر عليه ليخرجه من حالة القصور إلى حالة الستقلال بعقله، وإنما يتعلق بالفرد والأمّة معا يوجههما توجيها قيميّا لا يلغي حريتهما ولا تعقُّلهما، وهذه هي خصوصية التنوير الإسلامي التي يكد المجددون المجتهدون والمؤسسون في طلبها، ويأتي هذا العمل الذي نعرضه مستجيبا لشرائط التنوير الإسلامي الجامع بين العقل والإيمان.
يعي الشيخ العلامة بن بيه جيدا أنه على من يسعى إلى الترشيد أن يستوعب الإشكال الرئيس الكامن في ‘‘البحث عن الانسجام بين الضمير الديني والواقع المجتمعي’’، وليس يصار إلى ذلك من غير إثارة السؤال بخصوص علم ظل يجسد تفاعل العقل المسلم مع واقعه وتفاعل الجماعة المسلمة مع الحياة، وهذا العلم هو علم أصول الفقه الذي يضطلع:
–  على مستوى الفكر وعلى صعيد الفرد، بوظيفة ‘‘ تقنين فكر المسلم وتوجيهه وتفعيل آلة التفكير والتدبر’’ لديه (ص.18)؛
– على مستوى الواقع وعلى صعيد الجماعة، بوظيفة تكييف، والتكييف تأويل وتصريف، المنظور الإسلامي مع مجريات الواقع.
هكذا يقابل التنوير الإسلامي التنوير الغربي، يقول العلامة بهذا الصدد: “إن النتيجةالمتوخاة [من التجديد] هي إنتاج أحكام للقضايا المستجدة، صادرة عن قواعد منضبطة، وتوليد الأحكام وتوسيع أوعية الاستنباط في عملية تأصيلية يمكن أن نطلق عليها التجديد، وهو غير الإحياء والإصلاح (..)، ولا التنوير بالمفهوم الغربي الذي هو حسب ‘كانت’ تفكير بلا سقف، فلا كتاب يهديه، ولا مدير أو قسيس يرشده” (ص. 21).
ولما كان علم أصول الفقه هو “الوسيط بين الوحي والفهم البشري”(ص.159)، فقد أنيطت به الحاجة إلى التجديد، نظرا لما اعتبره العلّامة من كون تجديد أصول الفقه يقوم دليلا على “مشروعية أو عدم مشروعية الدعوة إلى التجديد، كما سيكون الجواب على كيفية التجديد برهانا على دعوى التجديد”(ص.17).
نأتي الآن إلى الاثارت النبيهة والإشارات الوجيهة التي زخر بها الكتاب، ويأتي على رأسها ربط التجديد بمجال أصول الفقه الذي يختص بــ”توسيع الإدراك وترشيد التصورات، وتحرير محل النزاع وتحقيق المناط”(ص.9)، فهو الذي يبت في “القضايا الفقهية التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة”، ولهذا يجب على هذا العلم أن يتعقب “مسيرة الحياة التي تشهد تغيرات هائلة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة”(ص.12).
يصادر العلامة بن بيه على ما اعتبره “شعارَ” الإثاراتِ التجديدية، وهو شعار يلتزم بــ”الوفاء للأصول والتصرف في الفروع”، كما يحرص، كل ّالحرص، في هذا الكتاب، على “حصر الموضوع عقليا، ومحاصرة الانفلات عمليا”(ص.16)، ولهذا السبب، استحكمت المقاربة المنطقية في بنية الكتاب، وانتظمت مقاربته لعلم أصول الفقه وفق “صورة تقريبية” جعلت ماهية هذا العلم تتحدد بلوازمها القائمة في ما يعرف عند المناطقة بالعلل الأربع.
لقد انبرى العلامة ليناقش الدعاوى ذوات الخطورة التي تتهدد العلم “الموسوم بأصول الفقه الذي يعتبر من أروع ما أنتجه الفكر الإسلامي، وأنضج ما أبدعته العبقرية العلمية للتوسط بين الوحي والعقل، وبين الأوامر الشرعية في إطلاقها الأزلي وبين الواقع الإنساني ببعديه الزماني والمكاني”؛ ويكمن التّهديد إيّاه في خلخلة “الوساطة الصحيحة والوصل الواصب بين المبادئ والقواعد والنصوص والمقاصد وبين الواقع والـمُتوقَّع في حياة النّاس أفرادا وجماعات لتحقيق المصالح”(ص.22)؛ وهكذا واجه العلامة الدعاوى الخطيرة التي تشتطّ وتتطرف دون أن تلتزم بمقتضى التجديد الذي يتعلق بالاجتهاد في الأحكام تأويلا” بتحريك المفاهيم التي تشكل المنظومة الأصولية”، وتنزيلا “بقراءة جديدة للأصول قواعد ومقاصد وعلاقتها بالجزئيات الفقهية على ضوء مستجدات العصر” (ص.15-16).
لن تغني، في تقدرنا، هذه القراءة العجلى عن قراءة الكتاب الذي سوف يجد الفقيه المعاصر في لـُمعه وصدفاته ما يفتح دونه آفاق رحبة تُرشِّد اشتغاله على مستجدات الواقع السَّيَّال بالحوادث والطُّروءات التي تقتضي علو الهمة وشموخ النظر.