الرئيسية / مؤسسة دار الحديث الحسنية : لماذا مسلك التعليل؟

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : مؤسسة دار الحديث الحسنية : لماذا مسلك التعليل؟

الكاتب(ة) : د. أحمد الخمليشـــــــــــــــي

 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بحسن العمل إلى يوم الدين.

في هذه الأمسية التي تختتم فيها الورشات المنظمة في المؤسسة لصالح الطلبة، أود أن أقدم الدرس الافتتاحي لهذه السنة في شكل كلمة وجيزة مرتبطة بمشروع “مسلك التعليل” الذي دشنته مؤسسة دار الحديث الحسنية في السنة الدراسية الحالية 2012 ـ 2013، والذي أراه شخصيا لا يقل أهمية عن إصلاح التكوين الذي تقرر عام 2005، متمنيا أن يتحقق الهدف من إنشاء هذا المسلك. مع التأكيد أن ذلك مرتبط بكم أولا وأخيرا، وأقصد الأساتذة والطلبة معا.

المشروع يشكل نقلة نوعية في التكوين يهدف إلى تفعيل المعرفة المتلقاة وليس إلى خزنها وتكديسها في الذاكرة. إن الداعي إلى إنشاء المسلك هو ما نعيشه جميعا من انفصال التكوين عن الواقع الناتج عن سببين أساسيين:

   ـ صعوبة التحول عن المألوف أو كما يقول الإمام الغزالي: «لأن الفطام عن المألوف شديد والنفوس عن الغريب نافرة»().
   ـ غياب المقارنة بين التنظير والتطبيق. فالتنظير يقدم الفقه على أنه نتاج أدلة محصورة في عددها، ومضبوطة ضبطا صارما في دلالتها.
يقول الغزالي رحمه الله: «والمثمر هي الأدلة، وهي ثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع فقط. وطرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة، وهي أربعة: إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها، أو بفحواها ومفهومها، وباقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها، والمستثمر هو المجتهد»().

   إن هذا التصوير الثلاثي ـ المثمر، والمستثمر، والثمرة ـ لعناصر إنتاج الفقه، يجعل أحكامه قريبة من نتائج المعادلات الرياضية من حيث إن مستعملها لا يتدخل في المكونات ولا في النتائج وإنما عليه فقط أن يستعمل المعادلة بالطريقة الصحيحة المسلمة لدى أهل الاختصاص.

  لكن في التطبيق نجد واقعا آخر كما سنرى.
  عنوان المسلك هو: «مبادئ توجيه الأحكام وتعليلها لفهم النظام الداخلي للتراث الفقهي»، ومما جاء في الديباجة أن الغاية من هذا الفهم الداخلي للفقه هي: التقييم ثم الاستثمار.
  فكيف يكشف استقصاء التعليل عن فهم النظام الداخلي أو الواقعي للفقه؟ وكيف ييسر هذا الفهم السبيل إلى المناقشة والتقييم ثم الاستثمار ومواصلة البناء؟
الفقرة الأولى: التعليل
  وفق التنظير المتداول الذي لخصه الغزالي في العبارة السابقة كل حكم فقهي معلل باستناده إلى نص في الأدلة الثلاثة تحققت دلالته عليه بأحد وجوه الدلالة الأربعة: المنظوم، والمفهوم، والاقتضاء، والمعقول. وكل واحدة من هذه الدلالات مضبوطة بقواعد مفصلة في أصول الفقه إذا أتقنها “المجتهد” تمكن من تحديد النص والدلالة الحاكمين لكل واقعة من وقائع حياة الفرد والمجتمع.
  لكن بالمتابعة للأحكام التي أنتجها الفقه يتأكد تجاوز الضبط الذي صاغه الغزالي للأدلة ولدلالتها. وما يثبت ذلك يقينا هو الإنجاز الفعلي لمشروع المسلك بتتبع الأحكام الجزئية وتعليلها. ومع ذلك يمكن أن نقدم من الآن أمثلة للتدليل على ما نزعمه من عدم التوافق بين التنظير والصياغة الفعلية للأحكام الفقهية، ونحاول أن تكون هذه الأمثلة من أبواب الأحوال الشخصية التي وقع الاختيار عليها للبدء في تنفيذ المسلك.
  إذا كان مبدأ اعتماد فقه المعاملات على مصدري الشريعة: الكتاب والسنة ليس فيه نزاع جدي، فإن طريق الصياغة لأحكامه التفصيلية تعطي مفهوما آخر لذلك الاعتماد، والسبب الأساسي لذلك يرجع إلى مرونة وتعدد مفهوم التعليل للأحكام الفقهية، إلى جانب الخصائص الثابتة لنصوص الشريعة المنتجة حتما لظنية الرأي وتعدده.
مفهوم التعليل:
  موضوع تعليل الأحكام الشرعية ينصرف أساسا إلى:
ـ الاختلاف المعروف بين التعليل بالحكمة، والتعليل بالأمارة الظاهرة.
ـ تقسيم الأحكام إلى معللة وإلى تعبدية، علما بأن الفقه يكاد يكون متفقا على أن التعبد لا وجود له في “المعاملات” أو هو نادر فيها.
والمسلك سيتناول التعليل بهذا المفهوم في مرحلة الحديث عن العناصر المساعدة على مواصلة البناء وتمكين الفقه من معايشة الواقع والمساهمة في إصلاحه وتوجيهه.
أما الآن فإنه يبحث من خلال متابعة الصياغة الفعلية في المراجع الفقهية المعتمدة على التعليل بمفهوم سند الحكم ومرجعيته.
ومن أهم صور التعليل بهذا المفهوم:
– النص: والقصد منه الموصوف بقطعي الورود والدلالة مثل موانع الزواج الواردة نصا في القرآن. وأحكام هذه النصوص لا تسمى أحكاما فقهية، وإنما هي أحكام شرعية مقررة مباشرة من الشارع والمسلك يشمل النوعين معا.
– تفسير نص: يشمل هذا كل النصوص الجزئية من الكتاب أو السنة عدا ما كان منها قطعي الورود والدلالة. ومن الضروري ذكر المبدأ الأصولي المعتمد في تفسير النص أو ترجيحه لأن ذلك يكشف من جهة عن تداخل مبادئ التفسير الأصولية الأمر الذي يساعد المجتهد على الميل إلى مبدأ غير الذي طبقه مخالفه، ومن جهة ثانية عن مدى التزام المجتهد الواحد بنفس المبدأ في مختلف الجزئيات التي عرضت له مثل تقديم المفهوم على العموم، والقياس على خبر الواحد أو العكس.
– نص عام: مثل ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾.
– القياس: الذي لا يقتصر على المعروف في أصول الفقه وهو قياس فرع على أصل منصوص على حكمه في الكتاب أو السنة، أو القياس على هذا الفرع عند من يجيزه، وإنما يشمل كذلك القياس على حكم اجتهادي مثل سقوط الحق في الحضانة بالسكوت سنة قياسا على سقوط حق الشفعة بسكوت الشفيع تلك المدة.
– الاستحسان: مثل قول المالكية إن الزواج المختلف في فساده يفسخ بطلاق، ويحتسب فيه الطلاق الموقع قبل الفسخ، وتوارث اتوام الملاعنة كأشقاء «لأن الفراش لهما معروف ولو استلحقهما الأب للحقا به، وهو قول مالك».().
– المصلحة المرسلة: التي يمكن التمثيل لها بأحد التأويلات لما نسب لمالك من القول بعدم إلزام الزوجة “الشريفة” بإرضاع ولدها.
– قول أو عمل صحابي أو أكثر: والأمثلة في الموضوع لا تحصى.
– النقل عن السابقين: أفرادا أو جماعة، من التابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار ثم أيمة المذاهب فكبار فقهاء كل مذهب.
فكثير من الأحكام المنسوبة إلى أيمة المذاهب في القرن الثاني لا سند لها إلا النقل عمن سبقهم من كبار الصحابة والتابعين ومن تتلمذ عليهم هؤلاء الأيمة.
والفقه المذهبي دون عن طريق الرواية المكتفى بها غالبا عن أي سند آخر كما نقرأ في رواية المدونة عن مالك، والام عن الشافعي. وفي فترة سيطرة التقليد على الدراسات الفقهية نجد النقل والحكاية عن المتقدمين هو التعليل المقبول والمفضل على سند النصوص.()
أحكام بلا تعليل:
يرد هذا بالخصوص:
ـ في كثير من الآراء المروية عن أيمة المذاهب، على أن اتباع كل مذهب قاموا فيما بعد بتعليل مرويات أمامهم.
ـ وفي الشروح والحواشي الفقهية التي أكثرت من سرد الجزئيات منها القابل للحدوث ومنها الافتراضي مستبعد الوقوع وتكتفي في حالات غير قليلة بإيراد الحكم دون سند معين من القائمة أعلاه.
تكييف الوقائع :
ـ كثيرا ما يأتـي التعليل وسند الحكم من التكييف الذي يضفى على الواقعة موضوع الحكم() مثـل بناء عدد من الأحكام علـى تكييف عقد الـزواج بأنـه «معاوضة البضع بالـمال»()، وتعريف الطلاق بأنه «صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بزوجته».()
فمما أسس على تعريف الزواج:
– وجوب استجابة الزوجة كلما دعاها الزوج إلى الفراش وله إجبارها على ذلك «إذا امتنعت بلا مانع شرعي وليس لها إجباره على الوطء بعدما وطئها مرة وإن وجب عليه ديانة أحيانا».()
– منع الزوج زوجته من الخروج من البيت، ومن الانشغال داخله بما قد يفوت عليه الاستمتاع بها في كل لحظة بما في ذلك إرضاع ولدها منه: «لأن عقد الزواج يقتضي تمليك الزواج الاستمتاع في كل الزمان من كل الجهات سوى أوقات الصلوات، والرضاع يفوت عليه الاستمتاع في بعض الأوقات فكان له المنع كالخروج من منزله”.()
– سقوط نفقة الزوجة بإحرامها بحج أو عمرة، أو صوم تطوع، أو صلاة نافلة، بلا إذن سابق من الزوج، أو سجنت أو “مرضت مرضا لا يمكن الانتفاع بها بوجه من الوجوه”.()
– عدم استحقاق الزوجة من الزوج شيئا من أدوات الزينة وثياب الخروج، وأجرة الطبيب، وثمن الدواء، وأجرة الاغتسال في الحمام. لأن كل ذلك «يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار».()
– وعدم نفاذ الشروط الإرادية في عقد الزواج تأسيسا على تكييفها بالتأثير على الصداق وهو “عوض” عن البضع والغرر في العوض يبطل العقد، مثل اشتراط الزوج على الزوجة تمتيعه بالسكنى في دارها «لأن ما يبذله الزوج من الصداق بعضه في مقابلة ذلك وهو مجهول لأنه يستغل إلى الموت أو الفراق ولا يدرى وقتهما».()
واشتراطها على الزوج النفقة على ولدها من غيره «لأن النفقة من جملة الصداق ولا يدرى ماذا يعيش الولد».()
– تكييف الطلاق بكونه “حقا” للزوج فلا يلزم بأداء المتعة لأن استعمال الحق لا ينبغي أن تترتب عنه تبعة وغرم بينما من رآه مؤثرا على الزوجة وان «المتعة بإزاء غم الطلاق»() ألزم الزوج بأداء المتعة.
ظنية الحكم الفقهي وتعدده :
الأحكام الفقهية جميعها تتصف بالظنية وبالتعدد() وهو أمر لا يبدو محل جدل ليس فقط بالنسبة للأحكام المسندة إلى القياس مثلا أو الاستحسان أو المصلحة المرسلة المختلف في إسناد الأحكام إليها، وإنما كذلك بالنسبة للأحكام المسندة إلى النصوص الجزئية التي هي المجال المتفق على إنتاج الفقه منها. ولذلك نقتصر عليها في بيان بعض الأسباب المؤدية حتما إلى تعدد الآراء، أما الصفة الظنية للرأي فلم ينازع فيها أحد قديما ولا حديثا.
فمن أسباب التعدد الحتمي للآراء الاجتهادية في تفسير النصوص الجزئية الظنية الورود أو الدلالة أو هما معا:
أ ـ تعدد النصوص:
ويكثر هذا في رواية الأحاديث وقد نجده في القرآن.
مثلا أخذ الزوج خلعا من زوجته لطلاقها:
رأي يجيزه في جميع الأحوال ما عدا حالة إضرار الزوج بها لدفعها إلى أداء الخلع، وممن يأخذ بهذا الرأي مالك وسنده: ﴿ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن﴾.
رأي يمنعه مطلقا: في تفسير القرطبي() قال عقبة بن أبي الصهباء: سألت بكر بن عبد الله المزني عن الرجل تريد امرأته أن تخالعه فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: فأين قول الله عز وجل في كتابه: ﴿فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به﴾؟ قال: نسخت. قلت: فأين جعلت؟ قال في سورة النساء: ﴿وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا﴾.
رأي ثالث لا يجيزه إلا في حالة ضبطها متلبسة بالخيانة الزوجية طبقا للآية: ﴿ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينةٍ﴾ بناء على تفسير الفاحشة بالزنا، ومن فسرها بالبغض والنشوز أجاز الخلع بسببيهما.()
ورأي آخر يربط جواز الخلع بالخوف من عدم إقامة حدود الله: أي خوف الزوجة الإخلال بحقوق الزوج أو خوفها أن يبغضها فلا يوفيها حقها ﴿فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به﴾.()
ب ـ طبيعة الدلالة اللغوية:
لكل لغة دلالتان: دلالة الألفاظ والكلمات، ودلالة المقام التي سماها الشاطبي بالدلالة التابعة() يتم التعبير عنها في كل مقام بما يلائمه من كلمات وطريقة تركيبها وحتى كيفية النطق بها. ومع ذلك تبقى الدلالتان معا ـ إلا في حالات نادرة ـ قابلتين للتفسير بأكثر من معنى واحد، وهذا ما جعل أغلبية النصوص تقبل أكثر من تفسير، وهو ما يؤدي حتما إلى تعدد الآراء، والأمثلة في الموضوع لا حصر لها.
المتعة مثلا وردت فيها هذه الآيات:
﴿لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين، وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم..﴾.()
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدةٍ تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا﴾.()
﴿وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين﴾.()
وأهم الآراء التي قيل بها في تفسيرها:
ـ المتعة واجبة لكل مطلقة بمن فيهن المستحقة لنصف الصداق، والمختلعة، والمخيرة…
ـ غير واجبة بالنسبة لجميع المطلقات للزوج أن يؤديها إذا أراد ولا يلزم بها قضائيا.
ـ واجبة لمطلقة واحدة هي التي طلقت قبل بدء الحياة الزوجية ولم يسم لها صداق.
ـ واجبة بتوفر شرطين: أن يصدر الطلاق من الزوج وبرغبته وأن لا يكون الطلاق من قبل الدخول استحقت به المطلقة نصف الصداق.
ج ـ الورود الظني:
الأغلبية المطلقة من الأحاديث تدخل ضمن “أخبار الآحاد” ومن ثم يشملها وصف “الظنية” من حيث الورود والثبوت الأمر الذي يترتب عنه الاختلاف في العمل بعدد غير قليل من الأحاديث مثل المتعلقة بعدم تعيين الحد الأدنى للصداق، وإشهاد عدلين، أو شاهدين على عقد الزواج، وكمية الرضاع المحرمة للزواج وغير ذلك كثير.
د ـ اعتبار الحكمة أو المصلحة المقصودة من الحكم:
كثيرا ما تتعدد الآراء بسبب ربط الحكم بحكمته وغايته مع الاختلاف في تحديد الحكمة، من ذلك اشتراط العدالة في شاهدي عقد الزواج بناء على أن القصد من ذلك هو التوثيق الذي لا يتحقق إلا بوصف العدالة في الشاهدين ومن رأى أن الغاية هي إشهار الزواج وإفشاؤه أجاز إشهاد غير العدلين، ومن القائلين بهذا من اعتبر الزواج صحيحا متى تم إشهاره بأية وسيلة أخرى غير الإشهاد.
ومثل ذلك الاختلاف في تحديد سن الحضانة بين: الاثغار، والتمييز، وقدرة الطفل على أن “يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده..”، والبلوغ فضلا عن التمييز بين الولد والبنت. فكل رأي يعتبره القائل به محققا للحكمة والهدف الذي شرعت الحضانة من أجله.
هـ ـ ارتباط الحكم بالتجربة ومعرفة الواقع:
من النصوص الخاصة ما لا يمكن تفسيره وتحقيق مناط الحكم فيه() إلا عن طريق التجربة وإدراك الواقع المعيش مثل سن الزواج والرشد ﴿وابتلوا اليتامىٰ حتىٰ إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم﴾. وسن اليأس ﴿واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهرٍ﴾ وفترة “القرء” ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ﴾. ومفهوم السفه ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما﴾ وتقدير النفقة ﴿لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله﴾.
و ـ الأحكام التي يفرضها الاستقرار:
كثير من الأحكام منها المسندة إلى نصوص ومنها ما لم يرد فيه نص يستحيل تعليلها تعليلا دقيقا يضبط فيها مناط الحكم ضبطا غير قابل للمناقشة فيلتجأ إلى التحكم بدافع الاستقرار وانضباط التطبيق، وهو ما يفسح المجال لتعدد الآراء بالالتجاء إلى الترجيح والتخمين.
من الصنف الأول: تحديد الرشد بإتمام سن معين دون زيادة يوم أو انتقاصه، ومن الصنف الثاني تحديد سن التمييز، وانتهاء حضانة الصغير.
والأحكام المرتبطة بالتجربة ومعرفة الواقع وبالاستقرار ليست من الفقه المعرف في أصول الفقه، ولا تدخل في طرق “الاستثمار” الأربعة التي سبقت الإشارة إليها. وباعتبارها تهدف إلى جعل الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد فإن الجميع مؤهل لإبداء الرأي فيها ولا يقتصر ذلك على دارس أصول الفقه وضوابطه في التفسير.
النصوص العامة:
رأينا في الفقرة السابقة الصفة الظنية للأحكام الفقهية المستنبطة من النصوص الجزئية أو التفصيلية وأشرنا إلى بعض الأسباب التي تجعل تعدد الآراء فيها أمرا لا محيد عنه. فماذا عن الأحكام المستخلصة من تنزيل النصوص العامة وقيم الشريعة على الجزئيات ووقائع حياة الناس المختلفة؟
بالتأكيد أن هذه الأحكام مثل المأخودة من النصوص الجزئية في صفتي الظنية والتعدد، ويضاف إلى ذلك أن الوصول إليها يتم بالعقل الذي هو ميزة مشتركة بين جميع الأفراد وليس بضوابط التفسير الأصولية التي لا يحسنها إلا دارسها المتخصص في أصول الفقه.
يقول الشاطبي في الاعتصام() عن المصالح المرسلة: «إن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول».
ويقول  في الموافقات: «الاجتهاد إذا تعلق بالاستنباط من النصوص (أي الجزئية) فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإذا تعلق بالمعاني (أي النصوص العامة وكليات الشريعة وقيمها) من المصالح والمفاسد… فلا يلزم ذلك العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة… إن علم العربية إنما يفيد مقتضيات الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية فلا يمكن لمن ليس بعربي أن يفهم لسان العرب… وأما المعاني مجردة فالعقلاء مشتركون في فهمها”.()
وفي نفس الاتجاه سار الشيخ الطاهر بن عاشور في حديثه عن المعروف، والمساواة، والفطرة. فيقول عن “المعروف” إنه «ما تعرفه العقول السالمة المجردة من الانحياز إلى الأهواء، أو العادات أو التعاليم الضالة… والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر، أي وللنساء من الحقوق الذي عليهن ملابسا ذلك دائما للوجه غير المنكر شرعا وعقلا، وتحت هذا تفاصيل كثيرة تؤخذ من الشريعة»(). وعن “المساواة” «إنها في التشريع أصل لا يتخلف إلا عند وجود مانع، فلا يحتاج إثبات التساوي في التشريع بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة، بل يكتفى بعدم وجود مانع من اعتبار التساوي».()
أما “الفطرة” فهي وصف الشريعة الأعظم التي بنيت عليها مقاصدها «فوصف الإسلام بأنه الفطرة معناه انه فطرة عقلية، لأن الإسلام عقائد وتشريعات وكلها أمور عقلية، أو جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به».()
الفقرة الثانية : التقييم والاستثمار لمواصلة البناء
ليس القصد من التقييم توصيف الأحكام الفقهية بالصواب أو الخطأ، فهذا أولا لن يفيد شيئا، وثانيا يفقد المناقشة روحها ويغرق في الجدل العقيم.
إن ما تهدف إليه المؤسسة من مسلك التعليل هو الوصول إلى استخلاص الأسباب الذاتية التي جعلت الفقه لا يواكب وقائع الحياة المتجددة وإذا فعل في جزئيات متناثرة كانت آراؤه متعارضة وفق ما تشهد به الفتاوى التي تنشر بوسائل التواصل القديمة والحديثة.
وهذه الأسباب يكشف عن بعضها مسلك التعليل وتثير بعضها الآخر ظروف الواقع وملابساته.
أولا ــ أسباب يكشف عنها مسلك التعليل :
استقصاء سند الفقه في كل حكم اجتهادي، ولو في حدود المذاهب الأربعة، سيكشف بالتأكيد على عدد غير قليل من الأسباب التي جرت الفقه إلى الانعزال عن الحياة والاكتفاء بالحكاية والتنظير… ومن شأن عرضها للمناقشة، المساعدة على تقديم تصور للفقه يساهم في الإنتاج الفكري المعتمد في توجيه حياة المجتمع وأدائه لأمانة التكليف والخلافة.
من هذه الأسباب التي سيظهرها المسلك من خلال متابعة التعليل:
1 ـ أنواع الأدلة التي أسندت إليها الأحكام “الفقهية”() ونسبة ما أسند منها إلى كل دليل، وترتيب الأدلة، ومدى الالتزام بهذا الترتيب.
2 ـ معرفة ما أسند إلى كل دليل، ثم المقارنة الإحصائية فيما بينها. مثلا ما أسند منها إلى النصوص التفصيلية، وهي التي ينصرف إليها مفهوم الفقه في التعريف الأصولي، وما أسند إلى كل دليل من الأدلة الأخرى بما في ذلك ما اكتفي بالنقل سندا له، فضلا عن الأحكام التي لا سند لها حتى من مجرد النقل عن السابقين.
3 ـ الأحكام المستنبطة من الأدلة التفصيلية ما هو مدى الالتزام فيها بمبادئ وضوابط أصول الفقه الخاصة بتفسير النصوص؟ وكذلك مدى التزام المجتهد الواحد بتطبيق نفس المبدأ في كل الجزئيات المماثلة مثل تقديم العام على المفهوم، والقياس على خبر الواحد أو العكس؟.
4 ـ الوقوف على الواقع الذي يؤكد تعدد الآراء الاجتهادية في الأغلبية الساحقة على الأقل من الأحكام “الفقهية” وهذا ما يتعين البحث عن تبريره مع مقولتي: المجتهد “يكشف” عن أحكام الله الأزلية أو أن حكم الله “تابع” لحكم المجتهد، والمفتي “مخبر” عن الله بدليل. حيث يبدو التناقض واضحا بين المقولتين وبين تعدد الأحكام للواقعة الواحدة.
إضافة إلى ذلك في الماضي لم يكن تعدد الآراء في نفس الموضوع مشكلا كبيرا، إذ كان الناس يعيشون في شبه استقلال فيما يقومون به من تصرفات أو يربطهم بغيرهم من علاقات. كانت العشيرة ثم القبيلة توفر لأفرادها تنظيم علاقاتهم المحلية ولا شأن لها بالعشائر والقبائل الأخرى وان جمعها النظام السياسي المعبر عنه الآن بالدولة.
مثلا الزواج والطلاق توجه كثيرا من أحكامهما الأعراف والتقاليد، وعند الالتجاء إلى الفتاوى لا يكون لاختلافها أثر يذكر، فيمكن أن تنفذ فتويان متعارضتان في نفس المدينة أو القبيلة لأن الأمر يرجع إلى المستفتي ومن النادر تدخل السلطة العامة.
لكن اليوم في ظل التنظيم القائم في الدولة، أصبحت وحدة الأحكام المنظمة للمجتمع وللعلاقات بين أفراده أمرا حتميا لا يقبل المساس به. الأمر الذي يفرض البحث عن الحل ما دام الاجتهاد الفردي يؤدي حتما إلى تعدد الأحكام لنفس الواقعة.
6 ـ تعدد الآراء في الأغلبية المطلقة من الأحكام الاجتهادية ـ إن لم يكن في جميعها ـ كيف يستقيم معه القول بان المجتهد هو من “فهم مقاصد الشريعة على كمالها… فإذا بلغ مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي  في التعليم والفتيا والحكم بما أراده الله”؟.()
وإذا وجد المجتهد الذي فهم مقاصد الشريعة على كمالها وفي كل مسألة فما سبب الاختلاف في الأغلبية المطلقة من الأحكام الاجتهادية؟
7 ـ كثير من الأحكام لا يتوصل إليها إلا بالتجربة واختبار مجريات الحياة ووقائعها المعيشة مثل: الرشد، والسفه، والتمييز، وسن الحضانة والموت، وأقل وأقصى فترة الحمل… وليس لضوابط التفسير الأصولية أي دور في الوصول إليها.
8 ـ فهم كليات الشريعة ونصوصها العامة يتم بالعقل ويشترك فيه جميع العقلاء() كما أكدت ذلك النقول التي سبق إيرادها، وفي نفس الوقت يتم التأكيد على أن المؤهل لتنزيل تلك الكليات هو: “الفقيه”() أو “الفقهاء وولاة الأمور”() أو الأمر “مجال لأنظار المجتهدين”() أو “العلماء والحكماء أهل العقول الراحجة”.()
ـ إذا كانت الفطرة والمصلحة وغيرهما من كليات الشريعة تدعو إلى ما تقبله العقول “والعقلاء مشتركون في فهمها” فما هو المبرر المقنع الذي يقصر الخطاب بها على العلماء والحكماء وأولي الأمر؟
ـ ما هي الوسيلة العملية القابلة للتطبيق لتحديد “العلماء” و”المجتهدين” و”الحكماء” و”أولي الأمر” الذين يوكل إليهم تنزيل كليات الشريعة على تدبير شئون المجتمع والعلاقات بين أفراده؟ ألم يمض قرن من الزمن قدمت فيه تصورات كثيرة في موضوع تجديد الاجتهاد ولم يتحقق منها شيء، ألا ينبغي البحث عن الأسباب الحقيقية لذلك للعدول عن التنظير المجافي للواقع وحقائقه والمقتصر على العموميات دون ربطها بما يعيشه الناس في حياتهم اليومية المعقدة؟.
ثانيا ــ أسباب يثيرها الواقع وملابساته :
الحديث عن فقه المعاملات أي الأحكام المنظمة لوقائع الحياة المشتركة كما يعيشها الناس في علاقاتهم الفردية وشئونهم الجماعية.
وضمن العناصر المكونة لهذا الواقع المعيش نجد ما لا يتوافق مع التنظير الذي يقدم به الفقه في صياغته لأحكام المعاملات. من ذلك:
1 ـ اتساع آفاق معرفة الإنسان مع تفرعها إلى تخصصات متشعبة :
مهما يكن من تقسيم لمجالات مرافق المجتمع والعلاقات بين أفراده، فإن تنظيم أي مجال يبقى مرتبطا بغيره من المجالات الأخرى يؤثر فيها وتتأثر به، ومن هنا ضرورة إشراك تخصصات متعددة للوصول إلى الأهداف المرغوب فيها.
تنظيم مرفق القضاء مثلا بأنواعه المختلفة: مدني، جنائي، تجاري، إداري… كم من التخصصات المعرفية والتيارات الاجتماعية والسياسية التي يتعين أن تدلي فيه برأيها وتناقش الآراء الأخرى، لإنجاز أحسن ما يمكن الوصول إليه في هذا التنظيم؟ هل يمكن تعويض ذلك بفقيه، أو قانوني، أو سياسي يغلق عليه مكتبه، ويقرر في كل تفاصيل وجزئيات نظام القضاء ثم نقول على المجتمع التنفيذ بوصفه ملزما بالتلقي والتقليد؟
ومثل ذلك: عقد العمل، ونظام الضرائب وغيرهما…
ولا يقتصر الأمر على المرافق العامة للمجتمع وإنما يشمل الكثير من الجزئيات التي يتعذر الفصل فيها برأي فرد أو تخصص معرفي واحد. وأشير هنا إلى مثال أورده المجلس العلمي الأعلى في فتواه المتعلقة بالمصلحة المرسلة.
فبعد أن أشار إلى أن المصلحة المرسلة يجب «أن تكون معقولة في ذاتها بحيث إذا عرضت على العقول قبلتها» أضاف:
“إنه يجب التنبيه إلى أن تحقيق المصلحة لا يتم بهذه السهولة واليسر إذ أن الفقيه يجد نفسه أحيانا أمام تجاذب المصالح وتفاوتها فيسعى إلى أن يختار البعض ويهدر البعض. فقد يتعارض مثلا اختيار منع استنزاف فرشة المياه الجوفية مع حاجة الناس إلى الماء، فيراعي الضرر الحاضر في منع الناس من الماء في حده الأدنى ويؤجل اعتبار ضرر استنزاف الفرشة المائية.
وفي مثل هذه الحالة يجب تحريك فقه الموازنة واعتبار الأولويات فيقدم الأصلح على الصالح، والعام على الخاص، والمصلحة المحققة على الظنية، والآنية على المستقبلة. وللفقه الإسلامي ترتيب موضوعي للاستحقاقات حسب أهميتها فيتقدم منها ما كان ضروريا، ويتلوه ما كان حاجيا ثم ما كان تحسينيا”.
ولا أقصد بالتعليق على هذا المثال للمصلحة المرسلة، إصدار الحكم وتقرير صفة الخطأ أو الصواب لما ورد فيه، فهذا ما لا أملكه ولا أدعيه، وإنما الهدف المناقشة وإبداء الرأي، وهو ما أرجوه من كل قادر عليهما، فبذلك تتعمق الرؤية وتنكشف أكثر، معالم الاهتداء إلى سبيل الرشاد، فآمل أن يكثر المناقشون لأنه سبيل الرشاد وزاد الهدى والصلاح.
وأرجع إلى التعليق وأقول:
ـ إذا كانت المصلحة المرسلة هي التي إذا عرضت على العقول قبلتها، أفلا يحتاج إلى تبرير قصر صلاحية الفصل فيها على “الفقيه” دون غيره من العقلاء؟
ـ من هو “الفقيه” المفوض إليه عند تجاذب المصالح وتفاوتها: أن يختار البعض ويهدر البعض؟ ينتخب؟ ما هي شروط الترشح؟ ومن ينتخبه؟ أم يعين؟ من يعينه؟…
أم أن هذا “الفقيه” مثل “المجتهد” الذي ما يزال الحديث النظري عنه يستغرق الكثير من وقت الدارسين ومؤسسات التكوين مع فرض التقليد المذهبي عمليا منذ القرن الثاني الهجري؟
إذا تجاوزنا ذلك ـ جدلا كما يقال ـ وانتقلنا إلى المعرفة التي توصل الفقيه إلى التطبيق السليم للمصلحة.
الفتوى تحصر الحل في الموازنة بين منع الناس من الماء في الحد الأدنى وبين استنزاف مخزون الفرشة، وهذا يثير ملاحظتين:
الأولى أن تقدير درجة الحاجة إلى الماء ـ سواء كان لاستهلاك الإنسان أو لسقي المزروعات ـ يتوقف على معرفة الكمية المخزنة في الفرشة، والقدر الاحتمالي الذي يضاف إليها سنويا من الأمطار() ومقدار حاجة الناس العادية والدنيا، وكل هذا بعيد عن التخصص المعرفي للفقيه، فما مبرر إسناد الحسم إليه؟
كيف تكون الدولة ومؤسساتها مسئولة عن التنفيذ، والتقرير في يد “الفقيه”؟()
والملاحظة الثانية أن التقرير في الفرشة المائية المهددة بالجفاف لا يقتصر على النظر في الحد الأدنى للحاجة إلى الماء وتأجيل وإهمال انقطاعه نهائيا في المستقبل. فالأمر لا يتعلق بـ “فرض الكفاية” الذي يوجه الخطاب به إلى الفرد، وإنما بمصلحة عامة تتحمل الدولة ومؤسساتها مسئولية إنجازها. والحلول الميسرة لها في مثل هذه الحالة كثيرة.
فالدولة الآن إزاء انخفاض مخزون الماء الجوفي قد تحل المشكل ببناء سد، أو تحلية ماء البحر، أو الإتيان بالماء من مكان آخر()، وإذا كان الماء للزراعة فيمكن تغيير أسلوب السقي بتحويله مثلا إلى السقي بالتنقيط، أو بالرش، أو تغيير المزروعات بأخرى تحتاج إلى كمية أقل، وكل هذا مرتبط بالتكلفة الاقتصادية، وبعلاقة خصاص الماء بالأمن الاجتماعي، والسياسي، والغذائي…
إن الموضوع أكثر تعقيدا، وتبسيطه بحصره في تزويد الناس بالحد الأدنى من حاجتهم إلى الماء وإهمال الجفاف المنتظر للفرشة مع إسناد ذلك إلى فرد لا يتوفر على تخصص ولو في بعض مجالات الحلول الممكنة، هذا التبسيط يضر بالفقه ولا يفيده في شيء.
2 ـ هل يمكن تغييب المجتمع عن التقرير في شئونه؟ وبناء على أي أساس؟
مما يواجه التنظير المتبع في إنتاج الأحكام الفقهية ما أصبحت كل المجتمعات اليوم تؤمن به وتسير عليه، وهو أن تقرير() الضوابط والأحكام المنظمة لتدبير شئونها حق لكل أفرادها، ويمارس بالطريقة المتوافق عليها بينهم، وهو سند يجعل كل مسلم مطالبا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ما يتحقق اليوم بالمشاركة في اقتراح وسن قواعد التنظيم الملزمة في اتجاه بناء وتحقيق رسالة الاستخلاف ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾.()
إن هذا الواقع الذي تجذر في المجتمعات الإسلامية جميعها لا يمكن تجاهله، وعلى الفقه أن يندمج فيه ويساهم في إغناء مسيرته أو يقنع الناس بالتخلي عن واقعهم والرجوع إلى التلقي والتقليد، وما نخال ذلك ممكنا سيما مع كثرة الملقين وتناقض توجهاتهم أفرادا وجماعات…
3 ـ الأنظمة الدستورية :
كل العالم الإسلامي يعيش كذلك في ظل أنظمة دستورية تجمعها فلسفة واحدة وان اختلفت في بعض التفاصيل. والفقه إلى الآن لم يدخل في نقاش جدي لمبادئ النظام الدستوري بالتأييد، أو بالاستصلاح، أو بالنقد مع تقديم البديل. وهو موقف لا يبدو سليما.
وهذا ـ فيما نعتقد ـ من الأسباب الذاتية للفقه التي أفقدته الحضور في توجيه الواقع وإرشاد تدبير المجتمع لمرافقه ومصالح أفراده وعلاقاتهم. وعسى أن يكون كشف المسلك عن أنواع سند الأحكام الفقهية، مساعدا للبحث الفقهي على تناول موضوع النظام الدستوري، وتحليل ما فيه من عناصر التلاقي أو التضاد مع نصوص الشريعة ومبادئها العامة واقتراح ما ينبغي أن يكون.
4 ـ طبيعة الأحكام المنظمة لحياة المجتمع، القابلية للمراجعة والتغيير في كل وقت :
يعرف هذا المبدأ في أصول الفقه بوجوب مراعاة المآل في الأحكام، وعبر عنه الشاطبي بقوله:
“النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليك ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية… “. ()
هذا المبدأ لا يكاد يعثر له على أثر في الممارسة الفقهية الممتدة عبر قرون. ولعل مما يرشد إلى المبدأ وجود النسخ الذي تقول به أغلبية الأمة، ومنه التعديل أو الإلغاء للحكم قبل تنفيذه. مثل ما يورده المفسرون في تفسير:
ـ الآية 6 من سورة النور: ﴿والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ بالله…﴾ بعد الآية 4 من نفس السورة ﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة..﴾.
ـ الآية 13 من سورة المجادلة: ﴿آشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقاتٍ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة…﴾ بعد الآية 12 من نفس السورة: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذٰلك خير لكم وأطهر، فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم﴾.
والأسباب التي تفرض المراجعة المستمرة بالتعديل أو بالإلغاء للقوانين والقرارات المنظمة لحياة المجتمع لا حصر لها. ومنها مثلا:
ـ صعوبة التنفيذ.()
ـ ظهور نتائج غير مرغوب فيها في التطبيق، ومن ذلك إلغاء قضاء الجماعات، والمحلفين في قضايا الجنايات، والتعديل المتتابع لكثير من إجراءات المسطرتين: المدنية والجنائية.
ـ وأهم أسباب التعديل والإلغاء في الوقت الحاضر هو تنامي المعرفة الإنسانية والمعرفة الوطنية وما ينتجه التأثير المتبادل بينهما من أفكار ومعلومات ومنتجات مادية وأوضاع، تتعاضد كلها على تسريع وتيرة المراجعة والتعديل والإضافة.
ونشير إلى مثل واحد تفاديا للإطالة وهو قانون السير.
أول تشريع خاص به صدر بالمغرب هو ظهير 03/10/1914 خصصت كل مقتضياته تقريبا للعربات المجرورة بالدواب مع ضبط عدد دواب الجر، وطريقة ربطها بالعربة.()
عدل الظهير خمس مرات() قبل أن يلغى ويعوض بظهير 04/12/1934 الذي لم تزد فصوله على (22) فصلا/مادة() وطالته عشرات التعديلات إلى أن ألغي وعوض بالقانون 05.52 الصادر بظهير 11/02/2010 بعنوان “مدونة السير” مشتملة على (318) مادة.()
ومنذ صدور هذه المدونة إلى الآن عدلت بعض موادها كما صدرت عشرات النصوص التطبيقية لموادها، وقد صدر في العدد 6128 من الجريدة الرسمية المؤرخ في 21/02/2013 (94) نعم أربعة وتسعون قرارا كلها تطبيق لمواد مدونة السير.
تغير وقائع الحياة الاجتماعية هي السنة التي فطر الله عليها الإنسان منذ كان وإلى أن يرث الأرض ومن عليها، وزادت وتيرة التغير منذ بداية القرن الماضي نتيجة ما يمكن تسميته بانفجار بركان المعرفة لدى الإنسان، وتغير الواقع يفرض تغيير ضوابط تنظيمه. فما كان ينص عليه ظهير 1914 من طول وسمك شعاع العجلة الخشبية للسيارة وإلزام السائق أن يكون له “بوق معد للإنذار والتنبيه عند قربه من الناس” كما يمكن أن يستعمل “صفارات أو غيرها من الآلات التي لها صوت رنان” ـ فقد ملاءمته للواقع منذ عقود فبالأحرى بعد بداية القرن الواحد والعشرين، وما طرأ على صنع السيارة من تقنيات لم تكون متصورة حتى في الخيال عام 1914.
والأمر ليس قاصرا على قانون السير، وإنما يشمل جميع مجالات حياة المجتمع والأفراد، والرجوع إلى مسيرة “التشريع” التي بدأت في المغرب مع بداية نظام الحماية يثبت هذه الظاهرة، وهي ظاهرة التعديلات المتلاحقة بالنسبة لكل نص، وظاهرة تضخم حجم النصوص وأحداث أخرى في مجالات كشف الواقع عن الحاجة اليها.()
خلاصة
مراعاة للحصة الزمنية المحددة لهذا اللقاء نكتفي بهذه النماذج من عناصر الواقع التي تبدو غير متوافقة مع التنظير المتداول لصياغة الأحكام الفقهية، مضافة إلى تلك الأسئلة التي أثرناها مستخلصة من النتائج المنتظرة من مسلك التعليل وبيان أنواع سند الأحكام الفقهية ما له صلة منها بضوابط التفسير الأصولية وما لا صلة له بهذه الضوابط.
والهدف الأساس من كل ذلك هو تقييم الأسباب التي جعت الفقه غير متفاعل مع حركة الحياة ومع الواقع الذي يعيش فيه “الفقهاء” مثل غيرهم من الناس.
إذا كان التقييم واقعيا، فبالتأكيد ستقدم الأفكار التي تعيد للفقه تفاعله، في اتجاه مواصلة البناء، وإبعاد الاحتقانات التي تنذر بالمجهول في العالم الإسلامي سيما بعد بداية القرن الجديد.
ولا أرغب في شرح مفهوم التقييم الواقعي وأكتفي بالقول انه المسترشد بالعقل الذي هو مناط التكليف، ويصغي إلى الفطرة التي يقول عنها ابن سيناء:
«ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل، لكنه لم يسمع رأيا، ولم يعتقد مذهبا، ولم يعاشر أمة، ولم يعرف سياسة. ولكنه شاهد المحسوسات، وأخذ منها الخيالات، ثم يعرض على ذهنه شيئا ويتشكك فيه، فان أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة. وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق بل كثير منها كاذب، إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلا، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كان كاذبا، وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست بمحسوسة بالذات إما هي مثل مبادئ للمحسوسات أو هي أعم من المحسوسات..».()
والأمل ألا يغتر كل برأيه فيحسبه “الفطرة” وما عداه ضلال، أو يحلق بالمناقشة إلى التنظير العصي عن التطبيق مثل:
ـ “المجتهد” الذي استمر تداوله أكثر من عشرة قرون وما يزال، دون أن يتحقق في الواقع، أو توضع إجراءات مقبولة تحدد تعيينه.
ـ و”الاجتهاد المقاصدي” الذي كتبت حوله آلاف المجلدات خلال القرن الأخير ولم ينتج ولو شيئا بسيطا أضيف فعلا إلى الإنتاج الفقهي ضمن المراجع المعترف بها.
وأكثر من ذلك أن الداعين إلى الاجتهاد المقاصدي أنفسهم يظلون في أغلب الأحكام الفقهية التي يتعرضون لها متشبثين بالتقليد المذهبي، كما رأينا في أمثلة منع المساواة التي أوردها الشيخ الطاهر ابن عاشور.()
ولعل أهم عون يقدمه المسلك للمساعدة على حضور الفقه في الواقع المعيش والمساهمة في تنظيمه هو الكشف عن مختلف أنواع سند هذا الفقه، والنسبة المستندة منه إلى تفسير النصوص التفصيلية وتعدد الآراء في هذا التفسير، وكل ذلك يؤكد أن كل الأحكام الاجتهادية هي آراء أفراد مؤسسة على الأمارات الظنية التي يختلف تأثيرها من فرد إلى آخر، ولدى نفس الفرد من حال إلى حال() إذا تأكد ذلك سهلت مراجعة المقولتين: الكشف عن أحكام الله الأزلية في الاجتهاد، والترجمة عن الله في الفتوى، وتيسرت مساهمة الفقه في البحث المتواصل لمشاكل المجتمع وتدبير شئونه استعمالا لضوابط التفسير الأصولية التي هو متخصص فيها، وللعقل في تنزيل كليات الشريعة وقيمها.
وأختم بما بدأت به وهو أن المسلك ليس خاصا بمؤسسة دار الحديث الحسنية ولا ملكا لها، لذلك أدعو كل الباحثين، أساتذة وطلبة، داخل المؤسسة وخارجها، إلى المساهمة في المشروع، فكل باحث يمكنه أن يختار أحد الأبواب الفقهية ويتابع فيه أحكامه الجزئية وسند كل حكم منها في المذاهب الأربعة كمرحلة أولى يمكن تمديدها فيما بعد إلى المذاهب الأخرى. وتعدد الأبحاث في نفس الباب يعني استعمال مراجع أكثر، وهو ما يساعد على تدقيق سند الحكم في المذهب المعني. والله الهادي إلى سواء السبيل وهو المستعان به وولي التوفيق.