الرئيسية / ما بين الإمامين مالك والشافعي: دراسة في موقف التلميذ من الشيخ وفي أهم الفروق الأصولية بينهما.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : ما بين الإمامين مالك والشافعي: دراسة في موقف التلميذ من الشيخ وفي أهم الفروق الأصولية بينهما.

الكاتب(ة) : د. الناجي لـميـــــــــــــــــــــــن

 «دراسة
في موقف التلميذ من الشيخ وفي أهم الفروق الأصولية بينهما»

 

د.
 الناجي  لمين

أستاذ
 بدار  الحديث  الحسنية، بالرباط.

مدخل عام:

  إن الاتفاق حاصل بين
الأئمة الثلاثة: مالك وأبي حنيفة والشافعي على أن أصول الأحكام: القرآن، والسنة، والإجماع ، والقياس، وأن رأي
الصحابي له اعتبار ما. لكن الخلاف يكون في المنهج الذي يعتمد عليه كل من هؤلاء في الاستنباط من هذه الأصول، فنجد
طريقة العراقيين وطريقة أهل الحجاز. ويحلو لبعض الكاتبين في تاريخ التشريع أن يميز بين الفريقين، فيقول: أهل
الحديث وأهل الرأي، ويقول: إن مذهب الشافعي هو الجمع بين الطريقتين.

  والمعلوم رواية أن
الشافعي (150- 204هـ) تفقه على الإمام مالك بعد أن تخرج على علماء مكة، وأنه أُقدِم إلى بغداد بعد ذلك سنة أربع
وثمانين ومائة، فاتصل بمحمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ) صاحب أبي حنيفة (ت150هـ)، وأخذ عنه كتبه، وناظره؛ بل ألف
كتابا في الرد عليه، انتصر فيه لمذهب الإمام مالك.

  وتذكر المصادر
المهتمة بحياة الشافعي وفقهه أن كتاب «الرسالة» (القديم) وهو في الأصول: من بواكير مؤلفات الشافعي، مما يدل على
أنه أضحى له نظر في المنهج الفقهي مخالف لما كان عليه شيوخه.

  ويستفاد من كلام ولي
الله الدهلوي في كتابه الإنصاف() أن أبا حنيفة لم ينشئ مذهبه إنشاء، وإنما يمثل حلقة من حلقات مذهب مستقر
الأصول، واضح القسمات، وهو فقه إبراهيم النخعي الذي استقاه –ولا شك– من مؤسسي مدرسة الكوفة، وفي طليعتهم عبد
الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

  ونص الدهلوي كذلك
على أن فقه مالك يستمد مقوماته من فتاوى عمر وقضاياه، وعلم الصحابة والتابعين الذين استقروا بالمدينة، لا يعدو
ذلك.()

  لذلك فإن منهجَي أهل
العراق وأهل الحجاز -وإن قامت بينهما فروق كثيرة- لهما ناظم يجمعهما: وهو مراعاة قول وعمل من سبق من فقهاء
البلد، ومراعاة عوائد الناس، والتوسع في الاستحسان، والقياس على غير أصل معين، وإنما على الأصول العامة للشريعة،
وعدم الاهتمام كثيرا باتصال أسانيد الحديث.

  لكن الشافعي اتبع
منهجا فقهيا مخالفا لهذا تمام المخالفة، جماعه: “إذا صح الحديث (ومن شروطه عنده الاتصال) فهو مذهبي”، ولا التفات
إلى غيره من الأقاويل والعمل، وأبطل الاستحسان، وأنكر العرف، ولم يأخذ بالذرائع، وشدد النكير على القائلين بعمل
أهل المدينة، ورد الاستدلال بالحديث المرسل.. فالشرع عنده إما نص أو قياس على النص أو ما في معناه. وحصر كل
اجتهاد داخل دائرة القياس بهذا المفهوم.

  وهذا المنهج هو الذي
شكل  ــ فيما بعد ــ المقدمة الطبيعية للمذهب الظاهري الذي أخذ بظاهر النص، ونفى القياس.

  والخطأ المنهجي الذي
ارتكبه الإمام الشافعي في حق شيخه الإمام مالك هو أنه حاكمه إلى هذا الخط الأصولي الذي رسمه لنفسه، خاصة فيما
يتعلق بخبر  الواحد من حيث معايير القبول وطرق الاستثمار. ولقد ألف فيه كتابا() انتقد عليه فيه أمورا
كثيرة، يمكن ردها إلى أمر واحد، وهو أن الإمام مالكا في نظر الإمام الشافعي كان يروي الحديث عن النبي صلى الله
عليه وسلم: فمرة يوافقه، ومرة يخالفه، ولم يكن له أصل ثابت مطرد يسير عليه في تعامله مع خبر الواحد.

  وهو أمر صحيح في
الظاهر إذا طبقنا المنهج الأصولي الشافعي. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة:

  ذلك أن الإمام مالكا
في اجتهاده الفقهي مهموم بأمرين أساسين:

  الأمر الأول: الحرص على تحقيق مقصود الشرع.

  الأمر الثاني: وهو متفرع عن الأول: الحرص على استقرار أحوال الناس الفكرية
والفقهية والقضائية بالمدينة.

ورأَى أن الذي يحقق هذين
الأمرين هو التوسع في فتح باب المصالح وسد باب الذرائع، والتمسك بعمل أهل المدينة.

ولذلك فهو لا يطبق أصلا
واحدا على كل المسائل التي تبدو متشابهة، بل كان ينظر –خلافا للشافعي- في كل مسألة على حدة، مراعيا عند دراستها
أكثر من أصل. ونجده في أحيان كثيرة يأخذ بالحديث ولو كان منقطعا إذا عضده العمل، وجرى على وفقه عرف الناس، أو
كان موافقا لقول من أقوال أئمة الصحابة، أو منسجما مع الأصول العامة للشريعة، أو كان ثابتا عنده من غير طريق..
وقد يروي الحديث بالسند المتصل، ولا يأخذ به لقصوره عن الشروط الأخرى المعتبرة عنده.

وبعبارة أبي زهرة:
«فالشافعي يـأخذ بالدليل السني منفردا، ومالك يأخذ به مقارنا دارسا فاحصا، ولو كان هو راوي الخبر، وقد دونه في
موطئه»().

أما بخصوص القياس، فقد كان
الإمام مالك يمارس عملية القياس الفقهي باعتباره هاديا إلى محاسن الشريعة، ولذلك كان يقيس على أصل معين، وقد
يقيس على غير أصل معين، ويعلل بالوصف المنضبط وبالحكمة. وقد يستحسن إذا قبح القياس.

إن من لا يدرك هذه الفروق
المنهجية بين الإمامين مالك والشافعي لا ينظر بعين الإنصاف إلى ما كتبه الشافعي في حق شيخه. وهو ما سأحاول
معالجته في هذا البحث. وبالله التوفيق.

I – الشافعي في مجلس
مالك.

  لقد ولد الشافعي
بغزة سنة (150هـ)، وحملته أمه صغيرا -وكان يتيما- إلى موطن آبائه وأجداده: مكة المكرمة، وبها نشأ وخطا خطواته
الأولى في التربية والتحصيل(): فبدأ بتعلم القرآن، فحفظه وهو ابن سبع سنين. ثم تابع تحصيله للعلم، بعد حفظه
للقرآن الكريم بمكة، بالمسجد الحرام.

  يقول عبد الله بن
الزبير الحميدي تلميذ الشافعي: “قال لي الشافعي: كنت يتيما في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان
المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام. فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وأحفظ الحديث أو
المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخَيْف()، وكنت أنظر إلى العظم يلوح، فأكتب فيه الحديث أو المسألة، وكانت لنا
جرة قديمة، فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة”.()

  وفي رواية الزبير بن
سليمان القرشي، تلميذ الشافعي أيضا، يقول الشافعي: «طلبت هذا الأمر عن خفة ذات يد، كنت أجالس الناس، وأتحفظ، ثم
اشتهيت أن أدون، وكان لنا منزل بقرب شعب الخيف، وكنت آخذ العظام والأكتاف، فأكتب فيها، حتى امتلأ في دارنا من
ذلك حبان».()

  وروى ابن حجر بسنده
عن حسين بن علي الكرابيسي تلميذ الشافعي كذلك عنه أنه قال: «كنت امرأ أكتب الشعر فآتي البوادي فأسمع منهم..
فقدمت مكة مرة، فخرجت وأنا أتمثل بشعرٍ للبيد، وأضرب وحشي قدمي بالسوط, فضربني رجل من ورائي من الحجبة فقال: رجل
من قريش، ثم ابن المطلب، رضي من دينه ودنياه أن يكون معلَّما؟ وهل الشعر إذا استحكمت فيه إلا أن تقصد معلما.
تفقه يعلمك الله”. قال الشافعي: “فنفعني الله بكلام ذلك الحجبي، ورجعت فكتبت عن ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب،
ثم كنت أجالس مسلم بن خالد الزنجي، ثم قدمت على مالك..().

  من هذه النصوص يتبين
أن الشافعي درس إلى جانب حفظه للقرآن وتجويده له: اللغة، والشعر، والحديث، والفقه.. ويذكر أهل التراجم أن اللذين
انتهى إليهما علم مكة رجلان: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (80-150هـ)، وسفيان بن عيينة
(107-198هـ).

  أما ابن جريج فلم
يدركه الشافعي، فأخذ علمه عن أربعة من تلاميذه، وهم: مسلم بن خالد الزنجي (100-180هـ)، وسعيد بن سالم القداح
(توفي قبل المائتين)، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد (ت206هـ) وعبد الله بن الحارث
المخزومي.

  وأما سفيان بن
عيينة، فقد لقيه الشافعي، وأخذ عنه كتبه في الحديث والتفسير. ومروياتُه مبثوثة في الأم وفي الرسالة، وهي تنافس
مرويات الإمام مالك في كتب الشافعي. وكان الشافعي يجل سفيان، ويرفع من قدره، ويعدله في الحديث بالإمام مالك، كان
يقول: “مالك وسفيان: القرينان في إسناد الحجاز”، أو يقول: “لولا مالك وسفيان لذهب علم
الحجاز”.()

  وتحصل للشافعي من
أخذه عن هؤلاء المحدثين والفقهاء حظ وافر من العلم، وقد قال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي: “أفت يا أبا عبد الله،
فقد -والله- آن لك أن تفتي”()

  بهذه الصفة والمكانة
وصل الشافعي إلى مالك بالمدينة، وهو يعلم أن علمها انتهى إلى هذا الإمام.

  ولقد اعتنى الشافعية
والمالكية على السواء بنقل الأخبار المتعلقة بأول اتصال للشافعي بمالك، وذلك لما له من عظيم الأثر على شخصية
الشافعي العلمية. يقول الشافعي : «قدمت على مالك –وقد حفظت الموطأ ظاهرا- فقلت: إني أريد أن أسمع الموطأ منك،
فقال: اطلب من يقرأ لك. قلت: لا، عليك أن تسمع قراءتي، فإن سهل عليك، قرأت لنفسي. قال: اطلب من يقرأ لك. وكررت
عليه، فقال: اقرأ. فلما سمع قراءتي، قال: اقرأ. فقرأت عليه حتى فرغت منه».

  هذه رواية ابن أبي
حاتم()، وفي كتاب “مناقب الشافعي” للرازي، وترتيب المدارك للقاضي عياض، في كلام أطول مما عند ابن أبي حاتم: أنه
استعار الموطأ من رجل بمكة، وحفظه.. واتصل بمالك عن طريق والي المدينة، فلما نظر إليه مالك قال له: «إن الله
تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية»، ثم قال: «إذا كان غدا، تجيء بمن يقرأ لك الموطأ». فقال له
الشافعي: «إني أقرأه من الحفظ»، قال الشافعي: «ثم إني رجعت إليه من الغد، وابتدأت القراءة، فكلما أردت قطع
القراءة، خوفا من ملالته، أعجبه حسن قراءتي، فيقول: يا فتى: زد. حتى قرأته في أيام يسيرة..».

  وفسر أحمد إعجاب
مالك بقراءة الشافعي بأنه كان فصيحا.()

  ولعل الشافعي، قبل
أن يرحل إلى مالك، لم يقنع بما كان يقنع به أغلب طلبة العلم في عصره، وهو إتقان علم أهل البلد، ثم التدريس
والإفتاء على طريقتهم. وقد كان يحس من نفسه أن مرتبة الاستقلال بالرأي لم يبلغها. وهذا ما يفسر لنا حرصه الشديد
على ملازمة مالك والأخذ عنه.

  وإذا كان الذي أخذ
عنه الشافعي بمكة أحد رجلين: إما معتن بالأحاديث والأخبار دون أن يصل إلى الدرجة العالية في الفقه، أو محتفل
بالفقه ضعيف في الحديث: فإن مالكا قد جمع بين الإمامة في الفقه والإمامة في الحديث. ولذلك أرى أن الشافعي، بما
حباه الله به من  قوة الإدراك وحضور البديهة وقوة البيان.. قد نال من ملازمته مالكا ما جاء من أجله: وهو أن
يبلغ درجة الاجتهاد والاستقلال بالرأي، وأن يملك المقدرة العلمية على الأخذ والرد، والقبول
والرفض.

  يدل على ذلك أنه
بمفارقته الإمام مالكا لم يحرص على أن يقوم برحلة أخرى لطلب العلم، بل اتجهت رغبته إلى الحصول على عمل يدفع به
فاقته، فتيسر له الذهاب إلى اليمن للعمل بنجران.

  ولم تكن ملاقاته
لمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة عن قصد وتخطيط، بل كانت بعد حادثة عارضة: وهي حادثة اتهام الشافعي
بالتشيع، وسوقه إلى الرشيد مع جماعة آخرين للإعدام.

  وكانت شهرته وهو
باليمن قد وصلت إلى محمد بن الحسن، قاضي هارون الرشيد، والمقرب إليه. وتذكر كثير من الروايات أن محمدا هو الذي
تشفع له عند هارون الرشيد، فنجا من الموت.()

  ويدل على صحة ما
قررناه أيضا أن أخذ الشافعي عن محمد بن الحسن الذي آل إليه علم أهل العراق لم تظهر فيه صفة التلمذة والمشيخة
التي لاحظناها في علاقة الشافعي بمالك، بل كانت النِّدِّية بارزة. وسرعان ما تطور الأمر بينهما إلى سلسلة من
المساجلات والمناظرات العلمية، كان محمد أفرح بها من الشافعي. والجزء السابع من الأم() حوى قسطا كبيرا من هذه
المساجلات والمناظرات.

  وذكر علاء الدين
الحصكفي() أن الشافعي صار فقيها بسبب محمد بن الحسن، وعقب ابن عابدين على كلام الحصكفي قائلا: «أي زاد فقاهة،
واطلع على مسائل لم يكن مطلعا عليها، فإن محمدا أبدع في كثرة استخراج المسائل، وإلا فالشافعي رضي الله تعالى عنه
فقيه مجتهد قبل وروده إلى بغداد، وكيف يستفاد الاجتهاد المطلق ممن ليس كذلك».()

  بقيت مسألة أخرى
مهمة تتعلق بالفترة التي قضاها الشافعي في مجلس مالك:

  يذكر بعض أهل
التراجم والسير أن الشافعي لقي مالكا أول ما لقيه سنة ثلاث وستين ومائة، والشافعي ابن ثلاث عشرة سنة(!).. وأن
ملازمته لمالك كانت في الأوائل().. والقاضي عياض ذكر ترجمته في مداركه ضمن الطبقة الوسطى من أصحاب مالك. وذكر
كذلك أن الشافعي لازم مالكا إلى أن توفي؛ وهو المنصوص عند الرازي أيضا.()

  والذي تدل عليه
قرائن الأحوال أن الشافعي رحل إلى مالك وهو شاب يافع، قد قارب العشرين()، وأنه فارقه قبل أن يتوفاه
الله..

  ومن الأدلة على ذلك
ما وجدته في كتاب “اختلاف مالك والشافعي” والخاص بصفة صلاة الخوف، فهي عند الشافعي: أن تصطف طائفة مع الإمام،
وطائفة أخرى تقف وجاه العدو، فيصلي الإمام بالذين معه ركعة، ثم يثبت قائما، فيتمون لأنفسهم، ثم ينصرفون، فيصطفون
وجاه العدو. وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام الركعة التي بقيت من صلاته، ثم يثبت جالسا، ويتمون لأنفسهم،
ثم يسلم بهم.

  قال الشافعي:
«فأخذنا نحن وهو بهذا، حتى حكي لنا عنه غير ما عرضنا عليه».()

  فالشافعي هنا يصرح
بأنه عرض على الإمام مالك الحديث الذي يدل على هذه الصفة التي ارتضاها الشافعي، وأن مالكا كان يذهب إلى مقتضى
هذا الحديث أيضا، ثم وصله بعد ذلك من شيخه غير ما عرض عليه.

وما ذكره الشافعي عن مالك
موافق لرواية قتيبة بن سعيد عنه أيضا، قال البخاري في صحيحه: «حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك، عن يزيد بن رومان،
عن صالح بن خوات، عمن شهد مع رسول الله ، يوم ذات الرقاع، صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو،
فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى
بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا،وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم”. “وقال معاذ: حدثنا هشام عن أبي
الزبير عن جابر قال: كنا مع النبي  بنخل فذكر صلاة الخوف. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة
الخوف..”.()

  أما في الموطأ
برواية يحيى بن يحيى الليثي فنجد حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات كما في البخاري. ونجد كذلك حديث القاسم بن
محمد عن صالح بن خوات أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف:أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة
مواجهةٌ العدو، فيركع الإمام ركعة، ويسجد بالذين معه، ثم يقوم، فإذا استوى ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية،
ثم يسلمون، وينصرفون، والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا، فبكبرون وراء الإمام،
فيركع بهم الركعة، ويسجد، ثم يسلم، فيقومون، فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون.

  ثم يروي مالك في
الموطأ –برواية الليثي- حديثا موقوفا على ابن عمر يصف كيفية أخرى لصلاة الخوف، وأثراً لابن المسيب في موضوع آخر،
ثم يقول: «وحديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات أحب ما سمعت إلي في صلاة الخوف».()

  فأنت تلاحظ أن ما
وقع في البخاري من رواية قتيبة للموطأ غير ما في رواية يحيى الليثي، مما يعني أن مالكا كان يقول بحديث يزيد بن
رومان عن صالح بن خوات، ثم ترك الأخذ بهذا الحديث إلى حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات؛ لأن الليثي روى عن
مالك الموطأ في آخر حياته، بل إنه بقي له من أحاديث الموطأ قسم من كتاب الاعتكاف، رواه عن زياد بن عبد الرحمن عن
مالك؛ ولم يروه عن مالك مباشرة.()

  وهذا ما أكده ابن
القاسم، قال: العمل عند مالك في صلاة الخوف على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات.. وقد كان مالك يقول بحديث
يزيد بن رومان، ثم رجع إلى هذا.()

  والفرق بين
الحديثين: أن رواية يزيد بن رومان تنص على أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية، ورواية القاسم بن محمد تنص على أن
الإمام لا ينتظر الطائفة الثانية، بل يسلم قبلها، وتتم هي بقية صلاتها دونه. فبالرواية الأولى أخذ

  الشافعي ومالك عندما
كان الشافعي عنده، وبالرواية الثانية أخذ مالك في آخر أمره، وترك الأولى. ثم إننا نلاحظ كذلك أن بعض الأحاديث قد
طرحها مالك من الموطأ في آخر حياته، وليست موجودة في رواية يحيى الليثي، لكنها موجودة عند
الشافعي.()

  فبان من كل هذا أن
الحق مع من قال إن الشافعي فارق مالكا قبل وفاته بمدة ليست بالقصيرة. والله أعلم.

II – مكانة مالك وموطئه عند
الشافعي.

أ – مكانة الإمام مالك عند الإمام
الشافعي:

لم أر الشافعي –على ما
أعلم- توسع في ذكر مناقب عالم توسعه في مدح الإمام مالك، ولم يلقب أحدا بالأستاذ سوى مالك:

فلقد بين مكانته في رواية
الحديث وضبطه له فقال: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم»()؛ وفي قول: «إذا جاء الأثر فمالك النجم»(). وقال فيه
أيضا: «مالك وسفيان: القرينان في إسناد الحجاز»؛ وفي قول: «لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز»()؛ وقال: «العلم
–يعني الحديث- يدور على ثلاثة: مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد».()

وأبرز حرصه على التثبت في
الحديث والاحتياط في الرواية فقال: «كان مالك إذا شك لم يتقدم، إنما يهبط في الحديث أبدا: إذا كان مسندا؛ إنما
ينزل درجة»() . وقال: “قيل لمالك بن أنس: إن عند ابن عيينة عن الزهري أشياء ليست عندك. فقال مالك: وأنا كل ما
سمعت من الحديث أحدث به؟! أنا -إذن- أريد أن أظلمهم”() . وقال: «كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله»(). وقال:
«لم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم: لحفظه، وإتقانه، وصيانته».()

ولأجل إتقان مالك رواية
الحديث وتثبته فيها كان الشافعي لا يقدم عليه أحدا(). ومن طالع كُتب الأم علم حقيقة ذلك.

وفي اعتراف تام يذكر
الشافعي فضل مالك عليه، وأنه بلقياه استوت له آلة الاجتهاد، يقول: «مالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، وما أحد أمنَّ
علي من مالك». وقال محمد بن عبد الحكم: كان الشافعي إذا سئل عن شيء يقول: هذا قول الأستاذ، يعني
مالكا..()

ومما يدل على تعظيم الشافعي
لمالك أنه كان -أبدا- يقول القول الذي يراه، لا يهمه وافق قول مالك أو خالفه، ولا يتعرض لشيخه بشيء، حتى ظن بعض
المالكية أنه بقي على مذهبه حتى السنوات الأخيرة من حياته.

بل إن الشافعي كان بالعراق
ينافح عن مالك، حتى إنه ألف كتابا في الرد على محمد بن الحسن()، بناه على كتاب محمد بن الحسن المسمى “الحجة على
أهل المدينة”()، حيث يورد قول محمد بن الحسن ثم يعقب عليه.

ولم يصرح الشافعي بمخالفة
مالك إلا بعد أن بلغه –كما يحكي الشافعية- أن لأهل الأندلس قلنسوة (طاقية) لمالك يستسقى بها. وكان يقال لهم:
“قال رسول الله” فيقولون:” “قال مالك”. فقال الشافعي: إن مالكا بشر يخطئ ويصيب.. فدفعه ذلك إلى وضع كتاب في خلاف
مالك.. «وكان يقول: استخرت الله في ذلك سَنة».()

ورأى القاضي عياض أن سبب
تميزه عن أستاذه: ما لاقاه من سوء معاملة من بعض المالكية، خاصة: فتيان ابن أبي السمح. قال: «وصرح من حينئذ
بالخلاف والرد على أكبر أساتيذه..».()

ومع ذلك فإن العادة أن
الشافعي كان لا يذكر شيخه، عند الرد عليه، بالاسم، تعظيما له..

ب – مكانة الموطأ عند الإمام الشافعي:
نقل الشيخ محمد مخلوف اتفاق
أهل الحديث على أن جميع ما في الموطأ صحيح على رأي مالك ومن وافقه؛ وأما على رأي غيره، فليس فيه مرسل ولا منقطع
إلا قد اتصل السند فيه من طرق أخرى، فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه..

أما الذين أخذوه عن مالك
بغير واسطة، فقد ذكر الشيخ مخلوف أن عددهم يفوق الألف، منهم فقهاء كبار: كالشافعي، ومحمد بن الحسن، وابن القاسم،
وابن وهب، ومنهم محدثون جهابذة: كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي.. قال: «ولم يزل العلماء يخرجون
أحاديثه ويذكرون [متابعاته] وشواهده، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية
ليس بعدها غاية..».()

وحصل الإجماع أيضا عند
المحدثين أن الحديث إذا ثبت برواية مالك كان في الدرجة الأولى من الصحة. ومن صنيع البخاري في صحيحه أن الحديث
إذا صح من طريق مالك كانت له مكانة الصدارة عنده، وأصح الأسانيد كلها عنده: مالك عن نافع عن عبد الله بن
عمر.()

وقيمة الموطأ لا تقتصر على
ضمه لصحاح الأحاديث، بل حوى بين دفتيه أيضا فتاوى وآثار كبار فقهاء الصحابة، كالخليفة عمر وابنه عبد الله،
واجتهادات كبار فقهاء التابعين كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله..
واختيارات مالك.. فهو كتاب فقه وحديث.

ولقد تنوعت عبارات العلماء
المعاصرين للإمام مالك في مدح الموطأ، والتنويه بأهميته: قال ابن مهدي: «ما كتاب، بعد كتاب الله، أنفع للناس من
الموطأ»؛ وقال: «لا أعلم من علم الناس، بعد القرآن، أصح من موطأ مالك»، يعني: في زمانه.

أما الشافعي فقال: «ما في
الأرض كتاب في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك» يعني: في زمانه، والعلم يعني: الحديث. وقال أيضا: «وما كتب الناس،
بعد القرآن، شيئا هو أنفع من موطأ مالك، وإذا جاء الأثر من كتاب مالك فهو في الثريا».()

وما ألف في الحديث بعده من
الأمهات: كالكتب الستة، والمستدرك على الصحيحين يدور عليه: بوصل مراسيله، ورفع موقوفاته. «فكأن هذه الكتب شروح
للموطأ، ومتممات له. ولا يوجد فيه موقوف صحابي أو أثر تابعي، إلا وله مأخذ من الكتاب
والسنة..».()

هذه الأهمية العلمية التي
يحظى بها الموطأ: جعلت الشافعي يبث أحاديثه في “الأم” موزعة على أبوابه، ويرصع بها مباحث كتابه “الرسالة”.
فالمصدر الأول من مصادر الشافعي في الأخبار هو الموطأ.

ولم يبالغ ولي الله الدهلوي
عندما قرر أن مذهب «الشافعي، في الحقيقة، تفصيل لكتاب الموطأ»():  فالموطأ كتاب فقه وحديث –كما سبق- ألف
على أبواب الفقه، والشافعي في إنشائه لكل باب يرتكز على الموطأ: إما بتقرير ما فيه، أو بنقده، وإبداء القول الذي
يراه صوابا.

خذ مثلا الباب المتعلق
بالعتق في الرقاب الواجبة، في الموطأ والأم:

تقرأ في الموطأ: «قال مالك:
فأما الرقاب الواجبة التي ذكر الله في الكتاب، فإنه لا يعتق فيها إلا رقبة مؤمنة».()

وتقرأ في الأم: قال الله
تعالى (وما كان لمومن أن يقتل مومنا إلا خطأ، ومن قتل مومنا خطأ فتحرير رقبة مومنة ودية مسلمة إلى أهله). وقال
الله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مومن فتحرير رقبة مومنة).()

وتقرأ فيه أيضا: قال الله
تعالى: (والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا).()

مع تحليل فقهي لهذه الآيات،
وذكر لأقوال المخالفين الذين لا يحملون المطلق الوارد في سورة المجادلة على المقيد الوارد في سورة
النساء..

وتقرأ في موضع آخر
من”الأم”: «ولو أعتق في كفارة اليمين أو في شيء وجب عليه العتق: لم يجزه إلا رقبة مومنة، ويعتق فيها الأسود
والأحمر، والسوداء والحمراء. وأقل ما يقع به اسم الإيمان على العجمي: أن يصف الإيمان إذا أمر بصفته، ثم يكون به
مؤمنا، لأن حكمهم حكم الإيمان. ويجزي في الكفارات ولد الزنا، وكذلك كل ذي نقص بعيب لا يضر بالعمل ضررا بينا، مثل
العرج الخفيف، والعور، وشلل الخنصر، والعيوب التي لا تضر بالعمل ضررا بينا. ويجزي فيه العرج الخفيف، ولا يجزي
المقعد، ولا الأعمى، ولا أشل الرجل يابسها، ولا اليدين يابسهما. ويجزي الأصم والخصي()، والمجبوب وغير المجبوب،
ويجزي المريض الذي ليس به مرض زمانة، مثل الفالج والسبل() وما أشبهه».()

ونظائر هذا في الأم كثيرة
فلا نطنب فيه.

III – جملة ما انتقده
الشافعي على مالك.

  أ – عدم الأخذ بأصل ثابت مطرد في الاستنباط
:

 
خص الشافعي المسائل التي انتقدها على مالك بكتاب يسمى حسب ما هو موجود في “الأم” للشافعي(): “اختلاف مالك
والشافعي رضي الله عنهما”.

  ومن يقرأ هذا الكتاب
يتبين له أن الشافعي ألفه بدافع وحشة استحكمت بينه وبين بعض المالكية. ولذلك تجد الربيع، تلميذ الشافعي، يمثل
دور المالكي الملتزم، فيعترض على الشافعي بأقوال الإمام مالك أو أصحابه، ويرد الشافعي عليه.

  والذي يقوي هذا
التفسير أن في الكتاب عبارات من الشافعي جارحة، تصف المخالف بالجهل، وبالبعد عن العلم، ومناقضة المنطق الفقهي
والأصولي. مثل قوله: «..وإنما ذهبتم إليه لجهالتكم بالحديث والحجج..»، وقوله في نفس السياق: «وهذا منكم جهالة
بالحديث وبالحجة»(). وفي مكان آخر يقول الشافعي موجها الخطاب إلى تلميذه الربيع دائما: «وأنتم تدعون أنكم تتبعون
أهل المدينة، وقد خالفتم ما روى صاحبنا() عنهم كله. إنه لبين في قولكم أنه ليس أحد أترك على أهل المدينة لجميع
أقاويلهم منكم مع ما تبين في غيره؛ ثم ما أعلمكم ذهبتم إلى قول أهل بلد غيرهم. فإذا انسلختم من قولهم وقول أهل
البلدان، ومما رويتم، وروى غيركم، والقياس، والمعقول: فأي موضع تكـونون به علماء وأنتم تخطئون مثل هذا، وتخالفون
فيه أكثر الناس؟!»(). وفي موضع آخر يقول الشافعي أيضا: «وأنتم زعمتم أنكم لا تقبلون إلا حديث صاحبكم()، وليس من
حديث صاحبكم خلاف ابن عمر».()

  إلا أن الكتاب ألف
أساسا لبيان ضعف منهج الإمام مالك الفقهي (في نظر الشافعي طبعا)، ولتخطئته في كثير من اختياراته. وهو مقسم من
حيث المنهج النقدي إلى ثلاثة أقسام، قسم ذكرت فيه مسائل روى فيها مالك أحاديث وأخذ بها، وقسم –وهو الأعظم- ذكرت
فيه المسائل التي روى فيها مالك حديثا مرفوعا أو قولا موقوفا على صاحبه، ولم يأخذ به. وقسم أفرد لنقد أصل
“العمل” الذي يأخذ به مالك، ويقدمه على الآثار.

  ومنهج الشافعي العام
أنه يذكر المسألة مذيلة أو مسبوقة بأثر، ويبين موافقة مالك أو مخالفته. ويتخلل ذلك سؤال الربيع أو اعتراضه.
ويحرص الشافعي في ردوده على مالك: على أن يتعرض لقضايا منهجية وأصولية.. ويبين نظره فيها.

  من أهم هذه القضايا
نظره في خبر الواحد من حيث الثبوت والحجية. وبهذه القضية بدئ الكتاب:

  قال الشافعي: «إذا
حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله  فهو ثابت عن رسول الله ، ولا نترك لرسول الله  حديثا
أبدا إلا حديثا وجد عن رسول الله  حديث يخالفه. وإذا اختلفت الأحاديث عنه فالاختلاف فيها وجهان: أحدهما: أن
يكون بها ناسخ ومنسوخ، فنعمل بالناسخ ونترك المنسوخ؛ والآخر: أن تختلف ولا دلالة على أيها الناسخ، فنذهب إلى
أثبت الروايتين، فإن تكافأتا: ذهبت إلى أشبه الحديثين بكتاب الله وسنة نبيه فيما سوى ما اختلف فيه الحديثان من
سنته. ولا يعدو حديثان اختلفا عن النبي  أن يوجد فيهما هذا أو غيره مما يدل على الأثبت من الرواية عن رسول
الله . فإذا كان الحديث عن رسول الله  لا مخالف له عنه، وكان يروى عمن دون رسول الله  حديث يوافقه، لم
يزده قوة. وحديث النبي  مستغن بنفسه. وإن كان يروى عمن دون رسول الله حديث يخالفه لم ألتفت إلى ما خالفه.
وحديث رسول الله أولى أن يؤخذ به».()

  وتجد الشافعي يكرر
مثل هذا الكلام أو بعضه مرات عديدة في مناسبات مختلفة(). والنص الذي أوردناه يوضح الشروط التي يجب أن تتوفر في
خبر الواحد حتى يكسب صفة القبول. ثم إذا ثبت الحديث بهذه الشروط يكون حجة على من ثبت عنده. وهو مكتف بنفسه في
الحجية، مستغن عن غيره؛ لا يزيده قوة ما وافقه من أقوال الصحابة أو من هم دون الصحابة، ولا يضعفه ما خالفه
منها.

  وبسط هذا التصور
لخبر الواحد في مقدمة الكتاب الذي ألفه للرد على الإمام مالك، وتكراره مرات عديدة في أثناء الكتاب، يشير إلى
الانتقاد الإجمالي الذي انتقده الشافعي على مالك(): وهو أنه لا يسير على أصل ثابت مطرد: فتارة يروي الحديث
المتصل ويأخذ به، ومرة يقدم عليه الحديث المنقطع، ومرة يروي الحديث، ويأخذ بقول الصحابي أو التابعي ويترك الأخذ
بالحديث. وتارة أخرى يترك الحديث وقول الصحابي إما لرأي نفسه، وإما لما يسميه “العمل”. وحتى أصل “العمل” ليس له
مذهب ثابت فيه.

  هذا الرد الإجمالي
نص عليه الشافعي مرارا في هذا الكتاب، من ذلك قوله: «وما نعرف لكم مذهبا» أي: وما نعرف لكم أصلا ثابتا تسيرون
عليه، ويحاكمكم مخالفكم إليه. وقوله: «..وما حفظت لك() مذهبا واحدا في شيء من العلم استقام لك فيه قول، ولا حفظت
أنك ادعيت الحجة في شيء إلا تركتها في مثل الذي ادعيتها فيه..»(). وفي نفس الباب يقول الشافعي أيضا: «..ولا
أعلمك تدري لأي شيء تحمل الحديث إذا كنت تأخذ منه ما شئت وتترك منه ما شئت..».()

  ونفس هذا الكلام
يكرره الشافعي في باب زكاة الفطر، لكن بعبارات أطول: «فلست أدري لأي معنى تحملون ما حملتم من الحديث: إن كنتم
حملتموه لتعلموا الناس أنكم قد عرفتموه فخالفتموه بعد المعرفة: فقد وقعتم بالذي أردتم وأظهرتم للناس خلاف السلف؛
وإن كنتم حملتموه لتأخذوا به: فقد أخطأتم ما تركتم منه. وما تركتم منه كثير في قليل ما رويتم. وإن كانت الحجة
عندكم ليست في الحديث، فلم تكلفتم روايته، واحتججتم بما وافقتم منه على من خالفه؟!.».()

  والنصان الأخيران
يشيران إلى صنيع الإمام مالك في موطئه؛ لأنه يروي في بعض الأحيان الحديث عن النبي ، أو الأثر عن الصحابي أو
التابعي، ثم يقول عقبه: «وليس على هذا العمل»، أو نحو هذه العبارة.

  وفي سياق رد الشافعي
الإجمالي دائما، هناك نص آخر للشافعي يعيب فيه على الإمام مالك أنه وضع أصلا لقبول خبر الآحاد، ولم يحترمه. يقول
الشافعي: «وزعمت() أنك تثبت السنة() من وجهين: أحدهما أن تجد الأئمة من أصحاب النبي  قالوا بما يوافقها،
والآخر أن لا تجد الناس اختلفوا فيها. وتردها إن لم تجد للأئمة فيها قولا، وتجد الناس اختلفوا
فيها».()

  هذا هو الأصل. ثم
بين الشافعي أن الإمام مالكا لم يحترمه، وأعطى طائفة من الأمثلة، منها قوله: «تُـثْبِت تحريم كل ذي ناب من
السباع()، واليمين مع الشاهد()، والقسامة()، وغير ذلك..» و«لا تروي فيه عن أحد من الأئمة شيئا يوافقه، بل أنت
تروي في القسامة عن عمر خلاف حديثك عن النبي ..».()

  هذا الذي ذكرنا
يتعلق برد الشافعي من حيث الإجمال.

  أما ردوده على مالك
من حيث التفصيل، فقد انتقد عليه مجموعة من القضايا المنهجية، أهمها:

1 – أن الإمام مالكا يترك الحديث لقول الصحابي، ثم يترك قول ذلك الصحابي
لرأي نفسه. وهذه القضية أخذت حيزا كبيرا في كتابه بالمقارنة بالقضايا الأخرى. من ذلك قول الشافعي: «..فكيف إذا
سمعت هذا عن النبي  قلت بخلاف ما سمعت عنه لقول ابن عمر..»(). وقال الشافعي في موضع آخر: «وقد تتركون قول
ابن عمر لرأي أنفسكم، ولرأي غير ابن عمر، فإذا تركتم ما روي عن النبي  من طيب المحرم لقول عمر()، وتركتم
على عمر تقريد البعير لقول ابن عمر()، وعلى ابن عمر فيما لا يحصى لرأي أنفسكم، فالعلم إليكم عند أنفسكم صار، فلا
تتبعون منه إلا ما شئتم، ولا تقبلون إلا ما هويتم، وهذا ما لا يجوز عند أحد من أهل العلم..».(

2 – أن الإمام مالكا يضيق خلاف عمر، وقد خالفه مرات عديدة، خالفه في «أكثر
من مائة قول»()، بل خالف عمر ومع عمر السنة عن رسول الله (). وقد خالفه ولا يعلم له مخالف من الصحابة. قال
الشافعي: «..وأنتم تقولون: حكمه (أي عمر) بالمدينة كالإجماع من عامتهم، فإن كان قضاء عمر –رحمه الله- عندكم كما
تقولون،فقد خالفتموه في هذا وغيره، وإن لم يكن كما تقولون فلا ينبغي أن يظهر منكم خلاف ما تقولون أنتم، وأنتم لا
تروون عن أحد أنه خالفه، فتخالفون بغير شيء رويتموه عن غيره..».()

3 – أن الإمام مالكا يترك الحديث الأثبت إلى الحديث
الضعيف.()

4 – أنه يترك قول الصحابي ولا مخالف له من الصحابة لرأي نفسه(). وقد يكون
رأي نفسه مخالفا حتى للقياس.()

5 – أنه يترك قول الصحابي وروايته لقول التابعي، قال الشافعي: «فتركتم رواية
عائشة ورأيها() ورأي حفصة بقول ابن المسيب..».()

6 – أنه يترك الخبر عن رسول الله  لرأي يخالف السنة والآثار والقياس
والمعقول، قال الشافعي: «فحديثاكم اللذان تعتمدون عليهما عن رسول الله  يخالفان الاستظهار()، والاستظهار
خارج من السنة والآثار والمعقول والقياس، وأقاويل أكثر أهل العلم..».()

7 – أنه يقول بقول لم يسبق إليه بالمدينة، بل قلد فيه غيره من غير أهل
المدينة. ففي مسألة أقل ما يجوز فيه الصداق، يروي مالك حديث سهل بن سعد الذي يقول فيه الرسول : «اِلتمس ولو
خاتما من حديد» وآثارا أخرى، ويقول في آخر الباب: «لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار. وذلك أدنى ما يجب
فيه القطع»(). فقال الدراوردي لمالك، لأجل رأيه هذا: «تعرقت فيها يا أبا عبد الله». أي سلكت سبيل أهل العراق في
هذه المسألة. قال ابن عبد البر: «قد تقدمه() إلى هذا أبو حنيفة، فقاس الصداق على قطع اليد..».()

هذا الرأي الذي خالف فيه
الإمام مالك عامة فقهاء المدينة أعطى الفرصة للشافعي ليقول: «هذا شيء خالفتم به السنة، والعمل، والآثار
بالمدينة، ولم يقله أحد قبلكم بالمدينة علمناه، وعمر بن الخطاب يقول: ثلاث قبضات زبيب مهر، وسعيد بن المسيب
يقول: لو أصدقها سوطا فما فوقه جاز، وربيعة ابن أبي عبد الرحمن يجيز النكاح على نصف درهم، وأقل. وإنما تعلمتم
هذا فيما نرى من أبي حنيفة..».()

وفي مسألة أخرى يقول
الشافعي أيضا: «..ما علمت أحدا من الناس خالف في هذا غيركم، وغير من رويتم هذا عنه، إلا أبا حنيفة، فإني أراكم
سمعتم قوله، فقلتم به..».()

8 – أن الإمام مالكا يحب أن يخرج من أقاويل الناس، قال الشافعي: «..وما
للناس فيها() قول إلا قد خرجتم منه..».

9 – أنه يروي الحديث، ويأخذ به من وجه دون وجه. وبعبارة الشافعي: «تأخذ منه
ما شئت، وتترك منه ما شئت».()

10 – أنه يروي الحديث عن رسول الله ، ويرى بأن الرسول قاله أو حكم به على
سبيل السياسة، وليس على سبيل التشريع العام بحيث يلزم به كل حاكم وقاض. ومثال ذلك أن الشافعي روى من طريق مالك
حديث: «من قتل قتيلا، له عليه بينة، فله سلبه» وقال: «وبهذا نقول..»، فقال له الربيع الذي يمثل دور المالكي:
«فإنا نقول: إنما ذلك على الاجتهاد من الإمام»، فقال الشافعي: «تدعون ما روى عن النبي  وهو يدل على أن هذا
حكم من النبي  للقاتل! فكيف ذهبتم إلى أنه ليس بحكم؟!».()

11 – وانتقد الشافعي على مالك أنه روى أقوالا لصحابة وتابعين وخالفهم، وسمى
الشافعي منهم: عثمان بن عفان، وعائشة، وابن عباس،وعمرة بنت عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، وعمر بن عبد
العزيز..()

وأخص بالكلام هنا مسألة
مهمة تتعلق بمخالفة مالك لابن عباس: ذلك أن الإمام الشافعي انتقد على الإمام مالك أنه روى عن ابن عباس مسألة
بسند صحيح، وترك ما قال ابن عباس لشيء يرويه عن عكرمة وربيعة..()

أما عكرمة فهو مجروح عند
مالك، ولا يحب أن يروي عنه إلا مضطرا، قال الشافعي: «وهو (أي مالك) سيء القول في عكرمة، لا يرى لأحد أن يقبل
حديثه..»، ثم قال الشافعي: «..والعجب له أن يقول في عكرمة ما يقول، ثم يحتاج إلى شيء من علمه يوافق قوله. ويسميه
مرة، ويروي عنه ظنا، ويسكت عنه مرة فيروي عن ثور بن يزيد عن ابن عباس في الرضاع() وذبائح نصارى العرب() وغيره()،
وسكت عن عكرمة، وإنما حدث به ثور عن عكرمة. وهذا من الأمور التي ينبغي لأهل العلم أن يتحفظوا
منها..».()

وأما ربيعة فله آراء غاية
في الغرابة، من قبيل «من أفطر يوما من رمضان قضى باثني عشر يوما، ومن قبل امرأته وهو صائم اعتكف ثلاثة أيام وما
أشبه هذا، من أقاويل كان يقولها»() فكيف يكون قوله موضع اتباع واعتبار؟!

ب – التمسك بعمل أهل المدينة :
من الأصول التي اعتمدها
الإمام مالك في الفتوى: أصل «العمل». ويقصد به ما استقر عليه أمر الناس، وجرت به أحكام القضاة والحكام، وعرفه
الخاص والعام.. وقد يكون هذا «العمل» أصله النقل: كمسألة الأذان، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومسألة
الصاع، وغيرها..() وقد يكون طريقة الاجتهاد. وهذا النوع من العمل هو الذي ركز عليه الخصم ومنهم الشافعي.. قال
ابن القيم: «وأما العمل  الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال، فهو معترك النزال، ومحل
الجدال».()

وقد يكون «العمل» الذي
يعتبره مالك: عبارة عن قضاء أو فتيا ألزم بها عامة الناس، واستقرت أحوالهم عليها، فجاء مالك فوجد الناس على ذلك،
فكره أن يخالفه(). ولقد أوضح ابن القيم ذلك فقال:  «ومن المعلوم أن “العمل”، بعد انقراض عصر الخلفاء
الراشدين والصحابة بالمدينة، كان بحسب من فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق، ولم تكن الرعية
تخالف هؤلاء، فإذا أفتى المفتون نفذه الوالي، وعمل به المحتسب، وصار عملا». قال: «فهذا هو الذي لا يلتفت إليه في
مخالفة السنن، لا عمل رسول الله  وخلفائه والصحابة: فذاك هو السنة، فلا يخلط أحدهما بالآخر، فنحن لهذا
العمل أشد تحكيما()، وللعمل الآخر، إذا خالف السنة، أشد تركا».()

وقد عبر الإمام مالك في
الموطأ عن هذا الأصل بصيغ مختلفة.. كقوله: «الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا»، أو «السنة عندنا التي لا اختلاف
فيها»، «أو الأمر المجتمع عليه عندنا».. وقد يخرج حديثا مرفوعا أو أثرا موقوفا، ويقول بعده: «وليس على هذا العمل
عندنا»، أو يرويه ويقول عقبه: «وذلك الأمر عندنا». وقد يقول –في إشارة إلى أن ليس هناك إجماع في المسألة-: «وهذا
أحسن ما سمعت في ذلك»..

وفي ترتيب المدارك للقاضي
عياض كلام نفيس لمالك يتعلق بما نحن فيه، وبمنهج مالك في الموطأ، أرى من المفيد إثباته:

فقد قال مالك –وذكر له
الموطأ-: «فيه حديث رسول الله ، وقول الصحابة والتابعين، ورأيي، وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت
عليه أهل العلم ببلدنا. ولم أخرج من جملتهم إلى غيره».

وقال ابن أبي أويس: قيل
لمالك: قولك في الكتب: «الأمر المجتمع عليه»، و«الأمر عندنا»، أو «ببلدنا» و«أدركت أهل العلم» و«سمعت بعض أهل
العلم»؟ فقال: «أما أكثر ما في الكتب «فرأيي» فلعمري: ما هو برأيي، ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل
والأئمة المقتدى بهم، الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتقون الله، فكثر علي فقلت: «رأيي»، وذلك رأيي، إذ كان
رأيهم مثل رأي الصحابة، أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك. فهذا وراثة توارثوها قرنا عن قرن إلى زماننا. وما
كان «أرى» فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة. و ما كان فيه «الأمر المجتمع عليه» فهو ما اجتمع عليه من قول أهل
الفقه والعلم لم يختلفوا فيه. وما قلت «الأمر عندنا» فهو ما عمل الناس به عندنا، وجرت به الأحكام، وعرفه الجاهل
والعالم. وكذلك ما قلت فيه «ببلدنا» وما قلت فيه: «بعض أهل العلم» فهو شيء استحسنته من قول العلماء. وأما ما لم
أسمع منه، فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته، حتى وقع ذلك موقع الحق، أو قريبا منه، حتى لا يخرج عن مذهب أهل
المدينة وآرائهم، وإن لم أسمع ذلك بعينه، فنسبت الرأي إلي بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه أهل العلم
المقتدى بهم، والأمر المعمول به عندنا منذ لدن رسول الله  والأئمة الراشدين، مع من لقيت، فذلك رأيهم ما
خرجت إلى غيرهم».()

هذا الكلام وشبهه والمتعلق
بأصل عمل أهل المدينة، وحرص مالك على عدم الخروج عنهم: لا يراه الشافعي منطبقا على واقع الموطأ.

لذلك فإن مؤاخذاته على مالك
بخصوص أصل “العمل” أخذت حيزا مهما في كتابه الذي ألفه في خلاف شيخه، أوجزها على النحو التالي:

أولا: أن الإمام مالكا يدعي الإجماع، وأهل المدينة غير مجمعين.. قال
الشافعي: «وكيف تقولون: أجمع أصحاب رسول الله  وهم مختلفون على لسانكم، وعند أهل العلم؟!»(). وفي نفس الباب
يقول الربيع تلميذ الشافعي: «إن لنا كتابا() قد صرنا إلى اتباعه، وفيه ذكْر: أن الناس اجتمعوا. وفيه: الأمر
المجتمع عليه عندنا. وفيه: الأمر عندنا»، فقال الشافعي: «فقد أوضحنا لكم ما يدلكم على أن ادعاء الإجماع بالمدينة
وفي غيرها لا يجوز أن يكون، وفي القول الذي ادعيتم فيه الإجماع اختلاف. وأكثر ما قلتم: “الأمر المجتمع عليه”
مختلف فيه..».()

وبخصوص سجود التلاوة، وقول
مالك في الموطأ “الأمر عندنا() أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصل منها شيء”: يجيب الشافعي:
«إنه يجب عليكم() أن لا تقولوا: “اجتمع الناس” إلا لما إذا لُقي أهل العلم فقيل لهم: اجتمع الناس على ما قلتم
إنهم اجتمعوا عليه؟ قالوا: نعم؛ وكان أقل قولهم لك أن يقولوا: لا نعلم من أهل العلم مخالفا فيما قلتم: اجتمع
الناس عليه، فأما أن تقولوا “اجتمع الناس”، وأهل المدينة معكم يقولون: ما اجتمع الناس على ما زعمتم أنهم اجتمعوا
عليه: فأمران أسأتم النظر بهما لأنفسكم في التحفظ في الحديث، وأن تجعلوا السبيل لمن سمع قولكم: “اجتمع الناس”
إلى رد قولكم..».

ومع أن الشافعي مخطئ في هذا
الرد على مالك() فإنه أطال النفس في الاعتراض على هذه المسألة، ومما قاله أيضا: «..ثم رويتم عن عمر وابن عمر
أنهما سجدا في سورة الحج سجدتين()، وتقولون: ليس فيها إلا واحدة()، وتزعمون أن الناس أجمعوا أن ليس فيها إلا
واحدة، ثم تقولون: “أجمع الناس”، وأنتم تروون خلاف ما تقولون، وهذا لا يعذر أحد بأن يجهله، ولا يرضى أحد أن يكون
موجودا عليه، لما فيه مما لا يخفى على أحد يعقل إذا سمعه..» إلى أن قال: «..أليس تقولون: أجمع الناس أن في
المفصل سجودا أولى بكم من أن تقولوا: أجمع الناس أن لا سجود في المفصل؟!..».()

ثانيا: أنه يترك ما يشبه أن يكون هو العمل، ويذهب إلى خلافه. من أمثلة ذلك:
مسألة تخمير المحرم وجهه. فعند الشافعي أنه يجوز للمحرم أن يخمر وجهه اتباعا لعثمان بن عفان رضي الله عنه. وكان
مالك يكره للمحرم ذلك اتباعا لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما.()

ولم يعجب الشافعي اختيار
مالك وأصحابه، قال: «..فإن كنت() ذهبت إلى أن عثمان وابن عمر اختلفا في تخمير الوجه، فكيف أخذت بقول ابن عمر دون
قول عثمان، ومع عثمان زيد بن ثابت ومروان()، وما هو أقوى من هذا كله؟!» قال الربيع: «وما هو؟» قال الشافعي: «أمر
النبي  بميت مات محرما أن يكشف عن رأسه دون وجهه، ولا يقرب طيبا، ويكفن في ثوبيه اللذين مات فيهما»، قال:
«فدلت السنة على أن للمحرم تخمير وجهه. وعثمان وزيد رجلان، وابن عمر واحد، ومعهما مروان، فكان ينبغي عندك أن
يكون هذا أشبه بالعمل وبدلالة السنة، وعثمان الخليفة وزيد، ثم مروان بعدهما».

ومن الأمثلة كذلك: مسألة
اشتراك السبعة في البدنة أو البقرة لأجل النسك، فالشافعي يجيز ذلك استدلالا بحديث جابر: «نحرنا مع رسول الله
 بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. ومالك لا يجيز ذلك(). قال الشافعي: «..ولا حجة مع النبي ، وهذا
فعل النبي  وأصحابه أهل الحديبية، فكان ينبغي أن يكون هذا العمل عندكم لا تخالفونه؛ لأنه فعل النبي
 وألف وأربعمائة من أصحابه».()

ثالثا: أن الشافعي عاب على مالك أن ما يسميه “العمل” ليس له تعريف محدد، بل
إن مالكا نفسه يطلق هذا المصطلح ولا يدري معناه، ولا دراه أصحابه من بعده. قال الشافعي: «..وما درينا: ما معنى
قولكم “العمل”، ولا تدرون، فيما خبرنا، وما وجدنا لكم منه مخرجا، إلا أن تكونوا سميتم أقاويلكم “العمل”،
و”الإجماع”، فتقولون: “على هذا العمل”، و”على هذا الإجماع” ، تعنون أقاويلكم»(). وقال الشافعي أيضا مخاطبا
الربيع بأن ما تسمونه “العمل إنما هو «كلام ترسلونه لا بمعرفة، فإذا سئلتم عنه لم تقفوا منه على شيء ينبغي لأحد
أن يقبله»..(). وقال في مكان آخر: «..مع أنك أحلت على “العمل”، وما عرفنا ما تريد بالعمل إلى يومنا هذا، وما
أرانا نعرفه ما بقينا. والله  أعلم».()

رابعا: أن ما يسميه مالك “العمل” أو “الإجماع” مصطلح ابتدعه ولم يكن معروفا
قبله. ولقد صرح الشافعي بهذا في آخر كتاب “اختلاف مالك والشافعي..” فقال: «..فإن كان الأمر عندكم “إجماع أهل
المدينة”، فقد خالفتموهم، وإن كانت كلمة لا معنى لها فلم تكلفتموها؟ فما علمت قبلك أحدا تكلم بها، وما كلمت منكم
أحدا قط فرأيته يعرف معناها، وما ينبغي لكم أن تجهلوا إذا كان يوجد فيه ما ترون. والله أعلم».()

وادعاء الإمام الشافعي بأن
الإمام مالكا يخالف إجماع أهل المدينة كرره مرات في هذا الكتاب، بل قال مرة في عبارة صريحة: «..ما علمت أحدا
انتحل قول أهل العلم من أهل المدينة أشد خلافا لأهل المدينة منكم، ولو شئت أن أعد عليكم ما أملأ به ورقا كثيرا
مما خالفتم فيه كثيرا من أهل المدينة عددتها عليكم..»() . وفي غير هذا الكتاب يقول الربيع: «زعم الشافعي: ما أحد
أشد خلافا لأهل المدينة من مالك».()

هذه جملة ما انتقده الإمام
الشافعي على شيخه الإمام مالك. وسنبين فيما يأتي أن كثيرا منها خطأ عليه. رحم الله الجميع.

IV – بيان خطأ الشافعي على
مالك.

أ –  تمهيد :
لقد عاش الشافعي شطرا من
حياته العلمية في العراق، حيث يُسمح لأن تظهر في مجالس الدرس والجدل والمناظرة مدارس تذيع علما غير معتمد على
الكتاب والسنة، وأقوال السلف، وإنما على محض الرأي. بل إن الشافعي وجد من ينكر اعتبار السنة –من حيث هي سنة-
مصدرا للتشريع، ويدعو إلى الاقتصار على ما في القرآن باعتباره هو وحده كلام الله. ومنهم -عن خطأ أو عمد- من كان
ينكر السنة، لا بالاعتبار الأول، ولكن باعتبار أن ثبوتها ظني.. والشريعة الشأن فيها أن تعتمد على نصوص قطعية
الثبوت.

والشافعي –على خلاف مالك()-
كان حريصا على خوض غمار هذه المعارك(): دارسا، ومناظرا، ومؤلفا. وعندما فكر في أن يؤلف كتبه في الأصول كانت هذه
المدارس شاخصة أمام عينيه.

ولذلك نرى والله أعلم أن
تضييق الشافعي مجال القياس، وإنكاره الاستحسان وكل استدلال مرسل، وعدم أخذه بالذرائع، ووضعَه شروطا صارمة لقبول
الأخبار، وتوسيع مجال الاستدلال بها إذا ثبتت.. كل ذلك نابع من تخوفه من أن يصبح مجال الفتوى والقضاء فوضى،
ويصبح التشريع عرضة للهوى والمصالح الشخصية.

ولقد عبر الشافعي عن هذا
التخوف، في أكثر من مناسبة. من ذلك قوله: «أفيجوز لأحد يعقل شيئا من الفقه أن يترك قول عمر ولا يعلم له مخالفا
من أصحاب النبي  لرأي نفسه أو مثله، ويجعله مرة أخرى حجة على السنة وحجة فيما ليست فيه سنة، وهو إذا كان
مرة حجة كان كذلك أخرى، فإن جاز أن يكون الخيار إلى من سمع قوله، يقبل منه مرة ويترك أخرى جاز لغيركم تركه حيث
أخذتم به، وأخذه حيث تركتموه، فلم يقم الناس من العلم على شيء تعرفونه. وهذا لا يسع أحدا عندنا. والله
أعلم».()

لا بد -إذن- في نظر الشافعي
من أن يتخذ الفقيه لنفسه منهجا يسير عليه، ولا يخرج عنه، حتى يستقيم العلم عند الناس، وحتى لا يكون لأي أحد
الاختيار في أن يأخذ من السنة ما يشاء، ويترك ما يشاء.. وفي رد الشافعي على مالك الذي يعتبر أن من أقضية الرسول
ما هو من قبيل السياسة لا من قبيل التشريع العام، قال الشافعي: «..فأما أن يتحكم متحكم فيدعي أن قولي النبي
 أحدهما [حكم] والآخر اجتهاد بلا دلالة: فإن جاز هذا خرجت السنن من أيدي الناس».()

ونرى أن خطأ الشافعي ليس من
هذه الحيثية، وإنما من حيث إنه أراد أن يحاكم من قبله من العلماء -ومنهم الإمام مالك- إلى المنهج الذي ارتضاه
لنفسه. فبين فقه مالك وفقه الشافعي فروق منهجية نجملها كما يلي:

– الإمام مالك يقدم السنة
العملية على خبر الواحد، بخلاف الإمام الشافعي.

– الإمام مالك يقيس على أصل
معين، ويقيس كذلك على الأصول العامة للشرع الإسلامي (الاستدلال المرسل)، ويأخذ بالذرائع، ويستحسن إذا قبح
القياس، والشافعي يحصر الاجتهاد في القياس على أصل معين.()

– الإمام مالك لا يأخذ في
المسألة بأصل واحد يعتمد عليه دون غيره، بل يدرسها على ضوء عدة أصول..()، والشافعي يسير على منهج واحد، يطبقه
على كل مسألة.

– الإمام مالك يراعي ما جرى
به عمل الناس واستقرت عليه أحوالهم، والإمام الشافعي: الشرع عنده إما نص أو حمل على النص، ولا شيء معتبر وراء
ذلك من العوائد والأعراف.

– للإمام مالك نظر في قول
الصحابي، ومعيار في قبول الأخبار يختلفان عما عليه الشافعي. وهذا الفرق المنهجي من الأسباب المهمة –إن لم يكن
الأهم- في اختلاف مالك والشافعي: ذلك أن  مالكا يأخذ بقول الصحابي أو قضائه على أنه سنة، وإن لم يصرح
الصحابي برفعها إلى النبي . لذلك يجعله في أحيان كثيرة في موضع التعارض مع خبر الآحاد المصرَّح برفعه إلى رسول
الله ، ويرجح أحدهما على الآخر بوسائل الترجيح المختلفة.

أما الشافعي فيعتبر الأخذ
بقول الصحابي، إذا لم يصرح برفعه، مجرد تقليد، يجدر بالفقيه أن يقدمه على قوله.()

مثال ذلك مسألة التمتع
بالعمرة إلى الحج: فمالك أخذ بقول عمر الذي نهى عنها، والشافعي أخذ بقول سعد الذي قال: «قد صنعها رسول الله
 وصنعناها معه»، قال مالك: «..وعمر أعلم برسول الله.. من سعد».()

فمالك اعتبر قول عمر حديثا
كالمرفوع، وإذا عارضه حديث مرفوع، كحديث سعد هذا، راجح بينهما. وقد ترجح لديه قول عمر.

ولو طرحنا الفروق الجوهرية
بين منهجي الإمام مالك والإمام الشافعي، لوجدنا مع ذلك أن كثيرا من مؤاخذات الشافعي على مالك فيها نظر كبير،
وبعضها خطأ محض عليه.

ب – مناقشة أهم ردود الشافعي على مالك:
1 – من ذلك أن الإمام الشافعي انتقد على الإمام مالك مسائل وأخطأ فيها بسبب
عدم توسعه في الرواية:

من أمثلته ما جاء في مسألة
لغو اليمين، فلقد سال الربيع الشافعي عن لغو اليمين، فقال: «الله أعلم، أما الذي نذهب إليه فهو ما قالت عائشة».
ثم روى قول عائشة من طريق الإمام مالك، وفيه: «لغو اليمين: قول الإنسان: لا، والله، وبلى والله». فقال له
الربيع: «وما الحجة فيما قلت؟» قال: «الله أعلم؛ اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه، وجماع اللغو يكون
الخطأ»، ثم قال الشافعي: «فخالفتموه، وزعمتم أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كما حلف عليه، ثم يوجد
على خلافه»، قال: «وهذا ضد اللغو، هذا هو الإثبات في اليمين يقصدها، يحلف: لا يفعله، يمنعه السبب، لقول الله
تبارك وتعالى (ولكن يواخذكم بما عقدتم الأيمان)()، ما عقدتم: ما عقدتم به عقد الأيمان عليه». ثم وجه نقده إلى
الربيع –وهو يريد مالكا- فقال: «ولو احتمل اللسان ما ذهبتم إليه، ما منع احتمال ما ذهبت إليه عائشة، وكانت أولى
أن تتبع منكم، لأنها أعلم باللسان منكم، مع علمها بالفقه».()

وخلاصة اعتراض الشافعي: أن
لغو اليمين ما دام أنه صعب الفهم من طريق اللغة، كان الأولى بك أن تقلد عائشة، فهي أعلم منك،
وأفقه.

وكلامه يوحي بأن اختيار
مالك لا أصل له. وكلام مالك في الموطأ يشير إلى أن له أصلا. قال مالك: «أحسن ما سمعت في هذا: أن اللغو: حلف
الإنسان على الشيء، يستيقن أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك، فهو اللغو».()

فقول الإمام مالك: «أحسن ما
سمعت في هذا» ينبئ عن أن مالكا سمعه عن بعض السلف.

والأمر كذلك، فقد قال ابن
عبد البر: «وأما (اليمين) التي لا كفارة فيها بإجماع فاللغو، إلا أن العلماء اختلفوا في مراد الله من لغو اليمين
التي لا يؤاخذ الله عباده بها، ولم يوجب الكفارة فيها؛ فقال قوم: هو أن يحلف الرجل على الماضي في الشيء يظن أكبر
ظنه أنه كما حلف عليه، وأنه صادق في يمينه، ثم ينكشف له بخلاف ذلك»؛ ثم قال ابن عبد البر: «هذا قول روي معناه عن
جماعة من السلف». ثم روى بسنده عن أبي هريرة أنه قال: «إذا حلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه، فإذا ليس
هو: فهو اللغو؛ وليس فيه كفارة». وذكر كذلك رواية عن ابن عباس في قوله تعالى: (لا يواخذكم الله باللغو في
أيمانكم)()، قال ابن عباس: «هو الرجل يحلف على الأمر يرى انه كذلك وليس كذلك». ثم قال ابن عبد البر: «وجاء عن
الحسن، وإبراهيم، وسليمان بن يسار، ومجاهد، وأبي مالك، وزرارة بن أوفى مثل ذلك. وإليه ذهب مالك وأصحابه،
والأوزاعي، وأحمد، وإسحق، وأبو حنيفة، وأصحابه؛ إلا أن مالكا وأصحابه يقولون: إن اللغو: أن يحلف على الشيء
الماضي يوقن أنه كما حلف عليه، ولا يشك فيه، فإن شك فيه، فهي عندهم يمين غموس حينئذ، لا كفارة فيها، لعظم إثمها،
كاليمين الغموس الكاذبة سواء».()

فأنت ترى أن مع الإمام مالك
طائفة من السلف والفقهاء: أبي هريرة (خاصة)، وابن عباس (في أشهر الروايات عنه)، والحسن فقيه البصرة، وإبراهيم
النخعي فقيه الكوفة، وسليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ومجاهد المكي الذي عرض القرآن على ابن عباس
عرضات كثيرة، وأبي مالك()، وزرارة بن أوفى التابعي البصري القاضي()، وغيرهم من فقهاء الأمصار،
والمحدثين.

وما ذكره مالك وهؤلاء
الجماعة يحتمله اللسان. أي أن الإنسان إذا حلف على شيء يستيقن (أو يرى) أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على خلافه:
فلا كفارة عليه؛ فحلفه لغو كالخطأ أو العدم. والله أعلم.

ومع كل هذا جسر الإمام
الشافعي على تخطئة شيخه؟!

من أمثلة ذلك أيضا ما جاء
في عدد سجدات القرآن. فرأي الشافعي أن في (إذا السماء انشقت) و(والنجم إذا هوى) من المفصل سجودا، وفي سورة الحج
سجدتين()؛ وذلك اتباعا لما رواه من طريق مالك عن أبي هريرة أنه قرأ (إذا السماء انشقت) فسجد فيها، فلما انصرف
أخبرهم أن رسول الله  سجد فيها. وروى من طريق مالك أيضا أن عمر بن عبد العزيز أمر محمد بن مسلم() أن يأمر
القراء أن يسجدوا فيها. كما روى من طريق مالك أيضا أن عمر بن الخطاب قرأ (والنجم إذا هوى) فسجد فيها.. وأنه
وابنه عبد الله سجدا في سورة الحج سجدتين.()

لكن الربيع اعترض عليه
وقال: «فإنا (أي أصحاب مالك) نقول: اجتمع الناس على أن سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها
شيء».()

فكان جواب الشافعي: في كلام
استفاض فيه، وما يخدم الغرض هنا هو قوله: «..ثم تجدون عمر (ابن عبد العزيز) يأمر بالسجود في (إذا السماء انشقت)»
ومعه سنة رسول الله () ورأي أبي هريرة، فتتركونه، ولم تسموا أحدا خالف هذا. وهذا عندكم العلم()، لأن النبي
 في زمانه، ثم أبو هريرة في الصحابة، ثم عمر بن عبد العزيز في التابعين. والعمل يكون عندكم بقول عمر
وحده(). وأقل ما يؤخذ عليكم في هذا أن يقال: كيف زعمتم أن أبا هريرة سجد في (إذا السماء انشقت) وأن عمر أمر
بالسجود فيها، وأن عمر بن الخطاب سجد في “النجم”، ثم زعمتم أن الناس اجتمعوا أن لا سجود في المفصل. وهذا من
أصحاب رسول الله، وهذا من علماء التابعين، فيقال: قولكم “اجتمع الناس” لما تحكون فيه غير ما قلتم، بين في قولكم
أن ليس كما قلتم، ثم رويتم عن عمر بن الخطاب أنه سجد في “النجم”، ثم لا تروون عن غيره خلافه، ثم رويتم عن عمر
وابن عمر أنهما سجدا في سورة الحج سجدتين، وتقولون: ليس فيها إلا واحدة، وتزعمون أن الناس أجمعوا أن ليس فيها
إلا واحدة، ثم تقولون: “أجمع الناس”، وأنتم تروون خلاف ما تقولون. وهذا لا يعذر أحد بأن يجهله، ولا يرضى أحد أن
يكون موجودا عليه لما فيه مما لا يخفى على أحد يعقل إذا سمعه»، ثم قال بعد ذلك: «أليس تقولون: أجمع الناس أن في
المفصل سجودا أولى بكم من أن تقولوا أجمع الناس أن لا سجود في المفصل؟!»، قال: «..قلتم: أجمعوا. ولم ترووا عن
واحد من الأئمة قولكم! ولا أدري: من الناس عندكم أخلق كانوا، لم يسم واحد منهم..».()

فالشافعي هنا يرى أن المتسق
مع أصل مالك أن يرى السجود في المفصل، وأن يرى أن في الحج سجدتين اتباعا لأبي هريرة وعمر بن عبد العزيز ومعهما
السنة، وابتاعا لعمر وابنه. والكل كان من علماء المدينة.

وكأني بالشافعي يعتقد أن
الرأي الغالب بالمدينة فيما يخص عدد سجدات القرآن ما اختاره، وذهب إليه، وأن ما ذهب إليه الإمام مالك مهجور أو
غير معروف.. والأمر ليس كذلك:

أما في الموطأ برواية يحيى
الليثي فإن مالكا يقول: «الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة؛ ليس في المفصل منها
شيء».()

وما وجد في الأم من قول
مالك يشبه ما في التمهيد، ففيه: «وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندهم أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة»..
وفسره ابن عبد البر فقال: «ويعني قوله “المجتمع عليه”: أي لم يجتمع على غيره كما اجتمع عليها عندهم. هكذا تأول
في قوله هذا ابن الجهم وغيره»(). وجاء تفسير هذا القول أيضا على لسان الربيع، قال الشافعي: «أرأيت إن كان قولي
“اجتمع الناس عليه: أعني: من رضيت من أهل المدينة، وإن كانوا مختلفين؟”»..

وسواء أخذنا بتفسير ابن
الجهم أو بما جاء على لسان الربيع، فإن مالكا لم يقصد الإجماع الذي يقصده الشافعي()، خصوصا وأنه قال في رواية
يحيى الليثي، وهي صحيحة النسبة إليه لا شك في ذلك: “الأمر عندنا..” أي الذي استقر عندنا أنهم لا يسجدون في
المفصل.وهذا هو قول ابن عمر، وابن عباس، وروي ذلك عن أبي بن كعب، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسعيد
بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وطاوس، وعطاء. قال ابن عبد البر: «كل هؤلاء يقول: ليس في المفصل سجود بالأسانيد الصحاح
عنهم. وقال يحيى بن سعيد(): أدركنا القراء لا يسجدون في شيء من المفصل. وكان أيوب السختياني() لا يسجد في شيء من
المفصل».

وكان ابن عباس وابن عمر
يعدان سجدات القرآن فيقولان: الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل (الإسراء)، ومريم، والحج -أولها-، والفرقان،
وطس، وألم تنزيل، وص، وحم السجدة: إحدى عشرة سجدة. قالا: وليس في المفصل سجود..()

وهذا هو مذهب مالك وأصحابه،
وصرح بأنه المذهب المتبع في المدينة. وهو أعرف بمذاهب بلده من الإمام الشافعي.

2 – هناك خطأ ثان –وهو خطأ قريب من الأول- أرى أن الإمام الشافعي قد ارتكبه
في حق الإمام مالك، وهو أنه كان يحاسب شيخه بما هو موجود في الموطأ، والواقع أن روايات مالك أوسع بكثير مما هو
موجود في الموطأ؛ بعضها لم يذكره أصلا في الموطأ، وبعضها أودعه فيه أولا، ثم حذفه.

دليله قوله في الموطأ مرات
عديدة: «أحسن ما سمعت في هذا.. » ونحو ذلك. فإطلاق مالك مثل هذه العبارة في مسألة من المسائل يشير إلى أنه اختصر
الكلام اختصارا. وإذا أخذت كل مسألة ذكر فيها مالك هذه العبارة أو نحوها، وقرأت تفصيلها في التمهيد مثلا تقف على
هذا الذي قررته هنا.

والموطأ لم يزل الإمام مالك
يهذبه وينقحه حتى انتهى إلى الصورة التي رواها يحيى بن يحيى الليثي. وقد جاء في التمهيد حديث لمالك رواه عن أيوب
السختياني، عن محمد بن سيرين عن رجل أخبره عن عبيد الله بن عباس() أن رجلا جاء إلى رسول الله . فقال: إن أمي
عجوز كبيرة، لا تستطيع أن نركبها على البعير، ولا تمتسك؛ وإن ربطتها خفت عليها أن تموت، أفأحج عنها؟ قال:
نعم.

قال
ابن عبد البر: «..ثم طرحه مالك [بأَخَرة]، فلم يروه يحيى بن يحيى صاحبنا (يعني الليثي)، ولا طائفة من رواة
الموطأ. وإنما طرحه مالك، لأن الاضطراب فيه كثير..».()

والحديث موجود في الأم
بلفظ: «وقال الشافعي رحمه الله: وذكر مالك أو غيره عن ايوب عن ابن سيرين عن ابن عباس أن رجلا()..»
الحديث.

وذكر ابن عبد البر أيضا في
“باب أيوب السختياني..” حديثا آخر لمالك عن أيوب ابن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين أن رجلا جعل على نفسه
أن لا يبلغ أحد من ولده الحلب، فيحلب، فيشرب، ويسقيه إلا حج، وحج به معه، فبلغ رجل من ولده الذي قال الشيخ، وقد
كبر الشيخ، فجاء ابنه إلى النبي عليه السلام، فأخبره الخبر، وقال: إن أبي قد كبر، ولا يستطيع أن يحج، أفأحج عنه؟
فقال رسول الله : نعم.

قال ابن عبد البر: «هذا
حديث مقطوع، من رواية مالك، بهذا الإسناد، وليس عند يحيى، ولا عند من ليس عنده الحديث الذي قبل هذا(). وهما
جميعا مما رماه مالك بأخَرة من كتابه. وهما عند مطرف والقعنبي، وابن وهب، وابن القاسم في
الموطأ».()

وهذا الحديث عند الشافعي
أيضا بلفظ: «أخبرنا مالك عن أيوب..».()

فالثابت -إذن- أن لمالك
روايات أخرى غير ما هو موجود في الموطأ، وأنه قد ذكر فيه أخبارا ثم طرحها. وقد نقل عنه القاضي عياض قوله: «لقد
ندمت أن لا أكون طرحت أكثر مما طرحت من الحديث».()

وقد كنت قرأت لابن حزم في
الرسالة الباهرة كلاما() مفاده أنه ينكر أن مالكا كان يسقط من موطئه بعض الأحاديث، وأنه لم يحدث بكثير مما كان
عنده، ولم يدخله في الموطأ، وزعم أن ما يعرفه مالك من الأخبار هو الموجود في الموطأ، وشغبَ بكلام كنت قد اغتررت
به، ثم تبين لي بطلانه، وأن ما أنكره هو القريب من الصحة.

إلا أن الأمر المهم في هذا
المقام هو أن ما أسقطه مالك من الموطأ، وما لم يدخله فيه كل ذلك كان حاضرا في اجتهاده، واختباراته. بمعنى أنه
أبعد كتابته من الموطأ، أما أثره فبقي حاضرا، قد يعبر عنه بعبارة: «وهذا أحسن ما سمعت..» أو بعبارة: «والعمل على
خلافه..» أو نحوهما؛ وقد لا يعبر عنه.

ومن هنا لم يكن احتفال
العلماء بالموطأ وتهمُّمهم به عبثا، ولم يأت على سبيل الاتفاق والصدفة، إنما كان ذلك كذلك لما في عبارات الموطأ
وأحاديثه من العلم الغزير، والإشارات اللطيفة، والفوائد العزيزة. ولم يبعد ولي الله الدهلوي النجعة حينما تحدث
عن علاقة الكتب الستة والمستدرك على الصحيحين، وقال: «فكأن هذه الكتب شروح للموطأ وتتمات له».()

فخطأ الشافعي -كما قلت-
يكمن في أنه كان يحاكم مالكا إلى مروياته في الموطأ. اسمعوا إليه -مثلا- وهو يعيب على مالك أنه ناقض أصله الذي
اعتمده في قبول الأخبار: «..وزعمتَ() أنك تثبت السنة من وجهين: أحدهما أن تجد الأئمة من أصحاب النبي  قالوا
بما يوافقها،والآخر أن لا تجد الناس اختلفوا فيها، وتردها إن لم تجد للأئمة فيها قولا، وتجد الناس اختلفوا فيها،
ثم تثبت تحريم كل ذي ناب من السباع واليمين مع الشاهد() والقسامة وغير ذلك مما ذكرنا.. هذا كله لا تـروي فيه عن
أحد من الأئمة شيئا يوافقه، بل أنت تروي في القسامة عن عمر خلاف حديثك عن النبي ».()

وهذا الكلام من الشافعي
يستحق وقفة طويلة، لكن نحن نكتفي بما يخدم غرض البحث:

أولا: إن الإمام مالكا روى حديث تحريم أكل كل ذي ناب من السباع من طريقين،
وعقب عليه بقوله: «وهو الأمر عندنا». فلعل الشافعي لم تقنعه هذه العبارة، وأراد من مالك أن يروي عن أحد من
الأئمة شيئا يوافق هذا الحديث.

ثانيا: إن الإمام مالكا روى حديث اليمين مع الشاهد()، وروى ما يوافقه عن عمر
بن عبد العزيز، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وأثبته بقوله: «مضت السنة: في القضاء باليمين مع
الشاهد الواحد..».

أكثر من ذلك، قال ابن عبد
البر، بعد أن روى الأحاديث المرفوعة الدالة على جواز القضاء باليمين مع الشاهد الواحد(): «..وإنما ذكرنا في هذا
الباب الآثار المرفوعة لا غير. ولو ذكرنا الأسانيد عمن قضى بذلك من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين لطال ذلك.
وممن روي عنه القضاء باليمين مع الشاهد منصوصا من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وعبد الله
بن عمر. وإن كان في الأسانيد عنهم ضعف..»؛ إلى أن قال: «ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد،
بل جاء عنهم القول به. وعلى القول به جمهور التابعين بالمدينة: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن،
والقاسم بن محمد، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وعلي
بن حسين، وأبو جعفر محمد بن علي، وأبو الزناد، وعمر بن عبد العزيز».

ثم قال: «..وهو الذي لا
يجوز عندي خلافه لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه [وسلم] وعمل أهل المدينة به قرنا بعد قرن». ثم قال:
«وقال مالك –رحمه الله-: يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان» قال: «ولم يحتج في موطئه لمسألة
غيرها..».()

أما مسألة القسامة، والخلاف
بين ما اختاره مالك وما رواه عن عمر بن الخطاب، فإن مالكا روى في كتاب القسامة() حديثا مرفوعا من طريقين، وفيه
أن الرسول  بدأ بالمدعين أهل المقتول، فقال: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟». فقالوا: لا. قال: «أفتحلف لكم
يهود؟» قالوا: ليسوا بمسلمين. فوداه رسول الله  من عنده. وفي الرواية الثانية: «أتحلفون خمسين يمينا
وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟». قالوا: يا رسول الله: لم نشهد ولم نحضر. فقال لهم رسول الله  «فتبرئكم
يهود بخمسين يمينا؟»» فقالوا: يا رسول الله، كيف نقبل أيمان قوم كفار؟.

ثم قال مالك: «الأمر
المجتمع عليه عندنا، والذي سمعت ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أن يبدأ
بالأيمان المدعون في القسامة، فيحلفون..».

وأما أثر عمر فرواه في كتاب
العقول() عن ابن شهاب عن عراك بن مالك وسليمان بن يسار أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا فوطئ على إصبع رجل
من جهينة فنُزيَ() منها، فمات. فقال عمر بن الخطاب للذي ادعي عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينا: ما مات منها؟
فأبوا وتحرجوا، وقال للآخرين: أتحلفون أنتم؟ فأبوا. فقضى عمر بن الخطاب بشطر الدية على
السعديين.

قال مالك: «وليس العمل على
هذا».

والمسألة كما ترى في دم
الخطأ، وما رواه مالك في كتاب القسامة: في دم العمد. فنحن أمام مسألتين مختلفتين. ولذلك لم يذكرهما معا في كتاب
واحد. فالتعارض غير وارد.

أما لماذا لم يأخذ بقول
عمر؟ فالجواب أن قوله «وليس العمل على هذا» فيه إشارة إلى تضعيف مالك لهذا الأثر. والله أعلم.

3 – مما أخطأ فيه الشافعي على مالك أنه يلزمه أن يفهم الحديث على وجه معين،
مع أن الحديث يحتمل أكثر من وجه. وهذا النوع من الأخطاء كثير في كتابه على مالك. من ذلك أن الشافعي روى من طريق
مالك أن عمر بن الخطاب قال: «أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص، فمسها، فلها صداقها كاملا، وذلك
لزوجها غرم على وليها»، ثم قال الشافعي: «قال مالك، وإنما يكون ذلك لزوجها غرما على وليها إذا كان الذي أنكحها
هو أبوها أو أخوها أو من يُرى أنه يعلم ذلك منها، وإلا فليس عليه غرم، وترد المرأة ما أخذت من صداق نفسها، ويترك
لها قدر ما استحلها به إذا مسها».

ولم يعجب الشافعي هذا
الفهم، فقال: «..إنما حكم عمر أن لها المهر بالمسيس، وأن المهر على وليها، لأنه غار، والغار –علم أو لم يعلم-
يغرم. أرأيت رجلا باع عبدا، ولم يعلم أنه حر، أليس يرجع عليه بقيمته،أو باع متاعا لنفسه أو لغيره، فاستحق أو فسد
البيع أو كان لمشتريه الخيار فاختار رده: ألا يرجع بقيمة ما غرم على من غره، علم أو لم يعلم؟» إلى أن قال: «فلو
ذهبتم فيه إلى أمر يعقل، فقلتم: إذا كان الصداق ثمنا للمسيس لم يرجع به الزوج عليها، ولا على ولي، لأنه قد أخذ
المسيس،كما ذهب بعض المشرقيين إلى هذا: كان مذهبا. فأما ما ذهبتم إليه فليس بمذهب، وهو خلاف
عمر».()

فاعتراض الشافعي على مالك
من وجهين:

     الأول: أن مالكا خالف عمر، وقول عمر موافق للقياس.

  
  الثاني: أن ما ذهب إليه مالك لا وجه له في
القياس.

إن الشافعي هنا يحكم آراء
مالك للأصل الذي ارتضاه لنفسه، وهو أن الشريعة إما نص أو قياس على النص. ونحن إذا تأملنا قول مالك نجد أنه لم
يخالف أثر عمر، وإنما فهمه فهما خاصا على ضوء المقاصد العامة للتشريع، وهو أن المراد بالولي في قول عمر: الولي
المَحْرم، وأطلق عمر لفظ الولي دون تقييد؛ لأن الغالب في الولي كونه من المحارم.

ووجه هذا التأويل أن الولي
غير المحرم (ابن العم مثلا) لا يستطيع أن يطلع على عيب خفي في موليته، لأنها لا تبدي زينتها أمامه. فإذا غُرِّم
الصداق كان ذلك ظلما، لأنه عقاب بجريرة لا يد له فيها.

كما أن الأخذ بقياس بعض أهل
العراق -وهو أن لا حق للزوج في الصداق بعد المسيس- ظلم للزوج؛ لأنه أصدق المرأة لتحل له وتصبح زوجة على الدوام،
لا لأن يمسها، ثم يطلقها.

وبعبارة الأصوليين: التجأ
مالك إلى الاستحسان عندما قبح القياس.

وهذا الصنيع من مالك –وهو
النظر إلى مصلحة جزئية في مقابل قياس كلي- هو عين تقليد عمر، فهو صنيع يسير على سَنـنه، ويستمد نموذجه من
اجتهاداته. ألا ترى أن عمر شرك بين الإخوة الأشقاء والإخوة للأم في الفريضة المسماة المشركة (الحجرية أو
الحمارية..)، مع أن القياس الصحيح أن الإخوة عصبة، لما لم يبق لهم شيء، سقطوا.

ولكن الأشقاء قالوا لعمر:
هب أبانا كان حمارا أو حجرا ملقى في اليم، أليست أمنا واحدة؟.()

وليس يعنينا هنا بيان القول
الراجح من المرجوح، إنما الذي يهمنا: التنبيه على أن الشافعي يريد أن يلزم مالكا بشيء معين، والحال أن الأمر فيه
سعة.

4 – هناك خطأ قريب في طبيعته من الخطأ السابق، إلا أنني أفردته بالحديث
لأهميته، وهو أن الإمام مالكا قد يروي الحديث عن رسول الله أو أحد الخلفاء الراشدين، ويراه من قبيل السياسة، لا
من قبيل التشريع العام، أي أن الأمر موكول إلى اجتهاد الإمام، والإمام الشافعي يريد منه أن يعتبره من قبيل الشرع
العام، أي أنه صالح لكل زمان ومكان.

من أمثلة ذلك حديث «من قتل
قتيلا، له عليه بينة، فله سلبه».()

قال الشافعي: «وبهذا نقول:
السلب للقاتل في الإقبال()، وليس للإمام أن يمنعه بحال، لأن إعطاء النبي  السلب حكم
منه..».

لكن الربيع قال له: «فإنا
(أي المالكية) نقول: إنما ذلك على الاجتهاد من الإمام». فقال الشافعي: «تدعون ما رَوى() عن النبي  وهو يدل
على أن هذا حكم من النبي  للقاتل. فكيف ذهبتم إلى أنه ليس بحكم؟!».

لمناقشة ما قاله الشافعي
أجدني مضطرا لبيان الظرف الذي جاء فيه الحديث، والقرائن المحيطة به، فقد رواه مالك، ورواه عنه الشافعي، عن أبي
قتادة بن ربعي، والسياق فيه طويل، أقتصر على نقل ما يخدم العرض:()

في الحديث أن أبا قتادة..
قتل رجلا من المشركين يوم حنين.. ثم إن الناس رجعوا من المعركة، فقال رسول الله : «من قتل قتيلا، له عليه بينة،
فله سلبه».. فتقدم أبو قتادة إلى رسول الله ، فقص عليه قصته، فقال رجل من القوم: صدق، يا رسول الله، وسلب ذلك
القتيل عندي؛ فأرضه عنه يا رسول الله، فقال أبو بكر: لا هاء اللهِ()؛ إذاً يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن
الله ورسوله، فيعطيك سلبه. فقال رسول الله : «صدق، فأعطه إياه» فأعطانيه..

الإمام الشافعي تعامل مع
لفظ الرسول  منفردا –وله ذلك- عن كل هذه الظروف، فقال: كل شخص أقبل على خصمه في الجهاد، غير مدبر عنه،
فقتله، فله سلبه، قال ذلك الأمير أو لم يقله، رضي أم لم يرض؛ لأن الرسول  قال: «من قتل قتيلا، له عليه
بينة، فله سلبه»، فالحديث عام، لا يخصص إلا بدلالة، وعلى الإمام والأمير وقائد الجيش أن يخضع لهذا الحكم العام
من الرسول .

أما الإمام مالك فقد روى
هذا الحديث، ثم روى أثرا عن ابن عباس وفيه قوله: «الفرس من النفل()، والسلب من النفل».

ونقْلُه عن ابن عباس:
«السلب من النفل» أرى أنه تمهيد لما سيقوله في شأن السلب، وأنه من اجتهاد الإمام، لأن الله تعالى يقول: (يسألونك
عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول..) الآية.()

وبعد أثر ابن عباس قال
يحيى: «وسئل مالك عمن قتل قتيلا من العدو، أيكون له سلبه بغير إذن الإمام؟ قال: لا يكون ذلك لأحد بغير إذن
الإمام؛ ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد..».()

والقرائن تدل على أن رأي
مالك في هذه المسألة هو الأصوب، وهو المتلائم مع مقاصد الشرع، إذ كيف يصبح الإمام أو الأمير أو قائد الجيش أمام
جندي أو جنود لا رأي له، يأتون بأسلاب لقتلى قتلوهم، ولا حق له في أن ينزعها منهم. وقد روى ابن عبد البر بسنده
عن عوف بن مالك الأشجعي قصة في غزوة مؤتة، وفيها أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من الروم، وحاز فرسه وسلاحه، فلما
فتح الله على المسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد()، فأخذ منه السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد، أما علمت أن
رسول الله  قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته، فقلت: لتردنه إليه أو لأعرفنك عند رسول الله ،
فأبى أن يرد عليه. قال عوف: فاجتمعا عند رسول الله  فاقتصصت عليه قصة [الرجل]، وما فعل خالد. فقال رسول
الله : «يا خالد، ما حملك على ما صنعت»؟ فقال: يا رسول الله استكثرته له. فقال رسول الله : يا خالد، رد عليه ما
أخذته منه. فقال عوف: دونك يا خالد، ألم أف لك؟ فقال رسول الله : وما ذاك؟ فأخبرته. فغضب رسول الله ، وقال: «يا
خالد، لا ترده عليه. هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم، وعليهم كدره».()

فلو كان السلب حقا لهذا
الرجل، لما منعه إياه رسول الله .

وعن شبر بن علقمة العبدي
أنه قتل رجلا في معركة القادسية. فأخذ سلبه، فأتى به سعد بن مالك، فقام سعد على المنبر، فقال: «هذا سلب شبر بن
علقمة، خذه هنيئا مريئا..». قال ابن عبد البر: «وهذا يدل على أن أمر السلب إلى الأمير..»، وقال أيضا: «لو كان
السلب للقاتل قضاء من النبي () ما احتاج الأمراء إلى أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم باجتهادهم، ولأخذه القاتل دون
أمرهم..».()

على أن رأي مالك في هذا
المقام لا يحتاج إلى هذه “الدلالة” التي يطالب بها الشافعي: فالرسول  كان إماما، وكان قاضيا، وكان مفتيا،
وكان رسولا، فقد يقول الحكم –كما قال ابن القيم- بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة()، وقد يقوله
بمنصب الفتوى، كقوله لهند بنت عتبة التي شكت إليه بخل زوجها أبي سفيان، وأنه لا يعطيها ما يكفيها: «خذي ما يكفيك
وولدك بالمعروف»(). قال ابن القيم: «فهذه فـتيا لا حكم، إذ لم يدع بأبي سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا
سألها البينة». وقد يقول الحكم بمنصب الإمامة، فيكون مصلحة في ذلك الزمان وذلك المكان، وعلى تلك الظروف
والملابسات والأحوال، فيلزم الذين أتوا بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي
 زمانا ومكانا وحالا. قال ابن القيم: «ومن ها هنا() تختلف الأئمة() في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه
 كقوله: «من قتل قتيلا فله سلبه»»، هل قاله بمنصب الإمامة، فيكون حكمه متعلقا بالأئمة، أو بمنصب الرسالة
والنبوة، فيكون شرعا عاما؟ وكذلك قوله: «من أحيى أرضا ميتة فهي له»: هل هو شرع عام لكل أحد، أذن فيه الإمام، أو
لم يأذن، أو هو راجع إلى الأئمة، فلا يملك بالإحياء إلا بإذن الإمام؟ على القولين: فالأول: للشافعي وأحمد في
ظاهر مذهبهما. والثاني لأبي حنيفة. وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه
التشاح() فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول».()

مرة أخرى، أقول في ختام هذه
الفقرة، إن الخلاف بين الإمامين خلاف منهجي، في منهج التعامل مع السنة والآثار من حيث الثبوت ومن حيث الاستثمار،
وفي مفهوم القياس: فالشافعي ينظر إلى السنة على أنها مستقلة عن كل حال وظرف، مستغنية بنفسها في كل الأحوال، لا
يقويها عمل صحابي أو غيره على وفقها، ولا يوهنها قضاؤه على خلافها، وأن الاجتهاد لا بد وأن يكون قياسا عليها..
وهذا واضح من قوله في مسألة (سلب القتيل): «..وأي شيء يجتهد (فيه) إذا ترك السنة، إنما الاجتهاد قياس على السنة،
فإذا لزم الاجتهاد صار تبعا للسنة؛ وكانت السنة ألزم له، أو كان يجوز له في هذا شيء إلا ما سن رسول الله
 أو أجمع المسلمون عليه، أو كان قياسا عليه».()

ونص في أكثر من موضع على أن
هذا المنهج هو الضامن لحفظ السنن، فإن ادعى متحكم «أن قول النبي : أحدهما حكم (أي شرع عام)، والآخر اجتهاد بلا
دلالة: فإن جاز هذا خرجت السنن من أيدي الناس».()

أما الإمام مالك فكان «لا
يأخذ في المسألة بأصل واحد، يعتمد عليه..»()، ويفرق في أحكام رسول الله  بين ما قيل بمنصب الرسالة وما قيل
بمنصب الإمامة.. ويثبت السنة، ويفهمها على ضوء أقضية أئمة الصحابة، وفتاوى فقهائهم. فهو يروي عن أبي بكر أنه كره
أن يخرب أحدُ أمرائه عامرا،أو يقطع شجرا مثمرا، أو يحرق نخلا، أو يعقر شاة أو بعيرا إلا لمأكلة().. مع علم أبي
بكر بأن الرسول حرق أموال بني النظير، وقطع أشجارهم، وهدم لهم وحرق وقطع بخيبر، ثم قطع
بالطائف…()

وعمر بن الخطاب لم يخمس
السواد ولم يقسمها على الجيش، مع علمه بأن الرسول  خمس أرض خيبر وقسمها على الجند. بل إن عمر قال: «لولا
آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله  خيبر». وعارضه كثير من الصحابة وعلى رأسهم بلال،
وقالوا له: «اقسمه بيننا، فإنا فتحناه عنوة. قال: فأبى. وقال: «فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته
أن تفاسدوا بينكم في المياه». فأقر أهل السواد في أرضيهم، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أرضيهم
الطسق.()

ففقه مالك رحمه الله على
شاكلة فقه عمر وأقضيته، والشافعي اتبع منهج بلال. رضي الله عن الجميع. والكل مأجور إن شاء الله؛ ولا حجر، إن
حسنت النية، وزكاها العلم والخبرة. والله أعلم.

5 – الشافعي يدعي على مالك أنه تكلف مصطلح “الأمر عندنا” أو نحوه، ولم يكن
ذلك معروفا قبله، وإنما هو كلمة ابتدعها من عنده. يقول في هذا الصدد: «..ثم تؤكدونه بأن تقولوا “الأمر عندنا”؛
فإن كان الأمر عندكم إجماع أهل المدينة فقد خالفتموهم، وإن كانت كلمة لا معنى لها، فلم تكلفتموها؟! فما علمت
قبلك أحدا تكلم بها».()

لعل هذا الكلام غير صحيح من
الإمام الشافعي، فإن القاضي عياضا قد ذكر عن مالك قوله: «وقد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون
بالأحاديث، وتبلغهم عن غيرهم فيقولون: ما نجهل هذا، ولكن مضى العمل (على)( ) غيره». وذكر عنه كذلك قوله: «رأيت
محمد بن أبي بكر بن عمرو ابن حزم، وكان قاضيا()، وكان أخوه عبد الله كثير الحديث، رجل صدق، فسمعت عبد الله –إذا
قضى محمد بالقضية قد جاء فيها الحديث مخالفا للقضاء- يعاتبه، يقول له: ألم يأت في هذا حديث كذا؟ فيقول: بلى.
فيقول له أخوه: فمالك لا تقضي به؟ فيقول: فأين الناس عنه؟ يعني: ما أجمع عليه من العمل بالمدينة..». وذكر عياض
عن ربيعة قوله: «ألف عن ألف أحب إلي من واحد عن واحد..».

وقال ابن أبي الزناد: «كان
عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء ويسألهم عن السنن والأقضية التي يعمل بها فيثبتها، وما كان منها لا يعمل به
الناس ألقاه، وإن كان مخرجه من ثقة».

وروي أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه قال على المنبر: «أحرج() بالله عز وجل على رجل روى حديثا، العمل على خلافه».()

5 لقد تشكل فقه الإمام مالك
في رحم فقه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتأثر في النشأة بفقهاء المدينة السبعة، كسعيد بن المسيب،
وسيلمان بن يسار، وسالم بن عبد الله، وروعيت فيه أقضية الأمراء والقضاة والمفتين بالمدينة. فهو فقه مليء
بالإشارات والإحالات والتضمينات.

واتفق رأي الباحثين في
المذهب المالكي على أن فقه مالك فقه «مصلحي»، «ذرائعي». أي أنه فقه قابل للتجدد والتكيف على مر الأزمان، وفي
مختلف البيئات.

ولذلك عايش البيئة الأعجمية
في الأندلس، حتى أصبح جزءا من كينونة الأندلسيين، وأضحى الدفاع عنه دفاعا عن العقيدة والإسلام.

أما في عصرنا الحاضر
فبإمكاني أن أزعم أن فقه مالك –من حيث منهجه لا من حيث مواضيعه ومسائله- هو فقه المستقبل، حين يتسنى للفقه
الإسلامي فرصة الوجود، وتعود له مكانة الاستمداد منه؛ لأنه فقه يعتمد على دراسة كل حالة على حدة، ومن جوانب
مختلفة، وبأكثر من أصل. فهو بهذه الميزة يترك مجالا للاستدراك، ومجالا للعفو، ومجالا للرخصة، ومجالا للإنشاء…
ولأنه  فقه «مدرسة» أعني أنه حصيلة لاجتهادات السابقين، بدءا بعمر بن الخطاب، ومرورا بفقهاء المدينة
السبعة، وانتهاء بابن شهاب الزهري، وجعفر، وربيعة.. إنه فقه «تراكمي»: يحافظ على مجهودات السابقين بصياغة جديدة
تستجيب لسنن الله في التغير والتطور.

وما في هذه الورقات انتصار
لمثل هذا الخط الفقهي، ومحاولة إحياء لمثل هذا النموذج في الاجتهاد. وبالله التوفيق.

    الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله
الدهلوي، باعتناء عبد الفتاح أبي غدة، دار النفائس 1406هـ/1986م.

   إبطال الاستحسان للشافعي، ضمن كتاب الأم،
7/309-320.

   اختلاف مالك والشافعي، للشافعي، ضمن كتاب
الأم: 7/201-284. دار الفكر، ط:1410هـ/1990م.

   آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي،
تح: عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية.

   اصطلاح المذهب عند المالكية، د محمد إبراهيم
أحمد علي. دار البحوث للدراسات الإسلامية، وإحياء التراث، الإمارات العربية المتحدة، دبي، 1421هـ/2000م.

   إعلام الموقعين عن رب العالمين، تح: محمد
محيي الدين عبد الحميد، ط1/1955م، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، وكذا طبعة دار الحديث، تح: عصام الدين
الصبابطي، ط1/ 1414هـ/1993م.

   الأم للشافعي، ط: دار الفكر، 1410هـ/1990م.

   الإمام الشافعي: فقيها ومحدثا لرمضان عصفور.

   الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، باعتناء
عبد الأمير علي مهنا، دار الحداثة، ط1: 1988م.

   الانتقاء لابن عبد البر.
   التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد،
لابن عبد البر، ط3: 1408هـ/1988م. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب.

   الخراج لأبي يوسف، ضمن كتاب في التراث
الاقتصادي الإسلامي، دار الحداثة، ط1: 1990م.

   الدر المختار، على هامش حاشية ابن عابدين،
دار إحياء التراث العربي، الطبعة غير المحققة، والطبعة المحققة: تحقيق محمد صبحي حسن، وعامر حسين، ط1:
1419هـ/1998م.

   الرسالة للإمام الشافعي، دار الفكر، تح: أحمد
شاكر، 1309هـ.

   الشافعي حياته وعصره، آراؤه وفقهه لأبي زهرة.
دار الفكر العربي.

   المجموع شرح المهذب للإمام النووي، دار
الفكر.

   المسوى شرح الموطأ، لولي الله الدهلوي، دار
الكتب العلمية، ط1/1983م.

   المعجم الوسيط: إبراهيم مصطفى، أحمد حسن
الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار. دار الدعوة.

   المغني لابن قدامة الحنبلي، عالم الكتب.

   الموطأ: صححه وحققه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق
عليه محمد فؤاد عبد الباقي دار الحديث.

   ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام
مذهب مالك، للقاضي عياض، ط2: 1413هـ/1983م. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب.

   تهذيب التهذيب لابن حجر مؤسسة الرسالة،
ط1/1416هـ/1996م. باعتناء إبراهيم الزيبق، وعادل مرشد.

   توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس، لابن
حجر العسقلاني، تح: أبو الفدا عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، 1406هـ/1986م.

   جماع العلم للشافعي، ضمن كتاب الأم،
7/287-304.

   حاشية ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي،
الطبعة غير المحققة.. والطبعة المحققة، بتحقيق محمد صبحي حسن، وعامر حسين، ط1: 1419هـ/1998م.

   زاد المعاد في هدي خير العباد، تح: شعيب
الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط3: 1419هـ/1998م.

   شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف، (المقدمة).

   صحيح البخاري (الجامع الصحيح)، تح: محمد علي
القطب، المكتبة العصرية، 1411هـ/1991م.

   صحيح مسلم.
   طبقات الفقهاء لأبي إسحق الشيرازي، تح: د علي
محمد عمر، مكتبة الثقافة الدينية، ط1: 1418هـ/1997م.

   فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار الفكر،
اعتناء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. 1416هـ/1996م.

   مالك، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، لأبي زهرة.
دار الفكري العربي.

   مغيث الخلق في ترجيح القول الحق للجويني،
المطبعة المصرية، محمد محمد عبد اللطيف، ط: 1934م.

  مناقب الإمام الشافعي، لأبي السعادات مجد
الدين ابن الأثير الجزري، (مأخوذ من الكتاب الكبير: الشافي في شرح مسند الشافعي). تج: خليل إبراهيم ملا خاطر.
دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، مؤسسة علوم القرآن، بيروت. ط1: 1410هـ/1990م.

    مناقب الإمام الشافعي، للفخر الرازي، تح: د.
أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1 : 1986م.