الرئيسية / مراتب وأنواع التشريع في السنة النبوية.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : مراتب وأنواع التشريع في السنة النبوية.

الكاتب(ة) : د. عبد السلام بلاجي

عبد السلام بلاجي
باحث في القانون والشريعة

  إن البحث في موضوع «مراتب وأنواع التشريع في السنة النبوية» مشروع كبير ويتطلب تضافر قدرات علمية ووقتا كبيرا، ولذا فأنا هنا أطرح التساؤلات أكثر مما أقدم الإجابات، أمام السادة الأساتذة والعلماء الأجلاء، وطلبة العلم، لعلها تجد اهتماما ومدارسة، ولعلها تجد اهتماما وأجوبة لديهم، ولعلها تفتح باب الجواب، فتكون الدلالة عليها حظي من الأجر والثواب.
انقسم الناس في ما يخص التشريع في السنة النبوية إلى أقسام: قسم يرى أن السنة كلها تشريع، وقسم يرى أن السنة بعضها أو جلها تشريع، وقسم يرى أن السنة ليست تشريعا. أما القسم الذي يرى أن السنة ليست تشريعا، فيرى الاكتفاء بالقرآن وليس من مقاصد هذا البحث معالجة هذا الموضوع، فيتوجب علينا مناقشة آراء القسم الذي يرى أن السنة بعضها أو جلها تشريع.
فلطالما ترددت آراء بعدم حجية السنة النبوية، وأخرى بتقسيم السنة النبوية إلى سنة تشريعية وأخرى غير تشريعية، ونريد في هذه الصفحات طرح عدة أسئلة منهجية للمدراسة والبحث، أكثر من الإجابة القطعية، ومن هذه الأسئلة: ما هي السنة التي نتحدث عنها؟ وهل السنة النبوية نوع واحد أم أنواع متعددة؟ وهل تنقسم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية؟ كما قسم البعض القرآن إلى آيات أحكام وغيرها؟ وهو التقسيم الذي ثبت عدم صحته. وما هي درجات ومراتب التشريع فيها؟
تعريف السنة ومفهومها.
    ليس من قصد البحث ولا موضوعه الإطالة في هذا الباب، غير أن المقصود الإشارة إلى تعدد مفاهيم السنة حسب تعدد العلوم التي تبحث فيها.
    فالسنة عند الأصوليين هي ما صدر عن رسول الله من قول، أو فعل، أو تقرير، ويمكن أن نضيف إليها العزم. ويخرج من السنة ما صدر عنه قبل البعثة.
وعند الفقهاء هي الفعل الذي دل الخطاب على طلبه من غير إيجاب، ويرادفها المندوب والمستحب، والتطوع، والنفل.
    أما عند المحدثين فالحديث والسنة مترادفان متساويان يوضع أحدهما مكان الآخر. ويميل ابن تيمية إلى هذه التسوية، فيعتبر أن «الحديث النبوي عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به بعد النبوة من قوله وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة. فما قاله إن كان خبرا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه»().
ويدقق الشاطبي مفهوم السنة، مؤكدا أن لفظ السنة يطلق «على ما جاء منقولا عن النبي.. ويطلق أيضا في مقابلة البدعة.. ويطلق أيضا على ما عمل عليه الصحابة.. ويدل على هذا الإطلاق قوله : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين».
أخرجه أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله  ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله ! كأن هذه موعظة مودع، فما تعهد إليها ؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».
أما وظيفة السنة في التعريف الأصولي فهي «أن تقرر وتؤكد ما جاء في القرآن من الأحكام.. أن تبين ما جاء به القرآن من الشرائع بتوضيح المجمل، أو تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو تعيين المراد من النص المحتمل.. أن تستقل في تشريع بعض الأحكام التي سكت عنها القرآن»().
«حديث رسول الله إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة، وذكر ما فعله، فإن أفعاله التي أقر عليها حجة لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقوله: «لتأخذوا عني مناسككم»().
ويريد ابن الأثير بالسنة «ما أمر به النبي، ونهى عنه، وندب إليه قولا وفعلا، مما لا ينطق به الكتاب العزيز»(). وكأنه يحصر تشريع السنة فيما اختصت به دون القرآن.
ويحصر الشيخ علي الخفيف السنة فيما هو تشريعي فقط: «السنة هي ما أثر عن رسول الله في مجال التشريع: قول أو فعل أو تقرير»().
بل حتى سهوه وخطأه يمكن توظيفه تشريعيا: وهذا ما ألمح إليه ابن تيمية، حين نقله وتبنيه لقول الشيخ أبي حامد الأسفرائيني، الذي هو إمام المذهب بعد الشافعي، وابن سريج في تعليقه: «عندنا أن النبي يجوز عليه الخطأ كما يجوز علينا، ولكن الفرق بيننا أنا نقر على الخطأ والنبي لا يقر عليه، وإنما يسهو ليسن، وروي عنه أنه قال: «إنما أسهو لأسن لكم»().
«ويشبه هذا الحديث: ما ذكره مالك في الموطأ أنه بلغه، أن النبي قال: «إنما أنسى لأسن». وقد قيل: إن هذا لم يعرف له إسناد بالكلية. ولكن في “تاريخ المفضل بن غسان الغلابي”: حدثنا سعيد بن عامر، قال: سمعت عبد الله بن المبارك قال: قالت عائشة: قال رسول الله: «إنما أنسى –أو أسهو– لأسن»().
    كما أن سكوته عن الجواب تشريع كذلك، فقد روى أبو هريرة  عن رسول الله: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، فقال رجل: ” أكل عام يا رسول الله ؟ ” فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله : «لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم». أخرجه الإمام مسلم وغيره.
    ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».   
السنة النبوية الصحيحة حسب القواعد الأصولية حجة على جميع الأمة، وقد أجمعوا على ذلك إجماعا استناده الكتاب الكريم، والسنة النبوية.
هل السنة كلها أو بعضها تشريعية ؟
ويهمنا هنا أن نعلم أن جماعة من الباحثين أبوا أن يتخذوا هذه الأحاديث المروية مصدرا من مصادر التشريع، رأوا أن القرآن بدلالاته المختلفة.. كفيل ببيان أحكام الله، وأن ما جاء من هذه الأحاديث لم يكن صادرا عن الرسول إلا باعتباره إماما للمسلمين، يقدر مصلحتهم التي تحددها الظروف وتمليها الأحوال، وليست من قبيل التشريع العام الملزم في جميع الأزمنة والحوادث والأشخاص.. مما يدل دلالة واضحة على أن القرآن فيه كفاية للمسلمين في دينهم وتشريعهم.()
«الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به بعد النبوة: من قوله وإقراره، فإنه سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة. فما قاله إن كان خبرا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعا إيجابا أو أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه»().
«حديث رسول الله إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة، وذكر ما فعله، فإن أفعاله التي أقر عليها حجة لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقوله: «لتأخذوا عني مناسككم»().
«أمور جرت قبل النبوة، فإن تلك لا تذكر لتؤخذ وتشرع فعله قبل النبوة، بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض على عباده الإيمان به والعمل هو ما جاء به بعد النبوة … بعد أن أكرمه الله بالنبوة لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك. وقد اقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح، وفي عمرة الجعرانة، ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده»().
«كل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع. لكن التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب: فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه، فإن الناس تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟»()
إشكالية المصطلح
    يحاول الدكتور محمد أبو الليث الخير آبادي التأريخ لاتجاه تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية، مقررا أن «أول من لوح له الإشارة الخضراء هو السيد رشيد رضا (ت1345ﻫ) أتى عليه عرضاً في تفسيره، ثم جاء الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق (ت1393ﻫ) فأعطاه منحى قاعدياً، أو صرح به كقاعدة مسلم بها، وتلاه الدكتور محمد سليم العوا، وتعدى الخط الأحمر. وأخيراً أخذ الموضوع فضيلة الشيخ الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي، وحاول تخفيف الحدة بين القائلين به والرافضين له، وذلك بتضييق دائرة السنة غير التشريعية بعد التسليم بأصل التقسيم».
أقترح معالجة الخلط الناتج عن إشكالية المصطلح، لأن «السنة حسب تعريف الأصوليين كلها تشريعية، وأما السنة حسب تعريف المحدثين فمنها ما هو تشريع، ومنها ما هو غير تشريع. وبسبب غياب هذه النقطة عن القائلين بالسنة التشريعية وغير التشريعية حصل ذلك الخلط. وذلك لأن هذه الأمور الخمسة إذا صدق عليها تعريف “السنة” فهي على الأقل تفيد الإباحة وهي من الأحكام الخمسة التشريعية. وإذا لم يصدق عليها تعريف السنة فهي ليست بسنة، وإنما هي حديث».()
ونحن نفترض في هذا البحث وننطلق من أن السنة كلها تشريعية، وهذا ما ذهب إليه ثلة من العلماء والأصوليين، فقد ذهب ابن تيمية إلى أن «كل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع. لكن التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب: فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه، فإن الناس تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟»().
وتجدر الإشارة إلى أن عددا من العلماء نحوا نفس المنحى، فلاحظ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور غلبة التشريع على تصرفات وأحوال الرسول ، فقال: «أما حال التشريع فهو أغلب أحوال الرسول ، إذ لأجله بعثه الله»().
وإلى نفس الاتجاه نزع علال الفاسي، مؤكدا أنه قد «اتفق العلماء على أن أغلب تصرفاته ؛ كانت بالفتيا والتشريع، لأنه رسول قبل كل شيء. وإذا نظرنا إلى هذه المقامات.. نجد الجانب الإنساني الذي يأتي فيه الرسول بأفعال عادية جبلية، تقتضيها دواعي الحياة البشرية، وذلك كحالة الطعام والشراب والفراش واللباس، والقيام والقعود والركوب والسير على الأقدام، فذلك ما لا يطالب الإنسان بفعل مثله لأنه جبلي. ويدخل في هذا الباب كل ما اجتهد فيه من الأعمال الدنيوية، غير مستند فيه إلى وحي، وذلك كالحيلة في الحروب وتدبير ضروب الفلاحة، وأسباب الحياة وطرق البناء».()
وللتأكد من كون السنة تشريعية يؤكد على ضرورة «من ملاحظة ظروف أفعاله ، وحالة انتصابه للتشريع، أو للفتيا، أو للإمامة، أو للقضاء، أو لغير ذلك من الحالات»().
وإذا سلمنا مع ابن عاشور وعلال الفاسي أن أغلب أحواله التشريع الصريح المباشر، فتبقى أقل هذه الأحوال غير تشريعية بصفة مباشرة، لكنها مساعدة للتشريع وخادمة له، وهذا ما ذهب إليه الشاطبي عند هذا النوع من السنة –ومنه القصص النبوي- الذي نظر إليه على أنه «خادم للأمر والنهي، ومعدود في المكملات لضرورة التشريع»().
    «جل أحكام الشريعة الإسلامية من هذا القبيل ـ يقصد أنها سنة متعلقة بأحكام تبليغية ـ فالربا والخمر والغلول والاحتكار والسرقة والفواحش والغيبة والنميمة وأمثالها، محرمات ثبتت حرمتها بأحكام تبليغية، ومن ثم فلا بد من تجنبها بشكل مطرد ومستمر. والصلاة والصيام والحج والزكاة وأداء الحقوق المالية والمعنوية، ومعرفة أصول العقائد الإسلامية وأمهات الأحكام الدينية ونحوها، واجبات ثبت وجوبها بأحكام تبليغية في حق المكلفين جميعاً. ومن ثم فلا بد من الالتزام بها على الدوام دون أي تبديل فيها. وهكذا المندوبات والمكروهات والمباحات لا يجوز إقحام أي تغيير فيها بحجة التطور واختلاف الأزمان. إذ ليست هي المعنية بقولهم تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، كما يتوهم كثير من الناس اليوم».‏()
وقد لاحظ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن «علماء أصول الفقه قد تعرضوا في مسائل السنة النبوية، إلى ما كان من أفعال رسول الله جبليا، أنه لا يدخل في التشريع… وترددوا في الفعل المحتمل كونه جبليا وتشريعيا كالحج على البعير»().
    إن السنة كلها تشريع، لكننا نعتقد أنها قد تكون تشريعا صريحا ومباشرا أو تشريعا للمبدأ، فرمي الجمار تشريع مباشر فلا بد لمن حج أن يرمي الجمار، أما الحج على البعير فإنه تشريع لمبدأ الحج راكبا لا على البعير، بل يدل على إباحة الحج راكبا على فرس أو سيارة أو على الدراجة. وهناك الفعل الجبلي ويرجع للطبيعة البشرية، والفعل الظرفي كالحج على البعير وهو ليس جبليا.
    وقد ذهب ابن تيمية إلى أن «كل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع». وحتى إذا لم تكن السنة تشريعا صرفا، فقد تقرر لديه أن «جميع أقواله يستفاد منها شرع»().
وقد وقع بعض الغموض في مفهوم السنة والشريعة، ساهم في الارتباك في مفهوم السنة التشريعية وغير التشريعية، وقد تصدى ابن تيمية لتوضيح هذا الغموض بتأكيده أن «السنة كالشريعة هي ما سنه الرسول وما شرعه، فقد يراد به ما سنه وشرعه من العقائد، وقد يراد به ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد به كلاهما.. فالمتكلمة جعلوا بإزاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات، والمتصوفة جعلوا بإزائها الذوقيات والحقائق، والمتفلسفة جعلوا بإزاء الشريعة الفلسفة، والملوك جعلوا بإزاء الشريعة السياسة، وأما الفقهاء والعامة فيخرجون عما هو عندهم الشريعة إلى بعض هذه الأمور، أو يجعلون بإزائها العادة أو المذهب أو الرأي». ()
وجماع القول إن السنة التي تفيدنا في التشريع هي ما ورد عنه مقطوعا بصحته، ومتواترا عددا أو معنى، أو أحاديث الآحاد المرتبطة بقرائن قوية متصلة أو منفصلة.
تعريف الشريعة والتشريع
التشريع بالمعنى الاصطلاحي يشمل الأحكام الخمسة. والتشريع بالمعنى العامة يشمل الغيبيات والفضائل والأخلاق والتربية. وهذا ما يقرره ابن تيمية بتأكيده أن «التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب: فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه»().
ويؤيد هذا المنحى ما ذهب إليه الشيخ محمود شلتوت من أن «الشريعة هي النظم التي شرعها الله أو شرع أصولها، ليأخذ الإنسان بها نفسه في علاقته بربه (وسبيلها أداء الواجبات الدينية كالصلاة والصوم). وعلاقته بأخيه المسلم (وسبيلها تبادل المحبة والتناصر على الدوام، والأحكام الخاصة بتكوين الأسرة والميراث). وعلاقته بأخيه الإنسان (وسبيلها التعاون في تقدم الحياة العامة والسلم العام). وعلاقته بالكون (وسبيلها حرية البحث والنظر في الكائنات، واستخدام آثارها في رقي الإنسان). وعلاقته بالحياة. (وسبيلها التمتع بلذائذ الحياة الحلال دون إسراف أو تقشف)»().
التشريع الوضعي يشمل الأمر والنهي (الوجوب والحظر)، ولا يتضمن الكراهة والندب والإباحة. ومن ناحية الجزاءات لا يتضمن الجزاءات المعنوية والأخلاقية والأخروية، إلا ما ندر: مثل بعض الجزاءات والحوافز المعنوية للطلبة والأجراء (تنويه، تهنئة، تشجيع. مقابل: تنبيه، إنذار، توبيخ)، كما بدأ الاهتمام في العقدين الأخيرين بما يسمى تخليق الحياة العامة والاقتصاد بتبني وسائل أخلاقية ومعنوية –بما فيها الدين- لمكافحة الفساد المالي والاقتصادي والإداري.
«السنة كالشريعة هي ماسنه الرسول وما شرعه، فقد يراد به ما سنه وشرعه من العقائد، وقد يراد به ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد به كلاهما.. فالمتكلمة جعلوا بإزاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات، والمتصوفة جعلوا بإزائها الذوقيات والحقائق، والمتفلسفة جعلوا بإزاء الشريعة الفلسفة، والملوك جعلوا بإزاء الشريعة السياسة، وأما الفقهاء والعامة فيخرجون عما هو عندهم الشريعة إلى بعض هذه الأمور، أو يجعلون بإزائها العادة أو المذهب أو الرأي.
والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمدا جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف منها فهو باطل وما وافقها فهو حق… فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدنيا والدين، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال، والعبادات والأعمال، والسياسات والأحكام، والولايات والعطيات»().
المكانة التشريعية للسنة النبوية
السنة النبوية هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، والتشريع في السنة تجاه القرآن يكون على مرتبتين: بيان تشريعي لكليات القرآن الكريم، وتشريع ابتدائي أو أصلي.
وللسنة مكانة أساسية في الفقه والتشريع، إذ لا يمكن تصور بناء ووجود الفقه والتشريع بدونها، قال الخطابي (ت388ﻫ): «الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب»().
وللسنة قوة تشريعية تعرف بالحجية، ومعنى حجية السنة: «أنها دليل على حكم الله، يفيدنا العلم أو الظن به، ويظهره ويكشفه لنا. فإذا علمنا أو ظننا الحكم بواسطته: وجب علينا امتثاله والعمل بـه. فلذلك قالوا: معنى حجية السنة: وجوب العمل بمقتضاها. فالمعنى الحقيقي للحجية، هو: الإظهار والكشف والدلالة؛ ويلزم هذا وجوب العمل بالمدلول: حيث إنه حكم الله»().
فإذا ثبتت السنة عن النبي ، وجب على كل مسلم اتباعها، وبهذا أمرنا القرآن الكريم في قوله : ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾().
ويـؤكد ابـن تيمية أن «جميع أقواله يستفاد منها شرع، وهو لما رآهم يلقحون النخل قال لهم:
«ما أرى هذا» -يعني شيئا- ثم قال لهم: «إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله»، وقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإلي». وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن “الخيط الأبيض” و”الخيط الأسود” هو الحبل الأبيض والأسود»().
وتجدر الإشارة إلى أن البيان التشريعي لكليات القرآن الكريم، يكون بعدة طرق منها: تفصيل مجمله، وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه. وبناء على ذلك يجب الرجوع إلى السنة لبيان كليات القرآن الكريم التشريعية، وقد ذهب الشاطبي إلى أنه «لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه، وهو السنة. لأنه إذا كان كليا وفيه أمور كلية، كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها، فلا محيص عن النظر في بيانه»().
وإذا تمعنا في السنة كذلك، وجدنا أن هناك سننا تشريعية مباشرة، وسننا أخرى موجهة للتشريع، وسننا أخرى ـ خصوصا في أحكام القضاء ـ تبدو وكأنها خالفت التشريع كقبول شهادة الواحد، فهل يمكن اعتبارها تشريعا أو حكما للحالات الاستثنائية أمام نوازل لابد من إصدار حكم فيها؟ ولا ينبغي إهمالها وتركها خلوا من الحكم. بـل إن مـن العلمـاء مـن نص علـى استـحالة تـصور الفقه دون وجود الحديث أو السنة، ومن هؤلاء الخطابي (ت388ﻫ) الذي يرى أن «الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب»().
ويسلك محيي الدين بن قدرت، أحد الباحثين المعاصرين، مسلكا خاصا لإثبات أن السنة كلها تشريعية، فبما أن «أفعاله ؛ الجبلية وآراؤه في أمور الدنيا -مع كونها أضعف أنواع السنة- تشريعية، لزم منها أن بقية أنواع السنة أيضا تشريعية بطريق أولى، فصارت كل السنة تشريعية»، كما «لزم اعتبار تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية تقسيما غير صحيح. ومع ذلك، فإن هناك صورا للخلاف بين أصحاب الاتجاه الذي يرى تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية وبين من أنكره، لا يعدو عن أن يكون خلافا في الألفاظ، لا المعاني. وسببه عدم تحرير بعض من خاض في الموضوع لمفاهيم “التشريع”، و”الحكم الشرعي”، و”السنة” التي عليها مدار البحث في القضية».()
ولذا فالمطلوب منا للإفادة التشريعية التامة من القرآن الكريم والسنة النبوية أن نعمد إليهما معا «فندرسهما دراسة أصولية كاملة، بحيث نستخرج وندرس كل نص شرعي له دلالة أصولية وبعد أصولي.. ندرسهما دراسة كاملة لاستخراج كل مقتضياتهما الأصولية، مع ما يلزم من ضم وتركيب واستنتاج».()
أقسام السنة ومراتبها التشريعية
يؤكد الشاطبي أن أقسام السنة على «أربعة أوجه: قوله ، وفعله، وإقراره، وكل ذلك إما متلقى بالوحي أو بالاجتهاد، بناء على صحة الاجتهاد في حقه، وهذه ثلاثة. والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء. وهو وإن كان ينقسم إلى القول والفعل والإقرار، ولكن عد وجها واحدا، إذ لم يتفصل الأمر فيما جاء عن الصحابة تفصيل ما جاء عن النبي»().
التشريع في السنة يكون صريحا مباشرا، أو يكون ضمنيا غير مباشر: ويكون صريحا حينما يدل الخطاب أن الرسول منتصب لسن حكم شرعي، في العبادة والأخلاق والسلوك والمعاملات، إذ الحكم الشرعي لا يقتصر على المعاملات وحدها كما يعتقد الكثيرون.
إذا كان القرافي قد قسم تصرفات النبي إلى أربعة، فإن الشيخ ابن عاشور أوصل «أحوال رسول الله التي يصدر عنها قول أو فعل اثني عشر حالا، منها ما وقع في كلام القرافي ومنها ما لم يذكره، وهي: التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرد عن الإرشاد».()
ويبدو أن هذه الأحوال كلها تشريع تختلف طبيعته ودرجته، كما أنها عند التحقيق لا تخرج عن تقسمات القرافي، بل لا تعدو أن تكون مجرد توسع لها.
مراتب التشريع في السنة النبوية (وهو الذي سميناه التشريع الابتدائي أو الأصلي):
السنة كمصدر تشريعي: إلى جانب القرآن الكريم وبقية المصادر.
الكليات التشريعية: وهي كليات وقواعد تفيد في مختلف التصرفات، إذ توجد في السنة قواعد تشريعية كلية مثل قوله : «لا ضرر ولا ضرار»، وقوله: «إنما الأعمال بالنيات»، وهناك سنن وأحكام تنزيلية لهذه القواعد، وتصرفات نبوية حكومية. نحو: الأمور بمقاصدها المستنبطة من حديث «إنما الأعمال بالنيات»، وقاعدة «الغنم بالغرم»، وقاعدة «لا ضرر ولا ضرار»…
التشريع التفصيلي: كتحريم شيء أو إباحته.
التنصيص على مبادئ التشريع دون تفاصيله.
السنة كموجه ومساعد للتشريع: السنة إما أن تكون تشريعا، وقد تكون خادمة للتشريع أو مساعدة عليه، وقد نص ابن تيمية بأن «كل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع»، ثم دقق ذلك بالقول بأن «جميع أقواله يستفاد منها شرع»(). ولا يخفى بأن الإفادة في التشريع تثبت لكل ما هو موجه أو مفيد للتشريع، حتى ولو لم يكن تشريعا صرفا.
التنصيص على حدود وإطار التشريع، مثل قوله لعن الله في الخمر عشرة…
التشريع أو الاجتهاد القضائي: السوابق القضائية أو حجية الأمر المقضي به.
العزم أو الهم التشريعي: وهو ما صرح أو ظهر من الرسول ، أنه يريد سنه قولا أو فعلا ثم عدل عنه أو صرف عنه. فينبغي النظر في درجة هذا العزم: فإن ترجح عزمه على الفعل جعلناه نواة للتشريع أو تشريعا، وإن ترجح انصرافه عنه تركناه، وإن لم يترجح فيه شيء نظرنا مدى توافق العزم مع أحكام الشريعة ومقاصدها فما وافقها أخذنا به، وما خالفها تركناه.
ومن أمثلة العزم: عزمه على إحراق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة، وعزمه على الحج متمتعا، وعزمه على صيام يوم تاسع محرم، وعزمه على فرض السواك قبل كل صلاة. ولكل عزم حكم يفهم من سياقه وقرائنه: من إباحة ووجوب وندب وحظر أو كراهية.
وأفاد الشوكاني في إرشاد الفحول أن الشافعية جعلوا الهم «من جملة أقسام السنة، وقالوا: يقدم القول ثم الفعل ثم التقرير ثم الهم». ثم قرر أن الهم عنده ليس من أقسام السنة، «لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له، وليس ذلك مما آتانا الرسول، ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه»، لكنه سرعان ما يعود ليقرر ضمنيا أن العزم ينطوي على نوع من التشريع، وذلك بقوله: «وقد يكون إخباره بما هم به للزجر، كما صح عنه أنه قال: «لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم»(). ()
الزجر يقابله التحفيز كما في حديث «من قتل قتيلا فله سلبه».
ويبدو أن الهم الذي مثل له الشوكاني هو من السنة بلا شك، لكن الخلاف هو في كونها تشريعية أم لا، والراجح أن كونه للزجر يدخله في جملة التشريع، لكن مرتبته أنه زجر بدون سن أو تشريع جزاء في الدنيا، وهو ما عزم على فعله الرسول ثم تراجع عنه.
توجيه وخدمة التشريع
«حـيث قلنا إن الـكتاب دال على السنة، وإن السنة إنما جاءت مبينة له، فذلك بالنسبة إلى الأمر
والنهي والإذن وما يقتضي ذلك، وبالجملة ما يتعلق بأعمال المكلفين، وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون -مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن- فعلى ضربين:
أحدهما أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن، فهذا لا نظر في أنه بيان له كما في قوله : ﴿وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة﴾(). قال: «دخلوا يزحفون على أوراكهم».()
والثاني أن لا يقع موقع التفسير، ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي، فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن، لأنه أمر زائد على موقع التكليف وإنما أنزل القرآن لذلك. فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج.
وقد جاء من ذلك نمط صالح في الصحيح، كحديث أبرص وأقرع وأعمى، وحديث جريج العابد، ووفاة موسى، وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم من قبلنا، مما لا ينبني عليه عمل. ولكن في ذلك من الاعتبار نحو ما في القصص القرآني، وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب، فهو خادم للأمر والنهي، ومعدود في المكملات لضرورة التشريع، فلم يخرج بالكلية عن النوع الأول».()
نرى أن كل الأحاديث تشريعية، تقر حكما أو مبدأ حكم. بما في ذلك القصص كالقرآن.
عن طلحة بن معاوية  قال: أتيت النبي ، فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد، في سبيل الله، قال: «أمك حية»، قلت: “نعم”، قال: «الزم رجلها، فثم الجنة»، رواه الطبراني عن طلحة بن معاوية، وصححه الألباني. وهو يتضمن توجيها يستثمر في تقنين حالات الإعفاء من التجنيد العسكري.
وعموما فإن السنة النبوية كلها تشريعية، فهي إما أن تكون تشريعا مباشرا، أو تكون مكملة ومساعدة للتشريع وخادمة له، أو كما عبر الشاطبي «خادمة للأمر والنهي» وهما جوهر التشريع، كما جاء عند حديثه عن القصص النبوي «من ذلك نمط صالح في الصحيح، كحديث أبرص وأقرع وأعمى، وحديث جريج العابد، ووفاة موسى، وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم من قبلنا، مما لا ينبني عليه عمل. ولكن في ذلك من الاعتبار نحو ما في القصص القرآني، وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب، فهو خادم للأمر والنهي، ومعدود في المكملات لضرورة التشريع».()
هل يمكننا الإفادة من مراتب القانون ؟
إذا نظرنا إلى التشريعات المعاصرة نجد مراتب القانون تتدرج من الدستور كمصدر أسمى، نزولا نحو القوانين التنظيمية التي تعتبر مكملة للدستور، ثم القوانين العادية، ثم المراسيم التطبيقية، ثم القرارات الحكومية، ثم القرارات الوزارية، ثم اللوائح الداخلية. فهل يمكن الاستفادة من هذه التراتبية في دراسة مراتب التشريع في السنة النبوية؟
إشكالية خصائص القاعدة القانونية
تحدد خصائص القاعدة القانونية عادة بأنها: قاعدة سلوك اجتماعي، وبأنها عامة ومجردة، وبأنها قاعدة ملزمة().
التشريع الإسلامي يشمل كل ما يهم كيان الإنسان وحياته: من عقائد وعبادات وأخلاق وسلوك ومعاملات، بينما تعريف القاعدة القانونية لا يهم إلا السلوك الاجتماعي المحسوس، ويعتبر القواعد الأخلاقية غير ملزمة، ولذلك فهي لا تدخل في مجال التشريع، كما أن القانون المعاصر لا يشمل ما ليس ملزما كالندب والكراهة والإباحة، بل يشمل الواجب والمحظور فقط.
تطبيقات على بعض الأحاديث النبوية
– كانت بريرة أمة فأعتقت واختارت فسخ النكاح من زوجها وكان عبدا، وكان زوجها يحبها، وكان يمشي خلفها في طرق المدينة ودموعه تسيل على خده يترضاها لترجع إليه، فشفع له النبي  حتى قال لها: «يا بريرة، اتقي الله، فإنه زوجك، وأبو ولدك». فقالت: يا رسول الله، أتأمرني بذلك؟ قال: «لا، إنما أنا شافع». قالت: لا حاجة لي فيه. ()
ظاهر المنطوق الوجوب لأنه أمر، ومفهومه أن غير المذكور لا يجب وهو المطلوب، ولحديث بريرة قالت: “يا رسول الله، أفأمر منك أم تشفع؟” قال: «إنما أنا أشفع»، فقالت: “لا حاجة لي به”، فدل على أن ما عدا الأمر لا يجب الاتباع فيه().
    وذهب ابن تيمية إلى أنها «قالت: “أتأمرني؟ لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة».()
– حديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم»() .
«فهذه الأحاديث وأمثالها لا يفهم منها أن المرابطة لا تكون إلا بالخيل.. بل ينبغي أن تطبق معاني هذه الأحاديث على كل وسيلة تستحدث، تقوم مقام الخيل أو تتفوق عليها، فالوسائل قد تتغير من زمان إلى آخر».()

–  من الأمثلة التي تدل على أن الحديث قد يبنى على رعاية ظرف زمني خاص، ليحقق مصلحة معتبرة، ثم تتغير فيما بعد: قضاء النبي بالدية على العاقلة –وهم عصبة الشخص- في قتل الخطأ وشبه العمد. () فالنبي إنما أناط الدية بالعصبة، لأنها كانت محور النصرة والمعونة في عرف ذلك الزمان، ولذلك لما كان زمن عمر بن الخطاب  جعل الدية على أهل الديوان، على أساس أن العاقلة.. هم من ينصرون الشخص ويعينونه في كل زمان من غير تعيين. ()
    فهذا هو الحديث تشريعي، ووجه التشريع فيه هو التضامن في دفع الدية لأهل القتيل، بواسطة أشخاص طبيعيين أو بواسطة شخص معنوي كالتأمين التعاوني مثلا.
–  القصص النبوي مثله مثل القصص القرآني قد يفيد التشريع ويساعده، ونضرب مثالا بقصة أصحاب الغار الثلاثة. والندب إلى تثمير أموال الأجراء -ومن في حكمهم- لمصلحتهم، وهو شبيه بما تقوم به مؤسسات التقاعد والضمان الاجتماعي اليوم.
عن عبد الله بن عمر عن رسول الله أنه قال: «بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم.
فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، وامرأتي، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي، فسقيتهما قبل بني، وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقى الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا منها فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء.
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم.
وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز، فلما قضى عمله قال أعطني حقي، فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي. قلت اذهب إلى تلك البقر ورعاءها فخذها. فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي. فقلت: إنـي لا أستهزئ بـك، خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب به. فإن كنت تعلم أني فعلت
ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقى، ففرج الله ما بقي».()
–  عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم».()
وفي رواية: فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا.
ورد في لسان العرب: الغيل: اللبن الذي ترضعه المرأة ولدها وهي تؤتى.. وقيل: الغيل أن ترضع المرأة ولدها على حبل.() والغيلة هي الجماع وقت الرضاع.‏
ألا يمكن اعتبار هذا الحديث من قبيل التصرفات النبوية الحكومية؟ –الداخلة تحت تصرفات الإمامة التي يمكن تقسيمها بدورها إلى عدة أقسام- تصرف في مجال الصحة العمومية نظر إلى الوضع الصحي للأمة واستفاد من تجارب الأمم الأخرى مثله في ذلك مثل عدد من التصرفات، كحفر الخندق لاتقاء العدو والاستفادة من الخبرة العسكرية الأجنبية.
وقال الباجي في المنتقى شرح الموطأ: يدل على أنه قد كان يقضي ويأمر وينهى بما يؤديه إليه اجتهاده دون أن ينزل عليه شيء، ولذلك هم أن ينهى عن الغيلة لما خاف من فساد أجساد أمته وضعف قوتهم من أجلها، حتى ذكر أن فارس والروم تفعل ذلك فلا يضر أولادهم ذلك.
ثبت بالدليل القاطع أن هذا الأمر شائع لدى الأمم المتحضرة آنذاك الروم والفرس، وأنه لايؤدي إلى مضاعفات سيئة… لقد هم أن ينهى عن الغيلة.. وبناء على الخبرة العملية الموضوعية، توقف عن النهي وأباح الغيلة.()
وقال السندي في شرح النسائي: أراد النهي عن ذلك لما اشتهر عند العرب أنه يضر بالولد، ثم رجع عن ذلك حين تحقق عنده عدم الضرر في بعض الناس كفارس والروم، وهذا يقتضي أنه فوض
إليه في بعض الأمور ضوابط فكان ينظر في الجزئيات واندراجها في الضوابط.
وفي تحفة الأحوذي: الأقرب أنه نهى عنه بعد حديث جدامة حيث حقق أنه لا يضر إلا أن الضرر قد يخفى إلى الكبر.
النووي في شرح مسلم: في الحديث جواز الغيلة فإنه لم ينه عنها، وبين سبب ترك النهي. وفيه جواز الاجتهاد لرسول الله. وبه قال جمهور أهل الأصول. ‏و قيل: لا يجوز لتمكنه من الوحي، والصواب الأول. ‏
ومثله قوله: «نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ثم بدا لي أن الناس يتحفون ضيفهم، ويحتسبون لغائبهم. فكلوا وأمسكوا ما شئتم».()
‏وفي سنن الترمذي ‏عن‏ ‏سليمان بن بريدة ‏عن‏ ‏أبيه‏ ‏قال: قال رسول الله : ‏ «‏كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتسع ‏ ‏ذو الطول ‏على من لا‏ ‏طول‏ ‏له، فكلوا ما بدا لكم، وأطعموا وادخروا»..
ومثله عن ‏‏سلمة بن الأكوع قال:‏ ‏قال النبي قوله : «‏‏من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء». فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: «كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها».()
قال ابن حجر في فتح الباري: يستفاد منه أن النهي كان سنة تسع لما دل عليه الذي قبله أن الإذن كان في سنة عشر، قال ابن المنير: وجه قولهم هل نفعل كما كنا نفعل؟ مع أن النهي يقتضي الاستمرار، لأنهم فهموا أن ذلك النهي ورد على سبب خاص، فلما احتمل عندهم عموم النهي أو خصوصه من أجل السبب سألوا، فأرشدهم إلى أنه خاص بذلك العام من أجل السبب المذكور.
 لما رآهم يلقحون النخل قال لهم: «ما أرى هذا» -يعني شيئا- ثم قال لهم: «إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله»، وقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإلي». وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن “الخيط الأبيض” و”الخيط الأسود” هو الحبل الأبيض والأسود».()
 عن ‏ ‏عبد الله بن بريدة ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏قال: قال رسول الله ‏: ‏ ‏«نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا فـي
‏سقاء ‏فاشربوا في ‏الأسقية ‏ ‏كلها، ولا تشربوا مسكرا».()‏
قال النووي: هذا الحديث مما صرح فيه بالناسخ والمنسوخ جميعًا، قال العلماء: يعرف نسخ الحديث تارة بنص كهذا، وتارة بإخبار الصحابي ككان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار، وتارة بالتاريخ إذا تعذر الجمع، وتارة بالإجماع كترك قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، والإجماع لا ينسخ، لكن يدل على وجود ناسخ..
قال الشافعي: فيشبه أن يكون إنما نهى رسول الله عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، إذ كان الدافة، على معنى الاختيار، لا على معنى الفرض… وأحب إن كانت في الناس مخمصة أن لايدخر أحد من أضحيته ولا من هديه أكثر من ثلاث لأمر النبي. ()
سنت وشرعت الأضحية للقادر فهي زائدة عن حاجته، أو فائضة عنها بلغتنا اليوم، ومن وجوه الإرشاد في ذلك، وخصوصا مسألة الأثلاث الثلاثة: الأكل، والصدقة، والادخار، يفيدنا في تقنين إعادة توزيع الدخل، وخصوصا فوائض الثروات الكبيرة: أفرادا ومؤسسات.
    •    الإسلام عقيدة وشريعة، الشيخ محمود شلتوت، الطبعة الثامنة عشرة، دار الشروق بيروت 1421ﻫ 2001م.
    •    الضوابط المنهجية للاستدلال بالسنة النبوية، د. حسن سالم الدوسي، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، عدد 50 جمادى الآخرة 1423ﻫ
    •    إرشاد الفحول، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق أبو مصعب محمد سعيد البدري، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الأولى 1412ﻫ 1992م.
    •    اتجاه تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية ين الجحود والتأييد، الدكتور محمد أبو الليث الخير آبادي، http://www.chihab.net/
    •    جامع بيان العلم وفضله، يوسف ابن عبد البر القرطبي، تقديم محمد عبد القادر عطا، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الأولى 1415ﻫ 1995م.
    •    الجامع لمسائل أصول الفقه، الدكتور عبد الكريم النملة، الطبعة الأولى 1420ﻫ/ 2000م، مكتبة الرشد الرياض.
    •    حجة الله البالغة، أحمد ولي الله الدهلوي، تعليق الشيخ محمد شريف سكر، دار إحياء العلوم بيروت، الطبعة الأولى 1410ﻫ، 1990م.
    •    حجية السنة، حسن عبد الخالق،
    •    السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي،
    •    السنة التشريعية وغير التشريعية، مجموعة من العلماء، تقديم الدكتور محمد عمارة، الطبعة الثانية، نهضة مصر سبتمبر 2005.
    •    جوانب التبليغ والإمامة والقضاء في شخصية النبي ، الدكتور محمد سعيد رمـضان الـبوطي، مجـلة التراث العـربي دمـشق، العـدد 11 و12، جـمادى الآخـرة- رمضان 1403ﻫ،
    •    قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق نزيه كمال حماد والدكتور عثمان جمعة ضميرية، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 1421ﻫ/2000م.
    •    بذل النظر في الأصول، محد بن عبد الحميد الأسمندي (ت552ﻫ)، تحقيق الدكتور محمد زكي عبد البر، الطبعة الأولى 1412ﻫ/ 1992 م، مكتبة دار التراث القاهرة.
    •    قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق نزيه كمال حماد والدكتور عثمان جمعة ضميرية، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 1421ﻫ/ 2000م.
    •    مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، الطبعة الأولى 1426ﻫ/ 2005 م، دار السلام القاهرة.
    •    مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، مؤسسة علال الفاسي الرباط، الطبعة الرابعة 1411ﻫ/ 1991م.
    •    معالم السنن، أبو سليمان حمد الخطابي البستي، تصحيح محمد راغب الطباخ، الطبعة الأولى المطبعة العلمية حلب 1351ﮬ/ 1932م.
    •    كتاب اختلاف الحديث، ضمن كتاب الأم، أبو عبد الله إدريس الشافعي، الطبعة الثانية 1403ﻫ/ 1983 م، دار الفكر بيروت.
    •    الفروق القرافي.
    •    مجموع فتاوى ابن تيمية، المجلد 18.
    •    الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي،
    •    بذل النظر في الأصول، محد بن عبد الحميد الأسمندي (ت552ﻫ)، تحقيق الدكتور محمد زكي عبدالبر، الطبعة الأولى 1412ﻫ/ 1992 م، مكتبة دار التراث القاهرة.
    •    قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق نزيه كمال حماد والدكتور عثمان جمعة ضميرية، دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 1421ﻫ/ 2000م.
    •    مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، الطبعة الأولى 1426ﻫ/ 2005 م، دار السلام القاهرة.
    •    مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، مؤسسة علال الفاسي الرباط، الطبعة الرابعة 1411ﻫ/ 1991م.
    •    معالم السنن، أبو سليمان حمد الخطابي البستي، تصحيح محمد راغب الطباخ، الطبعة الأولى المطبعة العلمية حلب 1351ﮬ/ 1932م.
    •    تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية (أحاديث الطب من صحيح البخاري نموذجا)، محيي الدين بن قدرت بن شيرين السمرقندي، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1429ﻫ/2008م.