الرئيسية / مكانة الفقهاء ونفوذهم في الدولة المرابطية : محاولة في التعليل التاريخي.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : مكانة الفقهاء ونفوذهم في الدولة المرابطية : محاولة في التعليل التاريخي.

الكاتب(ة) : د. أحمد الخطــــــــــــــــــــاب

إشكالية الموضوع

قامت الدولة المرابطية على أساس جهود ثلة من فقهاء المالكية بالغرب الإسلامي، فهم الذين نظروا لمشروعها الإصلاحي، ومهدوا السبل لتحقيقه على مسرح التاريخ. ويتعلق الأمر بالجيل الأول من الفقهاء المرابطين، بقيادة أبي عمران الفاسي، ووجاج بن زلو اللمطي، وعبد الله بن ياسين(). ثم انخرطت الأجيال اللاحقة من الفقهاء في هذا المشروع، فمكنوا الدولة من الارتقاء في سلم القوة والنفوذ، فتحققق لها بذلك توحيد المغرب والأندلس، والانتقال من دائرة المحلية إلى دائرة الإقليمية في إطار الخلافة الإسلامية السنية(). ذلك، أن وظيفة الفقهاء في الدولة المرابطية لم تقتصر على المستوى الديني، بل امتدت إلى ما هو أشمل من ذلك، من خلال إسهامهم في تدبير شؤون الدولة إلى جانب شركائهم في السلطة من أمراء وقادة عسكريين، حيث اضطلعوا بوظائف ومهام سياسية وإدارية وقضائية سامية في الدولة، كما ارتبطوا بخدمة المجتمع بشكل وثيق من خلال وظائفهم الدينية والتربوية. وقد تمكن هؤلاء الفقهاء على اختلاف أجيالهم وفق منطق التراكم الإيجابي من بناء مغرب إسلامي جديد، من خلال صياغة هويته الإسلامية السنية بالقضاء على الخلاف المذهبي والانحراف الديني، وذلك موازاة مع التوحيد السياسي الذي نقل المغرب من مرحلة الطائفية المتمثلة في تعدد الكيانات القبلية إلى مرحلة الوحدة والاستقرار في إطار الدولة المركزية بمختلف مقوماتها المادية والروحية.
ولعل اضطلاع الفقهاء المرابطين بهذه الوظائف السامية خدمة للدولة والمجتمع، قد أكسبهم مكانة متميزة في السلم الإداري والهرم الاجتماعي، مما عرضهم لحملات من النقد الشديد من طرف فئة واسعة من أهل القلم من معاصريهم ومن اللاحقين عليهم من الفقهاء والأدباء والشعراء والمؤرخين، الذين تصدوا ـ كل من موقعه ـ لمهاجمة الفقهاء وتسويد صورتهم السياسية والاجتماعية، وتسفيه مواقفهم الفكرية والدينية، مما يجعل هذا الموضوع جديرا بالمساءلة التاريخية. لذا، يتطلع هذا البحث إلى تشريح هذه الإشكالية، ومحاولة تقييم هذه المواقف().
وقد تراوحت التهم الموجهة إلى الفقهاء المرابطين ما بين التهم العقدية والفقهية، والتهم السياسية والاجتماعية. فتم نعتهم بأقصى درجات التزمت الديني والفقهي، والانتهازية السياسية والاجتماعية. ووصل الأمر إلى حد الطعن في عقيدتهم بإعلان تكفيرهم من طرف البعض. وفيما يلي الخطاطة العامة لتلك المواقف:
أ ــ انتقادات من طرف فئة من الفقهاء : انتقادات علمية ودينية وسياسية
 ابن تومرت بين النقد السياسي والتكفير الديني
لما كان ابن تومرت زعيم ثورة تستهدف الإطاحة بالدولة المرابطية وإقامة دولة جديدة على أنقاضها، هي دولة أهل التوحيد أو الموحدين، ولما كان الفقهاء هم أصحاب القرار وهم المؤهلون لمواجهة مشروعه الفكري والسياسي، فقد وجه سهامه النقدية إلى الفقهاء بالدرجة الأساس، ومن خلالهم للحكام المرابطين. وفيما يلي أهم تلك الاتهامات:
– استغلال الدين من أجل كسب الدنيا: اتهم ابن تومرت الفقهاء المرابطين باستغلال تكوينهم الديني لتحقيق المصالح الدنيوية. ففي رسالته إلى أنصاره الموحدين()، يعلن ابن تومرت الحرب على ثلاثة طوائف وهي: البرابر المفسدين، والملبسين من الطلبة المكارين، وغيرهم من أولياء الشياطين وأعوان الكفرة الملثمين، حيث يقول: “فهذه الطوائف الثلاثة الذين شمروا وتجردوا لهدم الدين وإماتته، أعني أهل التجسيم الملثمين والبرابر المفسدين والمكارين الملبسين من الطلبة وهم شر الثلاثة تسموا باسم العلم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة وتزينوا بالفقه والدين، وتعلقوا بالكفرة، وانحازوا إلى جنبهم، واستفرغوا مجهودهم في معونتهم وفي طلب مرضاتهم، لما رأوا الدنيا في جنبتهم، وتركوا دينهم وراء ظهورهم، وأعانوهم على باطلهم… “().
– شرعنة سلطة المرابطين “الكفار” والتعلق بهم: لم يتردد ابن تومرت في تكفير المرابطين وفقهائهم، باعتبارهم هم الذين شرعوا لهم طاعة المسلمين، فجعلوا”طاعتهم لازمة، والانقياد إليهم واجب “، رغم علمهم بخروجهم عن السبيل، فقالوا لهم: “عليكم السمع والطاعة في كل ما أمروكم به…”().
– تبغيض أهل التوحيد: لم يكتف الفقهاء في نظر ابن تومرت بشرعنة سلطة المرابطين، بل قاموا أيضا بتبغيض أنصاره “أهل التوحيد” عند عموم المسلمين، بتشويه صورتهم، وترويج الأكاذيب ضدهم، مثل القول بتكفير ابن تومرت للمسلمين وامتناعه عن الصلاة على أهل القبلة وإشاعة الفساد؛ في حين كان ابن تومرت يعتبر أن ما كان يدعو الناس إليه هو الحق بعينه، وأن ما كان يدعو إليه الفقهاء المرابطون هو الضلال(). لذلك، حمل ابن تومرت الفقهاء المرابطين مسؤولية الانحراف السياسي والاجتماعي والديني للدولة المرابطية، فجعل الجهاد في حقههم واجبا شرعيا، حيث يقول: “فمن قتل من المجسمين والمفسدين فهو في النار ومن قتل من الموحدين المجاهدين فهو شهيد”.()
 أبو بكربن العربي : نقد أصولي لنزعتي التقليد والتفريع في الأحكام الفقهية
انتقد أبو بكر بن العربي بشدة نزعة التقليد عند فقهاء عصره من المالكية الأندلسيين، وهي ظاهرة لم تكن ـ حسب ابن العربي ـ وليدة العصر المرابطي، بل متجذرة في الأندلس منذ عهد الأمويين، حيث ألزم الفقهاء المالكية الناس العمل بمذهب مالك، “فصار التقليد دينهم، والاقتداء يقينهم”(). لكن الخطير في الأمر حسب ابن العربي، هو استغلال فقهاء التقليد علاقتهم بالسلطة الحاكمة لمناهضة كل حركة فكرية تجديدية أو تأصيلية، حيث كانوا “كلما جاء أحد من أهل المشرق بعلم دفعوا في صدره، وحقروا من أمره إلا أن يستتر عندهم بالمالكية، ويجعل ما عندهم من علوم على رسم التبعية”(). فترتب عن ذلك اضطراب خطير لحركة الاجتهاد، وتكريس لنزعتي التقليد والتفريع عند عموم الفقهاء، مما “جعل الخلف منهم يتبع السلف، حتى آلت الحال إلى النظر في قول مالك وأكبر أصحابه”.()
ب ــ انتقادات الأدباء والشعراء: توظيف الفقه من أجل الترقي الاجتماعي
من الصيغ النقدية المتوارثة في هذا الموضوع ما قاله الشاعر الأندلسي أبو جعفر ابن البني -ابن الأبيض- في أبيات شعرية نالت من الشهرة ما جعلها على لسان كل دارس لتاريخ المرابطين وفقهاء الأندلس، حيث يقول():
أهل الرياء لبستمو ناموسـكـم فملكتمو الدنيا بمذهب مالــك وركبتمو شُهْبَ الـدواب بأشهـب

كالذئب أدلج في الظلام العـاتـم وقسمتمو الأموال بابن القاسـم وبأصبغ صبغت لكم فـي العــالـم
ثم أضاف بشكل صريح يهجو أبا عبد الله محمد بن حمدين، قاضي قرطبة، فقال في حقه:
أدجَّال هذا أوانُ الخروج يريد ابن حمدين أن يعتفي إذا سـئـل العرْفَ حَـكَّ اسْـــتَـــهُ

ويا شمس لوحي من المغرب وجدواه أنأى من الكوكب ليُـثْبـِـتَ دعــواه فــي تـغــلـــبِ
كما تعرض الفقهاء للنقد والهجاء من طرف شعراء آخرين مثل ابن خفاجة الذي يقول في حقهم():
درسوا العلوم ليملكوا بجد الهم وتـزهـدوا حـتـى أصابـوا فـرصـــة

فيها صدور مراتب ومجالس فـي أخـذ مـال مـساجد وكـنائـس
ج ــ انتقادات الزهاد والصوفية : التنافر بين العلم والعمل
انتقدت ثلة من الزهاد والصوفية فقهاء المرابطين متهمين إياهم بالانحراف السلوكي عن أخلاق العلماء، حيث اتهموهم بالفصل بين الفقه والورع، أو بين العلم والعمل. كما انتقدوهم أيضا لنزوعهم نحو التقليد في الفقه، باعتباره من المذاهب المذمومة(). إلا أن خصوصية نقد الصوفية للفقهاء كان على المستوى السلوكي الأخلاقي. فقد انتقد أبو العباس بن العريف، مثلا، فقهاء عصره وخاصة المفتين منهم، من خلال جدلية الفقه والورع، حيث يقول: “فالفقيه على الحقيقة الذي يسمى عاملا هو الذي يوافق عِلُمه عَمَله، فإذا أفتى غيره أفتى بأقل ما يقدر عليه، لأنه هو من جهة يقينه فيما يشغل ذمة غيره، وإذا عَمِلَ، عمل بأكثر مما يقدر عليه، لأنه هو جهة يقينه فيما تبرأ به ذمته. وهذا هو الجمع بين الفقه والورع في حق المفتي، فأما السائل إذا سمع الفتوى بأقل مما يشغل ذمته فعمل بأكثر ما يشغل ذمته لليقين بالبراءة، فهو الجمع بين الفقه والورع في حق المستفتي ولا يحصل اليقين في الدين للعمال في براءة الذمم إلا بجمع الورع والفقه، وقد اقتصر أكثر الخلق على الفقه ولا ورع، فبطل اليقين وضعف الدين بذلك”().
ولذلك، لم يتردد في وصف هذا الصنف من العلماء بكونهم “علماء السوء وكبراء أهل الدنيا المغترين بها في جمع الأموال والجاه”(). وهؤلاء حسب ابن العريف “لم يتواضعوا بالذهب في الدنيا، ولا خشعت جباههم ذلا بحقائق الإيمان، ولا تجافت جنوبهم عن المضاجع في طلب الأمان، ولا نصبت ظهورهم في الركوع والسجود بين يدي الملك المعبود، وناموا واتكأوا بجنوبهم على اللين من أنواع الملبوس، إيثارا لراحة النفوس عملا متماديا، واعتمدوا بظهورهم على صدور المجالس زهوا على الخواطر المجالس، ظاهرا باديا”().
د ــ  انتقادات المؤرخين القدامى والمعاصرين : انتقادات شاملة مؤطرة بخلفيات  إيديولوجية مختلفة
يعتبر عبد الواحد المراكشي صاحب كتاب “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” بمثابة المصدر الأصل لكل الانتقادات التي وجهها المؤرخون القدامى والمحدثون، ليس فقط للفقهاء المرابطين، بل للدولة المرابطية ككل. لقد قرر المراكشي منذ حوالي 621ﻫ ـ تاريخ انتهائه من تأليف المعجب ـ جملة من الصفات لهؤلاء الفقهاء، ظلت عناوين بارزة للعصر المرابطي، تتردد أصداؤها في معظم الدراسات التاريخية القديمة والحديثة، حتى أصبحت بمثابة حقائق تاريخية ثابتة غير قابلة لأي نقاش.
وفي هذا الإطار، يقول عن حال الفقهاء في عهد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين(500-537ﮬ): “واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء؛ فكان إذا ولى أحدا من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمرا ولا يَبُثَّ حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء؛ فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس. ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم، طول مدته؛ فعظم أمر الفقهاء… وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم، واتسعت مكاسبهم…”().
كما يقول في نص آخر حول نفس الموضوع: “ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من عَلِمَ عِلْم الفروع، أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعُمل بمقتضاها ونُبِذَ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله ؛ فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كامل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام؛ وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد، في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بُغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعُّد من وُجِدَ عنده شيء من كتبه؛ ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي : المغرب، أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد، من سفك الدم واستئصال المال، إلى من وجد عنده شيء منها؛ واشتد الأمر في ذلك”().
وقد تلقف الدارسون المعاصرون وخاصة المستشرقين هذه الانتقادات، وروجوا لها في كتاباتهم عن الدولة المرابطية وعن فقهائها بالخصوص. ومن أبرز هؤلاء المستشرقين رينهارت دوزي وألفرد بل() وجورج مارصي()، وغيرهم كثير. وقد جمع بين هؤلاء قاسم مشترك هو تصويرهم السوداوي للدولة المرابطية، باعتبارها دولة بربرية لا عهد لها بالحضارة بمختلف معالمها المادية والمعنوية، وتحميلهم المسؤولية الكبرى للفقهاء المرابطين، حيث اتهموهم بالاستئثار بالمكاسب المادية والمعنوية من سلطة وثروة، بالإضافة إلى اتهامهم بالتعصب الفكري والجمود ومحاربة الاجتهاد والتجديد ومعاداة التيارات الفكرية العقلانية وأنصارها. وفي هذا الصدد، يقول دوزي: “لقد جاوز تعصب الفقهاء كل حد، وكان أفق تفكيرهم شديد الضيق، هذا إلى قلة إلمامهم بالقرآن والأحاديث النبوية، فلم يأخذوا أنفسهم بالتعمق إلا في دراسة ما كتبه تلاميذ مالك بن أنس الذين عدوهم أئمة معصومين، ولا يجوز لأحد أن يخرج عما وضعوه، وكان إلمامهم- والحق يقال- بالشريعة إلماما دقيقا. ولم تجد نفعا تلك المحاولات التي قام بها جماعة من مستنيري الفقهاء للحد من أفكارهم، فكان ردهم عليهم أن أخذوا في اضطهادهم واعتبرهم الناس زنادقة وكفرة مرتدين”(). ويقول أيضا موضحا نفوذ الفقهاءعلى حساب غيرهم من أهل القلم: “كان الفقهاء يجنون الثمار التي كانوا وعدوا أنفسهم بها من الاحتلال المرابطي، وربما كان ما حصدوه يفوق آمالهم”.()
وسار كثير من المؤرخين العرب على نفس النهج، حيث صوروا الحياة الفكرية على نفس الصورة التي رسمها المراكشي من القدامى(). يقول عبد الله العروي: “كان الحزب الموالي للمرابطين يمثل أقلية، وربما أقلية محتقرة ومهانة من قبل، فتصرفت بعدئذ، وباستمرار تصرف الأقلية المطوقة والمشفقة على نفوذها ومنزلتها المتميزة، فأعلنت حربا لا هوادة فيها على الخصوم والمنافسين حتى ولو لم يختلفوا عنهم إلا في الحرص على السبك والتحرير وتنظيم المقالات كالشافعيين. ولا شك أن هذا كان الدافع الحقيقي لتبديع أبي حامد الغزالي”(). وكانت النتيجة، حسب العروي، هي أن انتهى الأمر بهؤلاء الفقهاء إلى الجمود المطلق والعجز التام عن الاجتهاد والتجديد، لذلك ظلوا منعزلين ومعزولين، ولم يستطيعوا استمالة لا النساك ولا المتكلمين أو أصحاب الرأي والاجتهاد().
من خلال هذه النصوص، يتبين أن منظومة النقد الموجهة للفقهاء المرابطين متكاملة وشاملة، وهي مؤسسة على عنصرين مترابطين:
– التكوين الفكري للفقهاء: وهو تكوين تمثل في الإلمام بالفروع في إطار المذهب المالكي والابتعاد عن الأصول أي الكتاب والسنة. ومن ثم وقع التمكين للفقه على حساب أصول الفقه وما يرتبط بها من آليات الاجتهاد، كما انعكس التشبث الحرفي بالمذهب المالكي سلبا على علوم العقل والنظر والجدل، فاستهدفت علوم الكلام والفلسفة والمنطق والتصوف والشعر والأدب. فانعكس كل ذلك سلبا على مجال التشريع، فتكرس التقليد ونبذ الاجتهاد والتجديد والتأصيل، وساد الجمود والانحطاط في الحياة الفكرية.
– النفوذ السياسي والاجتماعي للفقهاء في الدولة المرابطية: بفضل تكوينهم الفقهي تمكن الفقهاء من الاستئثار بالسلطة والثروة والمكانة الاجتماعية على حساب غيرهم من أصحاب القلم، وعلى حساب السلطة نفسها التي لم تعد قادرة على الاستغناء عنهم في أي وقت وحين، مما جعل باقي الفئات تشعر بالضيق والإقصاء والتهميش.
هذه مستويات وعناصر الإشكالية كما تجلت لنا من خلال تلك الخطاطة العامة لاتجاهات النقد والمعارضة لفقهاء المرابطين. وبالنظر لتعدد الأطراف المساهمة في بناء تلك الأطروحات النقدية ضد فقهاء المذهب المالكي في العصر المرابطي، وبالنظر لاختلاف المواقع والخلفيات التاريخية والفكرية والسياسية لأصحابها، إذ هناك الخصم التاريخي للمرابطين وفقهائهم (ابن تومرت)، وهناك الخصم الفكري للفقهاء (المتصوفة والشعراء)، وهناك الخصم الحضاري ممثلا في طائفة من المستشرقين، وهناك ـ ربما ـ من كان ينشد الموضوعية التاريخية ولم يلتقطها أو التقط نصيبا منها وعجز عن التقاطها كاملة.
بالنظر لكل هذه الاختلافات، وفي خضمها، ومن أجل تشريح المكانة السياسية والاجتماعية للفقهاء في الدولة المرابطية نطرح التساؤلات التالية:
– ما هي حدود النفوذ السياسي لفقهاء المالكية في الدولة المرابطية؟ إلى أي مدى تمكن الفقهاء
المالكيون من تشكيل”طبقة اجتماعية” نافذة في الدولة والمجتمع، موحدة الأهداف والمصالح؟ ما مدى مصداقية القول باستغلال الفقهاء لثقافتهم الشرعية والفقهية على الخصوص لتحقيق المصالح الدنيوية، من مال وجاه ومناصب سياسية وإدارية..؟

– إلى أي مدى عملت الدولة المرابطية على إقصاء سائر المفكرين والمثقفين ـ باستثناء الفقهاء المالكية ـ من المشاركة في إدارة الشأن العام للدولة والمجتمع؟
– إذا سلمنا، جدلا، بصحة هذه الانتقادات، فهل كان هؤلاء الفقهاء يشكلون القاعدة أم الاستثناء ضمن لائحة الفقهاء المرابطين؟ ومن هم هؤلاء الفقهاء المستهدفون بالتحديد بهذا النقد الشديد؟ هذه التساؤلات وغيرها سنحاول الإجابة عنها في هذا البحث.
1 ــ  نفـوذ الفقـهاء في الــدولة المرابطية : التجليات والمحددات
1 ـ 1 / تجليات ومظاهر نفوذ الفقهاء في الدولة المرابطية
لا شك أن الفقهاء قد احتلوا مكانة متميزة في الدولة المرابطية، وحظوا بعناية خاصة من طرف السلطة السياسية العليا المرابطية. وتثبت السيرورة التاريخية للدولة المرابطية قوة وأهمية مكانة الفقهاء في تاريخ المرابطين، منذ فجر الحركة المرابطية، إلى غاية تأسيس الدولة، وطيلة تاريخها.
أ‌ – في مرحلة التأسيس
كان التفكير في تأسيس الدولة المرابطية إبداعا خالصا لفقهاء المالكية بالغرب الاسلامي. فقد انطلق العمل في مشروع هذه الدولة على الأقل من القيروان على يد العالم المغربي أبي عمران الفاسي في لقائه التاريخي بالزعيم الجدالي يحيى بن ابراهيم. ويعتبر أبو عمران صاحب الفضل في لبنة التنظير والتخطيط، حيث كان لهذا العالم مشروع لإنقاذ المجتمع المغربي من خطر الانحراف الديني والتفكك العقدي والسياسي الذي عانى منه في غياب دولة مركزية سنية. وهو الوضع الذي حاول تصحيحه من خلال تفعيله لمبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الشمولي في ظل السلطة المغراوية الزناتية، مما عرضه للطرد من موطنه فاس، فالتجأ إلى القيروان مهووسا، بدون شك، بمشروع إقامة كيان سياسي سني لتحقيق طموحه الإصلاحي(). وهو المشروع الذي تكلف بتنفيذه فقهاء المالكية بالمغرب الاقصى.
وقد برز في هذا السياق الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي الذي صبر وصابر ورابط وجاهد من أجل تحقيق المشروع الإصلاحي السني على أرض الواقع وإقامة الدولة التي ترعاه، وتكوين الإنسان المرابطي القادر على تحمل مسؤولية التمكين لهذا المشروع على أرض الواقع، بل ضحى عمليا من أجله في المعارك والغزوات العسكرية ضد قوى الانحراف الديني والسياسي (الخوارج والشيعة والزناتيون والبرغواطيون…)، وذهب شهيدا على يد البرغواطيين().
ولذلك بدت سلطته منذ فجر الحركة المرابطية وكأنها سلطة مطلقة، رغم وجود قيادة سياسية عسكرية إلى جانبه، ممثلة في يحيى بن ابراهيم الجدالي ومن خلفه من أمراء لمتونة. فكانت الكلمة العليا في سياسة الحركة المرابطية ترجع إليه()، حيث اضطلع بدور الزعيم الروحي والمرشد التربوي، كما اضطلع بوظيفة القائد السياسي والعسكري الميداني. فقد “كان (عبد الله بن ياسين) في الحقيقة، الأمير، وهو الذي يأمر وينهى”().
ومما يؤكد المكانة السامية للفقيه عبد الله بن ياسين باعتباره المرشد الروحي للحركة في تدبير شؤونها، تحكّمُه في نقل مقاليد السلطة داخلها(). فعبد الله بن ياسين هو الذي نقل القيادة السياسية للحركة المرابطية من قبيلة كدالة بعد وفاة الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي إلى قبيلة لمتونة في شخص يحيى بن عمر اللمتوني. يقول ابن أبي زرع: “وتوفي يحيى بن إبراهيم الكدالي فأراد عبد الله بن ياسين أن يقدم غيره في موضعه ليقوم بحروبهم. وكان أكثر قبائل صنهاجة طاعة لله تعالى ودينا وصلاحا لمتونة (…) فجمع عبد الله بن ياسين رؤساء القبائل من صنهاجة. فقدم عليهم يحيى بن عمر اللمتوني وأمّره على سائرهم (…) وكان يحيى شديد الانقياد لعبد الله بن ياسين، كثير الطاعة له فيما يأمره وينهاه”(). وتكرر نفس الأمر بعد وفاة يحيى بن عمر، حيث عين الشيخ عبد الله بن ياسين أبا بكر بن عمر خلفا له على رأس الحركة، فبايعته لمتونة وسائر الملثمين وأهل سجلماسة ودرعة().
ولما انقسمت الحركة المرابطية إلى شطري الشمال والجنوب، بعودة أبي بكر بن عمر إلى الصحراء مستخلفا ابن عمه يوسف بن تاشفين على قيادتها في الشمال، كان لابد له من اصطحاب قيادة دينية معه إلى الجنوب، وقد تمثلت هذه القيادة في الفقيه والعالم الأصولي أبي بكر محمد بن الحسين الحضرمي المرادي. ولعل هذا العالم كان يضطلع بنفس المهمة التي كان يضطلع بها عبد الله بن ياسين(). وقد كان أبو بكر بن عمر عموما يقرب الفقهاء ويصغي إليهم()، ومن ذلك إشهاد الفقهاء على انتقال السلطة بينه وبين يوسف بن تاشفين().
ب ـ  في  عهد يوسف بن تاشفين
رغم عدم تردد ذكر اسم منظر مرشد جديد يقوم بنفس مهام الشيخ عبد الله بن ياسين في الشمال بعد انقسام الحركة، بدليل عدم ارتباط يوسف بفقيه واحد كما كان الشأن سابقا في فجر الحركة، فإن هذا لا يعني أبدا تراجع مكانة الفقهاء في الدولة المرابطية. بل على العكس من ذلك، فقد ازدادت مكانة الفقهاء شموخا، وازداد نفوذهم قوة. فبدل فقيه واحد، حظي فقهاء كثيرون بالرعاية، حيث ظل أمراء الدولة المرابطية أوفياء لرجال الفقه والعلم الشرعي. فأمير المسلمين يوسف بن تاشفين ظل وفيا لهذا التوجه، ولم يسجل عليه التاريخ أبدا أي محاولة للتخلص منه، رغم ما تحقق على يديه من قوة للدولة قد تشكل مبررا للاستبداد بشؤون الدولة على حساب غيره، وذهب في تقريب الفقهاء وتعظيم مكانتهم في تسيير الدولة ما جعله مضرب الأمثال. وفي هذا الصدد، يقول عنه ابن عذاري: “كان يفضل الفقهاء ويعظم العلماء ويصرف الأموال إليهم ويأخذ فيها برأيهم ويقضي على نفسه بفتياهم”(). ومن بين هؤلاء الفقهاء مثلا القاضي أبي عبد المالك بن سمجون اللواتي الذي حظي عنده بمكانة خاصة في تدبير شؤون الدولة في عهده، حيث صرف إليه جميع أمور المغرب والأندلس()؛ وكذلك أبي عبد الله محمد بن أحمد التجيبي الذي فوض إليه أمور الأندلس الكبار أيام قضائه وفتواه(). كما أنه كان يحتكم لرأي كل من أبي عبد الله بن مسعود القيرواني وأبي الحجاج يوسف بن الملجوم في عزل وتعيين القضاة(). وبلغ يوسف من بره بالعلماء والفقهاء أنه أجرى عليهم الأرزاق، ورتب لهم الأعطيات من بيت المال()، وكان مكرما لأهل العلم عموما(). ولذلك لا غرابة إذا وجدناه يؤدي اليمين امتثالا لفتوى الفقيه أبي عبد الله بن الفراء، حين أراد استخلاص ضريبة إضافية (المعونة) من الناس للاضطلاع الجهاد. وهذا يعكس مدى النفوذ الكبير للفقهاء في التدبير السياسي للدولة المرابطية.
والملاحظ أن يوسف بن تاشفين كان ملتزما برأي الفقهاء وليس مجرد مشاور لهم، بما في ذلك رأيهم في القضايا الاستراتيجية للدولة، وعلى رأسها قضايا التوحيد والجهاد سواء بالمغرب أو بالأندلس، ومنها الموقف من الوضع المتردي بالأندلس الطائفية، والذي كان يتطلب التدخل الاستعجالي لإنفاذ البلاد من عبث ملوك الطوائف(). وفي هذا السياق، استفتى الفقهاء في شأن صاحب سبتة الذي رفض تسليمها له لتسهيل العبور إلى الأندلس، فأفتوه بوجوب قتاله وفتحها، وهو ما تحقق سنة 477ﻫ.() كما استفتى بعض فقهاء المغرب في مصير ملوك الطوائف، فأفتاه الفقيه يوسف بن عيسى الملجوم الفاسي (ت492ﻫ) بوجوب خلعهم(). ولم يكتف يوسف بفتاوى علماء المغرب في شأن الأندلس، بل دفعه ضميره وورعه إلى استفتاء علماء المشرق، وعلى رأسهم الإمام الغزالي الذي جاءت فتواه مطابقة لفتوى علماء المغرب(). وحصل الإجمـاع بذلك على وجوب خلع ملوك الطوائف().
وخلال إنجاز مشروع التوحيد بالأندلس، لم يتردد يوسف في استفتاء الفقهاء كذلك. وهكذا استفتى العلماء من جديد في شأن المعتمد بن عباد، فأفتى بعضهم بارتداده لاستغاثته بالنصارى ضد المرابطين، وأباحوا دمه()، وهي الفتوى التي عمل يوسف بها ، فاكتفى بإلقاء القبض عليه، ونفيه إلى المغرب(). وبالمقابل، قبل الإطاحة بالمعتمد، كان يوسف قد أنصفه في نزاعه مع ابن رشيق، استنادا إلى فتوى الفقهاء(). كل ذلك يؤكد مدى احترام وتقدير يوسف بن تاشفين لسلطة الفقهاء الذين اعتمد عليهم في تسيير شؤون دولته.
وتبلغ سلطة الفقهاء أوجها في عهد يوسف بن تاشفين بتحكمهم في شرعية حكمه، حين اشترطوا عليه ضرورة الحصول على تقليد رسمي من الخليفة العباسي من أجل مبايعته، وهي المهمة التي اضطلع بها الفقيه ابن العربي في سفارته إلى بغداد(). كما اعتمد على مشورتهم في تعيين ولي عهده(). ويذكر صاحب “البيان المغرب” مظهرا آخر من مظاهر نفوذ الفقهاء لدى الأمير يوسف وهو المتمثل في الاعتماد عليهم في إقامة مشاريع البنية التحتية للدولة من مساجد وموانئ، حيث يقول: “وكان يوسف بن تاشفين أمر القاضي محمد بن عيسى ببناء جامع سبتة وزاد فيه حتى أشرف على البحر وكان بنيانه عام إحدى وتسعين (…) وقبل بناء الجامع بأعوام أمر يوسف بن تاشفين ببناء سور الميناء السفلي بسبتة على يد القاضي إبراهيم بن أحمد”(). وهناك نماذج أعمال أخرى من نفس النوع.
من خلال تتبع مسار علاقة الأمير يوسف بالفقهاء يتبين بأن التعامل بين السلطتين السياسية والدينية في عهده كان مبنيا على أساس الالتزام بضوابط الشرع من الطرفين، ومن ذلك اجتهاد الفقهاء في تدبير شؤون الدين والدولة. ولذلك، رغم ما كان يتوفر عليه من قوة عسكرية، لم يكن يتحرك خاصة في الخطوات الكبرى إلا استنادا إلى رأي الفقهاء، وليس في ذلك أي نوع من الرغبة في استغلال الفتوى كمجرد غطاء شرعي لسياسته، بل التزاما صادقا منه بضوابط الشريعة، بدليل ما حظيت به قراراته تلك من إجماع شعبي وشرعي، حيث لم تسعفنا المصادر التاريخية للوقوف على فتاوى مناهضة لتوجهاته أو لتلك الفتاوى المناصرة له، كما لم تسعفنا في الوقوف على معارضة شعبية لقراراته تلك.
وهكذا، يتبين أن الفقهاء قد حظوا بمكانة هامة في الدولة المرابطية في عهد يوسف بن تاشفين. وبفضل تلك المكانة أسهموا في نجاح مشروع الجهاد والتوحيد بالأندلس التي كانت على وشك السقوط المبكر في يد الصليبيين، فتحقق التوحيد السياسي والمذهبي للمغرب الإسلامي الأقصى لأول مرة في تاريخه، وتشكلت خريطته الجيوسياسية التي امتدت من حدود نهر النيجر جنوبا إلى خطوط التماس مع الممالك النصرانية المتاخمة للأندلس الإسلامية شمالا، وأصبح المغرب لأول مرة في تاريخه قوة إقليمية ودولية مستقلة. بالإضافة إلى تأكيدهم التوجهات الوحدوية للأمة الإسلامية من خلال إلزام أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بضرورة الحصول على التقليد الرسمي من الخلافة الإسلامية ببغداد، وإعلان تبعية الدولة المرابطية لهذه الخلافة حفاظا على مبدإ وحدة الخلافة الإسلامية السنية. فهل استمر حال الفقهاء على ما كان عليه في المراحل اللاحقة من تاريخ الدولة أم تزايد نفوذهم أكثر من ذلك؟ وما حدود ذلك النفوذ ؟
ج ـ في عهد علي بن يوسف
إن مشروعية تجديد طرح هذه الأسئلة ومثيلاتها مستمدة من اعتبار أساسي مفاده أن كل الاتهامات التي وجهت للفقهاء كانت تستهدف بالخصوص سياسة الأمير علي بن يوسف بن تاشفين (500-537ﮬ). لقد تحدث المراكشي على جملة من المؤشرات السلبية الدالة ـ في نظره ـ على تسلط وتحكم الفقهاء في دولة المرابطين زمن علي بن يوسف، وهي مؤشرات سياسية وتشريعية واجتماعية().
فمن الناحية السياسية يرى المراكشي أن أمير المسلمين علي بن يوسف لم يكن قادرا على تسيير شؤون دولته إلا بمشاورة الفقهاء، حيث يقول عنه: “واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء”(). ومن الناحية القضائية التشريعية ألزم قضاته بضرورة استشارة أربعة فقهاء، حيث “كان إذا ولى أحدا من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمرا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء”()، مما أدى إلى ترسيخ نفوذ الفقهاء، فتعاظم بفعل ذلك نفوذهم الاجتماعي، وكثرت أموالهم، وتضخمت ثروتهم. ومن جهة أخر أوصى بضرورة احترام القضاة وأحكامهم احتراما خاصا كما سنرى. وحاول المراكشي تفسير تلك الوضعية بخصال أمير المسلمين التي كانت أقرب إلى خصال الزهاد والمتبتلين، وأبعد عن خصال الملوك والمتغلبين(). فما مدى مصداقية تقييم المراكشي لعلاقة الأمير علي بن يوسف بالفقهاء؟ وقبل ذلك ما هي التجليات الاخرى لنفوذ الفقهاء في الدولة المرابطية؟
إن نفوذ الفقهاء في الدولة المرابطية في عهد علي بن يوسف بالخصوص، يتجلى من خلال عدة زوايا: تارة بصفتهم فقهاء وخاصة فقهاء الشورى، وتارة أخرى بصفتهم قضاة وخاصة قضاة الجماعة. ولعل المظهر السياسي الأكثر تعبيرا عن مدى قوة نفوذ الفقهاء في ظل حكم الأمير علي بن يوسف، يتمثل في دور الفقهاء المشاورين في رعاية انتقال الملك في الدولة من خلال تعيين ولي العهد. لقد كان للفقهاء وخاصة أهل الشورى القرار الحاسم في اختيار علي بن يوسف لابنه الأمير تاشفين وليا للعهد، بدل الأمير إسحاق، حيث أجمع أهل الشورى على اختيار الأول، وبرروا ذلك بأسباب موضوعية، منها تدينه وشجاعته وشهامته ورجاحة عقله وخبرته العسكرية(). ومن مظاهر ذلك أيضا التزامه بفتاويهم في كثير من القضايا الاجتماعية والسياسية الحساسة، منها مثلا قضية نفي النصارى المعاهدين إلى مراكش، حيث أفتى الفقيه أبو الوليد بن رشد “بتغريبهم وإجـلائهم إلـى العدوة عن أوطـانهم”(). كما عـمل أمير المسلمين بـفتوى ابن رشد فـي مسألة تسوير مدينة مراكش(). ومما يستدل به أيضا على سـلطة الفقهاء ونفوذهم فـي عهد هذا الأمير، تنفيذه لفتوى الفقيه أبي عبد الله بن حمدين بشأن إحراق كتاب الإحياء للإمام الغزالي().
ومن خلال تتبع منهجية التدبير السياسي والإداري للدولة، تتبين مكانة الفقهاء في الدولة فعلا، وخاصة الفقهاء المشاورين الذين شاركوا في تدبير شؤون الدولة على جميع المستويات المركزية واللامركزية. فكان نواب أمير المسلمين سواء بالمغرب أو بالأندلس ملزمين بالاستشارة مع الفقهاء في كل القضايا()، وكذلك الحال بالنسبة لولاة الجهات، حيث كانوا هم أيضا ملزمين باستشارة أهل الرأي في جهاتهم، “ليطلعوهم على ما يخفى عليهم من أحوال رعاياهم”(). فكانت التوجيهات الأميرية تلح على ضرورة احترام قواعد الشورى في الحكم واعتبار الفقهاء والأخذ برأيهم. وبهذا طولب الأمير تاشفين بن علي عندما ضم إلى ولايته بالأندلس ولاية قرطبة، حيث جاء التعليمات الموجهة إليه كالتالي: “واستظهر بحسن المشورة في مواطن الاشتباه، فإن الله  يقول لرسوله : ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله﴾(). مما يعني إعمالا لمبدإ الشورى على جميع المستويات الإدارية.
ولعل الفئة الثانية من الفقهاء التي حظيت بالتقدير والإجلال من طرف السلطة المرابطية هي فئة القضاة وخاصة قضاة الجماعة، الذين كانوا يرأسون هيئة القضاء. وقد كان هناك قاضيان للجماعة في الدولة المرابطية، يشرف أحدهما على القضاء بالأندلس ومقره في قرطبة، ويشرف الآخر على القضاء بالمغرب ومقره بمراكش عاصمة الدولة، ويدعى أحيانا بقاضي الحضرة(). وكان هذا الأخير بحكم منصبه من أهم أعضاء مجلس الشورى الأميري، وأنفذهم لدى أمير المسلمين(). وكانت سلطة قاضي الجماعة عموما سواء بالمغرب أو بالأندلس قوية، بحيث كان يتعين على أمير المسلمين أو نائبه أن يستشيره في تعيين غيره من القضاة وغيرها من الشؤون، مما جعلهم يتحكمون في القرارات الاستراتيجية للدولة، من ذلك مثلا مطالبة القاضي أبي الوليد بن رشد بخلع أخيه الأمير أبي طاهر تميم عن ولاية الأندلس والاستجابة الفورية للأمير علي بن يوسف لذلك(). ومن أبرز قضاة الجماعة المرابطين: أبو القاسم أحمد بن حمدين التغلبي، وأبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، وأبو عبد الله محمد بن احمد بن خلف التجيبي المعروف بابن الحاج. ومن أبرز قضاة الحضرة أبو محمد عبد الله بن محمد اللخمي، وأبو سعيد بن خلف الله الصنهاجي().
وكان أمير المسلمين لا يدّخر جهدا للحفاظ على المكانة الاعتبارية للقضاة عموما وفي مقدمتهم قضاة الجماعة، حيث كان يطلب من العمال والولاة بذل أقصى الجهود في سبيل ذلك. وكان التركيز شديدا على ضرورة الامتثال لأحكام القضاة من طرف الجميع سواء مرابطين أو غيرهم. وفي هذا الإطار وجه أمير المسلمين رسائل متعددة لولاته وعماله، كما وجه رسالة إلى أحد قضاته يخبره بذلك ويؤكد له ما يحظى به من عناية واحترام، حيث يقول مخاطبا قاضي الجماعة ابن حمدين: “وقد عهدنا إلى جماعة المرابطين أن يسلموا لك في كل حق تمضيه، ولا يعترضوا عليك في قضاء تقضيه، ونحن أولا، وكلهم آخر، وقد صرت قاضيا سامعون منك غير معترضين في حق عليك، والعمال والرعية كافة سواء في الحق، فإن شكت إليك بعامل وصح عندك ظلمه لها، ولا يتجه في ذلك عمل غير عزله، فاعزله، وإن شكا العامل من رعيته خلافا في الواجب فاشكه منا، وقومها له، ومن استحق من كلا الفريقين الضرب والسجن فاضربه واسجنه، وإن استوجب الغرم في ما استهلك فاغرمه، واسترجع الحق شاء أو أبى من لدنه، والأمر في استكفاء من يكفيك ويغني في بعض الأمور عنك إليك، ولا نشير عليك بشيء، وتصرفك أحيانا في إصلاح صنعك وترفيع معاشك غير مضيق عليك فيه فاعلمه”(). ولم يتوان أمير المسلمين في التعبير عن سخطه وغضبه لما كانت تقابل به أحيانا أحكام بعض القضاة من مواقف منافية لتوجهاته، كما تدل على ذلك رسالته حول حالة قاضي القضاة بشرق الأندلس حين لقيت أحكامه اعتراض طائفة من الناس في تلك المنطقة، إذ وجه الأمير خطابا شديد اللهجة لعاملها يحثه فيه على وجوب احترام وحماية جناب هذا القاضي وإنذار المعترضين عليه بتوقيع أشد العقاب عليهم في حالة استمرارهم في مخالفة أحكامه وأوامره().
وقد بلغ من شدة حرصه على مكانة القضاء، أنه اعتبر سلطة القاضي فوق سلطة الحاكم الإداري والعسكري، إذ جعله رقيبا على الولاة والعمال التابعين له، كما تدل على ذلك رسالة وجهها إلى قاضي مالقة أبي محمد عبد الله بن أحمد بن عمر القيسي المالقي()، في ذي الحجة من سنة 523ﻫ، جاء فيها ما يلي: “وقد قلدناك تقليدا تاما أن تنظر بجهتك من شكاوى العامة في اللطيف والجليل وسلمناك القيام بالخفيف منها والثقيل، فتفقد ما قبلك حتى تفقده (…) وأي عامل من عمال الرعية قامت الشهادة عندك بتعديه وعلمت بصحة استهدافه وتصديه فإن أمره إلى صاحب البلد مستعمله وموليه، وأشعره بما ثبت عندك فيه فإن غل يد أديته وأنفذ عزله عن رعيته، وإلا فأخف ذلك إلينا في سائر ما يتوقف لديك من الأمور التي تقصر عنها يدك، وأي عذر لك وقد شددنا من أزرك وعضدنا من أمرك”().
ومن الأمثلة الدالة على ذلك إلزام أمير إشبيلية واجداي بن عمر بن سير بدفع فدية لأسر المسلمين الذين تسبب في أسرهم خلال إحدى غزواته، استجابة لطلب القضاة، بل إن مصيره كان هو العزل بفعل ذلك الخطأ().
وبالإضافة إلى ما سبق، أشرف القضاة على شؤون عدة خطط منها الإشراف على بيت المال والأحباس وشؤون المساجد من إمامة وخطبة وبناء. وهكذا أشرف قاضي فاس محمد بن داوود على توسيع جامع القرويين بفاس سنة 530ﻫ(). وأشرف القاضي عبد الحق بن عطية على الزيادة في المسجد الجامع بألمرية سنة 531ﮬ()، وأشرف القاضي عياض على توسيع جامع سبتة من جهته الغربية(). كل هذا وغيره يدل بوضوح على التقدير الكبير للقضاء والفقهاء من طرف السلطة المرابطية عموما وفي عهد علي بن يوسف خصوصا.
لكن الملاحظ أن تقدير القضاة في هذا العهد لم يقتصر على السلطة، بل شمل كذلك العامة من المجتمع، حيث كان الناس يخرجون للاحتفاء بلقائهم كالأمراء أو أفضل من ذلك(). وكان بعض القضاة لا يترددون في حفظ ورعاية هذه المكانة كما تكشف عن ذلك وثيقة تاريخية تتعلق بأبي بكر بن أسود “قاضي قضاة الشرق” الذي مر بمرسية فلم يحفل له الزبير بن عمر أمير غرناطة، ولم يظهر له من الإجلال والإكرام ما تعود عليه أمثاله من كبار الفقهاء، فغضب لذلك، وشكاه إلى نائب أمير المسلمين ـ تاشفين بن علي ـ بالأندلس، فبادر هذا بالكتابة إلى الزبير يلومه على عدم احتفاله بالقاضي وتقصيره في العناية بأمره().
ومما جاء في هذه الرسالة وبأسلوب استغرابي ربما لم يعهده الأمير تاشفين، ولم يكن يتوقعه من مسؤول في دولة عظمت الفقهاء والقضاة، قوله: “(…) خبرنا أعزك الله: كيف أن يجتاز بكم الفقيه الأجل القاضي الأعدل أبو بكر بن أسود، قاضي قضاة الشرق، وما بموضعه خفا ولا باحتفاء الدولة العلية به احتفا، فتهاونتم بمثواه، ونمتم جميعا عن قراه. كأنه قد مر منكم بفلاة أو حط على رفات، وجاز على أقوام أموات…”().
وإذا كان عهد الأمير تاشفين بن علي لم يحتفظ لنا بوثائق كثيرة تساعدنا على استجلاء مكانة الفقهاء في عهده، فإن المنشور الذي أصدره في العشر الأول من جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة (538ﮬ) حول مصادر الفتوى يوضح إلى حد كبير استمرار نفوذ الفقهاء المالكيين، من خلال التأكيد الشديد على الاقتصار في الفتوى على المذهب المالكي ومحاربة كل ما سواه، حيث يقول الأمير تاشفين: “واعلموا، رحمكم الله، أن مدار الفتيا ومجرى الأحكام والشورى في الحضر والبدا، على ما اتفق عليه السلف الصالح  من الاقتصار على مذهب إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنس  فلا عدول لقاض ولا مفت عن مذهبه، ولا يأخذ في تحليل ولا تحريم إلا به، ومن حاد عن رأيه بفتواه، ومال من الأئمة إلى سواه، فقد ركب رأسه واتبع هواه، ومتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة، وخاصة، وفقكم الله، كتب أبي حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على من يتهم بكتمانها”().
وإذا كنا لا نعرف حقيقة الأسباب المباشرة التي جعلت الأمير تاشفين يصدر هذا البلاغ شديد اللهجة، خاصة وأنه موجه إلى الفقهاء والمفتين والعلماء الذين لم نعهد مثل هذا الأسلوب في مخاطبتهم من طرف أمراء المرابطين، فقد يكون الداعي لتشديد اللهجة هو استفحال أمر المهدي بن تومرت والتيار الصوفي وتزعزع جهاز الفقهاء المالكيين، لذلك نعتقد أن هذا المنشور هو محاولة للحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية أي الجبهة المالكية المناصرة للسلطة.
وهناك مؤشر آخر على المكانة الاجتماعية للقضاة في ظل الدولة المرابطية، ويتعلق الأمر بالثورات التي تزعموها في آخر عصر هذه الدولة. ذلك أنه مهما اختلفت آراء الباحثين في تفسير هذه الثورات بين قائل بالعامل القومـي()، وقـائل بالـعامـل الاجـتـماعـي()، أو بالـعامـل الإديـولـوجـي()، أو الـعامـل الـمصلـحي البـرغـمـاتي()، فـإنه لا يـمكـن نـفي قاسـم مشـترك اجـتماعـي بيـن زعـماء هـذه الثورات ألا وهو انتماؤهم لأسر عريقة بالمجتمع الأندلسي(). هذه أمثلة عن مكانة ونفوذ الفقهاء المالكيين في تاريخ الدولة المرابطية.
لقد تبين من خلال ماسبق أن الفقهاء فعلا، قد حظوا بمكانة سامية في الدولة المرابطية. ولعل الفقهاء/القضاة والفقهاء/المشاورين كانوا الأكثر بروزا من ضمن مجموع الفقهاء من حيث تأثيرهم في مجريات الأمور في الدولة، بعد فقهاء الجيل المؤسس. فهل تعود مكانتهم تلك إلى كونهم مجرد فقهاء مالكيين أم أن وظائفهم كقضاة ومشاورين هي التي ضمنت لهم تلك المكانة؟ هل تعود تلك المكانة لعلمهم الشرعي بحكم سمو مكانة العالم في المجتمع الإسلامي عبر التاريخ؟ وإذا كان احتلال الفقهاء ـ أيا كانت وظائفهم ـ لمناصب هامة ومواقع متقدمة جدا في الدولة والمجتمع أمرا محل إجماع، كما اتضح من خلال العرض السابق، فهل استغل الفقهاء ذلك لمصلحتهم الخاصة أم لمصلحة الجميع، دولة ومجتمعا؟
2 ـ 2 / العوامل المفسرة لنفوذ الفقهاء في الدولة المرابطية
أ ـ العوامل التاريخية والاجتماعية والمهنية
من المعلوم أن الفقهاء قد احتلوا على مر التاريخ الاسلامي مكانة متميزة في المجتمع والدولة، حيث شكلوا النخبة العالمة، والسلطة الفكرية والدينية التي لم يكن بالامكان أبدا تجاوزها أو تجاهلها من طرف السلطة السياسية، مما أهلهم لتصدر المجتمع والدولة. ولم يخرج المجتمع المغربي والأندلسي عن هذه القاعدة، كما لم تخرج الدولة المغربية أيضا عن ذلك. فقد كانت مكانة الفقهاء سامية، وكرامتهم مصانة، وكلمتهم قوية ومسموعة، ومواقفهم محركة للتاريخ. فمن خلال تتبع الأصول التاريخية لنفوذ الفقهاء المالكيين في هذه الربوع وخاصة في الأندلس منذ استقرار المذهب المالكي هناك، يتبين أن الفقهاء المالكية قد حظوا بتقدير كبير سواء من طرف السلطة أو المجتمع لعدة اعتبارات تاريخية(). ولذلك، لم يكن الحال في الدولة المرابطية إلا استمرارا لما كان عليه سابقا، بل وترسيخا له بشكل أقوى().
ويعتبر القضاء أكثر المجالات التي تعكس نفوذ الفقهاء في الدولة المرابطية. لذلك، فإن فئة الفقهاء القضاة بمختلف مراتبهم، تعتبر بامتياز في قلب دائرة الفقهاء المستهدفين بالنقد الشديد نظرا للمكانة الاجتماعية التي كان يحتلها القضاة في الدولة والمجتمع. وسنحاول من خلال تتبع المسار التاريخي لأهم العائلات القضائية بالخصوص، اختبار مدى أهمية العامل السوسيو تاريخي في تحديد الوضع الاجتماعي الذي كان عليه قضاة الدولة المرابطية. فما هي إذن أهم العائلات القضائية في الدولة المرابطية؟
أهم العائلات القضائية بالمغرب
سنحاول تصنيف هذه العائلات حسب الحواضر. ومن أهمها:
–   عائلات سبتة ، ومنها العائلات التالية:
– عائلة اللواتي: تنتمي إلى بيت علم، من أشهر رجالاتها أبو محمد مروان بن عبد الملك اللواتي الذي اشتغل قاضيا بسبتة في عهد يوسف بن تاشفين، وكان أخوه أبو الحسن من فقهاء طنجة وحفاظها، وخلف عدة أبناء قضاة، منهم: عبد الله بن علي، ولي قضاء غرناطة مدة، ثم استعفى فأعفي منها، وولي قضاء تلمسان فبقي بها قاضيا إلى أن مات، وكان ولي قبل ذلك قضاء الجزيرة، وعبد الرحمان كان فقيها حافظا، ولي قضاء مكناسة إلى أن توفي. وترك ابنه علي بن عبد الرحمان الذي خلف عمه على قضاء تلمسان. وأما الفقيه مروان، فكان له بنون نجباء حفاظ، منهم: عبد الخالق الذي ولي قضاء طنجة مكان أبيه، وأخوه عبد الوهاب الذي ولي بعده قضاء طنجة، وعبد الرزاق بن مروان الذي حصل علوما جمة، وولي قضاء طنجة، طيلة حياته، وولده محمد الذي وصف بالزهد، وولي قضاء مكناسة وبعدها ألمرية، وسلك في حياته مسلك العدل والزهد. وعموما وصفت هذه العائلة بأنها كانت من “ندرات الزمان”().
– عائلة المسيلي اللواتي: من أشهر أبنائها أبو محمد عبد الله بن حمو بن عمر اللواتي الذي تولى أحكام القضاء في أيام برغواطة، ثم لحق رئاسة عند المرابطين(). وكان ابنه أبو عبد الله محمد قاضيا في عهد المرابطين، كما اشتغل بتدريس العلم().
– عائلة التميمي(): من أكبر فقهائها القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى الميتمي، وهو أحد شيوخ عياض.
– عائلة عياض(): وهي عائلة عريقة ذات نباهة، ولو كان عياض وحده ممثلا لها لكفاها فخرا.()
– عائلة بني يربوع: من أشهر أبناء هذا البيت إسماعيل بن يربوع الذي تصرف في علوم كثيرة مثل أبيه وجده()، كما تشرف هذا البيت بالقاضي أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن يربوع، الذي كان”صادعا بالحق، صليبا فيه، لا تأخذه في الله لومة لائم، مغلظا على أهل الشر والدعارة”.()
– عائلة بني العجوز: كانت هذه العائلة عائلة علم بامتياز، حتى إن عياضا قال في حقها: “قل بيت فيه من التقدير في العلم ماله لأحد عن أبيه وغيره”. ومن أشهر أبنائها الفقيه الفاضل عبد الرحيم بن العجوز، وابنه عبد العزيز(ت430ﻫ)()، وكان أخوه عبد الرحمن (سنة 449ﻫ) هو الآخر من أهل الفقه والصلاح، ومن رؤوس فقهاء سبتة ومفتيهم، وعليه دارت الشورى أيام قضاء محمدين عتاب(). وخلف عبد الرحمن هذا ابنا كان، هو الآخر، من كبار فقهاء سبتة، مقدما في المفتين بها، ومدرسيها. وقد ولاه أمير المسلمين قضاء فاس()، وخلف هو الآخر ثلاثة أبناء، هم: عبد الله، وعبد الرحيم، وعبد الرحمن الذي كان أفقههم وأنبلهم(). وقد لخص عياض في فهرسته نبوغ هذه العائلة في ترجمته لهذا الأخير، فقال: “الفقيه القاضي أبو القاسم من بيت علم وجلالة، فقيه ابن فقيه ابن فقيه، خامس خمسة، وعبد الرحمن أكبرهم في العلم والجلالة والأمانة…”.() وقد تولى قضاء الجزيرة الخضراء وسلا وخلافة القضاء بالحضرة().
–   عائلات فاس :
– عائلة بني الملجوم: تعتبر من العائلات العريقة بمدينة فاس حيث يرجع نفوذها إلى عهد إدريس الثاني، تداول أبناؤها على القضاء والفتوى والشهادة بها، فقد كان جدهم الفقيه العالم يوسف بن عيسى من أهل الفتوى والشورى، وهو الذي استفتاه يوسف بن تاشفين في أمر العبور إلى الأندلس لمنازلة ملوكها الثوار. ومن أبناء هذا البيت كذلك الفقيه القاضي عيسى بن الملجوم الذي تولى قضاء فاس ومكناس، وكانت وفاته سنة 545ﻫ، وتولى بعده ابنه عبد الرحيم بن عيسى القضاء كذلك().
– عائلة بني اللواتي: ومنها الفقيه الحسن اللواتي الذي عايش الفترة المغراوية، ومنها ولده الفقيه علي بن الحسن اللواتي الذي عاصر الدولة المرابطية، وقد كان فقيها مشاورا، ومنها كذلك الولي الصالح علي اللواتي الذي عاصر الدولة الموحدية().
–  عائلات سلا :
ومنها عائلة بني عشرة أو بني القاسم().
– عائلات طنجة :
منها عائلة بني سمجون التي تعتبر من العائلات العريقة وذات النفوذ المتجدر علميا وقضائيا.
ومن أشهر أبنائها خلال عصر المرابطين، بعض الأسماء التي سطع نجمها ليس في المغرب، بل في الأندلس، في مجال القضاء والعلم، ومنها:
– أبو محمد عبد الله سمجون اللواتي: من أهل طنجة، روى عن أبيه وعمه أبي عبد الملك مروان بن عبد الملك بن سمجون، ولي قضاء الجزيرة الخضراء ليوسف بن تاشفين، ثم نقله منها إلى قضاء غرناطة سنة 490ﻫ، وأقام عليها إلى شهر ربيع الآخر سنة 508ﻫ، بعد أن غزا في جيش علي بن يوسف إلى طلبيرة سنة 503ﻫ، وقد توفي سنة 524ﻫ .()
– أبو محمد عبد المنعم بن مروان سمجون اللواتي (ت524ﻫ): من أهل طنجة، نشأ بغرناطة وتفقه بها، وكان فقيها جليلا جزلا مهيبا، ولي قضاء إشبيلية بعد صرف أبي مروان الباجي عن ولايته الثانية، ثم نقل إلى قضاء غرناطة في مدة إمارة علي بن يوسف، ونقل إلى قضاء ألمرية بعد أبي الحسن بن أضحى سنة 517ﻫ فاشتد في الأحكام، وزهد في الكسب، وأعيد إلى قضاء إشبيلية بعد أبي القاسم بن ورد، ثم إلى قضاء غرناطة، واستعفى من ذلك، وألح ولم يعفه السلطان، فاستناب على الأحكام محمد بن سعيد، وصار إلى ألمرية التي توفي بها().
أهم العائلات القضائية بالأندلس
نذكر منها العائلات التالية حسب حواضرها أيضا:
– عائلات قرطبة، منها:
– عائلة بني رشد: اشتهرت هذه العائلة بعلمين بارزين من أعلام الفقه والفلسفة في تاريخ الأندلس، فأبو الوليد بن رشد الجد يعد من أكبر فقهاء الأندلس على الإطلاق، تتلمذ عليه الفقيه الشهير القاضي عياض وغيره من كبار الفقهاء والمحدثين، وتولى منصب قاضي قضاة قرطبة أو قاضي الجماعة بها على عهد علي بن يوسف، وقام بمهام ديبلوماسية تفاوضية تارة باسم السلطة، وتارة باسم أهل قرطبة وأهل الأندلس عامة. وكان ابنه أبو القاسم هو الآخر فقيها له عدة تآليف، تولى قضاء قرطبة سنة 532ﻫ بعد عزل القاضي الثائر أبي جعفر بن حمدين، وبذلك دخل في سلك كبار رجال الدولة كأبيه. وكان لأبي القاسم هذا عدة أبناء من أشهرهم بالطبع الفيلسوف أحمد بن رشد المتوفى سنة 622ﻫ. وقد كان هو الآخر فقيها وقاضيا إلى جانب اهتمامه بالطب، أما ابنه عبد الله فاشتهر في الطب كذلك، وكان طبيبا للخليفة الموحدي الناصر().

– عائلة بني حمدين: من الأسر الأندلسية التي طبعت تاريخ الأندلس الفقهي والسياسي والاجتماعي. تميزت هذه الأسرة بميولها السياسي، ومن أشهر ممثليها القاضي أبو عبد الله محمد بن حمدين قاضي قضاة قرطبة في عهد علي بن يوسف، الذي كان أجل رجال الأندلس وزعيمها في وقته ومقدمها جلالة ونباهة وفهما، وأخوه أبو القاسم، وأخوه القاضي أبو جعفر الذي تزعم ثورة أهل قرطبة على الوالي المرابطي().
– عائلة بني الحاج: من أشهر ممثلي هذا البيت القاضي أبو عبد الله محمد بن الحاج المتوفى سنة 529ﮬ. ()
– عائلة بني مخلد: وصف ابن بشكوال هذا البيت بكونه بيت علم ونباهة وفضل وجلالة(). كما وصفه عياض بقوله: “من أجل بيوت العلم بقرطبة وأعرقهم في ذلك وبقية مشيختها”(). ومن أبناء هذا البيت الذين تولوا القضاء، تذكر المصادر أحمد بن بقي بن مخلد (ت 324ﻫ)()، وأبا عبد الله محمد بن مخلد (ت470ﻫ)()، وابنه الفقيه الحاكم أبي القاسم أحمد بن محمد (ت532ﻫ) الذي تولى الفتيا والحكم بقرطبة ، ثم تخلى عن ذلك كله، كما امتنع عن تولى القضاء().
– عائلات بني عبد الصمد()، وبني عتاب()، وبني مغيث().
– عائلات إشبيلية، منها:
– عائلة الهوزني: كان لهذه العائلة نفوذ علمي في ظل إمارة بني عباد بإشبيلية، واستمر متوارثا مع أبنائها()، ومن أشهر أبنائها الفقيه العالم المجاهد أبو حفص عمر بن حسين الهوزني الذي قتله المعتضد بيده()، ثم أبو القاسم الحسن بن عمر بن الحسن الهوزني (ت512ﻫ) الذي كان مشاورا ببلده في ظل الحكم المرابطي().
– عائلة بني المنظور().
– عائلة بني شريح الرعينين: وهي أسرة المقرئين بامتياز، من أبنائها: أبو عبد الله شريح، وابنه أبو الحسن القاضي الذي عاصر الدولة المرابطية().
– عائلة بني زهر: وهي أسرة توارثت التضلع في علم الطب، مما أكسبها نفوذا وجاها كبيرين في الأندلس طيلة ثلاثة قرون من الزمن (ق5 إلى ق7ﮬ/11-13م)، فضلا عن معرفة عميقة بالعلوم الأخرى كالفقه والأدب والسياسة. وكان من أعظم أبنائها الطبيب أبو مروان بن عبد الملك بن أبي العلا بن زهر (487ﻫ-557ﮬ) الذي اعتبر أعظم طبيب في العالمين المسيحي والإسلامي في وقته، وأعظم طبيب بعد جالينوس حتى عهده().
– عائلة الباجي: من أبرز أعلامها القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت474ﻫ)، وابنه أبو القاسم أحمد بن سليمان الباجي().
– عائلة بني العربي: من أشهر أبنائها القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري المعروف بابن العربي، وقد كان أبوه محمد من فقهاء إشبيلية ورؤسائها في عهد الطوائف().
–   عائلات سرقسطة :
– عائلة بني فورتش: وهو بيت شهير في الفضل والعلم والجلالة والقضاء والنباهة، من أبنائه القاضي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن فورتش الذي ولي القضاء ببلده سرقسطة()، وابنه أبو محمد عبد الله الذي ولي التحكيم ببلده-كذلك-ثم القصاء على إكراه منه، وقد توفي سنة 495ﻫ.()
– عائلة الصدفي: من أبرز أبنائها خلال عصر المرابطين الفقيه القاضي المحدث الشهيد أبو علي الحسين بن محمد المعروف بابن سكرة الصدفي().
– عائلة بني ثابت: كان بيت بني ثابت بيت نباهة وحسب. من أبرز أبنائه الفقيه القاضي الأجل أبو الحسن ثابت بن عبد الله قاضي سرقسطة المتوفى عام 514ﻫ .()
–   عائلات غرناطة :
– عائلة بني القعليعي()، منها القاضي أبو جعفر أحمد بن خلف داعية المرابطين.
– عائلة بني أضحى()، منها القاضي أبو الحسن بن أضحى الثائر في غرناطة أواخر المرابطين().
– عائلة بني الفرس، منها القاضي عبد المنعم بن الفرس().
– عائلة بني عطية، منها الفقيه المشاور الحافظ القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي وأبـوه().
–   عائلات مالقة :
– عائلة بني حسون: ومن أبرز أبنائها أبو الحكم بن حسون الذي ثار بها في نهاية عهد المرابطين().  
– عائلة بني سماك().
–   عائلات مرسية، منها:
– عائلة بني أبي جعفر، منها الفقيه القاضي أبو جعفر الذي ثار بمرسية، وبايع ابن حمدين().
– عائلات بني أبي جمرة()، وبني السعادة().
– عائلات بلنسية، منها: عائلة بني عبد العزيز()، وعائلة بني جحاف()، وعائلة بني واجب().
– عائلات شاطبة، ومنها عائلة بني مفوز().
– عائلات أوريولة، ومنها عائلة بني فتحون: من أشهر أبنائها أبو القاسم خلف بن سليمان بن خلف بن محمد فتحون الذي تولى القضاء بشاطبة ودانية()، وتوفي سنة 505ﮬ.
من خلال هذا الجرد، يتبين فعلا أن بعض العائلات قد استأثرت بمنصب القضاء وتوارثته من جيل إلى جيل، مما يؤكد ظاهرة تراكم النفوذ الاجتماعي لعائلات معينة في الدولة المرابطية. لكن هذه الظاهرة لم تكن وليدة العصر المرابطي بل تضرب بجذورها في التاريخ. فهناك عائلات توارثت منصب القضاء منذ ما قبل العصر الـمرابـطي. وبالتالي، يبدو أن السلطة لا دخل لها في تمكين هذه الأسر من نفوذها الاجتماعي والاقتصادي، خاصة في ظل الصلاحيات التي كانت تخولها السلطة للسكان في اختيار قضاتهم(). ومن ناحية أخرى، يمكن القول إن ظاهرة التوراث القضائي هذه لا يمكن فصلها عن ظاهرة أشمل منها، وهي ظاهرة التوراث العلمي. فغالبية العائلات التي توارثت منصب القضاء قد توارثت أيضا العلم. ومن المعلوم أن التكوين الفقهي الرفيع كان شرطا أساسيا لتولي هذا المنصب، وبما أن أبناء تلك الأسر العلمية كانوا من هذا الصنف، فقد كان القضاء من نصيب عدد كبير منهم، ليس من باب المحاباة أو المحسوبية، بل من الكفاءة والاستحقاق العلمي والاخلاقي. ولعل ما يزكي هذا الاستنتاج هو انفتاح أمير المسلمين علي بن يوسف على عموم المواطنين في تعيين قضاة سامين مثل قاضي الجماعة()، فضلا عن غيره من القضاة(). أما من حيث النفوذ المادي، فكثيرا ما كانت هذه الأسر العلمية ذات جاه ونفوذ خلال مراحل مختلفة من تاريخ الأندلس. فوصف أفرادها في كتب التراجم بأنهم أصحاب قدر عظيم، ومال عريض، وجاه جليل، وغير ذلك من الأوصاف التي تحبل بها ترجمات كثير من الفقهاء المنتمين لتاريخ ما قبل العصر المرابطي يدل على أهمية الامتداد التاريخي لنفوذهم إلى ما قبل العصر المرابطي(). ومعنى هذا أن ثروة الكثير من الأسر، موضوع الدراسة هنا، لم تكن وليدة العصر المرابطي، بل جاءت نتيجة كفاح أجيال من أبنائها. ولعل العامل المادي كان أحد العوامل الأساسية المساهمة في استمرار احتكار تلك الأسر لمنصب القضاء، لما كان يتطلبه من إمكانات مادية للتمكن من نيل تكوين فقهي متين وثقافة عالية، وهو ما لم يكن يتأتى للعموم، إذ كان الأمر يستلزم نفقات كبيرة خاصة مع ارتفاع أجور بعض الأساتيذ، مما كان يثقل كاهل أبناء الأسر المتواضعة، ويحول دون مواصلة الكثير منهم لمسيرتهم العلمية، عكس أبناء الأسر الميسورة(). ولذلك أثر النفوذ المادي في تشكيل الجهاز القضائي. ولكن هذا لا يعني غياب وجود عدد كبير من القضاة من أبناء الأسر المتواضعة اجتماعيا، بفعل ما تميزوا به من إصرار كبير على التحصيل العلمي.
من خلال ما سبق، إذن، يتبين أن ثراء مجموعة لا يستهان بها من القضاة لم يكن مرده إلى ما كسبوه من مناصبهم القضائية في الدولة المرابطية، بل كان نتيجة إرث الآباء والأجداد. هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن كثيرا من هؤلاء القضاة الأغنياء سخروا غناهم لخدمة المجتمع، ولم يحرصوا على زيادة ثرواتهم ومكاسبهم المادية، ولم يستغلوا مناصبهم لخدمة مصالحهم الخاصة، بل كانوا في خدمة المجتمع والدولة بما أوتوا من طاقات مادية ومعنوية. فابن حمدين الذي استهدف بالاسم من خلال النقد الشديد المتداول عند المؤرخين، كان جميل الطريقة ساعيا في كل خير، قطع الضرائب والمعاون عن أهل قرطبة(). وعاش بعض القضاة متواضعي الحال رغم غناهم المادي كما هو الشأن بالنسبة للقاضي أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي-ت505ﻫ –الذي “كان من أحسن القضاة وأنزههم وأجراهم على الطريقة القويمة، فمضى فقيرا(). وكان بعضهم الآخر يستثمر غناه في خدمة الفقراء والمساكين، مثل قاضي الجماعة محمد بن أصبغ الذي كان ينفق في كل يوم على ثلاثمائة بيت “يعيل ديارهم ويقيل عثراثهم”().
وهناك نماذج كثيرة من الفقهاء والقضاة الزهاد الذين اشتهروا بزهدهم في الدنيا ورفضهم للمناصب التي عينوا فيها وخاصة منصب القضاء، مما أكسبهم احترما كبيرا من طرف المجتمع. ومنهم النماذج التالية:
⬜   الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى التميمي (429-505ﻫ): كان من “أجل شيوخ سبتة، ومقدم فقهائهم، وهو من شيوخ عياض، وكان كثير الكتب حافظا عارفا بالفقه، تولى القضاء بسبتة نحو ست سنين، واستعفى من ذلك أخيرا فأعفي، وذلك في محرم سنة 496ﻫ، ثم التزم القضاء بمدينة فاس بعد أن سجن على إبايته من ذلك سنة503ﻫ، فنهض إليها ثم انصرف زائرا إلى سبتة وتلذذ بها رجاء تخلصه من الخطة، وكان من أحسن القضاة وأنزههم وأجراهم على الطريقة القويمة، فمضى فقيدا-فقيرا-حميدا”().
⬜   محمد بن مروان بن عبد الملك اللواتي: تولى القضا بعدة مدن (مكناسة، ألمرية، غرناطة)، وسلك في حيلته مسلك الزهد والعدل. أكثر الشكوى على أمير المسلمين للاستعفاء، ولكنه لم يعفه().
⬜   أبو العباس بن الصقر الأنصاري الخزرجي: أحمد بن عبد الرحمن، كان حيا سنة 541ﻫ، عمل إماما بجامع مراكش، وأصله من سرقسطة، واشتغل عاقدا للشروط وكاتبا لبعض القضاة مثل أبي عبد الله بن حسون بمراكش والقاضي عياض بغرناطة، كما تولى ولاية الأحكام والصلاة بوادي آش. رفض أخذ المال من عمال المرابطين وموالاتهم، ورفض أن يغادر ديدن أهل العلم والفقهاء().
⬜   أبو محمد الهلالي، عبد المنعم بن مروان بن عبد المالك سمجون: أصله من طنجة، سكن غرناطة وتوفي بألمرية، تولى القضاء سنة517ﻫ، وصفه ابن عبد الملك بالعدل في حكمه، والزهد في كسبه().
⬜   أبو الحسن بن برطلة الأزدي، سليمان بن موسى: توفي سنة 539ﮬ، كان قاضيا لمرسية أيام الثورة على المرابطين، وكان زاهدا متقللا من الدنيا().
⬜   أبو الحسن صالح بن عبد الملك بن سعيد الأوسي (500-586ﻫ): اشتغل قاضيا في حدود سنة 530ﮬ، وكان زاهدا في الدنيا().
⬜   أبو مروان عبد الملك بن أحمد الأبهري، من شنت مرية الشرق، تـوفي بـعد 490ﮬ: اشتغل قاضيا ببلده. وكان زاهدا فاضلا().
⬜   أبو عبد الله بن أبي صوفة الحجري، محمد بن أحمد: من قرطبة، سكن الجزيرة الخضراء، كان حيا سنة 513ﻫ، اشتهر بالزهد والورع، وكان مشاورا بقرطبة، كما اشتغل قاضيا بالجزيرة الخضراء().
وهناك نماذج كثيرة من الفقهاء الذين امتنعوا عن تولي الوظائف الرسمية، وحبذوا الابتعاد عن السلطة رغم الإكراهات التي تعرضوا لها، وفيما يلي البعض منهم:
⬜   أبو محمد القيسي، عبد الملك بن إبراهيم بن هاشم القيسي: يعتقد أنه من ألمرية، امتنع عن تولي القضاء، رغم أن سكان ألمرية اتفقوا على توليته بالإجماع، وتقدموا بطلب في هذا الشأن ليوسف بن تاشفين، لكنه تشدد في رفض هذا المنصب، وهدد بالفرار عن أولاده إذا هم تشبثوا بموقفهم().
⬜   أبو عبد الله بن الحمزي، محمد بن أحمد بن خلف القيسي، توفي سنة 539ﻫ: اشتغل مشاورا وخطيبا وقاضيا بألمرية، وكان فقيها حافظا، تخلى عن القضاء بطلب منه(). وتفرغ للتدريس كما يؤكد ذلك العدد الكبير من تلاميذه الذين كان من أشهرهم أبو القاسم بن بشكوال().
⬜   أبو عبد الله بن المجاهد الأنصاري، محمد بن أحمد، (483-574ﮬ): من اشبيلية، كان واحد وقته، زاهد في الدنيا، مجتهدا على العبادة، احتج على ارتباط ابن العربي بالسلطان، حيث قال عنه: “كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان”، وامتنع عن تولي منصب القضاء بشريش، وتفرغ للتدريس والإقراء(). ولم يكن يسمح لأحد بالتعرض إليه بهدية أو تحفة قلت أو كثرت، لا من الملوك ولا من غيرهم، إلا من آحاد من بعض خلصائه ممن قد تحقق طيب مكسبهم.()
⬜   ابن العواد، هشام بن أحمد بن سعيد (ت529ﮬ): عزم عليه لتولي القضاء فامتنع().
⬜   الفقيه عبد الله أحمد بن واشون الهذلي (ت529ﮬ): فضل السجن على تولي القضاء، إذا أنه أمر بتولي القضاء بمدينة فاس، فامتنع امتناعا كليا، ولم يقدر عليه فيما طلب منه، فأمر بسجنه().
⬜   الفقيه القاضي أبو علي الصدفي: تولى القضاء بمرسية نزولا عند رغبة أهلها، “فسار فيه سيرة فضحت من كان قبله وأتعبت من جاء بعده”()، لكنه ما لبث أن استعفى، فلما لم يعف هرب إلى ألمرية وتوارى فيها شهورا إلى أن جاءه كتاب الإعفاء، فظهر خدمة لطلبته().
⬜   الفقيه الجليل القاضي أبو الوليد بن رشد (ت520ﮬ): ولي قضاء الجماعة بقرطبة سنة 511ﻫ، ثم استعفى منها سنة 515ﻫ، وتفرغ لإكمال تآليفه الفقهية().
⬜   الفقيه أبو الحسن بن عبد الأعلى الكلاعي (ت505ﻫ بأغمات): من أهل سفاقس، سكن المغرب والأندلس، استوطن سبتة فشاوره بها بعض القضاة، وأريد على قضاء الجزيرة فامتنع، وكان منقبضا فاضلا().
وإلى جانب الابتعاد عن السلطة والزهد في الدنيا، شكل تفاني العلماء في التدريس والتعليم من أهل العوامل المحددة لمكانتهم الاجتماعية لدى عامة المجتمع وخاصته. ذلك أن مكانة الفقهاء في المجتمع الإسلامي عامة ترجع، من ضمن ما ترجع إليه، إلى طبيعة الأدوار والمهام الطلائعية التي كانوا يقومون بها، وعلى رأسها مهمة التعليم وخدمة المتعلمين، مما جعلهم يحظون باحترام كبير من طرف الطلبة وعائلاتهم، ومن المجتمع ككل. وفيما يلي بعض مشاهير الفقهاء المدرسين.
⬜   أبو العباس الأنصاري الخزرجي، أحمد بن طاهر(467-532ﻫ): المحدث الضابط، العالم بالمسائل، اشتغل بتدريس الحديث ببلده مدة طويلة. من تلاميذه المشهورين: أبو الفضل عياض().
⬜   أبو عمر الأزدي، أحمد بن عبد الله بن جابر الأشبيلي (417-536ﮬ): اشتغل بإقراء القرآن والحديث بإشبيلية لمدة تزيد عن 60 سنة، وكان متين الدين شهير الفضل والصلاح، من تلاميذه المشهورين: أبو بكر بن خير وأبو القاسم بن بشكوال().
⬜   أبو العباس بن عاصم الثقفي، أحمد بن عبد الرحمن، (ت540ﮬ): أصله من برجة، سكن قصبة ألمرية، كان مقرئا مجودا ضابطا، تفرغ لإقراء القرآن والحديث بجامع ألمرية().
⬜   الفقيه القاضي أبو بكر بن العربي (تـ543ﻫ): هو”الإمام والعالم الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس، آخر أئمتها وحفاظها”()، بعد عودته من رحلته الشهيرة نحو المشرق انصرف إلى بلده”فسمع ودرس الفقه والأصول وجلس للوعظ والتفسير ورحل إليه للسماع”(). كان كثير الاحتمال لطلبته، حسن المعاشرة، لين الكنف، حريصا على نشر العلم(). وقد بلغ من حرص ابن العربي على إفادة الطلبة في كل أوقاته، أنهم كانوا في بعض الأحيان يبيتون معه ببيته بقرطبة(). وبعد عودته إلى اشبيلية بنى بها مسجدا اكتظت جوانبه برواد المعرفة، واتصلت حلقاته في التفسير والحديث والفقه والأصول وعلم الكلام واللغة والأدب والأخبار والسير(). ولعل خير دليل على باعه الطويل في ميدان العلم والتعليم، ذلك العدد الكبير من تلاميذه وأصحابه المتواجدين في كل جهة ومكان، والذين طالت شهرتهم كل مجالات المعرفة: الحديث، الفقه، الأدب، الأصول()…
⬜   القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت544ﻫ): فقيه الفقهاء في قطره()، وأحد سلاطين العلم الذين سارت مآثرهم مسيرة الشمس والقمر(). تولى القضاء عدة مرات بسبتة سنة 515ﻫـ()، وقضاء غرناطة سنة 530ﻫ، التي لم يستمر بها سوى مدة قصيرة ، ثم عين من جديد قاضيا لسبتة سنة 539ﻫ(). وكان في كل هذه المرات “حسن السيرة، محمود الطريقة، مشكور الخلة، أقام الحدود على ضروبها واختلاف أنواعها”()، دائما يبتهج به أهل المدينة التي يتولى بها القضاء، محافظا على استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية ولا يرضى عن ذلك تبديلا. لكن رغم انشغالاته الكثيرة بوظيفة القضاء والشورى، فإنه لم يتخلّ قط عن مهمة التدريس حيثما حل وارتحل وخاصة ببلده سبتة، حيث اتخذ من جامعها مركزا للتدريس والإقراء، فكان “محبا في طلبته العلم محرضا لهم على طلبه، مسهلا لهم الطرائق مبادرا لقضاء حوائجهم”(). وقد بوأه هذا الحرص على نشر العلم والتعليم مكانة كبرى في بلده وفي غيره، يدل على ذلك كثرة تلاميذه في كل فن من فنون المعرفة.
⬜   أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (450-520ﮬ): “زعيم فقهاء وقته بأقطار الأندلس والمغرب ومقدمهم المعترف له بصحة النظر وجودة التأليف ودقة الفقه، وكان إليه المفزع في المشكلات، بصيرا بالأصول والفروع والفرائض والتفنن، في العلوم، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، كثير التصنيف مطبوعه”(). تولى قضاء الجماعة بقرطبة سنة 511ﻫ، ثم استعفى منها سنة 515ﻫ. رحل الناس إليه من كل أقطار الأندلس والمغرب للتفقه عليه طيلة مدة حياته إلى أن توفي سنة 520ﻫ، كمايدل على ذلك العدد الكبير من تلاميذه، ومن أشهرهم: محمد بن أصبغ الأزدي (ت536ﻫ) قاضي الجماعة بقرطبة()، القاضي عياض (ت 544ﻫ)()، الحافظ المفسر أبو الحسن علي بن عبدالله الأنصاري المعروف بابن النعمة ت 567ﻫ)()، المحدث الفقيه أبو مروان عبد الملك بن مسرة اليحصبي (ت 552ﻫ)()، المحدث المؤرخ خلف بن عبد الملك بن بشكوال (ت 578ﻫ).()
⬜  محمد بن أحمد بن إبراهيم بن جامع الأنصاري الجياني (ت546ﻫ): من مصنفاته “أسرار الإيمان”، وله في مسائل الخلاف تعليق مشهور في 7 أسفار. اشتغل بالتدريس طيلة حياته وخاصة منذ عودته من رحلته إلى المشرق، فبعد عودته من هذه الرحلة نزل بجامع القرويين يدرس الفقه، ثم لما انتقل إلى بلده جيان، جلس في مسجده المنسوب إليه للوعظ والإرشاد وإيراد حكايات الصالحين، ونحى منحى الزهد، فكانت العامة تنتاب مجلسه، واستمر على ذلك إلى غاية 539ﻫ أو 540ﻫ، فخرج من بلده للفتنة الدهماء التي اجتاحته، وقصد مدينة فاس، وأقام بها يدرس الفقه وأصوله ومسائل الخلاف إلى وفاته().
⬜  الشيخ الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الغساني (427-498ﻫ): كان من كبار المحدثين والمسندين “شيخ الأندلس في وقته وصاحب رحلتهم”()، كان له حظ واسع وافر من الأدب والنسب والمعرفة بأسماء الرجال وسعة السماع، رحل الناس إليه من الأقطار، وعولوا عليه في الرواية، وجلس لذلك بالمسجد الجامع بقرطبة فسمع منه علماؤها وفقهاؤها وطلبتها، وكان حفيا بطلبة العلم(). ومن تلاميذه المشهورين القاضي عياض().
⬜  القاضي الشهيد أبو علي حسين بن محمد بن فيره الصدفي (ت 514ﻫ) المعروف بابن سكرة. تعدد شيوخه بالمغرب والمشرق، جمع منهم القاضي عياض مائتي شيخ في مصنفه “المعجم” الذي يعتبر مفقودا لحد الآن(). بعد عودته من رحلته إلى المشرق، استقر في مرسية منصرفا إلى العلم وتدريسه محدثا بجامعها، فرحل إليه الطلبة من كل أنحاء الأندلس والمغرب وكثر سماعهم عليه، وكان بارا بطلبته صابرا عليهم، فانتفع به الكثير من الطلبة، بلغ عددهم 314 طالبا من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين، جمعهم ابن الأبار في كتاب المعجم().
⬜  الفقيه أبو محمد بن شبونة، عبد الله بن أحمد بن خلوف الأزدي (ت537ﻫ) : أحد الحفاظ المدرسين للمذهب العالمين به، انتقل إلى أغمات بعد سبتة وسلا فكان رأسا بها مقدما في التدريس بها والفتيا وتفقه عنده خلق كثير().
ب ـ العوامل الفكرية : استقلالية المواقـف الفكرية للعلماء عن مواقف السـلطة
من المعلوم أن الفقهاء قد احتلوا على مر التاريخ مكانة مهمة في المجتمع والدولة الإسلامية، حيث شكلوا النخبة الماسكة بزمام السطة العلمية، مما جعلهم دائما في معترك التاريخ، بحكم الحاجة الدائمة إليهم سواء من طرف الماسكين بزمام السلطة السياسية أو من طرف المجتمع. وقد وجدت هذه الفئة في نصوص الشرع ما يدعم مكانتها ويقوي سلطتها من الناحية النظرية. فالعلماء ورثة الأنبياء وهم أيضا أولو الأمر الذين وجبت طاعتهم. لكن من الناحية الواقعية والتاريخية كانت هذه المكانة تخضع- بالإضافة إلى السند الشرعي- لمتغيرات الواقع، وخاصة متغير العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة العلمية وانعكاسات ذلك على الموقف من المجتمع. فكلما حافظ العلماء على استقلاليتهم عن السلطة السياسية وانحازوا لقضايا المجتمع كلما تعززت مكانتهم لديه، خاصة في ظل التوتر التاريخي الذي طبع علاقة السلطة السياسية بالمجتمع(). ولعل الحديث عن مكانة الفقهاء في الدولة المرابطية يفرض علينا مقاربة الإشكال من زاوية التداخل البنيوي بين السلطتين السياسية والعلمية وليس مجرد الحديث عن تمظهرات العلاقة المتوافقة أو المتنافرة بين السلطتين، وذلك بحكم ولادة المشروع المرابطي وتطوره في أحضان الفقهاء كما تبين ذلك من خلال حديثنا عن مظاهر وتجليات نفوذ الفقهاء في الدولة المرابطية السنية المالكية، مما يجعل منها دولة الفقهاء بامتياز. وقد ضمن هذا الوضع المكانة المستحقة للفقهاء في الدولة والمجتمع. ورغم ذلك، فإن الوقائع التاريخية تسمح لنا بإمكانية الحديث عن الاستقلال الفكري للفقهاء كسلطة فكرية عن السلطة السياسية مما ضمن لهم مكانة محترمة عند المجتمع.
ذلك أن السمة الغالبة على الفقهاء المرابطين هي نصرتهم للحق دون محاباة أي طرف، وخير مثال على ذلك ما تداولته المصادر عن حكم قاضي ألمرية أبي عبد الله بن الفراء على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بأداء القسم في المسجد من أجل السماح له بجباية مبلغ من المال من المسلمين بغرض الجهاد، حيث قال له: “فليدخل أمير المسلمين المسجد الجامع بحضرة من هناك من أهل العلم، وليحلف أن ليس عنده في بيت مال المسلمين درهم ينفقه، وحينئذ تجب معونته”(). كما أن الصيغة إلتي خاطب بها هذا القاضي أمير المسلمين تدل على الجرأة في قول الحق، حيث قال في معرض جوابه عليه: “فقد بلغني ما ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة وتأخري عن ذلك، وأن أبا الوليد الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوه بأن عمر بن الخطاب  اقتضاها، فالقضاة والفقهاء إلى النار دون زبانية، فإن كان عمر اقتضاها فقد كان صاحب رسول الله  وضجيعه في قبره، ولا يشك في عدله، وليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله  ولا بوزيره ولا بضجيعه في قبره، ولا ممن لا يشك في عدله. فإن كان القضاة والفقهاء أنزلوك منزلته في العدل فالله تعالى سائلهم وحسيبهم عن تقلدهم فيك…”().
وكان موقف فقهاء الأندلس من شرعية حكم يوسف بن تاشفين موقفا صارما كذلك. فعلى الرغم من الجهد الكبير الذي قام به في إنقاذ الأندلس وإسقاط ملوك الطوائف، فقد اشترطوا عليه ضرورةالحصول على التزكية من الخليفة العباسي حتى تكون طاعته واجبة وشرعية، حيث قالوا له: “إنه لا تجب طاعتك على المسلمين حتى يكون لك عهد من الخليفة”()، وهي المهمة التي اضطلع بها قاضي إشبيلية الفقيه عبد الله بن العربي المعافري وابنه أبو بكر محمد(). وهناك فقهاء آخرون شهد لهم أمراء المسلمين بالصرامة في قول الحق من طرف، مثل الفقيه أبي محمد بن شبونة(ت537ﻫ) الذي “كان لا يداهن في فتياه ولا يصانع أحدا، وكان أمير المسلمين علي بن يوسف يصفه بذلك”(). لكن إذا كان الأمر كذلك من حيث علاقة الفقهاء بالسلطة، فهل كانت مواقف الفقهاء منسجمة وموحدة فكريا وسياسيا، بعد ما رأينا أنهم لم يكونوا ملتحمين وموحدين اجتماعيا؟
هناك قضايا أساسية تساعد على الجواب، ونخص بالذكر الموقف من الإحياء، والموقف من السلطة المرابطية بالأندلس في آخر عهدها.
فيما يخص القضية الأولى، اختلفت مواقف الفقهاء المالكيين من قضية إحراق “الإحياء” للإمام الغزالي، حيث نجد ثلاثة مواقف مختلفة، فهناك الموقف المتبني لعملية الإحراق والمؤيد لها، والموقف المعارض بالإطلاق، والموقف المتحفظ().
يمثل الموقف الأول فقهاء الدولة، وعلى رأسهم قاضي قرطبة ابن حمدين التغلبي (ت508ﻫ/ 1114م)، فهو الذي تزعم الحملة الطاعنة في فكر الغزالي من خلال الفتوى بإحراق كتابه إحياء علوم الدين(). ولم يكتف ابن حمدين بإصدار فتوى إحراق “الإحياء” واجتثاثه من مكتبات المغاربة والأندلسيين، بل ألف في الرد عليه رسالة قرأها عليه تلميذه ابن عطية()، أو رسائل قرأها عليه كذلك تلميذه عياض()، وبالطبع لم يكن ابن حمدين وحده في هذه المعركة، حيث سانده فقهاء قرطبة وغيرهم().
لكن في مقابل هؤلاء المتحمسين لإحراق الإحياء، انتصب فقهاء آخرون للدفاع عنه سرا وعلانية، منهم الفقيه أبو الحسن البرجي، (ت509ﻫ/15-1116م) إذ يقول عنه ابن الأبار: “وهو الذي أوجب في كتب أبي حامد الغزالي حين أحرقها أبو عبد الله بن حمدين… تأديب محرقها، وتضمينه قيمتها لأنها مال مسلم، وقيل له أتكتب بما قلته خط يدك، قال: سبحان الله، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، ثم كتب السؤال في النازلة وكتب فتياه بعقبة، ودفع إلى أبي بكر عمر بن أحمد بن الفصيح، وأبي القاسم بن ورد، وغيرهما من فقهاء المرية ومشايخها، فكتب كل واحد منهم بخطه: وبه يقول فلان، مسلمين لعلمه وزهده، فغاظ ابن حمدين ذلك لما بلغه، وكسر منه، وكتب إلى قاضي ألمرية (…) بعزله عن خطة إن كانت بيده، فأخبر بزهادته وانقباضه عن أهل الدنيا…”().
وبمدينة فاس انتصر لكتاب “الإحياء” الفقيه أبو الفضل النحوي(). وبجوار عاصمة الدولة المرابطية ـ مراكش ـ وعلى مشارفها في مدينة أغمات وريكة، كان الفقيه أبو محمد عبد الله المليجي (توفي قبل 540ﻫ/45-1146) من الرافضين للإحراق، فقد ذكر ابن الزيات عنه “أنه لما أفتى الفقهاء بمراكش بإحراق كتاب الإحياء للغزالي، فأحرق بصحن جامع السلطان. سأل أبو محمد عن الذين أفتوا بإحراقه. فكان كلما سمى له واحد منهم دعا عليه”(). وبالطبع لم يكن هؤلاء وحدهم في معركة مناصرة الإحياء. وإلا فما الداعي لأن يصدر الأمير تاشفين بن علي سنة 538ﻫ/1143م مرسوما شديد اللهجة للتحذير من قراءة كتاب الإحياء خاصة وكتب الغزالي عامة()؟ ألم تتمكن فتوى الإحراق التي صدرت قبل هذا التاريخ بأكثر من ثلاثين سنة ، وأوامر أبيه علي بن يوسف القاضية بضرورة إحراق ما وجد من نسخ الإحياء وانتزاعها من أصحابها()، من اجتثاث الإحياء من المغرب والأندلس؟
إن ما يشجع على التشكيك في مدى نجاح دعوة ابن حمدين وأنصاره ضد الإحياء، هو أن التحذير الشديد الذي ورد في رسالة الأمير تاشفين جاء مرفوقا بالتأكيد على ضرورة الالتزام بالمذهب المالكي في الفتيا والأحكام والشورى، حيث يقول مخاطبا الفقهاء والقضاة: “ومن حاد عن رأيه بفتواه، ومال من الأئمة إلى سواه، فقد ركب رأسه واتبع هواه..”().
وهناك فئة ثالثة من الفقهاء الذين اشتهروا بمكانتهم السامية في الدولة المرابطية، لكنهم لم ينساقوا مع موقف ابن حمدين وقرارات السلطة العليا في شأن هذا الموضوع. ويتعلق الأمر بقضاة الحكم المرابطي المشهورين أبي الوليد بن رشد الجد، وأبي علي الصدفي، وأبي بكر بن العربي، والقاضي عياض.
فبالنسبة لابن رشد، نجد أنه قد التزم الصمت إزاء ضجة الإحراق، فلم يعلن تحيزه العلني للإحياء، كما لم يلتحق بركب خصومه. فبماذا نفسر صمته هذا؟ هل هو صمت إيجابي لصالح الإحياء أم ضده؟ لو أن موقفه كان معارضا للإحياء، فما المانع من التصريح به؟ لذا، قد يكون صمته في هذه القضية مؤشرا على تضامنه مع الإحياء لكن دون إحداث ضجة تشوش على السلطة، وهو ما ذهب إلى ترجيحه محمد القبلي، حيث اعتبر أن صمت ابن رشد يترجم تلك المحافظة التقليدية التي دأب عليها جمهور علماء الأندلس أمام كل حركة تجديدية خشية المغامرة والشرع من جهة. ومن جهة أخرى فإن الصمت نفسه قد يكون صمت قاض يعتمد في أحكامه النزاهة والتروي وعدم مسايرة الضغوط الرسمية(). وإذا كنا نعتبر أن الافتراض الأول قد يكون صحيحا بالنظر لما يعززه من شواهد في تاريخ علماء الأندلس()، فإن الافتراض الثاني يصطدم بما عرفناه عن ابن رشد من جرأة في المواجهة وقول الحق، فضلا عن أن الصمت عن الحق ليس من خصال العلماء المخلصين أمثال ابن رشد. وحتى إذا افترضنا تقديره للظروف المحيطة بالقرار الأميري بشأن الإحراق، فإن هذا الافتراض ذاته يسقط أمام حقيقة أخرى وهي اصطدامه مع الجند المرابطي واحتجاجه على مساندة السلطة لأعوانها وطلبه الإعفاء من القضاء. وهناك افتراض آخر نطرحه ويتعلق بتجنب ابن رشد الاصطدام المباشر مع أمير المسلمين علي بن يوسف الذي كان مقدما عنده عظيم المنزلة معتمدا عليه في العظائم أيام حياته(). لكن مهما يكن من أمر، فإن موقفه رغم أنه يظل محاطا بالغموض، فإنه يعد حسابيا لصالح الإحياء، ونقطة ضعف في سجل الطرف المعادي للإحياء أي جناح المرابطين.
ولم يعلن ابن العربي علانية عن موقف التأييد أو الرفض لحادثة الإحراق، فهل نفسر صمته بما فسرنا به صمت ابن رشد؟ لقد تساءل محمد القبلي نفس السؤال تقريبا وانتهى إلى القول بناء على بعض المعطيات() بأن الصمت “العمومي” الذي لزمه التلميذ من قضية شيخه لم يكن ليخلو من بعض التقية القائمة على المسالمة وتجنب الاستفزاز، خصوصا وأن السلطة كانت قد بادرت إلى الحيلولة بين أبي بكر بن العربي وبين مخلفات أبيه لسبب نجهله، فلم يتمكن من رد الأملاك المحتجزة إلا بفضل شفاعة أبي علي الصدفي”().
غير أن هذا الطرح لا يصمد أمام بعض النصوص المتداولة لابن العربي والتي توضح موقفه من شيخه، حيث يقول في نقده للإحياء ومؤلفات أخرى للغزالي: “يعلم الله ويشهد لي كتبي ومسائلي وكلامي مع الفرق بأني جد بصير بأغراض القوم ومقاصدهم، فإن معلمي كان فحلا من فحولهم، (…) وتالله كنت محتشما له، غير راض عنه، وقد تردد عليه فيما أمكن واحتشمت جانبه فيما تيسر”(). فابن العربي، حقا، لم ينخرط في حملة التشويه والتحريم لقراءة الإحياء أو غيره من كتب الغزالي، وربما قد يكون ذلك من باب “التحفظ والحيطة من جراء تشبعه “الثابت” بالتعاليم المحظورة، وحرصه لنفس السبب في الغالب على مجاملة الحكم والاتصال به أو التقرب منه على مرأى ومسمع من الجميع”()، مما جعل موقفه هذا يتسم بالمرونة، التي اعتبرها عبد المجيد النجار من الخصال التي اكتسبها ابن العربي من جراء معاشرته للمتمرسين بالعمل السياسي وتأثير عيشته الحضرية ونشأته شبه الأرستقراطية(). لكن هذا الرأي يصطدم بما عرف عن ابن العربي من صرامة في تطبيق الحدود والأحكام القضائية، والتي أدرجت من قبل بعض مترجميه في نطاق الغرائب().
أما موقف عياض فكان أقل غموضا، حيث عاب على الإمام الغزالي بعض القضايا، لكن دون أن ينساق مع فتوى الإحراق، حيث ينقل عنه الذهبي فقرة من كتابه معجم أبي علي الصدفي، ورد فيها: “والشيخ أبو حامد ذو الأنبياء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داعية في ذلك. وألف فيه تآليف مشهورة أخذ عليه فيها مواضع…”(). وكان عياض يقول كذلك في حق كتاب الإحياء: “لو اختصر هذا الكتاب، واقتصر على ما فيه من خالص العلم لكان كتابا مفيدا”(). هكذا يكون عياض قد ظل بعيدا بمسافة فكرية كبيرة عن ما توصل إليه ابن حمدين الذي أفتى بالإحراق، فاكتفى بتحبيذ اختصاره اعترافا منه بقيمة الكتاب وقيمة صاحبه الإمام الغزالي، ولم ينخدع بمستوى علاقته مع السلطة المرابطية، وبالتالي ظل محافظا على استقلاليته العلمية، لكنه لم يشأ الدخول في مواجهات مع السلطة سواء خلال المرحلة الأولى من الحملة ضد الإحياء في عهد ابن حمدين وعلي بن يوسف أو في عهد ابنه تاشفين بن علي.
أما موقف أبي علي الصدفي فقد اتسم هو الآخر بالتزام الصمت إزاء هذه القضية، وهو الصمت الذي اعتبره القبلي لا يخرج عن نطاق الظروف المحيطة بضجة الإحراق، فجاء صمته هذا توفيقا بين اختياراته الشخصية المتمثلة في الزهد والابتعاد عن المناصب والتخلي عنها، وخاصة القضاء()، والظروف المضطربة المحيطة. فكان زهده الشخصي متماسكا مع موقفه العملي، وفضل الابتعاد عن كل شيء إلا عن العلم والتعليم والجهاد().
وهكذا، يتبين أن فقهاء المغرب والأندلس، رغم وحدة مذهبهم المالكي ورغم علاقة بعضهم القوية بالسلطة السياسية، لم يتبنوا موقفا موحدا من قضية الإحياء التي كانت السلطة طرفا رئيسا فيها. وتظل المبررات التي اعتمدها كل طرف لتبرير موقفه نابعة من اجتهاد خاص في تلك النازلة، وليس محاباة السلطة أو أي طرف آخر.
أما القضية الثانية التي تبين اختلاف الفقهاء المالكيين المرابطين كذلك ، فهي قضية الثورات التي اندلعت بالأندلس ضد الدولة المرابطية. فإذا كان بعضهم قد ركب جواد الثورة صد الدولة المرابطية والتنكيل بولاتها وعمالها وجندها، وهو ما حدث في كل من قرطبة على يد الثائر القاضي أبي جعفر بن حمدين()، وفي غرناطة بزعامة القاضي أبي الحسن علي بن عمر بن أضحى()، وفي جيان على يد القاضي ابن جزي()، وفي مالقة على يد القاضي أبي الحكم بن حسون()، وفي مرسية على يد القاضي أبي محمد بن الحاج اللورقي()، ثم بعده أبو جعفر بن أبي جعفر الخشني،() وفي أوريولة على يد القاضي أحمد بن عاصم()؛ ففي المقابل نجد عددا من الفقهاء قد رفضوا هذا المسلك واعتبروه نكثا لبيعة المرابطين التي في أعناقهم، وهو ما عبر عنه القاضي أبو جعفر بن الحسين الأزدي، حيث رفض مبايعة القاضي ابن عبد العزيز ، وقال: “والله لا أفعل وبيعة تاشفين في عنقي”(). وأصر قضاة آخرون على تشبثهم ببيعة المرابطين()؛ وعبر البعض الآخر عن ندمه وتذمره من الانخراط في هذه الثورات وتزكيتها(). ولعل في الموقف الاول اتجاها من أولئك الفقهاء نحو الانتهازية السياسية، خاصة وأن منهم من كان معروفا بقربه الشديد من السلطة السياسية العليا المرابطية مثل آل حمدين. أما الموقف الثاني فيدل على ثبات أصحابه على المبادئ وخاصة مبدأ البيعة التي كانت تربطهم بالأمراء المرابطين.
هذه بعض الأمثلة الدالة على عدم انسجام مواقف الفقهاء مع السلطة بشكل مطلق من جهة، وعدم انسجام مواقفهم فيما بينهم من جهة أخرى، وهذا مؤشر قوي على أن الفقهاء لم يكونوا كلهم على تلك الصورة التي رسمها المراكشي وغيره من حيث النفوذ والسلطة في أجهزة الدولة المرابطية. فمنهم أصحاب المصالح ومنهم أصحاب المبادئ. وستتأكد عدم مصداقية أطروحة المراكشي أكثر من خلال الحديث عن نفوذ مفكرين ومثقفين آخرين ـ من غير الفقهاء ـ في أجهزة الدولة، ومن خلال الحديث عن وجود موظفين سامين في الدولة لا ينتمون إلى التيار المتهم بالسيطرة على الدولة أي التيار الفروعي من الفقهاء المالكيين، وهو ما سيتم توضيحه من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: ألم تقرب السلطة المرابطية مثقفين آخرين من أدباء وفلاسفة وأطباء وغيرهم؟ ألم يتمتع موظفو الدولة ـ من غير الفقهاء ـ بمكانة سامية ونفوذ قوي في دواليب الدولة؟ وأخيرا هل كانت المناصب السامية في الدولة محتكرة من طرف فقهاء الفروع فقط؟
2 ــ مكانة أهل العلم ـ من غير الفقهاء ـ  في الدولة المرابطية
فيما يخص نفوذ المثقفين بمختلف مشاربهم الفكرية وتخصصاتهم في الدولة المرابطية، يمكن القول إن جميع الاتجاهات كانت حاضرة في بنية الدولة. فقد كان للأدباء مكانتهم المحترمة في الدولة المرابطية، وتتجلى هذه المكانة في الوظائف التي لم يكن يتولاها تقريبا إلا الأدباء والشعراء. يؤكد ذلك عبد الواحد المراكشي من خلال حديثة عن الإقبال الكبير لأدباء الأندلس على المغرب سواء في عهد أمير المسلمين يوسف أو ابنه علي للاشتغال بوظيفة الكتابة، حيث يقول: “فانقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم … واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار”().
وهكذا، وجد يوسف بن تاشفين وخلفاؤه في الأندلس معينا لا ينضب من الكتاب ذوي الباع الطويل في الفصاحة والبلاغة، فاعتمدوا عليهم في إغناء ديوان الرسائل والمكاتبات، وشكلوا من خلال جهازهم هذا صلة وصل بين أمير المسلمين ومختلف القوى الأخرى الداخلية والخارجية(). وإذا كان هؤلاء الكتاب لم تثبت لهم سلطة ذاتية، حيث اقتصر دورهم على تنفيذ أوامر السلطة العليا، فإنهم أحيانا كانوا يقدمون النصائح، ومع ذلك فإن قربهم من السلطة العليا للبلاد يعني أنهم لم يكونوا بمنأى عن المشاركة في تسيير شؤون الدولة، بل كانوا من حاشية السلطة السياسية العليا.
وأكثر من ذلك، فإن الوظائف الرسمية لم تكن محتكرة من طرف المتوافقين مع السلطة وتوجهها الفكري فقط، بمعنى أنه لم يتول الوظائف الرسمية الهامة فقط من كان على علم بالفروع من المالكية. فقد تولى القضاء والكتابة وخطة الأحكام وغيرها من الوظائف الرسمية عدد من أهل الكلام والاصول (أصول الفقه) والجدل والفلسفة والطب… وأكثر من ذلك، فقد عين في منصب القضاء فقهاء من غير المالكية، وكانوا من المقربين من السلطة السياسية المرابطية. وفيما يلي بعض النماذج من مختلف المشارب والاتجاهات والمهن:
– الأصولي المتكلم أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي المرادي (ت489ﮬ): بعد انقسام الحركة المرابطية إلى شطرين الشطر الجنوبي بقيادة أبي بكر بن عمر والشطر الشمالي بقيادة يوسف بن تاشفين، انصرف أبو بكر الحضرمي إلى الجنوب رفقة أبي بكر بن عمر، واشتغل قاضيا بأزكي بالصحراء في أحضان هذا الأخير. واستمر كذلك رغم وفاة أبي بكر بن عمر. أما عن تكوينه العلمي، فقد كان “أول من أدخل علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى”.
ولعل المقصود بكلام ابن الزيات هذا حول الاعتقاد على الطريقة الأشعرية. فقد كان المرادي أصوليا ولم يكن مجرد فقيه فروعي، يقول عنه ابن بشكوال: “كان رجلا نبيها عالما بالفقه وإماما في أصول الدين، وله في ذلك تواليف حسان مفيدة… له نهوض في علم الاعتقادات والأصول ومشاركة في الأدب وقرض الشعر”. ولم يشتغل فقط بالقضاء، بل مارس مهمة أخرى وهي الكتابة لأحد الأمراء المرابطين.
– الكاتب أبو بكر بن المرخي اللخمي، محمد بن عبد الملك (ت536ﻫ): كان محدثا ومتقدما في حفظ اللغات والآداب، اشتغل كاتبا لأمير المسلمين علي بن يوسف إلى جانب أبي عبد الله بن أبي الخصال().
– الأصولي الشافعي أبو عبد الله بن الرمامة، محمد بن علي بن جعفر بن أحمد القيسي القلعي، (479ﻫ – 567ﻫ): من قلعة بني حماد من حوز بجاية، سكن فاس، وكان حافظا للفقه نظارا فيه بارعا في معرفة أصوله ماهرا في استنباط معانيه شافعي المذهب، معوِّلا على بسيط الغزالي، مبرزا في علم الكلام، ومع ذلك فقد سمح له بممارسة التدريس، بل أكثر من ذلك فقد تولى القضاء بفاس سنة 533ﻫ، ولعل ما هو أكثر من ذلك كله هو أنه لما شهر فضله استخلصه أمير المسلمين علي بن يوسف، فكان من أخص حاضري مجلسه لديه() . وكان هذا الفقيه شغوفا بالعلوم النظرية عاكفا على تحصيلها، بما في ذلك كتاب الإحياء للغزالي المضطهد من طرف المرابطين().
– الأصولي المتكلم أبو جعفر بن باق الجذامي، محمد بن حكم (توفي سنة 538ﻫ): أصله من قرطبة، سكن غرناطة وسرقسطة وفاس، و”كان متحققا من علم الكلام وأصول الفقه محصلا لهما”، صنف في الجدل مصنفين، وله عقيدة جيدة، تولى أحكام فاس وعمل مفتيا لها، ومدرسا للعربية().
– الطبيب أبو مروان عبدالملك بن زهر (ت557ﻫ)، المتحقق بصناعة الطب، كان وجيه بلده، حظيا عند الأمراء والملوك، صنف للأمير أبي يعقوب يوسف بن تاشفين كتاب الاقتصاد في صلاح الأجساد().
– المحدث والأصولي والمتكلم أبو الحسن بن الطلاء القيسي، عبد الملك محمد بن هشام (ت551ﻫ): كان محدثا حافظا ضابطا عارفا بالفقه وأصوله عارفا بعلم الكلام، من شيوخه في هذا المجال أبو عبدالله بن شبرين. مارس عدة وظائف رسمية، فاشتغل قاضيا بحصن مرجيق، ومشاورا ببلده وخطيبا().
– الأديب أبو مروان بن أبي الخصال الغافقي، عبدالملك بن مسعود (ت539ﻫ) عن 60 سنة: من قرطبة، لم يكن فقيها ولا عالما بالفقه، بل كان من أهل الأدب والبلاغة والشعر، اشتغل كاتبا لبعض رؤساء لمتونة بمراكش وفاس وغيرهما. وتخلى عن الكتابة وانقطع للعبادة().
– المحدث والفقيه الظاهري أبو العباس الأنصاري الخزرجي، أحمد بن طاهر: (467-532ﻫ): من شارقة سكن دانية، كان محدثا ضابطا وعالما بالمسائل، لكنه كان يميل في فقهه إلى الظاهر، ومع ذلك فقد تولى خطة الشورى بدانية لمدة تزيد عن 20 سنة، فضلا عن أنه اشتغل بتدريس الحديث والتأليف فيه().
– الفيلسوف ابن وهيب الأزدي، مالك بن يحي (ت525ﻫ): من أهل إشبيلية، كان أحد رجال الكمال بمعرفة العلوم على تفاريعها وأنواعها المختلفة. وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، من أهل الفلسفة، بل لقد وصف بأنه فيلسوف المغرب. استدعاه أمير المسلمين علي بن يوسف إلى مراكش وجعله جليسه ومستشاره المقرب(). وهو الذي ناظر ابن تومرت()، وأشار على أمير المسلمين بضرورة قتله(). لكنه اكتفى بإخراجه من مراكش().
– الفيلسوف أبو بكر بن باجة (ت532ﻫ): فيلسوف المغرب والأندلس خلال عصر المرابطين، بل هو أحد كبار فلاسفة الإسلام، عاش في كنف السلطة المرابطية المتهمة بمناهضة الفلسفة، حيث اتخذه العامل المرابطي على سرقسطة أبو بكر إبراهيم بن تيفلويت كاتبا له قبل عام 509ﮬ. وبعد وفاة هذا العامل، انتقل إلى فاس ـ بعد ألمرية وغرناطة وإشبيلية ـ حيث نال رضى أبي بكر يحيى بن يوسف بن تاشفين، وصار وزيرا له().
3 ــ مكانة رجال السلطة في الدولة
وأخيرا، أختم بالحديث عن نفوذ رجالات السلطة من غير المثقفين في أجهزة الدولة، إذ لم يتمتع فقط الفقهاء بالنفوذ والسلطة في الدولة، بل إن رجالات الإدارة والجيش هم أيضا كان لهم نفوذهم وسلطتهم التي نستشف عظم مداها من خلال بعض الوثائق المرابطية، ومن خلال بعض المعطيات التاريخية حول التسيير الإداري للدولة المرابطية.
فقد تمتع حكام الأقاليم بنفوذ قوي في ظل سلطة محلية مطلقة، ولم تكن تربطهم بالسلطة العليا للـبلاد سوى رابـطة الـولاء ورابـطة القـرابة، بـاعتبار أن هـؤلاء الحكام كانوا على صلة قرابة بالسلطة العليا، مما جعل بعض المؤرخين يصفون النظام المرابطي بكونه نظاما إقطاعيا لا مركزيا().
وبالفعل فقد كان نواب الأمير على الأندلس والمغرب يتمتعون بصلاحيات واسعة جدا، مما جعل من المغرب والأندلس ولاية شبه مستقلة. لقد كان أمير المسلمين يعين نائبا له على المغرب وآخر على الأندلس، وغالبا ما يكون هذا الأخير وليا للعهد، وتكاد سلطة هؤلاء أن تكون مطلقة، فكانوا يولون الولاة ويراقبونهم ويعزلونهم، حيث كتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى أحد نوابه بالأندلس ما يلي: “واستعمل عليها من يرفق بها، ويعدل فيها، وأخرج كل من يحيف عليها، ويؤذيها ومن سبب عليها من عمالك زيادة أو خرق في أمرها عادة أو غير رسما أو بدل حكما أو أخذ لنفسه منها درهما ظلما، فاعزله عن عمله وعاقبه في بدنه”(). وأكثر من ذلك تدخلوا في شؤون القضاء()، حيث روى أن الأمير “سير “نقل القاضي ابن شبرين إلى قضاء إشبيلية.
وتوضح وثيقة أخرى في عهد على بن يوسف حدود صلاحيات ونفوذ النائب التي يبدو أنها كانت شبه مطلقة، ولعل ظروف الحرب المستمرة بالأندلس زادت من توسيع تلك الصلاحيات، حيث يقول أمير المسلمين في إحدى رسائله التي وجهها يوم الأربعاء 17 صفر الخير سنة 520ﻫ، جوابا على رسالة جاءته من نائبه وابنه أبي بكر على الأندلس: “وقد رأينا ـ والله الموفق للصواب ـ أن نقدمك على جميع الجيوش بتلك الجزيرة ـ عصمها الله ـ عموما يشمل من كان هناك منها، ومن وصل من هذه العدوة ـ حرسها الله ـ إليك، وخاطبنا عمالك بالسمع منك والطاعة لك، وأن يطابق كل واحد منهم رأيك، ويوافق عملك..”(). لكنه وانسجاما مع توجهه العام القائم على أساس الشورى، نصحه بالتشاور مع القواد وأهل الرأي من الأجناد، والابتعاد عن الاستبداد().
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن تجاوز نفوذ الوزراء عند الحديث عن نفوذ الأطر الإدارية في الدولة. فقد احتل الوزير مكانة ممتازة في الدولة، “وكان من سمو الهمة بحيث يجلو الظلام العاكر ويخجل الموسم الباكر”(). وكان المرابطون يثقون بوزرائهم ثقة كبيرة ويطلقون أيديهم في الشؤون المالية، وهو ما يتبين من خلال هذا النص الذي أطلق بموجبه أمير المسلمين علي بن يوسف لوزيره أبي محمد بن مالك اليد في التصرف في الأندلس، حيث “أقطعه ماله في الأندلس من خطة وأقعده على تلك المنصة وجد في صرف الشوائب عن حماه ووجه أموالا لرم خلله وحسم علله وإقامة ميله وانتعاش رجله وخيله، ثم خاف أن ينهبها العمال وتتعذر تلك الآمال فقلده فوقها وحمله أوقها ووجهه لبناء الأقطار ونبهه لقضاء تلك الأوطار، فاستقل بها أحسن استقلال ونظم معالمها نظم الآل”().
وعموما، كان الوزير مقربا من السلطة العليا، مطلعا على كل كبيرة وصغيرة، وهو الواسطة بين الأمير وبقية الموظفين بمن فيهم القضاة، بل هو الذي يحدد للعمال والمتصرفين من القباض والخراص وغيرهم الحدود التي يجب أن لا يتعدوها دون زيادة أو جور().
فهل يمكن القول بعد كل هذا إن فقهاء الفروع هم وحدهم من تمتع بالنفوذ في الدولة المرابطية؟ هل بعد كل هذه النماذج الدالة على نفوذ مختلف المفكرين -من غير الفقهاء- مازال بالإمكان مسايرة عبد الواحد المراكشي في تصوره النقدي ضد فقهاء المرابطين، والذي حوله البعض إلى أطروحة مركزية في التاريخ المرابطي؟ ألم يشهد عبد الواحد المراكشي نفسه باحتضان البلاط المرابطي – وخاصة في عهد علي بن يوسف الذي اتهمه بالخضوع لسلطة فقهاء الفروع – لأعيان الكتاب من جزيرة الأندلس، وأن أمير المسلمين صرف عنايته إلى ذلك، حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك؟()
إن الاعتماد على مصادر متعددة وخاصة على كتب التراجم، وتحليل نصوص المراكشي وغيرها، ونقدها نقدا داخليا، قد مكننا من تجاوز كل محاولات تعميم خطاب المراكشي على جميع فقهاء العصر المرابطي، وتقديم صورة مغايرة للسلطة المرابطية وفقهائها. وقد تبين أن مكانة الفقهاء المتميزة، في الدولة والمجتمع معا، لها ما يفسرها من العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية والشرعية، ولكنها لم تكن بتلك الصورة الاستبدادية التي رسمها لهم المراكشي، كما تبين مشاركة مختلف أصناف المثقفين الملتزمين في تسيير الدولة، كل حسب اختصاصه ودرجة الحاجة إليه.
على سبيل الختم
في خاتمة هذا البحث لابد من التأكيد على المكانة السامية للفقهاء في تاريخ الدولة المرابطية، وذلك من خلال اضطلاعهم بأدوار تاريخية ساهمت في تغيير الوجه التاريخي للمغرب الاقصى والغرب الاسلامي عموما. فشكلت إنجازاتهم لبنات متكاملة في بناء المشروع الاصلاحي المرابطي، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
– لبنة التنظير والتخطيط.
– لبنة التأسيس والبناء.
– لبنة التوحيد والجهاد.
– لبنة التزكية والشرعية.
– لبنة التدبيروالتسيير.
– لبنة التوجيه والترشيد.
إلا أن الإشكال الذي يطرح حول وضعية الفقهاء المالكية في الدولة المرابطية يرتبط بمدى توظيف هؤلاء الفقهاء لتكوينهم الشرعي والفقهي بالخصوص من أجل الاستئثار بالنفوذ السياسي والاجتماعي والمادي في الدولة على حساب المبادئ وعلى حساب غيرهم من المفكرين والمثقفين أنصار التيارات الفكرية الأخرى. وفي هذا الإطار، لابد من التأكيد على أن الفقهاء المالكية قد تمتعوا، فعلا، بنفوذ كبير في الدولة المرابطية في عدة مجالات:
النفوذ السياسي للفقهاء
لقد بدت سلطة الفقهاء في كثير من الأحيان، وكأنها فوق سلطة السياسيين، على اختلاف مراتبهم طيلة مراحل الدولة، سواء في مرحلة التأسيس من خلال نفوذ الشيخ عبد الله بن ياسين ودوره المحوري في قيادة الحركة؛ أو في عهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي ظل مفضلا للفقهاء، معظما للعلماء، يصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها برأيهم؛ أو في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف الذي برز نفوذ الفقهاء في عهده بامتياز، حيث كان لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورتهم ؛ واستمر الأمر كذلك حتى نهاية الدولة المرابطية، حيث تزعم كثير من الفقهاء أصحاب النفوذ الاجتماعي الكبير حركات سياسية معارضة للدولة المرابطية، مثل القاضي ابن حمدين والقاضي ابن أضحى وابن الحاج…
 • النفوذ التشريعي للفقهاء
بفضل تكوينهم الفقهي، وبما أن الفقه هو التشريع اليومي لحياة الناس، فقد حظي الفقهاء بمكانة سامية في المجتمع، فكان يلتجأ إليهم للفتوى سواء من طرف السلطة أو عامة المجتمع. وأكثر من ذلك، كان القضاة ملزمين باستشارتهم قبل البث في النوازل التي تعرض على أنظارهم للفصل فيها بين المتخاصمين.
    •    تولي الفقهاء للمناصب والوظائف الهامة في الدولة
بفضل تكوينهم الفقهي، تولى الفقهاء وظائف سامية في الدولة كالقضاء بمختلف مراتبه والشورى، كما مكنهم تكوينهم العلمي من الاحتكاك المباشر بالمجتمع وخدمته سواء من خلال هذه الوظائف أو من خلال ممارسة الفتوى، وخاصة من خلال التعليم الذي أكسب أصحابه تقديرا واحتراما كبيرين في المجتمع. فكانت بعض الوظائف (القضاء مثلا) مصدر سلطة ونفوذ سياسي واجتماعي، وبعض الوظائف الأخرى مصدر نفوذ مالي (التوثيق مثلا)، وأخرى مصدر نفوذ اجتماعي (التعليم مثلا). وقد وجد كثير من الفقهاء الذين كانت تجتمع فيهم هذه المصادر الثلاثة للنفوذ السياسي والاجتماعي والمالي، فبدوا مستفيدين من الوضع القائم دون غيرهم من المفكرين والمثقفين.
ولتفسير هذه الظاهرة تبين لنا أنها ترجع إلى عدة عوامل متجذرة في التاريخ منها:
    •    الأصول التاريخية لنفوذ الفقهاء المالكيين بالأندلس
فمنذ استقرار المذهب المالكي بالأندلس وعبر مختلف مراحل تاريخ الاندلس حتى العصر المرابطي، احتل الفقهاء المالكيون مكانة متميزة في الدولة والمجتمع، مما جعلهم يحظون بتقدير كبير سواء من طرف السلطة أو المجتمع. لذلك فإن مكانة الفقهاء في الدولة المرابطية هي تتويج لمسار تاريخي طويل، وهذا معناه أن الحديث عن نفوذ الفقهاء في العصر المرابطي بمعزل عن جذوره التاريخية منذ أن تشكلت فئة الفقهاء المالكيين في الأندلس سيظل حديثا ناقصا.
    •    الأصول الاجتماعية لكثير من الفقهاء المرابطين الذين تولوا المناصب العليا في الدولة
إن النفوذ الكبير لبعض الفقهاء القضاة في العصر المرابطي لم يكن وليد ذلك العصر، بل كان مجرد استمرار لما حظيت به أسرهم من نفوذ اجتماعي متأصل تاريخيا قبل العصر المرابطي. ولذلك فحتى الثروات التي كان يملكها هؤلاء لم تكن وليدة الوظائف التي قاموا بها في هذه الدولة، ولكنها استمرارا لتراكمات حققتها هذه الأسر عبر السنين، ومن هذه الأسر والعائلات: عائلة بني الملجوم، وعائلة اللواتي الفاسيتين؛ وعائلة بني عشرة السلاوية، وعائلة بني سمجون الطنجية؛ وعائلات عياض وبني العجوز وبني يربوع السبتية، وعائلات بني حمدين وبني رشد وبني عتاب وبني الحاج القرطبية، وعائلات بني العربي وبني شريح وبني الجد الاشبيلية، وعائلات الصدفي والطرطوشي السرقسطية، وعائلات بني أضحى وبني عطية الغرناطية، وغيرها كثير. لقد توارثت هذه العائلات العلم والمناصب والجاه والثروة جيلا عن جيل، بل لقد استمر نفوذ الكثير من هذه العائلات حتى بعد العصر المرابطي، أي خلال العصر الموحدي.
    •    الحاجة الملحة للفقه كتشريع يومي للحياة العامة للمسلمين
نظرا لطبيعة المجتمع المسلم الملزم بضرورة احترام الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة، فقد كان لابد من الفقه والفقهاء، فهم الذين يفصلون في كل النـزاعات والخصومات سواء من خلال القضاء أو من خلال الفتوى. وفضلا عن كل هذا وذاك فهم الذين يعلمون الناس دينهم في المساجد وخارج المساجد، وهم الذين تشرئب إليهم أعناق الطلبة لتلقي العلم، ومن ثم كان الفقيه في المجتمع بمثابة الطبيب أو أكثر. ولم يكن ذلك حالة خاصة بالمجتمع المغربي والأندلسي، بل في كل المجتمعات الإسلامية، فالظاهرة لا ترتبط بزمان ومكان خاصين، بل هي ظاهرة عامة من صلب طبيعة المجتمع المسلم.
    •    طبيعة الدولة المرابطية كدولة سنية مالكية
كان للفقهاء الدور المركزي في نهوضها واستمراها وتدبيرها. وقد كان حكام الدولة المرابطية أمراء المسلمين على وعي بهذا الدور وبأهمية الفقهاء في النهوض الشامل للدولة المرابطية، لذلك تنافسوا في تقدير الفقهاء واحترامهم وتوفير فرص العيش الشريف لهم، دون ان يكون ذلك ضعفا منهم، بل على العكس من ذلك كان أمرا طبيعيا بالنظر إلى تكوينهم في أحضان فقهاء المالكية ورعايتهم لهم.
    •    مركزية دور الفقهاء في إدارة الشأن العام بالنسبة للسلطة
كان الفقهاء بالنسبة لأي سلطة مصدر الشرعية، فهم الذين يضفون الشرعية أو ينفونها على حاكم ما مهما كانت قوته وسطوته. وبالنسبة للمرابطين كان للفقهاء دور محوري في انتقال السلطة وشرعنتها من خلال البيعة، وفي إدارة الشؤون العامة للدولة من خلال القضاء والشورى والديبلوماسية.
إلا أن الإقرار بالنفوذ القوي للفقهاء في الدولة والمجتمع في العصر المرابطي لا يعني الإقرار المطلق بما تقدمه تلك الأطروحات النقدية التي أسست عليها إشكالية هذا البحث. وأعتقد أن مما يهدم مصداقية هذه الأطروحات هو مبدأ التعميم الذي تبنته، حيث أصبح الاستثناء هو القاعدة، والقاعدة استثناء، بل لم تتحدث اطلاقا عن الاستثناء. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض المواقف والاطروحات تفقد مصداقيتها عندما نستحضر الخلفية التي تحرك أصحابها، مثل أطروحة ابن تومرت ضد الفقهاء المرابطين، التي تنطلق من منطلق سياسي محض هدفه الانقلاب على الدولة المرابطية والإطاحة بها. فوعيا منه بأهمية الدور المحوري للفقهاء في بناء الدولة المرابطية، فقد وجه حربه الإعلامية، أولا، بحدة قوية جدا إلى الفقهاء، لأن تشويه الفقهاء، حتما، سيؤدي إلى عزلهم عن المجتمع، وبالتالي خلق رأي عام معارض، مما يسهل محاربة الدولة المرابطية سياسيا وعسكريا، ومن ثم شرعنة الإطاحة بها. أما أطروحة المراكشي في “المعجب”، فتحمل في طياتها نقيضها. فعبد الواحد المراكشي الذي قال بهيمنة فقهاء الفروع على الدولة واستبدادهم بتسيير الشأن العام وكسبهم المال والجاه والنفوذ بفضل ذلك الاستبداد، هو نفسه يقول بحضور قوي لأصناف المثقفين في أحضان الدولة المرابطية. وهكذا نذكر بما قاله عن عهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين: “فانقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم… واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار…”(). كما نذكر بنص آخر للمراكشي يتحدث فيه عن أمير المسلمين علي بن يوسف، حيث يقول: “ولم يزل أمير المسلمين من أول إمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس، وصرف عنايته إلى ذلك؛ حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك، كأبي القاسم بن الجد المعروف بالأحدب، أحد رجال البلاغة، وأبي بكر محمد بن محمد المعروف بابن القبطرنة، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأخيه أبي مروان، وأبي محمد عبد المجيد بن عبدون… وكان من أنبههم عنده، وأكبرهم مكانة لديه: أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال، وحق له ذلك؛ إذ هو آخر الكتاب، وأحد من انتهى إليهم علم الآداب، وله مع ذلك في علم القرآن والحديث والأثر وما يتعلق بهذه العلوم الباع الأرحب، واليد الطولى”().
ومن عناصر ضعف أطروحة المراكشي كذلك، سقوطه في خطأ التعميم، حيث انطلق من حالة واحدة، وهي إحراق إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، ليقرر حكما عاما وهو مناهضة الدولة لعلم الكلام واضطهاد أنصاره تحت ضغط الفقهاء، هذا إذا سلمنا-على سبيل الافتراض-أن إحراق الإحياء تحكمت فيه دواعي عقدية. كما سقط في التعميم حين قرر أنه “لم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من علم الفروع”(). إذا كان ذلك صحيحا، فأين سنصنف ذلك العدد الهام من علماء الكلام، وخاصة الذين تولوا مناصب عليا في الدولة، كالقضاء والشورى وغيرهما، مثل أبي بكر المرادي وأبي عبد الله بن الرمامة…؟
ومن عناصر ضعف هذه الأطروحة كذلك، مناقضتها لمنطق الشورى كمبدإ إسلامي في الحكم عند ما يتعلق الأمر بوصف نفوذ الفقهاء في مجال القضاء باعتباره استبدادا. فقد اعتبر المراكشي أن إلزام القضاة باستشارة الفقهاء قبل البت في الحكم من نقائص العصر المرابطي، فهل يعد هذا فعلا أمرا سلبيا؟ ألا يمكن أن يكون ذلك خطوة متقدمة في مجال نزاهة القضاء ومصداقية أحكامه ما دامت تخضع لاجتهاد أربعة فقهاء بالإضافة إلى القاضي الذي هو أصلا فقيه؟ فهل الأفضل أن تتداول خمسة عقول في قضية واحدة أم يترك المجال لعقل واحد لإصدار الحكم؟() ومن مجال القضاء نعمم القول على باقي مرافق الدولة، فهل تعد استشارة الفقهاء أمرا مخلا بالسير العادي للشؤون العامة للدولة والمجتمع، أم أمرا مقوما وموجها لها؟ هل يمكن أن يقوم بوظيفة الفقيه غير الفقيه، كالأديب أو الشاعر أو غيره من المفكرين؟
فالدولة المرابطية تعاملت مع أهل الفكر وفق منطق الاختصاص، وحسب حاجيات الدولة والمجتمع. ومن الممكن القول بتراجع مكانة بعض المفكرين لصالح البعض الآخر حسب طبيعة الدولة، ولكن لا يمكن الحكم بالاقصاء التام للجميع باستثناء الفقهاء. فمكانة الأدباء والشعراء مثلا، لم تعد كما كانت عليه في عصر ملوك الطوائف، حيث كان للشعر، مدحا وهجاءا ونفاقا، الكلمة الأولى تحت سلطة ملوك ضعاف وانتهازيين، لم تكن تهمهم سوى مصلحتهم الخاصة أي البقاء في عروشهم بأي ثمن كان، ولو على حساب المقدسات الشرعية والوطنية والقومية، في حين تغير الأمر في الدولة المرابطية تحت سلطة أمراء، كانوا أقرب إلى الزهاد المتبتلين منهم إلى الحكام المتغلبين.
وبناء على ذلك يبدو أنه من الضروري الإدلاء بالخلاصات التالية:
1 ـ لم يشكل فقهاء المالكية طبقة اجتماعية متميزة عن غيرها من طبقات أو شرائح المجتمع، موحدة من حيث المصالح والأهداف. ذلك أن فئة قليلة جدا من الفقهاء هي التي كانت أكثر استفادة من الوضع القائم وخاصة قضاة الجماعة، في حين كانت غالبية الفقهاء بمن فيهم كثير من القضاة يكابدون شظف العيش، ولم يكونوا من خاصة المجتمع من الناحية المادية، رغم أنهم كانوا من نخبته العلمية والفكرية، وذلك بسبب ما كان يغلب عليهم من سلوكات الزهد في الحياة المادية وفي المناصب. ولذلك رفض الكثير منهم الاستمرار في مناصب مغرية كالقضاء، وتخلوا عنها رغم مداخيلها المربحة، ورفض آخرون تولي هذه المناصب أصلا ولو أدى بهم الأمر إلى التعرض للعقاب، وتفرغوا للتدريس خدمة للمجتمع والعلم، رغم ما كان فيه من شظف العيش.
2 ـ لم يشكل الفقهاء المالكية تيارا فكريا منغلقا على نفسه، موحد الرؤى والتصورات، إلا في الحدود الدنيا من حيث الاعتزاز بالانتماء إلى المذهب المالكي كمذهب فقهي، ولكن مع تباينات واختلافات كبيرة فيما بينهم من حيث درجة تكوينهم الفكري ومواقفهم من جملة من القضايا والإشكالات الفكرية التي واجهتهم، ومنها مثلا قضية كتاب الإحياء.
3 ـ إن علاقة السلطة السياسية العليا المرابطية بالمفكرين لم تكن كما صورها المراكشي الذي تحدث عن استئثار فقهاءالفروع بالنفوذ السياسي والاجتماعي والمادي في الدولة، على حساب باقي المفكرين بمن فيهم الأصوليون والأدباء والشعراء… بل لقد تصدر الكثير من هؤلاء المناصب السامية في الدولة، فكان منهم الكتاب والقضاة والمشاورون…
4 ـ لا يمكن الحديث عن التوافق المطلق بين مواقف السلطة والفقهاء: فرغم أن السلطة كانت حريصة على تنفيذ فتاوى الفقهاء وتحويلها إلى أوامر وتعليمات سياسية تسخر لها كل أجهزتها لتنفيذها، فإن الكثير منهم كانوا عكس ذلك، متحررين من ضغط السلطة، ولذلك وجدناهم يعارضون أشهر فتوى في العصر المرابطي والمتعلقة بإحراق كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي. ومما يدل على ذلك كذلك تعرض كثير من الفقهاء المالكيين للامتحان من طرف السلطة المرابطية، ولم يكن ذلك مقتصرا فقط على غير المالكيين أو غير الفروعيين، مثل الصوفية والمتكلمين وغيرهم. ولكن مع محدودية هذه الظواهر، يمكن القول إن العلاقة بين الطرفين لم تبرز على شكل صراع بين كتلتين، بل على صورة توزيع للمهام: فالسلطة مدعومة بغالبية الفقهاء المالكية كانت تحاول الحفاظ على التلاحم الفكري، وإرساء وحدة الأندلس في إطار الإسلام السني المالكي، أما النخبة من رجال العلم فقد تابعت متطلبات التعميق الفكري الذي هب على المالكية منذ الباجي()، وبذلك تكاملت أدوارهم، ولم يكن بإمكان أي طرف أن يستغني عن الآخر.
5 – لا يمكن أن نعفي الفقهاء تماما من بعض الأوصاف التي أوردها المراكشي وغيره في حقهم سواء على المستوى الفكري أو المستوى الاجتماعي والسياسي. فقد أكدت أبحاث أخرى وجود تيار كبير من فقهاء التقليد بالمغرب والأندلس في العصر المرابطي، كما أكدت مواقف كثير من الفقهاء القضاة من الدولة المرابطية وهي تواجه إعصار الموحدين بالمغرب أكدت انتهازيتهم المطلقة عندما أعلنوا انقلابهم عليها والتجاء بعضهم إلى التحالف مع النصارى في سبيل تحقيق طموحاتهم(). ويعز علينا أن نختم البحث بالاشارة إلى هذا الانحراف القيمي عند بعض الفقهاء، لنـذكر بنموذج من الفقـهاء المخلصين للمبادئ الـدينية والـشرعية الـسياسية ألا وهـو القاضـي عياض :.

ببيلوغرافيا البحث

المصادر
    •    ابن الأبار القضاعي، محمد بن عبد الله (ت658ﮬ/1210م): التكملة لكتاب الصلة، تح كوديرا وريبيرا، طبعة مدريد ، 1886-1887/ طبعة القاهرة في جزءين 1-2 ، تحقيق عزة العطار الحسيني، مكتبة الخانجي، مصر، 1955/ طبعة القاهرة، تحقيق إبراهيم الأبياري، القاهرة، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1983 /طبعة البيضاء في 4ج، تحقيق د. عبد السلام الهراس، دار المعرفة، البيضاء، 1996.
    •    ابن الأبار: المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي، دار صادر، بيروت، د.ت.
    •    ابن الأبار: الحلة السيراء، ج2، تحقيق د. حسين مؤنس، الشركة العربية للطباعة، القاهرة، 1963.
    •    ابن الأحمر، إسماعيل: بيوتات فاس الكبرى، دار المنصور للطباعة والنشر، الرباط، 1972.
    •    ابن ابي زرع الفاسي: الأنيس المطرب بروض القرطا س في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1972.
    •    ابن بشكوال: كتاب الصلة، نشر عزت العطار الحسيني، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط.2، 1994.
    •    ابن الكردبوس: الاكتفاء في أخبار الخلفاء، تحقيق: أحمد مختار العبادي، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، المجلد 13، 1965-1966.
    •    ابن عياض، أبو عبد الله محمد بن القاضي عياض اليحصبي: التعريف بالقاضي عياض، تحقيق محمد بن شريفة، مطبعة فضالة المحمدية، 1982.
    •    ابن الخطيب، لسان الدين: أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلال من ملوك الإسلام، قسم الأندلس، نشر ليفي بروفنسال بعنوان: تاريخ إسبانيا الإسلامية، 1956.
    •    ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط، 3، 1978.
    •    ابن عطيـة المحاربي الاندلسي، أبو محمد عبد الحق (ت541ﮬ): فهرس ابن عطية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1980-1400.
    •    ابن طملوس، ابو الحجاج يوسف: كتاب المدخل لصناعة المنطق، المطبعة الأبيرقة، مدريد، 1916.
    •    ابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1972.
    •    ابن الزيات، أبو يعقوب يوسف بن يحيى النادلي(ت617ﮬ): التشوف إلى رجال التصوف، تحقيق أحمد التوفيق، الرباط، 1984.
    •    ابن بشكوال، أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود الخزرجي الأنصاري القرطبي(494-578ﮬ/1100- 1183م): كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1966.
    •    ابن بلقين، عبد الله: كتاب التبيان للأمير عبد الله بن بلقين آخر أمراء بني زيري بغرناطة، تحقيق أمين توفيق الطيبي، منشورات عكاظ، الرباط، 1995.
    •    ابن العريف، أبو العباس: مفتاح السعادة وتحقيق طريق السعادة، تحقيق عصمت دندش، دار الغرب الإسلامي، الطبعة 1، 1993.
    •    ابن عبد الملك المراكشي: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، س 8، ق2، تحقيق محمد بن شريفة، منشورات أكاديمية المملكة، الرباط، 1984.
    •    ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب، ج 4، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، ط.2، 1980.
    •    ابن خلكان، شمس الدين: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج.7، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1994.
    •    المرادي، أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي: السياسة أو الاشارة في تدبير الإمارة، تقديم المحقق الدكتور سامي النشار، البيضاء، 1981.
    •    المراكشي، عبد الواحد: المعجب في تلخيص اخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، دار الكتاب، الدار البيضاء، الطبعة 7،.1978.
    •    المقري، أبو العباس أحمد بن محمد شهاب الدين التلمساني: أزهار الرياض في أخبار عياض، ج3، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، الرباط، 1978.
    •    اليحصبي، أبو الفضل القاضي عياض: الغنية، فهرست شيوخ القاضي عياض 476- 544/1083-1149، تحقيق ماهر زهير جرار، دار الغرب الاسلامي، بيروت، ط.1، 1982-1402.
    •    اليحصبي، القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعيان علماء مذهب مالك، ج8.، تحقيق سعيد أعراب، بتطوان، 1983.
    •    الحميري، محمد بن عبد المنعم (ت727ﮬ): الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق د. احسان عباس، دار صادر. ببيروت، 1975.
    •    مجهول: الحلل الموشية في ذكر الاخبار المراكشية، تحقيق سهيل زكار وعبد القادر زمامة، دار الرشاد الحديثة، ط.1، 1979.
    •    النويري: تاريخ المغرب الإسلامي في العصر الوسيط، من كتاب: نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقبق مصطفى أبو ضيف أحمد، الدار البيضاء، 1985
    •    ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 10، دار صادر، بيروت، بيروت 1982.
    •    ابن خاقان، أبو نصر الفتح: قلائد العقيان في محاسن الأعيان، قدم له ووضع فهارسه محمد العنابي، تونس، 1966/ تحقيق د. حسين يوسف خربوش، مكتبة المنار، الأردن، 1989/ طبعة أخرى غير محققة.د.ت.
المراجع الحديثة
    •    ابن إبراهيم المراكشي، العباس: الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الاعلام، ج 4، مراجعة عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، 1413-1993.
    •    ابن بيه، محمد محمود عبد الله: الأثر السياسي للعلماء في عصر المرابطين، دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع، جدة السعودية، ودار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2000.
    •    ابن عبود، امحمد: التاريخ السياسي والاجتماعي لإشبيلية في عهد دول الطوائف، تطوان، 1983.
    •    ابن عبود، امحمد: جوانب من الواقع الأندلسي في الأندلس في القرن الخامس الهجري، تطوان، 1987.
    •    أحمد محمود، حسن: قيام دولة المرابطين صفحة مشرقة من تاريخ المغرب في العصور الوسطى، دار الفكر العربي، مصر، ط.2، 1996.
    •    عباس الجراري: “قضايا مرابطية في منظور بعض المستشرقين”، ضمن: المغرب في الدراسات الاستشراقية، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 1995.
    •    عمار الطالبي، آراء أبي بكر بن العربي الكلامية ج 2، الجزائر، 1974.
    •    عزاوي، أحمد: رسائل موحدية مجموعة جديدة، تحقيق ودراسة أحمد عزاوي، منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية بالقنيطرة سلسلة: نصوص ووثائق رقم2، مطبعة النجاح الجديدة، ط.1، 1995.
    •    دندش، عصمت: الأندلس في نهاية المرابطين ومستهل الموحدين، عصر الطوائف الثاني 510ﮬ: 546ﮬ/1116م:1151م تاريخ سياسي وحضارة، دار الغرب الاسلامي بيروت، ط.1، 1408، 1988.
    •    دوزي، رينهرت: المسلمون في الاندلس، ترجمة د.حسن حبشي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، ج.3، ص.161؛ انخل جنثالت بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة د. حسين مؤنس، ط.1، مكتبة النهضة المصرية للقاهرة، 1955.
    •    بل، ألفرد: الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الاسلامي، ط.3، 1987.
    •    عنان، محمد عبد الله: عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس (القسم الثاني)، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1964.
    •    الركـابي، جودت: في الادب الاندلسي، دار المعارف، مصر، 1960.
    •    النجار، عبد المجيد: المهدي بن تومرت أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي السوسي المتوفى سنة524ﮬ/1129 حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره بالمغرب، دار الغرب الاسلامي، بيروت، ط.1، 1983-1403.
    •    العروي، عبد الله: مجمل تاريخ المغرب، ج 2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، ط.1، 1994.
    •    القادري بوتشيش، إبراهيم: أثر الإنقطاع في تاريخ الأندلس السياسي من منتصف القرن الثالث الهجري حتى ظهور الخلافة 250-316ﻫ، منشورات عكاظ، 1992.
    •    الناصري، أحمد بن خالد: الاستقصا لأخبار دول المغرب الاقصى، ج 2.، الدار البيضاء، 1954.
    •    حركات، إبراهيم: النظام السياسي والحربي في عهد المرابطين، منشورات مكتبة الوحدة العربية، البيضاء، د.ت،.
    •    بنسباع، مصطفى: السلطة بين التسنن و”التشيع” والتصوف ما بين عصري المرابطين والموحدين، تطوان، 1999.
    •    شعيرة، محمد عبد الهادي: المرابطون تاريخهم السياسي، ط1، القاهرة، 1969.
    •    دندش، عصمت: دور المرابطين في نشر الاسلام في غرب إفريقيا 430-515ﻫ 1038-1121م مع نشر وتحقيق رسائل أبي بكر بن العربي، ط.1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1988.
    •    مكي، محمود علي: وثائق تاريخية جديدة عن عصر المرابطين، صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، م.7، 1959.
    •    مكي، محمود علي: وثائق تاريخية جديدة عن عصر المرابطين (الرسالة التاسعة) صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، م.7، 1959.
    •    سالم، السيد عبد العزيز: تاريخ مدينة ألمرية قاعدة أسطول الأندلس، نشر مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر، 1984.
    •    مؤنس، حسين: سبع وثائق جديدة عن الدولة المرابطين وأيامهم في الأندلس، صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، ع 1-2. م 2، 1373-1954.
    •    عنان، محمد عبد الله: عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس، (القسم الأول، الكتاب الثالث). ط.1، القاهرة. 1964.
    •    مؤنس، حسين: شيوخ العصر في الاندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1965، ص. 26.
    •    الجابري، محمد عابد: ابن رشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط.1، بيروت 1998.
    •    المغراوي، محمد: مساهمة في دراسة النظم بالغرب الإسلامي: خطة القضاء بالمغرب في الدولة الموحدية 515-668ﻫ/1121-1269م، إشراف د. محمد زنيبر، كلية الآداب الرباط، 1987.
    •    أعراب، سعيد: مع القاضي أبي بكر بن العربي، دار الفكر الإسلامي، بيروت ط1، 1987.
    •    أومليل، علي: السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط.1، 1996.
    •    المنوني، محمد: “إحياء علوم الدين في منظور الغرب الإسلامي أيام المرابطين والموحدين”، ضمن: أبو حامد الغزالي دراسات في فكره وعصره وتاثيره، منشورات كلية الآداب بالرباط، سلسلة، ندوات ومناظرات رقم 9، 1988.
    •    مؤنس، حسين: نصوص سياسية عن فترة الانتقال من المرابطين إلى الموحدين، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، ع 3/1374-1955.
    •    القبلي، محمد: “رمز الإحياء وقضية الحكم في المغرب الوسيط”ضمن: أبو حامد الغزالي، دراسات في فكره وعصره وتأثيره، منشورات كلية الآداب بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 9، 1988.
    •    النجار، عبد المجيد: المهدي بن تومرت أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي السوسي المتوفى سنة524ﮬ/1129 حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره بالمغرب، دار الغرب الاسلامي، بيروت، ط.1، 1983-1403.
    •    النجار، عبد المجيد: فقه الإصلاحيين التربية السياسية (ابن العربي وابن تومرت نموذجا)، ط1، الرباط، 1997.
    •    بدوي، عبد الرحمن: مؤلفات الغزالي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية، 1977.
    •    حمدي، عبد المنعم: تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين، الإسكندرية، 1987.
    •    التازي، عبد الهادي: القاضي عياض بين العلم والسياسة، ضمن مجلة المناهل، ع 19.
    •    G. Marçais، La Berbérie musulmane et l’Orient au moyen âge ، Paris، 1946.
    •    E. LEVI- PROVENÇAL، Reflexions sur l’Empire Almoravide au debut du XII Siècle، Faculté d’Alger، 1932.
    •    R. Dozy، Histoire des Musulmans d’Espagne، Leyden، 1932، T. 3.
    •    DOMINIQUE URVOY; le Monde des Ulémas Andalous، Genève، 1978.