الرئيسية / منظومة الخلافيات في الفقه: تأليف أبي الحفص النسفي.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : منظومة الخلافيات في الفقه: تأليف أبي الحفص النسفي.

الكاتب(ة) : د. عبد الهادي التــــــــــازي

تأليف أبي حفص النسفي  ( ت 537 هـ / 1142م)  تقديم  د.  عبد  الهادي  التازي ، عضو  أكاديمية  المملكة  المغربية.

  ما كان ابن بطوطة جاهلا أبدا ولا محدود الثقافة ولا مدعيا ما ليس عنده، لقد كان عالما وعلى بصيرة تامة بثقافة أهل زمانه، صادقا فيما يرويه من معلومات، يدلك على ذلك – ونحن نتحدث عن منظومة الخلافيات – أنه أي ابن بطوطة، وهو يحكي عن سفره من سمرقند أنه اجتاز بلدة نسف (من بلاد السند)، وهنا تذكر أحد الأعلام الذين ينتسبون لهذه البلدة، وهو أبو حفص عمر بن محمد النسفي الذي أدركه أجله سنة (537هـ – 1142 م)، ولم يقتصر أمر ابن بطوطة على تذكر شخص هذا العالم الجليل ولكنه تجاوزه إلى تذكر تأليفه العظيم: المنظومة في المسائل الخلافية بين الفقهاء الأربعة رضي الله عنهم..

  وقد شدتني هذه الفقرة من رحلة ابن بطوطة – عندما كنت أقوم بتحقيقها أواسط التسعينيات–، شدتني أساسا إلى المؤلف والتأليف معا، ومن هنا كان لزاما أن نعرف عن هذا «النسفي» الذي ليس هو بحال النسفي المفسر أبا البركات عبد الله بن أحمد بن محمد المتوفى سنة (710هـ – 1310م) الذي سيقوم بشرح منظومة سلفه أبي حفص في تأليف مخطوط يحمل اسم «المصفَّى».

  النسفي هذا أبو البركات معروف في مجالسنا العلمية بالمغرب لأن تفسيره متداول الاستعمال عند مشايخنا بالأمس في كل جهات المغرب، وقد كان من التفاسير المحببة لدى شيخنا الراحل السيد المدني ابن الحسني رحمه الله، وكان يدرسه بالجامع الكبير من مدينة الرباط.

  أما النسفي أبو حفص، فهو مع تأليفه قليلُ الذكر في بلاد المغرب، ولم يكن ذلك غريبا علينا لأن الرجل حنفي المذهب، وتعامُل المغاربة مع الحنفية تعامل محدود كما هو معلوم.

  وقد ترجم لأبي حفص هذا غير واحد ممن اهتموا بتراجم الرجال، وقد اختصرت ترجمته عند تحقيقي لابن بطوطة()، على هذا النحو القريب من أسلوب البرقيات! قلت هو نجم الدين عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي، عالم بالفقه والأدب والتاريخ من فقهاء الحنفية، له نحو مائة مصنف منها منظومة الخلافيات، وهي رجز في الفقه تتألف من تسعة وستين وستمائة وألفي (2669) بيت! هذا إلى تأليف له يحمل عنوان: «القِـنْد في علماء سمرقند» من عشرين جزءا، وله تأليف «الإشعار بالمختار من الأشعار» من عشرين جزءا كذلك، ولقد ذكرت هذين التأليفين على الخصوص لنعرف معنى وصف الرجل بأنه عالم بالأدب وعالم بالتاريخ إلى جانب علمه بالفقه… وقد كان يلقب بمفتي الثقلين..!

  وقد أغرتني ترجمته بالبحث عن التأليف نفسه الذي ذكره ابن بطوطة، وحرصت أثناء وجودي بالقاهرة لحضور أعمال مجمع اللغة العربية في مارس 1996، على الحصول على المخطوطة التي كانت بدار الكتب والتي صحبتها معي إلى جولتنا بـ«مرسى مطروح» ثم واحة «سيوة»، فكانت مشغلتي التي شغلت بها أيضا زملائي في الرحلة!!

  وهكذا وبمساعدة هيأة دار الكتب وجدت نفسي أمام هذا التراث الفقهي العظيم الذي لم أتردد في إثبات الصفحة الأخيرة منه في المجلد الثالث من تحقيقي للرحلة إمعانا في التنبيه إليه، لأنه مجهود يستحق فعلا إثارة الانتباه له، إنها ألفان وستمائة وتسعة وستون بيتا تختصر بأسلوب سهل جذاب المسائل الخلافية بين الفقهاء الأربعة.

 وإذا ساغ لي أن أحدد الجهة التي أعتمد عليها في متابعة هذا التأليف الجليل القدر وملاحقته، فهي جهة طلبة جامعة القرويين وفروعها في مختلف أنحاء المغرب، وهي جهة دار الحديث الحسنية… على مثل هذه الجهات أن تعنى بتحقيق هذا التراث في الفقه العالي.

 وقد كان لهذا المخطوط مكانة في غرفة نومي منذ بضع سنوات فكنت أرجع إليه بين الفينة والأخرى أجد فيه نوعا من الحنين إلى الماضي، إلى الأيام التي كنا فيها غارقين مع ابن رشد في بداية المجتهد!

 قد عالجت الأرجوزة كل أبواب الفقه… فهنا كتاب الوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، والنكاح، والطلاق، والأيمان، والحدود، والسرقة، والسير، والوديعة، والشركة، والصيد، والذبائح، والوقف، والهبة، والبيوع، والقرض، والقسمة، والإجارة، وما يتعلق بأدب القاضي، والشهادات، والإقرار، والوكالة، والكفالة، والحوالة، والصلح، والرهن، والمزارعة، وكتاب الأشربة، والإكراه، والحجر، والديات، وما يتعلق بأحكام الخنثى، والوصايا، والفرائض، والشفعة الخ…

وقد تناولت المنظومة بعض القضايا الطريفة مما أخذ النسيان يطغى عليه اليوم، وأذكر منها على سبيل المثال ما راج في بعض الجهات عن شرعية أو عدم شرعية تطليق الزوج “المرتد” من زوجته المسلمة ولو أنها كانت راضية بحاله راكنة إليه..

   وردة الزوج طلاق زوجتـــــــه      وهي لدى الشيخين فسخ عقدتـــــه!

هذا إلى التجارة في عظام الفيل مثلا:

   ولا يجوز بيع عظم الفيـل    والانـــتفــــاع مـــنـــه بالقليـــــــــــل!

  وكان من الموضوعات المطروقة في التأليف موضوع الحيل الذي نعلم أن البخاري خصص له كذلك مبحثا على حدة… هل تجوز الحيل في الشرع دائما على ما يراه أبو حنيفة النعمان، أو تمنع دائما على ما يراه الإمام الشافعي، أو إنما يجوز منها ما لم يهدم قاعدة شرعية على ما يراه الإمام مالك؟.

   لو قال لا أدخل بغداد فــــــــمَر   في الفلك في الماء ولم يخرج هدر!
     لو قال : لا أنكح عرسا بنسف    وزوجــوه امــرأة حـيـث وصـــــــــــــــف
   وهي ببلخ فأجازته بهــــــــــــا    لم يـكن حِـنثا والشـراء هكـــــــــــــــــــذا
ولنذكر كذلك الفقه المعروف في كتاب الشهادات بالنسبة للمرأة:
   وليس للأنثى مع الرجــــــــــال      شهادة فيها سوى الأمــــــــــــــــــــــوال!
وحول لعب الشطرنج تقول الأرجوزة:
   واللعب بالشطرنج لا بأس بــه       ولا يـباع الـروث فـي مذهبـــــــــــــــــه
وفي معرض أن المرء حر فيما يملكه:
   ونــافذ تــصرف الـمبـــــــــــــذر  فـي ماله بالشرع ما لم يحجــــــــــــــــــــر!

كنت أريد أن أتتبع غضون الأرجوزة، وهي موسوعة من الموسوعات الفقهية الكبرى، ولكن قصدي كان فقط إلى لفت النظر إليها بما تحتضنه من فقه عالي السند، صافي المنهل، كثيرا ما يردد فيه أسماء الأئمة الأربعة واسم الإمام علي الشيباني…

وقد كان من أهم ما لفت نظري في الأرجوزة حديثها عن العلاقات بين المسلمين وغيرهم، ويعالجها إسلامنا عادة في كتاب السير…

    ودار أهــــل الحرب والإســــلام    واحـــــدة فــي جـــــملة الأحـــكـــــــام
   ومنــه لا عـــصمة للأقـــــــــوام    بالـــدار، لكـــن هــــي بالإســــــــــــــلام
   والــتــرك والــديــلـــم والـــهــنود    قـــبولنا جــــــزيـتهم مـــــــــــــــــــــردود
وتهتم الأرجوزة أيضا بما أشارت إليه بعض الرحلات الحجازية فيما يتصل بخطبة الإمام يوم التروية ليعرف الحجاج بما لهم وبما عليهم…

   ويــــخطب الإمام يوم الترويـــــــة    ويـــــوم تعريـــــف ويوم تــــــضحيـة
وفي باب الصلاة يشير النسفي إلى استعمال اللغات بالنسبة لمن لا يعرفها:

   ولـــو تــــــلا بالفارسي سجــــده    تـــلزم مـــــن لم يفهموها عنــــــــــــده!

هذا وتبدأ الأرجوزة المتحدث عنها هكذا :
    بـســـــــم الإله رب كــــل عبـــــد    والــحــــــمد لله ولــــــــــــــــي الحمــــد
   ثــــــــم التحيـــات بــغــير عـــــدد    علــــــى النبـــــي المصطـــفى مـحمـــد
وبعد أن يشرح النسفي منهاجه في التأليف يقول:
    ثــــم فتــاوى مــــالك بن أنــــــس    وهــــو لأهل الفـــــــقه خير مؤنـــــس!
وكان مما ورد في آخر الأرجوزة ما يلي:
   ومــــا لذمي دخــــول الـمسجـــــد    لـــكنه يـــــــمنع فاحــــــــفـظ وأجهـــــــد
   ونـحن لا نرضى بــــــذا الجــــــــواب    وربـــــــنـــا أعـلم بالصــــــــــــــــــــــــواب
   قد انــــــتهى “نــــــظم الخلافيــات”  والـــحــــــمد لله عــــــــــلى الحــــــــالات
   ثم الصلاة والســـــلام أبــــــــــــــدا    عــلى الـــــــنبي الهاشـــــــمي سرمــدا
   وصاحب النظم أبو حفص عمــــــــــر    مــــن نســـف أتــــم هـــذا فـــي صــفـــر
   في النصف يوم السبت وقت التغذية  فـــــي ســـنــة الأربع والـــخمس مـــــائة
   وجــــملة الأبـــيات يا صدر الفئــــــة    ألـــفـــان والــــستون والستمــــــــــــائـــة
   وتــسعة، والله يـــجزي ناظــــمــــــه    جـــنات عـــــــــــدن وقـــــــصورا ناعمـــــه

تلك نظرة على هذا المخطوط أشفقت عليه أن يبقى غريبا في مكتبي دون أن أمتع الآخرين بالحديث عنه والتعريف به، فمن شاء من أهل الخزانات المغربية الكبرى ساعدته على تصويره بواسطة مؤسسة “مرام” من مدينة العرفان.

وأخيرا أجدد شكري لدار الكتب المصرية التي عملت لإرضاء رغبتي في الحصول على المخطوط الذي يرجع الفضل الأول في تنبيهي إليه إلى مواطن من طنجة يحمل اسم ابن بطوطة في رحلته «تحفة النظار».