الرئيسية / من مجموعة علمية إلى مجتمع علمي : السياق التاريخي والعوامل والأسس

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : من مجموعة علمية إلى مجتمع علمي : السياق التاريخي والعوامل والأسس

الكاتب(ة) : د. عبد الرزاق وورقيــــــة

  تهدف هذه الورقة إلى معالجة إشكال تاريخي يتمثل في قياس الـمسافة بين مجموعة علمية والتي تعتبر الشرط الأساسي والضروري لقيام مشاريع علمية وتكامل معرفي بين مضمون النص الـمتمثل في الوحي وتجلياته التطبيقية عبـر الـمراحل التاريخية، ومضمون العقل لما أنتجه وينتجه على الـمستوى النظري ويشخصه في الواقع على الـمستوى التطبيقي، وكلا الـمعرفتين وإن وجدت فإنها لا تكفي لإيجاد مجتمع علمي، من هنا سيتم تفكيك هذا الإشكال بالمعنى الفكري والفلسفي إلى عناصر أساسية تتمثل في مستوى الاهتمام بالبحث العلمي من طرف الجامعين والباحثين، وأهمية الوعي بمشروع الـمجتمع العلمي، وبعض الاحتياجات النظرية والعملية لهذا الـمجتمع.

1. مدخل عام : إرهاق الأسئلة وتجاوز بعض الأجوبة.
لا شك أن التجربة الـمتراكمة داخل الجامعات والمؤسسات العلمية على امتداد الأمم والشعوب والحضارات والثقافات تأخذ معناها أولا من الاعتبارات الخاصة من صميم حياتهم الـمتصلة باطراد تاريخهم، ثم إنها تأخذ أيضا معناها من اعتبارات أخرى تتصل بالاطراد العام الذي يكون تاريخ الإنسانية ويربط أطوارها ومراحل بعضها ببعض، ولا شك أيضا أننا في مرحلة من التاريخ بدأ يلتقي فيه الاطرادان ليمثلا نقطة واحدة أو قطبا واحدا، وكأن أثر التفكير عند بعض الـمؤرخيـــن مثل “تونبــي” بدأ يتجلــى للعيان. إننا لم نعد نعيش تواريخ منفصلة ولكن نكاد نعيش تاريخا واحدا.

الأمر الثاني الذي نريد أن نمهد به في هذا الـمدخل العام، أن من التحديات الكبـرى التي تواجهنا في الحاضر أن التاريخ كان يأتي بالأسئلة تدريجيا فإذا به اليوم يأتي بالتحديات تثـرى، فلا يكاد الـمرء يبدأ صياغة إجابة لمشكلة ما حتى يتلقاه سؤال آخر يتحدى ما كان يفكر فيه أو ما يظنه الحل والإجابة. وأصبح الإرهاق في بناء الأسئلة الأساسية والجيدة مهمة شاقة وصعبة قبل البدء في الإجابات.
أما الأمر الثالث في كون تجارب الأمم والشعوب تأخذ أيضا معناها من الوسائل الفنية الضخمة التي أصبحت اليوم تحت تصرف الإنسانية، مما يفتح أمامها عهدا جديدا يجمع بين الـمصائر بدل مصير مستقل. وكثير من أسئلة القرن العشرين قبل الإجابة عنها بدأت تولي مدبرة في ظلمات التاريخ، وبدأت تذهب معالمها شيئا فشيئا، لأن التطور العلمي خلف هذا كله وراءه، وكأنه يطوي الصفحة الأخيـرة من نماذج ليفتح الفرصة أمام نماذج أخرى تبدو بعض ملامحها وإن كان يصعب تجلي صورتها بشكل كامل.
2. ظاهرة التسرع وصغر الأحجام وتقلص الـمسافات :
إن عالم اليوم صاغه البعد الفني والتقني صياغة ذات تأثير عميق في أنفسنا، لأن العوامل الجغرافية التي كان لها الجانب الأكبر في سير وبناء أحداث التاريخ أصبحت تفقد قوتها ومكانتها شيئا فشيئا، بل ومفعولها أيضا، فالعالم الذي نعيشه اليوم، بقدر ما تنكمش وتقل فيه تأثيرات الأبعاد الجغرافية بقدر ما تزداد سرعة التطور بفعل عوامل التسريع عبـر أجهزة النقل للمعرفة والصورة والمعلومات والأشياء، حيث يختصر الطريق ويختزل مراحل التاريخ، ويدفع البشرية أن تعيش تحت قانون اجتماعي وتاريخي جديد، وهو قانون السرعة وتقليص الأحجام، واختصار الـمسافات في جميع وجوه النشاط البشري()، هذا الأمر تجاوز عالم الأشياء وبدأت تظهر آثاره في عالم النفوس والعقول، أي عالم الأشخاص وعالم الأفكار، وهو أمر يعبـر عنه ويتـرجم بروح العصر، روح العصر التـي نلمسها عبـر الاتجاهات والدوافع الخطية الجديدة. إنه تطور يمس أعماق الأنفس، فنحن لم نعد نفهم الإصلاح التعليمي في الصين إلا حينما نقارنه بمردودية التعليم فـي اليابان، ولم نعد ندرك معنـى مساحة الاستثمار الفلاحي في الغرب إلا بما ينتجه بلد صغيـر جغرافيا مثل هولندا أو بلجيكا. إن هذا يعنـي أن الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والعلمية في بلد ما لا تصاغ وتعرف وتفهم على ضوء الأرقام التي تعبـر عن حاجات وضرورات البلد فحسب، وإنما أيضا تسلط عليها الأضواء من الخارج، وتقاس بأرقام ومعطيات تأتي من بلد بعيد، وليس في هذا الاتجاه إلا ضرورة من نوع جديد تعتبر على أن التواريخ أصبحت في كثير من الـمجالات تتجه نحو تاريخ واحد، إنها الإبر الـمغناطيسية تتجه نحو قطبها في مجال الـمغناطيسية.
ومن هنا فالخلاصة الأولى: لا يمكن لأي أمة أو بلد أن ينفصل على القانون العام، هذا القانون الذي صاغته التكنولوجيا الـمعاصرة والعلوم الحديثة في شقها التقنـي خلال نهاية القرن الـماضي، يترتب الانفصال عن هذا القانون الانغلاق عن العالم والخروج من التاريخ، هذا التاريخ يعزل ويحاصر من لا يسيـر في اتجاهه، وهو وضع يترتب عنه الالتحاق حتما بقائمة الـمهمشين أو البدائيين أو حالة العدم.
3. في بعض الـمقتضيات الأساسية :
من الأهمية أن توضع قضية النهضة العلمية نصب أعيننا من خلال مجموعة من الـمقتضيات مجملة في:
* مقتضى البعد الخارجي للذات، لنحدد واجبنا نحو هذا العالم، أي لنحدد شروط انسجامنا مع ضرورة السير العام للتاريخ كمرحلة تمهد للتأثير فيه والمساهمة في صنع أحداثه.
* مقتضى الداخـل، لنحدد الطاقات التي يمكن توظيفها من أجل الـمحافظة على الـمميزات وعناصر القوة في الداخل، والمحافظة على الاتجاه الصحيح في الخارج.
* مقتضى التناصر والجوار الـمحلي والإقليمي للمحيط لتحديد مقتضى العلاقات الأساسية لبناء التكتل وتقوية شروط الانسجام والرفع من وثيرة السير في هذا العالم.
لن نعالـج هذه الـمقتضيات بشكل عام، وإنما سيتم معالجة ذلك على مستوى النهضة العلمية وإن كانت عملية النهضة في الحقيقة والجوهر غيـر مجزئة ولا يمكن أن تتحرك ببعد واحد دون الأبعاد الأخرى، كالأبعاد الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، لكن هذا ليس مجال موضوعنا. لقد انطلقنا من العنوان لأنه لا يمكننا تصور نهضة علمية دون قراءة للتاريخ، لاستعادة شروط ولو في الحد الأدنى قصد الالتحاق به والاندماج في سيره، ولن نُفصل كثيـرا في هذه الشروط وفي تحليل أبعادها الفكرية بقدر ما سيتم بسط ما هو أساسي منها، وهذه الشروط تتراوح بين منطقة الشك واليقين.
4. مجموعة علماء ومجتمع علمي، أية علاقة؟
في مقال لمدير مركز العلوم التابع للمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمـي، السيد رشدي راشد، تحت عنوان “توطين العلوم في الـمجتمع العربي”، تأكيد على أن هناك فرقا بين العناوين التالية : مجموعة من العلماء، وجماعة علمية، ومجتمع علمية.
و خلاصة الـمقال أن بلدا قد يصل إلى مرحلة وجود “مجموعة من العلماء”، أو “جماعة علمية” دون أن يتحول إلى “مجتمع علمـي” أي الوضع الذي يمثل أرقى وجود تاريخي للعلم والمعرفة ببلد أو حضارة ما، من هنا فان معالجة هذه القضية في تجربة العالم العربي الإسلامي طيلة تاريخه تؤكد أن تجربته لم تمكنه من أن يتحول إلى “مجتمع علمي”. ومناقشة هذه الفكرة تختلف وتتقارب أو تتباعد فيها الآراء، لكن من القصد تفكيك هذه الإشارة عبـر رصد الشروط التاريخية التي توصل إلى الـمجتمع العلمي الذي يمثل قمة النهضة العلمية، وأبهى صورة للتعبير عن هذه النهضة.
مما يدرك من مفردتي “مجتمع علمي” أنه تكتل متناسق يترتب عن وجوده وجود “ثقافة علمية” وبيئية قابلة لاستنبات أسئلة العلم وأجوبته. وأن هناك فرقا شاسعا بين مجموعة ومجتمع، ولذا فإننا وإن امتلكنا عددا من الجامعات ومراكز البحث، وعددا من الـمهندسين والكيميائيين والأطباء والفيزيائيين، فإن ذلك لا يترتب عنه بالضرورة “مجتمع علمي”، ولا يسمح ذلك بانطلاق هذا الـمجتمع مهما كان عدد أفراده وعناصره ومساحة اشتغاله، لأن الـمجتمع العلمـي مقيد بعملية البحث العلمـي الذي تنشأ معه، وله تقاليده وطقوسه وأعرافه وقيمه، وتتكون له مميزاته وخصائصه، وإذا انعدمت هذه التقاليد في البحث لا يكون سوى رقما من الـمدرسين والفنيين والتقنيين قد يتقاربون في مستوياتهم وقد يكون بينهم مستوى من الانسجام. أما الأعراف والتقاليد فإنها تظهر في أسماء الـمؤسسات ونتوجها العلمـي، وفي قدرات الإبداع لأسئلة التحدي، وفي طرق بناء الحلول والإجابات، وفي ظل هذه التقاليد الـمنشئة للبيئة العلمية، بـحيث تجعل مجموعة من العلماء قادرة على احتضان جيل يتحول إلى مشاتل فكرية ومشاريع بحث علمـي، في ظل ثقافة تضمن الاستمرارية في بناء الأسئلة وممارسة التحدي.
إن الـمجتمع العلمي لم يكن تاريخيا ثمرة عشية وضحاها، ولنوضح الآمر فلابد من الوقوف عند أهم الـمحطات التاريخية للعلم لنستخرج الشروط التاريخية لميلاد مجتمع علمـي، وهي عملية تطلبـت قرونا ومراحل ليست بالهينة، ولا يعني ذلك أن عامل الزمن ثابت، فإن اكتشاف هذه الشروط مبكرا قد يختصر علينا الزمن كما يتم اختصاره في بعض تجارب أمم ودول.
5. قراءة في التقسيم الرباعي للعلم :
يمكن تقسيم تاريخ العلم إلى أربع مراحل كبرى أساسية، مرحلة العلم الكلاسيكي أو التقليدي، ومرحلة العلم الحديث ومرحلة “العلم الصناعي” أو العلم التقني، وأخيرا مرحلة “علم العوالم”. ويمكن أيضا تقسيم كل مرحلة إلى جملة من الـمراحل، فعلى سبيل الـمثال تنقسم مرحلة العلم الكلاسيكي إلى مرحلتين متمايزتين:
-مرحلة ما قبل القرن التاسع الـميلادي وهي مرحلة الأفكار العلمية الـمختلفة والمحتضنة وكلها تنتج تحت عناوين جامعة وعامة، كالفلسفة والحكمة،
-أما الـمرحلة الأخرى فتمتد من القرن التاسع الـميلادي إلى النصف الأول من القرن السابع عشر الـميلادي، وهذه الـمرحلة تميـزت بمساهمة قوية للمشرق الإسلامي ومغربه على حد السواء في عواصم دمشق وبغداد وسمرقند شرقا، وقرطبة وغرناطة وفاس غربا. وقد عرفت هذه الـمرحلة تمازجا بين حضارتين مختلفتين في الـمرجعية الفكرية والخلفية الحضارية والمعتقد، لكنهما تكاملتا على مستوى علوم الـمنطق والرياضيات وعلوم التجارب ومنها الطب والصيدلة. ولعبت الأندلس دورا أساسيا في نقل هذه العلوم إلى بوابة أوروبا من الجنوب إلى الشمال والشرق انطلاقا من موقع الأندلس جغرافيا، كما لعبت عواصم العالم الإسلامي العلمية في الضفة الأخرى نفس الـمهمة والدور، وقد تميزت هذه الـمرحلة بكتابة العلوم باللغتين العربية واليونانية رغم اختلاف الـمحاضن الثقافية والعقدية للغتين، وكانت عملية الترجمة متبادلة بين اللغتين، كما تواجدت العلوم في مراكز عواصم الدول، أي العواصم السياسية والإدارية. من هنا يمكن إجمال الشروط الأساسية التاريخية للعلم الكلاسيكي في:
– محدودية اللغات الـمسيطرة ووجود جيل للعبور من كلتا اللغتين، أي توفر قدرة على الترجمة العلمية.
– محدودية الانتشار ومواقع التواجد، حيث أن العواصم السياسية عواصم علمية في معظم الأحيان.
– لم يظهر العلم كظاهرة اجتماعية أو مجتمعية وإنما وجدت نواة لفكرة الجامعة في شكل جنيني تتمثل في مؤسسات مركزية من مثل متحف الإسكندرية -بيت الحكمة ببغداد- بيت العلم بالقاهرة -جامع قرطبة بالأندلس- جامع القرويين بفاس، كنماذج أولى مصغرة ومعبـرة عن فكرة الجامعة.
– ظهرت أسماء في إطار مؤسسات جنينية مع هيمنة الجهود الفردية، حيث تمثلت الجامعة في هــذه الـمرحلة في السلوك الفردي أكثـر منه سلوكا مؤسساتيا يتم من خلاله احتضان بعض الأفراد في شكل مصاحبة ومعايشة، وفي ظل مؤسسات أحيانا لم تكن من القوة بما يجعلها تتمايز وتملك خصوصيات عن النماذج الـمجتمعية الأخرى.
المرحلة الثانية من تاريخ العلم، وهي مرحلة هيمن فيها التواجد الأوروبي بامتياز، وتوجت بمرحلة العلم الحديث، ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين، تنطلق الـمرحلة الأولى في بدايتها مع انطلاق أعمال نيوتن في بداية نصف القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، وقد تميز هذا العلم بخصائص وسمات أهمها:
– النـزوع القوي إلى توحيد الفروع، فقد حاول نيوتن ذلك مع توحيد الـميكانيكا والمناظر والمغناطيس في آن واحد، وسعى بعده لتحقيق ذلك كل من ماكسويل ودلمبير من خلال تطوير الفكرة وتوسيعها.
– ظهور أشكال من التعاون بين العلماء عبـر الـمراسلة في القضايا والإشكالات الفكرية والعلمية الـمطروحة، وقد ظهرت ثقافة وآداب الـمراسلة في القضايا العلمية وهي بداية أو بوادر النشر العلمي.
– نهاية هيمنة لغة، وظهور لغات متعددة محلية كلغات علمية، منها الألمانية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية، مما حرك عملية الترجمة وتعدد ألسن العلماء، كما ظهرت مدارس أخرى مخصصة لتطبيقها.
– تقوية البعد التطبيقي والنفعي وهو أمر كان في بداية الأمر أماني تطورت إلى حقيقة وتجسدت بشكل ملموس في الفيزياء والكيمياء والكهرباء والمغناطيس والديناميكا الحرارية. يمكن الإشارة هـنا إلى حقيقة تاريخية أخرى واكبت هذه الـمرحلة هي استفادة الحملات الاستعمارية والاستكشافية منها بشكل كبير ومكنت من بداية تكوين ترسانة عسكرية لغزو كثير من مناطق العالـم، ولعلها اللحظة التاريخية التي تشكلت فيها علاقة تطبيق نتائج العلم بالعمل العسكري وارتباط التكنولوجيات بالمؤسسات العسكرية.
* ظهور ما يعرف بالقواعد العلمية والأخبار العلمية والتراث العلمي، من هنا تحول العلم إلى ثقافة، مما دفع إلى ظهور الفلسفة العلمية وتكون تاريخ العلوم كمعرفة مستقلة، وبدأت عملية كتابة الـموسوعات العلمية كثمار فريق وليست ثمار أشخاص، وبالمناسبة فإنها الـمرحلة التي عرفت أكبر سطو تاريخي على العلوم العربية من حيث إنكار كثير من مصادرها وخلل في الأمانة العلمية لانتساب الحقائق والاكتشافات، والدلائل والوثائق التاريخية برهنت فيما بعد على ذلك.
* أصبحت الفلسفة العلمية مادة مرافقة للباحث أو رجل العلم، وبدونها فإنه لا يدرك بشكل جلي وواضح كيف سيستفيد من التراكمات العلمية، ولا يستطيع تحديد دوره في الـمستقبل، بل بدون الفلسفة العلمية يكون منشغلا في أقصر حدوده أو في أفضل حاله بالإجابة على أسئلة الآخرين ولكن لا ينتج أسئلة خاصة به. وانتهت هذه الـمرحلة بمكتسبين لدى الـمجتمعات الغربية: ظهور الـمجتمع العلمي كقوة مؤثرة على الـمجتمع ككل من جهة، ومن جهة أخرى تملكت الدولة هذا العلم بدوافع إستراتيجية أو عسكرية أو اقتصادية كما واكب ذلك التزام وعي إرادي من طرف الـمجتمع بالعمل على حماية وتملك هذا العلم وقبوله بمجتمع العلم كأحد مكونات الـمجتمع ككل، وعلى ذكر هذه الشروط التاريخية فإن تجربة محمد علي في مصر تبين لنا أن الدولة وحدها في التاريخ غير كافية لتملك العلم إذا لم تكن تلك إرادة الـمجتمع ككل، وهو شرط أساسي وضروري، ولنا مع هذا الأمر وقفة في آخر هذا البحث.
مرحلة العلم الصناعي، تتميز هذه الـمرحلة بقوة تدخل الصناعات في الـمجالات العلمية سواء على مستوى إنتاج هذه العلوم أو استهلاكها واعتمادها في تطور الـمجتمعات وخلخلة بنيتها فيها، وتميزت هذه الـمرحلة التي نعيشها في تحويل البحث بشكل عام إلى عملية صناعية، بمعنـى أن العلم لا يرتبط فقط بالآفاق الصناعية من خلال تطوير تطبيقاته العلمية وتحويلها إلى تكنولوجيا، وإنما تشكل له فضاء ثالثا من غير الفضاء الجامعي أو الـمؤسسات التقليدية، وإنما أصبحت مؤسسات غاية في التعقيد والتداخل والتركيب، وأصبح يخضع لمنطق علم التنظيم والإدارة الخاصة بالممارسة الصناعية، وأحيانا العسكرية والأمنية، وتحويل جزء منه إلى أسرار الدول والمؤسسات. وهكذا ظهرت شروط تاريخية ثالثة بعد الشروط الأولى والثانية، من هذه الشروط:
* حضور العديد من التخصصات العلمية والتقنية وبتعاون مكثف وقوي من أجل صياغة مواضيع البحث وإنتاجها.
* ارتفاع وتيرة البحث العلمي وتطورها إلى حد أنها أصبحت مشاريع تدار بين أطراف تفوق قدرات دول وإمكاناتها، وظهرت تكتلات إقليمية (التعاون الياباني الأوربي في مجال الطاقة النووية) للمشاريع العلمية.
* تعدد اللغات العلمية أصبحت هناك اللغة الـمرجعية وهي الإنجليزية.
* انتقال العلم من الاستجابة إلى الحاجات إلى خلقها مع تنوع مجالاته وهيمنة ظاهرة التقنية على طبيعته.
* تعدد مستويات الـمعلومات العلمية، وتوسع الهوة في صياغة الأفكار العلمية النظرية والعلوم التقنية.
مما تقدم كان سعينا أن نختصر القول للوصول إلى نتائج وعبـر عامة ولكنها أساسية وجوهرية.
النتيجة الأولى: أن العلم على اختلاف مراحله تحكمه قاعدة أساسية لكي يتطور داخل مجتمع، هذه القاعدة تتكون من وبالترتيب الزمني من عناصر ثلاثة: قيام الـمؤسسات الخاصة بالعلم، وظهور مهنة العالم أو الباحث وتطورها ونموها كشخصية معنوية اعتبارية، وأخيـرا التطبيقات العملية.
النتيجة الـثانية: لقد تطورت الـمؤسسات الخاصة بالعلم وأخذت الحجم الـمناسب لها في كل مرحلة زمنية، دار الحكمة، الـمجامع العلمية، ثم الجامعات، ثم الـمؤسسات الكبـرى، أو ما يعبـر عنه بــــ”القطب التقنـي الصناعي”. ولكن مهما كان حجمها فإنها عرفت وضعا «Technopôle» متميـزا بالدفاع عن نفسها كمؤسسة، ومواجهة الكثـير من الـمؤسسات الأخرى ذات السلطات الـمتعددة التي كانت تسعى لمحاصرتها أو إلغائها، أو توظيفها وإلحاقها.
النتيجة الثالثة: ظهور وتطور مهنة الباحث، بمعنـى أن الـمجتمع قبل فكرة أن يشتغل واحد من أفراده أو مجموعة من أفراده بالبحث. بل أكثر من ذلك أن ينتمي إلى مجموعة بشرية تجمعهم قواسم مشتركة، وهي الاشتغال ضمن هذه الـمؤسسات برواتب وبشكل منظم، ومن ثم وقع الانتقال من وضع الهواة كثابت ابن قرة وكديكارت وفيرما، وتطور هذا الـمجتمع تحت عناوين الاختصاص الذي تزايد بشكل دائم، وظهرت السلالم الزمنية في الحد الأدنى للبحث، وظهرت الدراسات الطويلة، وأصبح البحث مهنة كباقي الـمهن معتـرف بها ضمن نظام الإنتاج والحاجة.
النتيجة الرابعة: أن قابلية الاستقبال وتملك العلم كانت متفاوتة داخل الثقافات والمجتمعات، فكان بعضها يتسع صدرها وعقلها في لحظة تاريخية وتصبح مؤهلة لهذه العملية أكثر من غيرها، ولعل درجة الاستقبال التي عرفتها أوروبا في نهضتها العلمية، ومرحلة ما يسمى بعهد الأنوار، إنما تعكس طريقة حصولها على ميراث العهد الكلاسيكي من خلال ظهور قوة كامنة في الـمجتمع وبشكل إرادي.
النتيجة الخامسة: لم يعرف التاريخ البشري تطورا متساويا في العلم تحصيلا وإنتاجا، وقد نرسم خيط الانتقال عبـر التاريخ، ففي كل مرة تنطلق شروط التأهيل في موقع جغرافي، وتصبح بيئته أكثر استعدادا واستقبالا من موقع آخر، فمن أثينا إلى بغداد والقاهرة إلى قرطبة وفاس ثم بولونيا والبندقية، فباريس ولندن، في كل مرحلة من التاريخ تظهر بيئة أكثر استعدادا لقيام مجتمع العلم والمعرفة والثقافة العلمية.
النتيجة السادسة: لم ينتقل العلم كمنتوج من مجتمع إلى مجتمع، ولم تنتشر الثقافة العلمية من مجتمع إلى مجتمع دون شروط مسبقة، منها البنية التحتية الاجتماعية اللازمة، بمعنى آخر: إن تعميم التـربية في بداية الثورة الصناعية من العوامل التي مهدت للاستفادة من الـمعارف العلمية الـمحصل عليها آنذاك في أوروبا.
لقد عملت حركة نشر الثقافة العلمية والتقنية بطرق عدة على جعل بيئة احتضان الـمؤسسات وبناء الـمجتمع العلمي أمرا ميسرا ومساعدا ومحفزا. لم يمتلك أي مجتمع الـمعرفة العلمية والعلم إلا حين أوجد لنفسه تقاليده الخاصة بالبحث مع الاستفادة من التـراكم مع حل إشكالية تاريخية لعلاقة العلوم ببعضها البعض وخاصة علاقة العلوم الإنسانية بالعلوم البحتة. في هذا الـمستوى من الـموضوع، نود أن نتناول ثلاث قضايا عرفتها علاقة العلوم مع بعضها البعض.
القضية الأولى فكرية فلسفية بالأساس، تطورت داخل منظومتين حضاريتين متميزتين، الـمنظومة الإسلامية، ومنظومة الحضارة الغربية وهي علاقة العلوم ببعضها البعض وذلك من خلال محددات ثلاثة:
المحدد الأول: تكامل العلوم بالمعنـى الواسع، فلم يكن في الفكر الإسلامي تاريخا عند انطلاق مشروعه شرخ بين عناوين العلوم الإنسانية والعلوم، فقد اشتغل العقل العربي والعقل الـمسلم بصفة عامة تحت عنوان جامع للعلم والاجتهاد، وكأنما جعل الاجتهاد عملية الامتداد في الإجابة على ما جد من مجرى حياة الناس، ونظم عيشهم، وفهم طرق اجتماعهم وعمرانهم، وإن ثم التعبير عنه اليوم بعناوين شتى، كالعلوم الإنسانية القانونية والإدارية، حيث اشتغل العقل فيها بمنطق الاجتهاد وجعل العلم والمنطق والنص عوالم متفاعلة وغير متضاربة، وتمثل تجربة الأندلس في تاريخ العرب لحظة تستحق الدراسة والتأمل، إذ تمثل الـمرحلة التي ساد فيها التكامل بين مختلف العلوم. وهي الـمرحلة التي أنتجت ابن رشد فقيها وفيلسوفا على سبيل الـمثال.
المحدد الثاني: ظهور الاختلالات التي نعيشها في الـمرحلة الـمعاصرة ويتجلى هذا الـمحدد في ثقافة جعلت الاستعلاء الإيماني وهو حقيقة توحيدية عبـرت من خلاله إلى إنشاء ثقافة استعلائية مما ألفت فيه كتب تمنع أو تحط من شأن العلوم الإنسانية وقيمها وأهميتها، وفي اعتقادي أنها إحدى الـمعارك التي خسرها العقل العربي مبكرا، ولازلنا ندفع ثمنها، إذ لا يمكن تصور تطور علوم دون أخرى وكأننا أمام جزر مغلقة منعزلة، إن سؤال البحث في الرياضيات أو الفلك لا يتحرر أو ينفصل عن البيئة الثقافية والاجتماعية.
المحدد الثالث: أن العلوم وأسئلتها لم تعد تنشأ أو تبني في فضائها وبيئتها التخصصية فقط، وإنما تداخلت العوالم في بناء الإشكالات والقضايا إلى حد أن مميزات علوم العوالم أنها مكونة من مناطق التماس والمشتـرك، وهو ما يميز حجم مؤسسات البحث العلمي إذ أصبحت تعتمد أكثر من اختصاص ومن مجال، ومن تقاطع، بل أصبحت علوم البحتة لا تجيب فقط على أسئلتها بل تسعى إلى الإجابة على أسئلة العلوم الإنسانية. كما أن العلوم الإنسانية أصبحت تنتج من التحديات والقضايا للعلوم البحتة بشكل يرهقها ويتعبها في الإجابة ، وكلما كانت درجة التداخل بين الـمجالين شديدة كلما كانت البيئة العلمية أكثر قوة ومناعة واشتغالا.
لعل ابن خلدون أول من انتبه إلى ظاهرة اتساع سؤال العلم بين الـمجالين، وإن لم يعبـر عنه بلغة علوم إنسانية وعلوم بحتة فقد كان اهتمامه بقوانين العمران البشري، والبحث في عوامل ازدهاره وضموره سعيا لربط الـمجالين معا، في الباب السادس من الـمقدمة والذي يتناول “العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وما يعرض في ذلك كله من “الأحوال” العديد من الـمسائل الـمتعلقة بالموضوع من مثل”.
إن العلوم إنما تكثر حين يكثر العمران وتعظم الحضارة، ويذهب ابن خلدون إلى الفصل بين العلم والجهل أو الخرافة مشيرا إلى علم التنجيم قائلا “و إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها ” وأن كثرة الاختصارات الـمؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم، وغيرها من التقاليد التي طغت على الحياة العقلية بين العصور الـمتأخرة وساقها إلى مزيد من التحجر والجمود.
القضية الثانية: ويعبـر عنها بسؤال قبل بسطها، لماذا نجحت عملية نقل العلوم من الحضارة اليونانية والحضارة الفارسية إلى العالم الإسلامي في تلك اللحظة الزمنية التي عرفتها الخلافة أو عواصم الدول الإسلامية؟ والجواب يمكن صياغته في ثلاثة أسباب رئيسية:
– السبب الأول، هو نشأة رغبة داخلية وكثلة من نخب الـمجتمع في تحصيل هذه الـمعرفة وأقبلت على هذه العلوم من باب الاقتناع وليس من باب العيش، كما أنه حصل قبول الـمجتمع بذلك وعبـر عن استعداده وإقباله على الـمنتوج الذي هو معرفة علمية بشوائبها واعتقاداتها وفلسفتها، بل ومن عامة هذا الـمجتمع دون إبداء خوف على عقيدة أو ملة ، ولم تخلط له الصورة في القدرة على امتلاك إضافات معرفية ونفسية وعلمية ولم يحصل له شك في القدرة على التـرتيب والتصنيف والتمييز والتوسع والتعميم لما يمكن تعميمه.
– السبب الثاني، أن التـرجمة لم تكن أفعال أفراد هنا أو هناك بل هي مجموعة من شبه فرق البحث الـمعاصر، تتنافس وتتسابق فيما بينها، لقد كان هذا الجهد العلمي والفكري منظما في شكل مجموعات ومراكز اجتماعية استحدثت للتـرجمة والبحث، ساعدت على استيعاب العلوم اليونانية والفارسية استيعابا علميا ومن قبل لغويا وفكريا ونفسيا ، واحتواء تلك العلوم داخل الـمدنية العلمية التي كانت في طور الإنشاء والتوسع، لقد كان بيت الحكمة في بغداد يضم الخوارزمي والحجاج بن مطر كعلماء في الرياضيات ، ولقد ترجم الحجاج بن مطر أقليدس وبطليموس وعالم الفلك يحي بن أبي منصور ، وكانت هناك مجموعة بني موسى التي كانت تضم من عباقرتها هلال بن هلال الحمصي، صاحب ترجمة أبولونيس والرياضي البارز ثابت بن قرة ، وكانت هناك حركة علمية للمناقشة والتساؤل والبحث يتزعمها أو يتـرأس أعمالها حنين والكندي. إن عملية الترجمة لم تكن عملية بسيطة محدودة بل كانت عملاقة من حيث العنصر البشري وممتدة في الزمن، مما أدى إلى تراكم خبرة لمعالجة النصوص وفهمها واستيعابها وتطويرها، ة والإضافة إليها وتصحيح بعضها وسد الفراغ فيما اتلف من بعضها وباختصار كانت عملية منظمة بامتياز.
فعلى سبيل الـمثال ترجمت أصول أقليدس ثلاث مرات والماجستي مرتين، كما ترجمت كتب أقليدس وبطليموس الأخرى عدة مرات وكتاب الـمخروطات لأبولونيوس، وكتب أرخميدس وسبع كتب في الحساب لديونطتس، وأعمال تيون الإسكندري وباموس وجملة من الـمؤلفات في علوم الهندسة والرياضيات والفلسفة والطب وعلم النبات، ويمكن تحليل عملية الترجمة بشكل دقيق ومعرفة هل كانت مبنية على تصور مسبق وخطة منهجية أو بالتعبير الـمعاصر إستراتيجية للترجمة، وسنعود لقراءة هذه التجربة وأن كان الأمر يتطلب مساحة إلا أنها مادة لموضوع آخر، وذلك قصد اكتشاف آليات اشتغال هذه العملية وكيف حققت أهدافها وهي نقل معرفة علمية من منظومة حضارية ثقافية إلى منظومة حضارية ثقافية أخرى.
– السبب الثالث الذي يغفل عنه البعض هو استعداد بل وتشجيع السلطة السياسية آنذاك لهذا العمل. إن السلطة السياسية لما تملكه داخل الدولة الإسلامية من سلطة شرعية دينية فإن موافقتها ورضاها أو عدم موافقتها ورضاها آنذاك كان له دور حاسم وقوي في إنجاح أي مشروع أو إفشاله، وفي اعتقادنا لو كانت السلطة السياسية آنذاك منغلقة ذات محدودية في إدراك التلاقح العلمي الفكري وأهميته، لمنعت وهي تملك آنذاك القدرة على ذلك ولأفشلت عملية الترجمة برمتها.
نستخلص من هذه الأسباب الثلاث قاعدة أساسية وهي أن الشروط التاريخية لانتقال معرفة علمية في الحد الأدنى تتطلب استعداد شعب أو أمة لاحتضان هاته العلوم والإقبال عليها وتوفير بيئة استنباتها، ووجود نخب علمية فكرية تعمل ضمن فرق أو مجموعات متجانسة الاهتمام وتملك طاقة الاستعداد والعمل، وسلطة سياسية حاضنة داعمة للعملية دون قيد أو شرط بل في إطار دعم واستعداد مطلق.
إن أقل ما يمكن قوله بنسبة صحيحة هو أن عملية الترجمة هذه لم تكن عشوائية بحيث تتم ترجمة كل شيء في أي شيء وإنما كانت ضمن سياق معرفي تاريخي. إن نصوصا تاريخية تبين لنا أن عملية الترجمة كانت عملية واعية مقصودة، إذ كان يتم إخبار النص ثم يبحث عن مخطوطاته إذا كانت على درجة من التنظيم والقصد وهناك بعد آخر قوي منظم وأعطى معنا للترجمة هو البحث، فلقد كان أحيانا يسبق البحث الترجمة، وأحيانا تسبق الترجمة البحث، وقد يتزامنان أو قد تكون بطريقة غير مباشرة مستوحى من ترجمة نصوص هامشية أو نصوص أخرى ، وفي ميدان مجاور (الفلك والرياضيات مثلا) لا يمكن استنتاج أن الترجمة كانت عملية تأليف فقط أو بمعنـى آخر كتابة تاريخ العلوم، وإنما كان القصد بناء وتكوين الباحثين ومتابعة البحث والإجابة عن الأسئلة والفضول العلمي، وقد جدت الحاجة مثلا إلى قياس الـمساحات والأحجام، فدعا ذلك إلى ترجمة أرخميدس، والاشتغال بالمنطق دفع إلى البحث عن قواعد الاستدلال عند أرسطو.
إن الوعي بعملية الترجمة أوردنا لنستخلص منها عبارتين أساسيتين:
– أولهما أن الترجمة لم تؤدي دورها إلا ضمن سياق النشاط العلمي والبحث الذي كانت تعرفه البيئة الـمستفيدة من الترجمة.
– ثانيهما أن عملية الترجمة كانت عملية مسبوقة بوعي ثلاثي على مستوى الـمجتمع والنخب العلمية وعلى مستوى السلط السياسية.
إن علمية الترجمة العلمية كانت محكومة بمنطق الحاجة، ومن أعمال الباحثين بالمقام الأول، بل رموزهم الكبرى كثابت بن قرة، ويمكن استنباط حقيقة ضمنية أن هؤلاء العلماء كانوا يتقنون اللغتين للعبور إلى فضائين معرفيين.
عند الوقوف عند هذه الفترة من التاريخ وهذا الـمكان من التاريخ يجعلنا نضع أيدينا على بعض الشروط التاريخية لنشأة مجتمع علمي. إن هذا الـمجتمع العلمي لم ينشأ انطلاقا من اعتماد نموذج من قبل تمت سرقته أو نقله وإنما انطلقت وفق سياق وشروط منها:
1. شرط الاستعداد الثلاثي: ويتمثل في كل من الـمجتمع والسلطة السياسية والنخب التي تملك القدرة على البحث العلمي.
2. دائرة الحركة الفكرية والثقافية ومدى اتساعها، إذ لابد من الإشارة إلى أن العطاء العلمي كان ضمن نشاط فكري في مجالات أخرى كعلم الكلام والفقه واللغة والعلوم الإسلامية بشكل عام، فقد عرفت هذه العلوم حركة وقوة ونشاطا مهد لخلق بيئة استقبال معرفة وعلوم الآخر، هذا الآخر اليوناني أو الفارسي أو البيزنطي دون شك في القدرة أو الذات، وقد يقول فاشل إنها حضارة قوة تستقبل منتوج حضارة ضعف، أي هذه العملية غيـر كافية لإنشاء مجتمع علمي، ونرد على هذا الـمنطق أن هولاكو والمغول والتتار كانوا أولى بإرث الحضارة الإسلامية، الأمر الذي لم يحدث. ثم إن الأندلس في آخر أيامها كانت قد انهارت كدولة سياسية وعسكرية غير أنها بقيت شامخة على الـمستوى العلمي والمعرفي مدة غير يسيرة.
إن الحقيقة هي أن الـمجتمع العلمـي إنما ينشأ إضافة إلى ما أشرنا إليه حينما يتميز بموضوعات بحثه ومسائله، وحينما تتكون أعرافه وتقاليده، وقد لا تكون معروفة في مجتمعات من قبله أو من تعايشه، إننا إذا عدنا إلى مرحلة بيت الحكمة فقد ظهرت علوم الجبر بقواعدها، والهندسة الجديدة التي تضم هندسة متناهية الصغر، والهندسة الـموضوعية بل تأسس تقليد فريد في عالم الفلك الرصدي، وهو تكامل الـمعارف الـمختصة. إن هذه التقاليد التي بنيت عليها أصول الـمجتمع العلمي أعطته عوامل البقاء والتكامل طيلة أربعة قرون على الأقل.
6. الربط بين تاريخ العلم وتجربة مصطفى مشرفة رحمه الله.
نود أن نشير إلى جملة من الأفكار تبدو أهميتها لا زالت قائمة، هذه الأفكار أطلق ثمراتها ودعا إليها عالم الفيزياء الـمصري السيد علي مصطفى مشرفة (1898- 1950) الذي اشتغل في فيزياء الكمية في أول أعماله ثم بالفيزياء الرياضية، وبعلم الطاقة في الفيزياء النووية في آن واحد. اهتم مصطفى مشرفة بمجال تاريخ العلوم وأنشأ مجلة خاصة بها، وفصلت أعماله سنة 1949 قبل وفاته بسنة واحدة، وكان هدف الـمشروع وجوهره بناء خطة لتملك العلم، وتركزت وجهة نظره على تأسيس ما أشرنا إليه، وهو بناء تقاليد وطيدة في البحث على الأقل في الجانب الذي تمكن منه عبـر التشخيص، وهي الفيزياء والرياضيات. وسعى إلى إنشاء وتنظيم الباحثين في الرياضيات والفيزياء بالالتزام بجملة من الـمبادئ الوسطية الضرورية لتحقيق هذا الـمشروع، كانت من أهدافه أن يصل إلى:
1) إنشاءِ مؤسسات البحث العلمي.
2) التدريبِ على البحث والتعليم العلمي.
3)إنشاءِ مكتبة علمية عربية.
4) الاهتمامِ بالثقافة العلمية على مستوى الـمجتمع بكامله.
5) التعلمِ والبحث في تاريخ العلوم، وخاصة التراث العلمي العربي، وذلك قصد اتصال ثقافي وعقائدي مع الـماضي.
6) إقامةِ روابط بين البحث التطبيقي والصناعة.
إن هذا الطموح قد تحققت أجزاء منه بشكل متواضع داخل العالم العربي، لكن يبدو أن بعض الأمور لم تتحرك بشكل قوي ومنظم وأهمها:
الأمر الأول: إن عملية التعريب بما يملكه العالم العربي من قدرات لغوية تتمثل في تعدد اللغات الأجنبية التي تم التمكن منها بشكل قوي، فعلى امتداد العالم العربي لم يتم بعد الاستفادة منها بشكل فعال وجلي، وإن هذا الأمر يتطلب جيلا لتنشئة وتنمية جيل العبور أو جيل الجسور، مهمة هذا الجيل وضع استراتيجية للترجمة للمواد أو الأمهات الكلية العلمية على امتداد هذا العالم، وذلك سعيا إلى بناء أكبـر مكتبة عربية في ترجمة العلوم، فهناك تجارب وطنية متعددة تفتقد إلى خيط ناظم أو إستراتيجية واضحة ومهنية وفعالة على مثال تجربة بيت الحكمة.
الأمر الثاني، مساعدة كل باحث من أصل عربي على الترجمة في الحد الأدنى لبحثه من أي لغة كانت إنجليزية أو ـألـمانية أو فرنسية إلى اللغة العربية، وهذه العملية سهلة من الناحية الفنية والتقنية عبـر اعتماد شبكة الإنترنت لزرع وبث الفكرة واحتضانها ودعمها.
الأمر الثالث، الاهتمام بالثقافة العلمية على مستوى الـمجتمع ككل، فوسائل الاتصال لها دور كبير وأساسي في هذا الـمجال، وهذا الـمشروع يمتد من رسوم للأطفال ومواضيع الترفيه إلى أمور أكثر جدية وأهمية.
الأمر الرابع، دراسة تاريخ العلوم، وهوأمر أساسي وجدي ، فمن خلال تجارب متعددة، منها بعض التجارب الشخصية، نجد أن تاريخ العلوم يساعد على الـمستوى النفسي والاجتماعي في تحبيب الـمادة العلمية من جانب، والتخفيف من الضغط النفسي الذي ينفر بعض الطلاب الجامعيين مبكرا من بعض الـمواد وعلى رأسها ما يتعلق بمجال الرياضيات.
إن تاريخ العلوم كباقي مادة التاريخ يسهل إدراك السياق التاريخي الذي نشأت فيه الحاجة إلى علم ما، وكيف تم بناؤه، وما هي الـمحطات التي كانت تعترضه، بل ويعطي كثيـرا من الـمعاني على ـمستوى الدلالات والرموز، إن التاريخ العلمي أداة لربط الـمعرفة بالواقع وتيسير وتوضيح أهميتها ودورها في الحياة ككل والحياة العلمية بشكل خاص، كما أن الفلسفة مادة لا تزداد الأيام إلا أن تثبت أهميتها وخاصة ما تعلق بالفلسفة العلمية، لأنها مفتاح امتلاك القدرة على بناء الأسئلة، ولا نتصور عقلا علميا بدون امتلاك القدرة على بناء السؤال وصياغة الأشكال قبل البحث والشروع في تكوين حل، أيا كان هذا الحل.
إننا من خلال هذا الـموضوع أردنا أن نؤكد أن عملية نقل أو تملك العلم، ليست عملية تلقائية ولا عملية سهلة بسيطة تكمن في القدرة الـمالية أو إرادة أحد الأطراف، بل عملية مركبة ومعقدة، فهـي تتطلب إرادة السلطة السياسية والالتـزام الإداري والقناعة التامة لأصحاب القرار دولة ونخبا، يضاف إلى ذلك وجود بيئة محتضنة على الـمستوى الاجتماعي والثقافي، وإلا سنكون أمام مجموعة بشرية معزولة عن شروط الاستنبات والحياة، ولابد أن تنتهـي ثقافة الحذر من الباحث أو انتقاصه، فهو ليس موظفا لتنفيذ قرارات، وليس مثيـرا للشغب والاضطراب، بلغة أخرى لابد أن يتوفر مناخ العمل والبحث.
إن هذا الـمناخ سيساعد على التكوين والتطوير، وسيفرز مع التـراكم والتوسع التقاليد الوطنية، والأعراف وطقوس البحث، أي بث الروح في الـمجموعة للتحول إلى مجتمع وتحويل العلم بحثا وممارسة واستفادة إلى جزء من ثقافة الـمجتمع، مع تأكيد الدعم الـمالي اللازم لأنه العمود الفقري للعملية، ثم اعتبار التعريف الـمنهجي وعملية الترجمة من كبرى أدوات ترسيخ التجربة العلمية واستنباتها. إننا لا نتصور أن الأمر غدا سينجز، ولكن انطلاق أول خطوة في ظل عقلية الـمؤسسات السياسية السليمة والتي حسمت خياراتها الكبرى جزء من ضمان الانطلاق.
7. إشكالان أساسيان: التأثير الإنساني للعلم، والمقاربة التربوية من أجل بيئة بحث علمي.
إن مجتمعات العالم الـمتخلف أو العالم النامي أصبحت تدرك حقيقة وأهمية البحث العلمي واقتنعت بدوره في حل مشكلات الجوع والفقر والمرض والجهل، وأصبح أمرا مكتسبا وقناعة راسخة، فلم يعد هناك من يجرؤ على تجاهل العلم والانتقاص من دوره، إذ لا وجود في مستقبل يهمش البحث العلمي ومكانة الـمهتمين والمشتغلين به، ولكن الأمر يحتاج إلى مناصرة تتجاوز اقتسام الـمشاعر والحقيقة، الأمر الذي يدفعنا إلى صياغة مجموعة من الأسئلة منها:
– لماذا لا يتحمس الناس للعلم ولا يمتلكون نفسا للقيام به؟ وما هو الـمكتسب من وجود مجتمع علمي؟
– هل البحث العلمي بشكل عام مهم وضروري لكل الشعوب والأمم؟
في الإشكال الأول: التأثير الإنساني للعلم.
إن دراسة تاريخ العلم تؤكد لنا أن تطور العلم ونموه جعل الـمجتمعات البشرية أكثـر إنسانية، ولكن لم يدرك ذلك عند عامة الناس لأنه تم بتدرج شديد، بل كان العلم عاملا في توازن قسوة الإنسان لأسباب سياسية وثقافية. فالحضارة الأولى كلها كانت قائمة على سياسة الرجل فحسب دون وجود يذكر للمرأة، وكانت قائمة أيضا على نظام الرق، وقد امتد ذلك في حضارة الغرب منذ اليونان والرومان إلى عصر النهضة الايطالية، والذين يدركون ذلك هم قلة، ففي عام 1395 كتب تاجر (براتو فرانشيسكو داتي) إلى شريكه في الجنوب: “الرجاء أن تشتري لي جارية صغيرة عمرها ما بين الثامنة والعاشرة، على أن تكون من سلالة قوية” كما لو كان يشتري حصانا.
وفي زمن جاليليو ونيوتن كان حرق الـمشعوذين في ذروته، والشعوذة صفة أطلقت على كل من خالف أفكار الكنيسة حول تفسير الكون وظواهره بطريقة أكثر عقلية ومنهجية على الأصح.
وفي بريطانيا كان هناك ما ينوف عن مائتي نوع من الجرائم التي عقوبتها الـموت، كلها متعلقة بنمط التفكير ونتائج العقل أو ما يصدر عنه كاجتهاد أو عمل..
لقد لعب العلم دورا كبيرا في تهذيب مواقفنا وسلوكنا، وأحل بالتدريج الرؤية والعقل محل التحامل والانحراف.
يقول العالم الألماني ماكس بيروتر -الحاصل على جائزة نوبل والمكتشف لبنية “خضاب الدم” ووظيفتها- إن هناك فرقا كبيـرا بين أسلوب كل من الكاهن والسياسي والعالم، فالكاهن يقنع أمثاله من البسطاء بأن يتحملوا عبئهم الثقيل، والسياسي يحضهم على التمرد ضد هذا العبء، أما العالم فيفكر في طريقة تخلصهم منه كليا.
وجميل أن نذكر بفكرة لكارل ماركس في مملكة الحرية التي في قوله وهو يشير إلى دور العلم في هذه الـمملكة “إنها تبدأ حين ينتهي العمل الـمضني”.
وحقيقة، فقد استطاع العلم رفع الجهد والمشقة في العمل والإنتاج، وحول هذا الجهد إلى جهد يناسب قدرات الإنسان ودوره، ودحض بذلك مقولة ماركس أيضا “لا نستطيع تحقيق درجة أكبر من الحرية إلا باستعباد أناس آخرين”.
في الإشكال الثاني: مقاربة تربوية من أجل بيئة بحث علمي.
يمكن معالجة هذا الإشكال من خلال جملة من الشروط التأسيسية للبيئة التربوية الـمستنبتة للبحث العلمي وثقافته، وهي شروط مستقلة متكاملة نردها كما يلي:
الشرط الأول: اجتماعي ثقافي يكمن في إيجاد بيئة الخيال والحرية الـمسئولة وهما شرطان للاكتشاف.
الشرط الثاني: التعلم على يد أساتذة ناضجين، ومعنى أساتذة ناضجين هي تلك الفئة التي تمارس فن البحث، أي تقترح أفكارا جيدة وتساعد طلبتها على تقدمهم دون أن تلقنهم كل شيء أو تسيطر عليهم، كما تساعدهم فيما بعد أن يقفوا على أقدامهم كباحثين لهم استقلاليتهم. وأفضل منحة يهبها الـمشتغلون بالبحث العلمي إلى جيل من الطلبة هو تطوير قدراتهم النقدية وبناء أقوى الأسئلة بدل تحويلهم إلى حرس شخصي لأفكارهم وتاريخهم.
الشرط الثالث، التواضع مع ضمان الاحتـرام والتقدير من أهم ما ينصح به في العمل العلمي في غائلة الأحكام الـمسبقة الـمتمسكة بالقديم، والتسامح والتعاون مع كل الـمرتبطين بالشأن العلمـي من تقنيين وإداريين يساعد على خلق جو الثقة والإبداع “لا شيء في كون الإنسان عالما يستوجب أو يحتاج إلى أن يصم أذنيه عن تساؤلات الضمير”، تلك مقولة كانت مكتوبة على مختبرات كوماس جرات، وهو أحد مؤسسي أكاديمية الـمملكة البريطانية منذ 1668م.
الشرط الرابع، العمل بمبدأ صياغة الفرضيات دون التشبث بها، إذ أن درجة التشبث بها لا تعكس صحتها أو خطأها، كما أن نزعة التملك إزاء الشعبة أو الأعمال قد تدمر شخصية الباحث وتخلق له عداوات، أو قد تعجل به في إعلان عن أعمال غيـر مكتملة أو ناضجة، وأن مناقشة الأفكار والأعمال في مراحل نموها خيـر من الاحتفاظ بها للنفس والذات، “إن من يغلق بابه يفقد أكثر مما يعطـي”، وحتى البحث العلمي لا يخلو من محافظين بصورة بشعة.
الشرط الخامس: اكتساب القدرة والفن على الكتابة العلمية، حيث أثبتت كثيـر من الدراسات أن الباحثين في الـمجال العلمي بالعالم العربي يعانون من عجز في طريقة الكتابة العلمية، وإثارة الآخر واقتسام بعض مشاغلهم ولو بشكل سطحي صوري مع محيطهم، وأن منابع الـمال والتمويل تشترط ذلك، بل جملة من الكتابات قد توضح أكثر من مجلد، وأحيانا الكتابة الـمختصرة سلاح علمي قوي، فهي تجمع بين الإثارة والاهتمام مع الحفاظ في مراحل من البحث العلمي على الـملكية الفكرية والجهد الفردي أو الجماعي.
إن تعليق اللورد ديكون على أحد خصومه السياسيين; الذي كتب كثـيرا من الـمقالات والندوات; كان كافيا في قلب كفة الصراع، لقد قال معلقا: “إنه مثل القرد الذي يبدي عورته أكثر كلما صعد أكثـر “. ومن هنا فإن الكتابة بدون تكلف وبوضوح ومنطق، ودون ترك أي ثغرة يسهل أو يمكن تصورها يمثل أحد التحديات الداخلية لمجموعات البحث العلمي.
الشرط الخامس: التكتل ضد محاولات التفريق والتفرق انطلاقا من وهم نفسي يستعمل مفردات ترتيب الـمستفيدين من البحث العلمي وتحويله إلى ترتيب في الأهمية والذكاء! وتحويل التخصصات إلى جزر متقطعة الأوصال، حيث العلاقات الإنسانية جامدة ومتوترة، والتي حتما تنعكس على النشاط العلمي وطبيعته ووظيفته، خاصة في مرحلة عالم علم العوالم.
الشرط السادس: التصدي للروح السلبية وفقدان الثقة التي تعاني منها معظم البيئات القائمة على البحث العلمي، وخاصة عند إسقاط الأوضاع الراهنة.
الشرط السابع: تفعيل قنوات التواصل بين الـمتخصصين واستثمار فكر علمـي متنوع بسبب تعدد بيئات التكوين، مع اختلاف التوجهات والتخصصات والتصدي لمظاهر إهدار العقل الجامعي العلمي سواء على مستوى نزيف العقول، وسرقة مهامها الجامعية وهدر إنتاجها التعليمـي والبحثـي، والتخلص من كثيـر من الثنائيات الوهمية وتعقيدها وتكبيلها وتضعيف تكتلاتها.
الشرط الثامن: التمسك بحق الفئة الـمهتمة بالبحث العلمـي في توجيه سياسات الـمؤسسات العلمية والثقافية والفكرية، ورصد أدائها واقتـراح مشاريع تطويرها انطلاقا من الانتماء العلمي الـمؤسساتي وليس استجابة لأجندات خارج الـمؤسسة.
الشرط التاسع: نزع فتيل الخصومات التي يشعلها البعض بين الدين والعلم وعدم إساءة فهم الانتماء للإسلام على أنه يعني الاستغناء عن فكر الآخرين، بل من شروط النهضة العلمية استيعاب فكر الآخرين لا تجاهله أو تجهيله، بل كيف يتحقق شرط توظيف العلم والتكنولوجيا مع انعدام تشجيع ثقافة علمية سليمة مبنية على التبادل والعطاء والعمل في ساحة رحبة عالمية، سواء على مستوى الـمشاركة وبناء الأسئلة، أو إيجاد الأجوبة والاهتمام بالتحديات.
الشرط العاشر: الوعي بأهمية التراث العلمي وإعادة قراءته على ضوء الإمكانات والفرص الـمتاحة، كما أن إحياء الفكر الفلسفي والتصدي لنظرة البعض الـمتدنية للفلسفة، بل للفكر النظري عموما، يستفاد منه في الحد الأدنى القدرة على النقد وبناء الأسئلة، مع استحضار شريط من التجارب في مجال البحث العلمـي والدراسة خاصة ما يتعلق بفلسفة العلم، وسوسيولوجية وتاريخ العلم والنظريات العلمية، وأخلاق وقيم الباحث، وبيئة البحث العلمي.
الشرط الحادي عشر: بناء شبكة غيـر رسمية تتمتع بالمرونة من أجل نسج نواة مجتمع علمـي، وهو مشروع ليس مستحيلا، الهدف منه كمرحلة أولى:
1) تحقيق نوع من الـمصالحة بين الـمعرفة العلمية والنشاط العلمـي مع الـمحيط الاجتماعي، وتنمية القدرات العلمية وإدراك مجالات الاهتمام العلمي من طرف هذا الـمحيط.
2) تحرير الظاهرة العلمية من التعقيد، بل توسيع دائرة الرأي العام الاجتماعي الـمدرك لأهمية البحث العلمي والتأكيد على أهميته ومردوديته الـمتعددة.
3) تطوير مشروع علم الثقافة وثقافة العلم مع بناء التكامل لا التشتيت والتضاد، وتطوير علاقة منظومة البحث العلمية بالمنظومة السياسية والاقتصادية والقدرات الاجتماعية.
4) تكسير الانعزالية وتجديد خطاب النخب العلمية مع مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية لتشكيل صورة متكاملة تمكن من الـمرور وإزالة العوائق، وقد تكون سلسلة من ربط العلم بحياة الفرد والمجتمع وإبراز كيفية مساهمة العلم في حل الـمشكلات تاريخيا وحاليا، مع إلقاء الضوء على تجارب العلماء والخبراء وإبراز الجوانب السلبية في الـمجتمع والفرد حينما ينسحب البحث العلمي، وتتقلص موارده، وينكمش دوره ووجوده، مع توضيح الآثار السلبية على الحريات والحقوق والمواطنة ومستوى الحياة ونوعها مستقبلا في بيئة الجهل والخرافة، بيئة هذا ما وجدنا عليه آباءنا، تلك البيئة التي انهارت لما نزل فيها قوله تعالى ﴿اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك ألأكرم، الذي علم بالقلم،علم الإنسان ما لم يعلم﴾.
8. في مستويات الاهتمام بالبحث العلمي من طرف الجامعيين والباحثين.
إن وضع أحوالنا كمجموعة علمية إذا ما أردنا قياس الـمسافة بيننا وبين مجتمع علمي، أي مجتمع يشتغل بالعلم ومن أجله سؤالا وبحثا وإجابة وكسبا وعيشا، يمكن تلخيصها على أنها أربعة أحوال أو مستويات:
المستوى الأول، وهو مستوى نفسي يتمثل في مجموعة من الـمنتسبين للجامعات والمعاهد والمراكز، تغلب عليها حالة نفسية عاطفية تاريخية، تنطلق من مسلمات صنعتها لنفسها دون أن تبـرهن على صحتها، تحسب من خلالها أننا نملك هذا الذي نبحث عنه، وهي بذلك تتجنب كل تعب فكري أو ذهني أو علمي، وتتحول هذه الـمجموعة في سلوكها وتفكيرها أقرب إلى العامة في نهاية عمرها، إذ يضيق صدرها من كل نقد، وتعتبر أن سقف العلم هو ترديد مجموعة من النصوص تتقدس في نفسها مع عامل الزمن، وتجمد عليها إدراكا وفهما وتطبيقا غير واعية بما تتعرض له معارفهم وزادهم من التآكل والتجاوز بفعل عوامل الزمن والتعرية والركود.
أما الـمستوى الثاني، وتشكله مجموعة التيئيسيين، وهي مجموعة تملك بشكل أو درجة من الدرجات فهما في بعض القضايا العلمية، لكنها تعاني من ضعف الرغبة في البحث العلمي والتحقق والانجاز من جهة، ومن جهة أخرى تعاني من أورام نفسية وتضخم في الذات دون وعي بذلك، أو عن وعي جزئي بالموضوع، وهؤلاء يملكون قدرة تصل حد الاحتراف للنقد دون مبررات موضوعية مع قلة العمل، كما يتمتعون بقدرة عالية وفائقة في إنتاج الـمناظر السوداء، وسرعة إصدار الأحكام، ويشكلون عائقا حقيقيا أمام بناء هذا الـمجتمع العلمي، وهم أقرب إلى حركة احتجاجية في آخر أعمارهم، إلا أنه سرعان ما تنمحي آثار احتجاجهم إذ لا تتجاوز أن تكون ذات طبيعة مزاجية، ولو كانت حركة نقدية علمية لتمكن الـمحيط من الاستفادة منها، ولو في الحد الأدنى في مراجعة الـمناهج، وطرق الاشتغال فيما يتعلق بالبحث العلمي.
أما الـمستوى الثالث، فتمثله الـمجموعة العلمية الـمستنزفة لأنها تجمع بين عناصر القوة والضعف، فهي تتمتع بقدرة عالية ومتميزة في مجال البحث والنظر، مع وجود درجة محترمة من التحليل والتعليل والتفصيل والتدقيق، إلا أنها تحمل عائقا منهجيا يتمثل في بعدها عن الواقع أو عجزها عن إدراك صياغته واختراقه، بحيث لم تستطع تطوير كثيـر من أفكارها وأعمالها النظرية إلى مشاريع عملية قابلة للتطبيق والتنزيل، وتكتفي بسبب هذا العجز الذي تحول مع الزمن إلى عائق بنيوي بالمستوى النظري، وقد يمتد بها العمر دون ملامسة هذا الواقع، وفهم طرق بناء هذا الـمجتمع العلمي، فيذهب كثير من جهدها دون استكمال الـمهمة أو إبقاء أثر يذكر في الواقع.
أما الفريق الرابع الـمراهن عليه، ويمكن تسميته تجاوزا النواة الصلبة أو الكتلة الحرجة التي تمثل شرطا أساسيا ضروريا لإيجاد هذا الـمجتمع، أي الـمجتمع العلمي، فهـو الـمجموعة الـمنشغلة بالبحث العلمي، الساعية إلى تطويره مع وعيها التام بأشد العوائق والإكراهات، وتمتعها بالقدرة على الربط بين البحث والنظر، وبناء ساحة الفعل والمحاولة للتطبيق والممارسة. وتعتبر هذه الـمجموعة الكتلة الحرجة التي هي شرط أساسي لتفجير طاقة الانطلاق.
وكخلاصة، فإن مدخلات الجامعة بمواردها البشرية الـمشتغلة في الحقل العلمي، لا يبقى منها ولا يراهن فيها إلا على الـمجموعة الرابعة، التي تجمع في شخصيتها العلمية الوعي بالواقع والقدرة على الربط بين حاجات هذا الواقع وسلطان الـمعرفة والعلم، ساعية إلى تطوير هذه النواة لتصبح مجتمعا علميا يتمتع بخصائصه ومميزاته.