الرئيسية / هل من طريق لعلاج ثقافتنا الفقهية؟

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : هل من طريق لعلاج ثقافتنا الفقهية؟

الكاتب(ة) : د. أحمد الخمليشـــــــــــــــي

بسم الله الرحمن الرحيم
السيد العميد المحترم،
السادة الأساتذة الأفاضل،

  أشكر لكلية الشريعة استدعائي لهذا اللقاء الذي لن أقدم فيه جديدا، وإنما أرجو أن أستفيد فيه منكم أنتم، لأن هذه الكلية إذا كانت قد أسّست قبل سنوات معدودة فإن جذورها ضاربة في التاريخ المغربي منذ أن دخل الإسلام إلى هذا البلد الأمين. فكلنا يعلم أن الدراسات الشرعية في هذا الإقليم كان لها تميّز منذ دخل الإسلام إليه. وهو الإقليم الوحيد الذي ترجمت فيه كتب فقهية إلى اللغة المتداولة ليستفيد الناس، ولينتفع بشرع الله الجميع. وفي هذه البقعة كذلك نشأ ما سمّي بالكدّ والسّعاية وإن قاومه علماء آخرون. فالدراسات الشرعية في هذا الإقليم عريقة وقديمة وعميقة، لذلك نعلّق كل الآمال على هذه المؤسسة بعد أن ورثت هذا الإرث    الغني الملهم، لكي تواصل المسيرة ولكي تتعاون مع باقي المؤسسات بالمغرب لنخرج بوطننا، وأكرّر هذه العبارة لنخرج بوطننا مما نشاهده الآن في عالمنا الإسلامي من تمزّق وتناحر وتقاتل. فلا سبيل لنا للنجاة من هذه الأمواج المتلاطمة حولنا إلا بالتمسّك بما جمعنا منذ قرون وقرون.

  اخترت للقاء بكم عنوان: “هل من طريق لعلاج ثقافتنا الفقهية؟” بالتأكيد أن العنوان مثير وربما مستفزّ، وقد قصدت هذا. فلماذا قصدته؟ لأنني أدعو إلى أن يكون طلبتنا وبالأخص طلبة كلية الشريعة، ممّن يستفزّهم مثل هذا السؤال، لكي يشاركوا جميعا في البحث عن الجواب، لأنني أرى وأعتقد أنّهم مؤهّلون أكثر من غيرهم، لماذا؟ لأنهم إلى جانب الدراسات الفقهية يتلقون كذلك الدراسات القانونية، والدراسات القانونية تساعدهم كثيرا على الاستفادة من الدروس الفقهية.  
  وأتناول الموضوع في مقدمة وفقرتين، المقدمة تشتمل على نقطتين: الأولى: القصد من الثقافة الفقهية، والثانية: أسباب تناول هذا الموضوع.
  أما الفقرتان فأعرض في أولاهما ما أعتبره عطبا في الثقافة الفقهية يحتاج إلى “علاج”، وفي الثانية محاولة الجواب عن سؤال: (هل من علاج ؟) .
1 ـ القصد بالثقافة الفقهية
  يبدو من المفيد التمييز بين الفقه باعتباره مجالا معرفيا، وبين الثقافة الفقهية الموجهة لسلوك “الفقيه” و”غير الفقيه”.
  أقصد بالثقافة الفقهية: مجموع المعلومات والمؤثرات الفكرية والسلوكية التي تعكس تصورنا للمنظومة الفقهية، وتحدد طرق تعاملنا معها سواء في التلقين أو في التلقي.
  ففي التلقين شاع تقديم الآراء الفقهية ـ وهي عادة مختلف فيها ـ بوصفها أحكام الشريعة، وبصيغة وجوب الامتثال لها دون مناقشة أو تساؤل مهما يكن فيها من خطورة() أو عدم الحاجة إليها واستحالة تنفيذها مثل الفتاوي التي أصدرها في أكتوبر الماضي من وصفوا أنفسهم بالشيوخ والأساتذة في الأزهر بمصر، ببطلان صوم المغاربة وأضحية عيدهم لأنهم اعتمدوا رؤيتهم للهلال ولم يقتدوا بالمملكة العربية السعودية في الموضوع ـ علما بأنه لا أحد من المغاربة استفتاهم في الموضوع، والمفتون يعلمون علم اليقين أن لا أثر لفتاويهم إلا التشويش وزرع بذور الفتنة …
  إنها ثقافة “الفقيه” الذي يعتقد انها تخوله “الوصاية” على جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
  وفي ثقافة التلقي يمكن أن أشير إلى أنه منذ أسبوعين تقريبا ضبطت عصابة في طنجة كانت مستعدّة للقيام بكثير من الأعمال التخريبية، ما يهم فيها أن أكبر أفرادها سنّا عمره 22 عاما والباقي ما بين 18 و19 سنة. هؤلاء المراهقون لم يعتنقوا الأفكار التي عزموا على تنفيذها بعد التحليل والاقتناع بصلاحها، وإنما استجابوا لها بحكم ثقافة التلقي من غير مناقشة ولا تفكير في المآل وهي السمة الغالبة للثقافة التي تشكلت عبر قرون للتلقي المغلف بأسلوب التبليغ والإلزام بالتنفيذ.
  إذن الثقافة الفقهية التي تساءلت عن حاجتها إلى علاج هي التي توحي إلى طائفة من “الفقهاء” بحق التدخل في كل شيء وبصلاحية ممارسة الوصاية على الافراد والشعوب، والتي غالبا ما يتجرد فيها المتلقي عن استعمال عقله في فحص ما يتلقاه وتمييز خيره من شره حالا ومآلا.
2 ـ أسباب اختيار هذا الموضوع
  أما لماذا اخترت هذا الموضوع فلأنني أعتقد أنه موضوع الساعة، فنحن نعيش في واقع لم يسبق للعالم الإسلامي أن وجد فيه في كل المحن التي مرت به.
  إذا تجاوزنا مثلا هجمة التتار والحروب الصليبية ثم المرحلة الاستعمارية، نجد في الخمسينات من القرن الماضي الصراع بين “الرّجعية” و”التّقدّمية”، والذي كلّف العالم الإسلامي الكثير، ليس فقط في ما كان من حرب كلامية، واديولوجية أهدرت المال وضحت بحرية وحقوق كثير من المواطنين، وإنما أشعلت حروبا بين الإخوة كان من أهمها الحرب اليمنية عقب انقلاب عبد الله السلال، والتي أودت بحياة أكثر من سبعين ألف جندي مصري قدموا قربانا لمحاولة انتصار “التقدمية” على “الرجعية”.
  بعد هذه الحرب عشنا مناوشات داخلية وإقليمية بين تيارات يسارية، وأخرى دينية وبين الأنظمة السياسية كان لها ضحايا غير قليلين إضافة إلى انها كانت السبب الأساسي في غياب العناية بتنشئة المواطن وبناء صرح المعرفة التي هي الوسيلة الوحيدة لبناء المجتمع الصالح القادر على المحافظة على عراقته وعلى المشاركة في تحقيق رسالة الإنسان على هذه الأرض وفي توجيه مسيرته.
  لكن الآن وبالأخص بعد بداية القرن الذي نحن فيه، أعتقد أن المجتمعات الإسلامية في مجملها ـ ونسأل الله أن يبقي المغرب بعيدا عن مشاكلها ـ تعيش في وضعية يمكن تسميتها بوضعية الانتحار الجماعي، لأنه عندما يغيب الحوار وسيلة لتدبير الاختلاف في الرأي، ولبناء التعايش، وتحل محله شوفينية الاعتزاز بالرأي والطائفية العرقية أو الإديولوجية التي لا ترضى بغير التصفية الدموية للمخالف ـ هل يمكن وصف الوضع بغير التناحر الجماعي؟
  منذ سنوات، وفي عدة مجتمعات اسلامية: التناحر على أشده، وصل الأمر إلى استعمال الأسلحة الكيماوية، وهو ما كانت نتيجته:
  الآلاف والآلاف من القتلى، مئات الآلاف من المشرّدين ومن الأيتام ومن الأرامل، والمعطوبين. لذلك قلت بأن هذا الموضوع هو موضوع الساعة. يجب أن نفكر في المصير وكيف ينبغي أن نبتعد عن هذا الجحيم الذي اشتعل في مجتمعات إسلامية عديدة، إذا لم نأخذ للأمر أهبته، وإذا لم نفكر في المصير قبل بدايته فإن ذلك سيضرّ بنا كثيرا، والحمد لله أننا ما زلنا لحد الآن محافظين على تعقلنا، محافظين على هدوئنا، محافظين على سلمنا الاجتماعي، محافظين على تعايشنا. وهذا ما يفرض علينا أن ننتبه إلى ما حولنا من الموبقات حتى نتجنّبها.
  بعد هذا التقديم أنتقل إلى فقرتي الموضوع:
  الفقرة الأولى : العطب المدعى في الثقافة الفقهية
  كلمة “علاج” الواردة في العنوان تعني وجود مرض أو عطب، وهذا ما أريد بيانه الآن:
  قد أكون في ذلك على خطأ أو على صواب هذا لا يهمني إنما المهم عندي أن يدلي كل برأيه وبما يستند عليه في هذا الرأي وأن تتم مناقشة كل الآراء، لأن الطريق السّويّ في الفكر لا يمكن أن تتبيّن إلا إذا شارك الجميع في بنائها.
من الأعطاب التي يجب علاجها:
1 ـ التقرير باسم الشريعة
  من القضايا التي ينبغي أن نطرحها للمناقشة الجدية في المجال الفقهي أن الكلّ يقرّر ولكن الجميع لا أهلية له في التقرير. كيف؟
  كلّ يقرّر أي إن ما يسمّى بالفتوى يعني أن كل أحد يمكنه أن يصدر باسم الإسلام فتاوى حتى في الأشياء الخطيرة وحتى في الأمور التي لا تهمه مثل التي أشرت إليها قبل بالنسبة لفتوى بطلان عيد المغاربة، وفي نفس الوقت لا أحد له أهلية التقرير، باعتبار أن هذا التقرير موكول للمجتهد، وليست لدينا طريقة ولا وسيلة للاعتراف بهذه الصفة لأي كان. فكيف نتعايش مع هذه المتناقضات؟. هذا ما نرجو أن يفكر فيه الجميع، لأن وجود هذه المتناقضات هو مصدر المشاكل التي نعيشها: من جهة لا اعتراف لأحد بتوفره على صفة المجتهد. في ذات الوقت، الكل يحلّل ويحرّم باسم الإسلام. نقول نظريا إن المفتي يجب أن يتوفر فيه كذا وكذا ولكن هذا قول نظري. أما في الواقع العملي، فكلكم تعلمون الفتاوى الشاذة أو المثيرة للفتنة التي تنشر داخل المغرب أو خارجه تنشر باسم الإسلام ويوجد من يتلقاها ويحرص على تنفيذها ولو بالتضحية بالمال والنفس. أليس من واجبنا التفكير في هذا المشكل؟ أليس من واجب طلبة كلية الشريعة أن يخصّصوه بأبحاثهم؟ مساهمة منهم في علاج هذا الواقع الذي نعيشه منذ عشرات السنين؟
2 ـ الإفتاء التطوعي والذي لا يقيم وزنا للمآل
أقصد بالافتاء التطوعي وجود عشرات وربما مئات من الناس يعشقون الإفتاء، لا يحتاجون إلى من يسألهم، ولا من يتقدّم إليهم بحثا عن حكم الشريعة، وإنما يطلقون فتاواهم استجابة لهوسهم بتقمص صفة المفتي الناطق باسم الشريعة مثل تلك التي تطاولت على صوم المغاربة وعيدهم.
كما نعاني من الفتاوى التي لا تقيم وزنا لمبدأ “مراعاة المآل” المعروف في أصول الفقه. وكمثال لها تلك التي دعت إلى النفير للجهاد في سوريا.
ففي 30 أكتوبر 2014 نظمت وقفة احتجاجية في الرباط أمام البرلمان، من المؤيدين أو المدافعين عمّن يسمّون بالسجناء الإسلاميين، أحد الخطباء في هذه الوقفة قال: “في 13/06/2013 اجتمع مؤتمر اتحاد علماء المسلمين في القاهرة وأصدر فتوى بوجوب النفير العام للمسلمين للجهاد في سوريا”. وأضاف هذا الخطيب: “فلماذا تعتقلون الشباب الذي استجاب لهذه الفتوى عندما يرجعون إلى بلدهم؟”. هذه الفتاوى التي تصدر دون تقدير عواقبها، وتثير مثل هذه الأسئلة المحرجة وهي أن مثيريها يقولون إن هؤلاء المعتقلين استجابوا لفتوى صادرة عن مؤتمر اتحاد علماء المسلمين في العالم المكون من مئات العلماء، فلماذا تحاكمونهم وهم لم يزيدوا على أن استجابوا لفتوى “أهل الاختصاص”؟ إذن يجب التفكير من الجميع في كيفية الفتوى ضبطا عمليا، وليس نظريا كما يقع الآن. إن الفتوى لم تقدر على الابتعاد عن السياسة، وهكذا أدت فتوى النفير للجهاد في سوريا إلى فتاوى مضادة وقرارات سياسية باعتبار اتحاد علماء المسلمين منظمة إرهابية. إنه صب للزيت على النار.
ما هي النتائج فيما بعد؟ النتائج يشاهدها الجميع، ولا حاجة إلى المزيد.
3 ـ غياب مناقشة موضوعات الفقه في راهنيتها
يمكن القول إن كل موضوعات “فقه المعاملات” ما يزال الفقه يتناولها بالحكاية والنقل دون مراعاة التغير الذي حدث لكثير من ملابساتها المؤثرة في مآلات الأحكام.
لذلك ينبغي أن يعنى الفقه بهذه الموضوعات كما هي راهنة أي كما تعيشها المجتمعات التي يوجد فيها الفقه. فمثلا: فروض الكفاية التي تشمل جميع مرافق حياة المجتمع تكيف في أصول الفقه بكونها خطابا للفرد المكلف، وبالتالي هو الذي يجب عليه القيام بها وإنجازها بعد أن يدرك ضرورتها. والحال ان هذه المرافق جميعها أصبحت الآن فوق طاقة الفرد، لأن ما يدخل في فروض الكفاية يشمل جميع الحاجات العامة للمجتمع، مثل مختلف أنواع الحرف والتجارة، والماء، والطرق، والتطبيب، وغير ذلك من المرافق التي تدخل كلها في مفهوم فروض الكفاية. فإذا كان السابقون اعتبروها من خطاب التكليف الموجه الخطاب فيها للفرد، فإن هذه المرافق الآن أصبحت فوق طاقته. توفير الماء والطرق الضرورية مثلا لمدينة أكادير، أو حاجاتها للمواد الغذائية، أو ما تحتاج إليه من الاستشفاء وغير ذلك، كل هذا أصبح الآن فوق طاقة الفرد. فعلينا إذن أن ندرس وأن نناقش هذه المرافق براهنيتها كما هي. وإنها بذلك أصبحت من التزامات المجتمع، تحتاج إلى تكاليف مادية باهضة، وتخصصات معرفية متنوعة والتخطيط في الإعداد، والمتابعة في التنفيذ؛ وعدمُ استحضار الدراسات الفقهية لكل هذه الملابسات، والاكتفاء بترديد ما قيل من تفاصيل عن فروض الكفاية يبعدها عن التأثير في الواقع وعن المساهمة في اقتراح الحلول.
ومن الأمثلة التي نعيشها كذلك ولا يعير الفقه لها اهتمامه النظامُ المؤسسي للدولة، أي الدولة السياسية، وأقصد الدولة التي تخضع لحكم سياسي موحد، هذا واقع ولا ينبغي أن نهمله في دراساتنا سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، لكن في كل الأحوال، الفقه المتعلق بمؤسسات الدولة أي بالدولة السياسية أمر لا بدّ منه. إن عدم اعتنائنا بهذا المجال هو الذي جعلنا نتحدّث كثيرا عن الأمة أو الأمة الإسلامية. لكن ما أعتقد إمكانية انتظام الأمة الإسلامية في هيكل سياسي واحد، إذا لم يتحقق ذلك بتطوير مراحل الدولة السياسية، أما الآن فيبدو أقرب إلى المستحيل نجاح الدعوة إلى تأسيس دولة موحدة بين أندونيسيا والمغرب والسينغال وكينيا والقوقاز في روسيا إلى باقي دول العالم الإسلامي. إذا أردنا أن نصل إلى تلك المرحلة، علينا أن نبدأ بالدولة السياسية أولا، لأنه عندما تنضج هذه الدولة السياسية ويتوق مجتمعها إلى كيان سياسي أكبر يمكن الانتقال بمراحل إلى “دولة الأمة الإسلامية”.
يمكن أن نأخذ العبرة مثلا من الدول الأوربية. هنالك قاسم مشترك بين أوربا جميعها نتيجة لما عانته من الحرب العالمية الثانية وما كلفتها هذه الحرب من عشرات الملايين من الضحايا، والتخريب لكل المدن والقرى فأنشأت ما سمّي بـ”اتحاد أوربا”، في خمسينات القرن الماضي اقتصر على موضوع حقوق الإنسان الذي جمع كل الموقعين على اتفاقية 1950. ولذلك وقعت على الاتفاقية كل دول أوربا، أي 47 دولة، بينما كانت هناك دول أكثر تقاربا في مؤسساتها الدستورية وأجهزتها السياسية، فأنشأت “الاتحاد الأوربي” الذي بدأ هو كذلك في خمسينات القرن الماضي، ولكن لم يتأسّس رسميا إلا في سنة 1992 بـ “اتفاقية أمستريخت” في مدينة أمستريخت الألمانية. بدأ هذا الاتحاد بسبع دول ثم أخذ يكبر، الآن وصل إلى 28 دولة، لأن هذه المجموعة هي أقرب إلى بعضها من تلك المجموعة الأخرى “اتحاد أوربا”. فاتحاد أوربا فيه 47 دولة وهذا الاتحاد الأوربي فيه 28 دولة، وتسير بحذر شديد وبخطوات محسوبة في التوحيد التدريجي لأنظمتها. مثلا إلى الآن بالنسبة للعملة، اتفقت على توحيدها 18 دولة، وعشر دول ما تزال لها عملتها الوطنية. ولتكون خطواتها جدية وسليمة أنشأت أجهزة مضبوطة الاختصاص، مقيدة بالشفافية في أداء وظائفها، مسترشدة بتوجهات الرأي العام في دول الاتحاد. فهنالك “مجلس الاتحاد الأوربي”، و”المفوضية الأوربية”، و”مجلس الاتحاد” المكون من رؤساء الدول والحكومات إلى آخره، المهم أنها وضعت برنامجا بعيد المدى لكي تتقارب مجتمعاتها وتذوب الفوارق بينها. وبالنسبة للأمة الإسلامية لا بدّ أن تخطو هذه الخطوة، لأننا إذا كنا الآن داخل الدولة السياسية كما نشاهد في كثير من أنحاء العالم الاسلامي، يوجد الكثير من التفكك إلى حد التقاتل والتناحر، فكيف يمكن أن نفكر منذ البداية في تأسيس “دولة” للأمة الإسلامية بالمعنى العلمي والسياسي للدولة؟ المسلمون والحمد لله موجودون في القارات الخمس جميعها، وبعد سنين معدودة سيكونون بالملايين، وليس فقط بالعشرات أو مئات الآلاف كما هو موجود الآن، فالأمر إذن يتطلب الكثير من التفكير، ثم التفكير، ثم التفكير، في وسائل علاج وإصلاح أعطاب الدولة السياسية الحالية، ثم مراحل بناء “الدولة الإسلامية”.
هذه إذن بعض المظاهر التي قلت إنها تحتاج إلى علاج. قد يكون في بعضها مناقشة وهذا أمر ضروري، ولكن لا بدّ من الخروج من هذا الواقع الذي نعيشه، لا بدّ أن نخرج من واقع: كلّ واحد يقرّر بفتاويه في صغائر الأمور وعظائمها، ولا أحد له أهلية التقرير، لا بدّ من مناقشة هذا الموضوع للخروج بنتيجة منطقية معقولة. لا يمكن إطلاقا أن نغمض أعيننا عن الواقع الذي نعيشه، سواء كان حلوا أو مرا، فالفقه يجب عليه أن يناقش واقع مجتمعه لكي يبحث عن الحلول التي ينبغي أن يجدها. وأنتقل إلى:
الفقرة الثانية : هل من علاج
سؤال موجه إلى كل طالب وطالبة، لأننا في أمسّ الحاجة إلى أن نفكّر جميعا، إلى أن يدلي كلّ برأيه. فالموضوع جدّ هام وعميق ومعقّد. الأمر لا يتعلق بآراء الأفراد، والحقيقة لا يملكها أحد، وإنما بتعدّد الآراء وبمناقشتها نقترب إلى الطريق المستقيم إن شاء الله.
هنالك بعض المقترحات، هنالك ما سمّي بـ “الاجتهاد الجماعي”، لكن كل الصور التي اقترحت تعذّر تطبيقها، فالاجتهاد الجماعي يكون من “العلماء” أو من “كبار العلماء”، لكن المشكل الذي لم يحل هو من هم العلماء أو كبار العلماء؟ كيف يعيّنون ومن يعينهم أو ينتخبون ومن ينتخبهم؟ والآخرون الذين لم يعينوا أو ينتخبوا من يملك إسكاتهم أو نبذ آرائهم؟ هل في الإمكان تحقيق هذا الاجتهاد الجماعي بهذه الصّفة؟. وجدت هيئات إما معيّنة وإما مستقلّة، في العالم الاسلامي كلّه. ولكن هل تمّ الاعتراف لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، للذين عيّنوا، أو للذين اختاروا أن يكوّنوا هيئاتهم بصورة مستقلّة عن السياسيين أو عن الحكومات؟ الجواب قطعا بالنفي. بل أكثر من هذا، نجد في حالات غير قليلة الطعن المتبادل بين هذه الهيئات، ولعلّ أحدثها ما بين “اتحاد علماء المسلمين” والتّجمّع الذي أنشئ في الإمارات العربية المتّحدة تحت اسم “مجلس حكماء المسلمين”، فالهيأتان معا غير معيّنتين وكل واحدة منهما مكونة على امتداد العالم الإسلامي كلّه. هذه بعض الأسباب التي حالت دون تحقّق الاجتهاد الجماعي.
كذلك نودي بـ”الاجتهاد المقاصدي”. ما أجمله، لأن تلك المقاصد هي قيم الإسلام، وقيم الإسلام يمكن أن تجيب عن كلّ سؤال، وتستجيب لكلّ حاجة، لكن من يحدّد هذه المقاصد؟. يأتينا الجواب من التناقض الذي أشرنا إليه قبل، وهو الكلّ ليست لديه أهلية التّقرير، لأن الاجتهاد المقاصدي يجب أن يقوم به مؤهّل، من هو هذا المؤهّل؟ المجتهد؟ وكيف يعين المجتهد؟. هذا هو السؤال الذي لم نجب عليه إلى الآن.
وأرجو أن يدلي كل واحد برأيه، لأن الموضوع في مضمونه هامّ وخطير في نتائجه إذا لم نتداركه. الأمة الإسلامية في هذا الظرف الذي نعيشه في وضع مأساوي حقا. صحيح أنها تعرضت لفترات عصيبة في تاريخها أكثر من مرة، ولكن كانت الآثار السلبية محدودة، أما الآن، فإن أبناءها يتعاملون بوسائل الإفناء والدمار التي لا تبقي ولا تذر. وسائل الإفناء هل توفرت صدفة وتلقائيا، أم هنالك من يوفرها ويدفع بها إلى الميدان؟. عندما نرى الآن عشرات الآلاف الذين يقتلون في سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي باكستان وفي أفغانستان إلى آخره، من أين يأتي السّلاح بالكميات وبالنوعية التي تسرّب بها إلى هؤلاء الذين يتناحرون ويرقصون فرحا بـ “انتصاراتهم”؟ بالتأكيد يثور التساؤل فعندما كانت هنالك إرادة لتحقيق غاية، سرعان ما تحققت هذه الغاية. مثلا صدّام كما كان يقال لديه مليون جندي، وتمّ سحقه في يومين أو ثلاثة أيام. فما بال البغدادي الذي تواجهه عشرات الدول لا نرى أثرا لهذا التحالف ضده؟ إنها أسئلة يجب أن نثيرها. فلذلك يجب أن نفكر في حلول واقعيّة، كيف يمكن أن نتفادى ما يبدو قادما لا قدّر الله؟
ممّا يساعد على ذلك بالتأكيد:
1 ـ الاهتمام بالواقع كما يعيشه الناس في حياتهم الخاصة والاجتماعية.
2 ـ عدم إهمال خاصية التجدد والتطور في معارف الإنسان وما يؤسسه على ذلك من أنظمة ونماذج سلوك.
3 ـ تعميق التفكير في آية: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾.
1 ـ الاهتمـــام بالواقــع
إن أولى خطوات العلاج لثقافتنا الفقهية، هي العناية بدراسة الواقع كما هو. مثلا النظام الدّستوري يجب أن يدرس الطلبة ما فيه من أحكام سليمة وأحكام غير سليمة في نظرهم، لأن بقاء هذا النظام المؤسّسي وكلّ الأنظمة الأخرى متداولة باسم “القانون الوضعي” له أثره السّلبي الذي أوصلنا إلى الوضع الذي نحن فيه. إن الثّقافة التي سادت وما تزال ترى “القانون الوضعي” غير إسلامي، ومعنى غير إسلامي أن الذين يحكمون به كفروا بشريعتهم ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون﴾ و”كَافِرُون” و”فَاسِقُون” إلى آخره. فمن الضروري أن نتناول هذا الواقع الذي يعيشه الناس أن يدخل إليه الفقه، ليقول فيه كلمته، وليتبنّى ما هو صالح، وليقول كلمته كذلك في ما يرى أنه غير صالح، فالمهم أن يعالج واقع الناس بما يعيشونه، وأن يشعرهم أن ما يعيشون فيه مرتبط بعقيدتهم وله صلة وثيقة بها، عوض تركهم فريسة للمقولة التي تنعت “القانون الوضعي” بالمخالفة للإسلام، هذه المقولة هي التي ترتّبت عنها كثير من النتائج السلبية التي نعيشها.
ما قلناه عن النظام الدستوري يسري على كل مرافق حياة المجتمع وتنظيم تعايشه من الأنظمة الإدارية، والقضائية، والاقتصادية، وما استجد في أنواع العقود، ووسائل الاثبات، والشركات إلى غير ذلك من مجالات الحياة التي ما تزال الدراسات الفقهية تتلوها كما كانت تتلى منذ قرون.
2 ـ واقع تجدد العلاقات الاجتماعية
هذا جانب آخر من الواقع الذي يجب الاهتمام به. عندما نتحدّث عن الفقه نتحدّث بطبيعة الحال عن فقه المعاملات، المتميز عن فقه العبادات.
فبحكم تعلقه بالعلاقات الاجتماعية، يبقى باستمرار خاضعا للتجدد والتغير، لأن الفطرة التي خلق الله الإنسان علـيها قضت علـيه بالاسـتفادة مـن التجربة ومن المعرفة التي تفتح له نوافذها كل يوم.
ومن المفيد الإشارة إلى أمثلة لهذا التطور والتجدد من حياتنا المعيشة:
– المثال الأول : النظام الدستوري، أول دستور في المغرب صدر عام 1962. فبصرف النظر عن طريقة توزيع السلط فيه بين المؤسسات، فإنه لم يعن إلا بالمؤسسات التقليدية: الملكية، البرلمان، الحكومة، القضاء. ولم يضف إليها إلا مؤسسة واحدة هي: المجلس الأعلى للإنعاش الوطني والتخطيط.
وقد أثبتت مسيرة الدساتير المقارنة ضرورة التوسع المستمر في المؤسسات الدستورية سواء المقررة منها أو الاستشارية لما تحققه من استبعاد الاستئثار بالسلطة والشفافية في الأداء، والحكامة الجيدة في الممارسة. لذلك نجد دستور 2011 أضاف أكثر من عشر مؤسسات وهيئات.
منها ذات سلطة تقريرية مثل: “المجلس الأعلى للقضاء” و”المحكمة الدستورية” هذه الأخيرة التي تطورت من غرفة دستورية في المجلس الأعلى للنقض والإبرام ويرأسها رئيس هذا المجلس إلى “المجلس الدستوري” وأخيرا إلى “المحكمة الدستورية”، التي خولت لها صلاحيات لم تكن للمجلس الدستوري.
وإضافة إلى هذه المؤسسات المقرّرة أحدث مؤسسات وهيئات استشارية مثل: المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ومؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة، والتنمية البشرية والمستديمة والديمقراطية التشاركية: كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والوسيط، وهيئات النهوض بالتنمية البشرية المستديمة والديمقراطية، مثل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي. ذلك أن المجتمع تتغيّر حاجاته في كلّ ظرف زمنيّ، ليس فقط في النّظام الهيكلي أي الدستوري ولكن حتى في المرافق المختلفة للمجتمع، وهو ما نخصص له المثالين الثاني والثالث:
– المثال الثاني : في عام 1918 صدر القانون المنظم للإجراءات ـ مع بعض قواعد الموضوع ـ أمام “المحاكم المخزنية” مواده تقل عن الثلاثين، وكان اختصاص هذه المحاكم يشمل كل القضايا المدنية، والجنائية، والتجارية، والآن نجد قوانين الإجراءات أمام أنواع المحاكم المسند إليها تلك الاختصاصات، تتكون بالنسبة لكل اختصاص من مئات المواد. فضلا عن إحداث محاكم تجارية وأخرى إدارية، والفصل بين الإجراءات المدنية والإجراءات الجنائية …
– المثال الثالث : عقد النقل تعرض له ابن عاصم في تحفته في خمسة أبيات بعنوان “كراء الرواحل والسفن”. نحن الآن لدينا عشرات عقود النقل، نقل الأشخاص جوا، برا، بحرا، نقل البضائع، نقل الأموات، نقل الأشياء الخطيرة، نقل الأشياء المشعّة، نقل الأشياء الملوّثة، الأشياء السريعة الانكسار، السريعة التّلف… أي أمامنا عشرات عقود النقل، ولكل واحد منها قانونه الخاص الذي قد يتكون من مئات المواد والفصول. فهل نرضى أن نترك واقعنا الذي نعيشه ولا نبدي فيه رأينا، لنكتفي بما كان يكفي في وقته تبعا لوسائل النقل التي كانت متوفّرة؟. سنّة التّطور، هي سنّة الله وفطرته ولن تجد لسنة الله تبديلا. أفلا ينبغي لتكويننا الفقهي أن يدخل هذا المجال، أي مجال تجدد وتطور علاقات المجتمع وحاجاته ويفرض حضوره ليدلي برأيه، إنه بذلك يحقق ثقة المجتمع فيما يخضع له من قوانين ونظم، ويطمئنه بأن أحكامها غير مخالفة لشريعته. هذه هي النقطة الثانية التي أرجو أيضا أن نعنى بها، والنقطة الثالثة والأخيرة هي:
3 ـ تعميق التفكير في آية ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾
إن مضمون هذه الآية هو الذي مكّن المجتمعات المستقرّة الآن من التعايش ونعمة السلم، إن أنظمتها متوافقة بصورة أو بأخرى مع قوله : ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾، فأرجو من طلبة كلية الشريعة أن يستفيدوا من قراءاتهم القانونية، لأن هذه الدراسة القانونية تريهم تطوّر الفكر الاجتماعي، وكيف توصل هذا الفكر إلى إرساء النظام المؤسّسي عوض نظام الأشخاص والأفراد، وتمكن بذلك من إرساء التعايش والاستقرار الداخلي للمجتمع، ونحن في العالم الاسلامي ما أحوجنا إلى هذا التعايش والاستقرار. عندما يفكّر الطالب والباحث في الآية وكيف ينبغي أن يكون تطبيقها، فإنه يفعل ذلك تحت رقابة كليات الشّريعة ونصوصها، وبذلك يتمكّن من تقديم قارب النجاة لهذا الوضع الذي نعيش فيه.
ربما أطلت عليكم كثيرا، لذلك أرى أن نتوقّف، وأرجو أن يكون في ما قدّمته بعض المساهمة في إثارة الأسئلة. لم أقدّم جديدا وكل ما أحرص عليه إثارة أسئلة، لأن إثارة الأسئلة تدفع المستمع إلى استعمال فكره والإدلاء برأيه وفي تعدّد الآراء وفي تعدّد الأفكار كلّ خير، والله يوفّقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم.
*        *        *
في نهاية الدرس أثيرت أسئلة من بعض الطلبة، كان أشدها تأثيرا في نفسي تساؤل طالب واستنكاره لما قلته حول دعوة طلبة كلية الشريعة إلى الاهتمام بالدراسات القانونية التي يتلقونها، والاستفادة من نجاح الفكر القانوني في التمييز بين إبداء الرأي وبين التقرير في تنظيم مرافق المجتمع وعلاقات أفراده، الأمر الذي يسّر ترسيخ مبادئ التعايش بين الآراء المختلفة، والتلاقح المستمر بينها لإنتاج الأفضل. فقد تساءل الطالب: كيف نستفيد من القانون المخالف للشريعة؟ أو من نظم الدول الغربية وهي علمانية؟
لم أجب الطالب عن تساؤله، لأنني صدمت به والجواب في تلك الحالة قد يتضمن عبارات غير مرغوب فيها.
سبب الصدمة هو استمرار تلقين طلبتنا أن كل ما تصدره المؤسسات الدستورية من قوانين وأنظمة هو “قانون وضعي مخالف لشريعة الإسلام”، مسايرة لثقافة غرسها عدد من رواد الخطاب الديني المناهض للاستعمار في القرن العشرين الماضي.()
ولا ينازع أحد في أن “القانون الوضعي”:
– دخل إلى البلاد الإسلامية محمولا فوق بنادق ودبابات المستعمر.
– جل مقتضياته على الأقل استنسخت من قوانين الدولة المستعمرة ولصالحها ولصالح الجالية المستغلة التي استقدمتها معها.
– اشتمل على مقتضيات غير مقبولة دينيا أو غير ملائمة اجتماعيا.
لكن إلى جانب كل ذلك، أحسنَ ضبط كثير من المجالات التي كانت تعاني من الفوضى أو سوء التنظيم.
لذلك فإن الموقف الذي يبدو منطقيا من التشريعات التي تصدرها مؤسسات الدولة وحتى الموروثة من عهد الاستعمار، هو تعيين الأحكام التي تبدو للناقد غير سليمة أو مخالفة لأحكام الشريعة مع تقديم البديل الذي يعوضها، أما استيراد عبارة “القانون الوضعي” بالحمولة التي ألصقت بها من فترة الاستعمار، فخطأ يتعين استحضار نتائجه التي برزت في التيارات التكفيرية.
إن هذه التيارات وجدت في مقولة “مخالفة القانون الوضعي للشريعة” سندها القوي للإقناع بتكفير المجتمعات الإسلامية التي نبذت أحكام شريعتها واختارت الاحتكام إلى الطاغوت ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾.
والآن أجيب الطالب عن سؤاله فأقول:
القوانين التي صدرت في فترة الاستعمار والتي تصدرها اليوم المؤسسات الدستورية المعنية:
ـ إذا نظر إلى نصوصها الجزئية وآلاف آلاف الوقائع التي تعالجها نجد بالتأكيد من يرى ضمنها أحكاما غير صالحة أو مخالفة لأحكام شرعية نصية أو اجتهادية. في حدود المبادئ الناظمة لتعايش الفرد والمجتمع، والابتعاد عن وصاية أحدهما على الآخر.
ـ ولكن إذا اعتبرنا مجموعها يتأكد انها في جوهرها إنتاج الموروث العقدي والثقافي للإنسان المحكوم في سلوكه بسنة التطور، وفيما وهبه الله من عقل بالتوسيع المتلاحق لمعارفه وما يرافق ذلك من حسن التنظيم والضبط للتعايش الاجتماعي، وهو المجال الذي لم يرد فيه من نصوص الوحي الثابتة إلا القليل جدا ومن ثم كان المرجع الأساس فيه كليات الشريعة وقيمها العليا التي يشترك كل العقلاء في فهمها كما يقول الشاطبي.
ويجمع هذه الكليات والقيم جلب المصالح ودرء المفاسد، وهو ما تسعى إلى تحقيقه فلسفة “القانون الوضعي” ونجد ذلك متحققا في أغلب أحكامه على الأقل.
هذا عن الجانب النظري من المقارنة بين أحكام الشريعة في تنظيم مرافق المجتمع ومصالحه، وبين أحكام “القانون الوضعي”.
أما من ناحية الواقع والممارسة فالتاريخ حاسم في الموضوع، حيث أسس للاستفادة من القانون الوضعي النافع أحد أبرز المؤسسين لدولة الإسلام. إن أول تنظيم مكتوب لمرافق الدولة الإسلامية تم عن طريق نقل “قانون وضعي” عن الدولتين اللتين كانتا في حالة حرب مع المسلمين.
فمعروف قصة الدواوين (السجلات) الأربعة التي قررها الخليفة عمر بن الخطاب  بعد أن قيل له إن “الأعاجيم” يستعملونها لضبط مرافق: الجيش، والوظيفة العمومية، واستيفاء الرسوم والضرائب (الخراج والعشور)، ومداخيل ومصاريف الخزينة العامة (بيت المال) والتي يسميها الماوردي بـ “ديوان السلطنة” أي السجلات المنظمة للمرافق الاساسية في الدولة، ويضيف الماوردي ان كتابة هذه السجلات أبقاها الخليفة عمر في الشام باللغة الرومية ولم تعرب إلا في سنة إحدى وثمانين، وفي العراق باللغة الفارسية إلى أن نقلت إلى العربية في عهد الحجاج بن يوسف.
هكذا تمسك الخليفة العبقري بمبدأ: التقاط كل ما فيه مصلحة وخير للأمة وإن كان مستوردا من الأعداء: “الحكمة ضالة المومن أنى وجدها التقطها”.
وإذا انتقلنا إلى وضعنا نحن الآن، ماذا نجد؟
في مؤسساتنا التعليمية ندرس فقه المعاملات بكل أحكامه الاجتهادية التي تقررت منذ قرون وقرون، وفي أوضاع اجتماعية تختلف في كثير من ملابساتها مع الواقع الذي نعيشه في القرن الواحد والعشرين.
ومن مميزات هذه الأحكام الاجتهادية:

– التعدد سواء بين المذاهب أو داخل المذهب الواحد. وهي المشكلة القاسمة اليوم للظهر، حيث يسرت استنبات تيارات فكرية: عقدية وسياسية تغرس في اتباعها الانفراد بالحق ومحاربة مخالفيها الضالين.
– عدد من المجالات الاساسية صيغت فيها عبارات نظرية فاقدة لعناصر التطبيق مثل: “أهل الحل والعقد” من هم؟ وما اختصاصهم؟ ومثل ذلك “المستشارون” ومجالات الاستشارة؟ وحدود “السياسة الشرعية” التي يدير بها “الامام” شئون الرعية و”الاحكام الشرعية” الراجعة إلى اختصاص “المجتهد” الذي تتداوله أوصافه دون إمكانية معرفة شخصه.
بالمقابل:
– كل مرافق الحياة الاجتماعية اتسع وتعقد تنظيمها من: الوظيفة العمومية، إلى القضاء وإجراءاته، إلى مختلف التصرفات والعقود التي كان فيها لإرادة المتعاقدين دور واسع بينما الآن انحسر دورها لصالح تدخل القانون الذي كاد أن يستبعد فيها إرادة المتعاقدين نهائيا مثل عقود استهلاك الماء والكهرباء، والتأمين، والعمل …
– اكتشاف الإنسان المتوالي لقوانين الكون: الحي منه وغير الحي ـ فرض التجديد المستمر للضوابط التي تنظم حياته فيه. ويجب الاعتراف بأن دور العالم الاسلامي في هذا الاكتشاف يكاد يكون منعدما، وهو ما جعلنا عالة على الآخرين في مسايرة “قوانيننا” للواقع المتجدد.
في هذا الوضع الذي أشرنا إلى بعض ملابساته، هل من الحكمة:
الاقتصار على النقل في دراساتنا الفقهية، وعلى مناهضة “القانون الوضعي” ووصفه بالمخالفة لشريعة الإسلام؟
إننا ندعو إلى نقيض ذلك:
–  إلى تقديم فقه في التكوين يعالج الواقع المعيش بكل تعقيداته ومستجداته.
– إلى متابعة ما هو غير صالح من “القانون الوضعي” سواء في مقتضياته أو في إجراءات وجهات إصداره مع تقديم البديل للأحكام أو الإجراءات المنتقدة.
ونأمل أن يشارك الجميع بالمناقشة، وبتقديم ما لديه من أفكار تساهم في تجاوز الوضع المؤلم الذي يعيش فيه المسلمون.