الرئيسية / وجوه الفصل والوصل بين العلوم د. حسان الباهي.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : وجوه الفصل والوصل بين العلوم د. حسان الباهي.

الكاتب(ة) : ذ. الحسين ألحيــــــــــــــــان

شكل مبحث التفاعل بين العلوم، خاصة بين ما سمي بالعلوم الآلية والعلوم النظرية والعلوم العملية محط اهتمام العديد من التصنيفات والدراسات قديما وحديثا. وغالبا ما حددت الغاية في تمتين روابط التفاعل بين العلوم، إما من منظور التداخل أو التكامل. الأمر الذي جعل من موضوع الوصل والفصل بين العلوم محط اهتمام العديد من الأبحاث. على هذا، نتساءل عن المقصود بالتداخل أو التكامل وما مظاهره وتجلياته وشروطه المعرفية، وهل التداخل جزئي أم كلي؟
القسم الأول: في الثرات الإسلامي العربي.
لما دخلت العلوم الأجنبية إلى العالم الإسلامي وجدت نفسها أمام حقول معرفية مأصولة، فكانت أن انضافت المباحث الأولى إلى الثانية لتثير ردود أفعال فيما يتعلق بتحديد العلاقات فيما بينها؛ وداخل كل حقل معرفي. بالتالي، سيعرف مسار البحث في هذا الموضوع توجهات عدة اعتمدت فيها معايير تصورية ومنهجية مختلفة. ويمكن تحديد هذه العلاقات وفق المعايير التالية:
أ. معيار أرسطو القائم على”التبري من المادة” :
صنف أرسطو العلوم إلى نظرية وعملية؛ واعتبر المنطق مدخلا العلوم،أي آلة، فحدد العلم النظري في المباحث التي تستهدف بلوغ الكمال الإنساني، كعلم ما بعد الطبيعة. وحدد الغرض من العلم العملي في تحصيل منفعة علمية محددة، كالطب والسياسة. من ثم، قسم النظرية إلى الطبيعيات والرياضيات والإلهيات، وقسم العملية إلى: الأخلاق والسياسة و تدبير المنزل.
وقد حدد الفرق بينها من جهة طبيعة الموضوع؛ فموضوع العلم الطبيعي هو الجوهر المحسوس المتحرك، وموضوع الرياضيات هو الجوهر المحسوس غير المتحرك، أما علم ما بعد الطبيعة فهو الجوهر غير المحسوس وغير المتحرك. وهو ما دفع به إلى اعتبار علم ما بعد الطبيعة أكثر تبريا من المادة. يليه علوم التعاليم، لأن بعضها متبر من المادة وبعضها الآخر مرتبط بها. أما العلوم الطبيعية فتأتي في آخر السلم باعتبارها مخالطة للمادة. وبذلك شكل ما بعد الطبيعة العلم اليقيني. فمنه تستمد باقي العلوم علميتها. فيقينها يتوقف على مدى توسلها بمسالك علم ما بعد الطبيعة؛ بمعنى أن علوم التعاليم وعلوم الطبيعة تعد بمثابة مقدمات سابقة على تحصيل مطالب ما وراء الطبيعة. وفي هذا الصدد يمكن -كذلك-استحضار كذلك معيار التدرج المعرفي.
انتقل بعد ذلك إلى تحديد العلاقات القائمة بين العلوم ليؤكد على أن العلم الجزئي ليس له أن يبرهن على مبادئه، وإنما عليه أن يضعها وحسب. فمهمة إثبات صدق مبادئ علم لا يتم بداخله بل يوكل إلى علم آخر أعلى منه. وبالتالي، فالفلسفة التي تتميز بطابعها الشمولي هي الصناعة الكفيلة بالبرهنة على المبادئ الأولى للعلوم الأخرى. وهو ما يعني من جهة، أن المعرفة تنطلق من الجزئي إلى الكلي، أي من الأدنى إلى الأعلى؛ ومن جهة أخرى، الأعلم إلا بالكليات.
لما انتقل هذا التصنيف ممزوجا بما قدمه الشراح إلى العالم الإسلامي، تبنته بعض الدراسات، مستحضرة أحيانا التصور الفيتاغوري والأفلاطوني. لكن الأسس التي أقام عليها المسلمون تصانيفهم تختلف أحيانا. ويعود هذا إلى أنهم وجدوا أنفسهم بين نمطين من العلوم: منقولة ومأصولة، فكان لذلك وقع على بعض التصنيفات، خصوصا لما تعلق الأمر بترتيب العلوم داخل كل مجموعة. كما اختلف بعضهم مع التصنيف الأرسطي فيما يتعلق بتقسيمه للعلم الإلهي؛ حيث أدخل بعضهم موضوعات لها اتصال بالعلوم الشرعية، وعليه، نستنتج أنه إذا كان العديد من التصنيفات قد اعتمدت معيار القرب أو البعد من المادة ، فقد أكد بعضهم على أن هذا لا يعني في كل الأحوال ارتباط علم بعلم سابق له. ومن هذا المنطلق سجلت اختلافات بين فلاسفة الإسلام فيما يتعلق بالتصنيف وكيفية انتظام العلوم وتراتب بعضها تحت بعض.
    •    ابن سينا ونظرته للعلاقة بين العلوم :
عمل ابن سينا بمعيار أرسطو فبدأ بالعلوم الإلهية باعتبارها أكثر تجريدا، ثم علوم التعاليم، لينتهي بعلوم الطبيعة التي هي أقل تجريدا وأكثر التصاقا بالمادة. ومع ذلك فقد أضاف معيارا آخر لهذا التصنيف ينبني على النظر من جهة نشأة العلوم ذاتها. يقول: “ولا يبعد أن يكون قد وقع إلينا من غير جهة اليونانيين علوم”. ويقدم مثالا بالفلسفة اليونانية التي بدأت خطابية ثم خالطها غلط وجدل لتنتهي مع نضجها إلى أن تصبح علما برهانيا قائما بذاته ومتبريا من المادة، مما جعل باقي الفروع الأخرى في حاجة إلى التوسل بآليات العلم الكلي، فلا يمكن أن تكون مردودية لهذه العلوم الجزئية إلا بالتوسل بالإلهيات. وعليه، فالعلاقة في نظر ابن سينا تتجه من الأعلى إلى الأدنى أو من الكلي إلى الجزئي. فسائر العلوم تتطلع نحو الفلسفة الأولى التي تنظر في المعاني المطلقة لجميع أجزاء الوجود، إذ لا يمكن البرهنة على مبادئ العلوم من العلوم ذاتها، بمعنى أن العلوم على اختلاف موضوعاتها يمكن النظر فيها بمنهاج واحد وآليات واحدة هي آليات البرهان الذي تتمتع بها الفلسفة الأولى وتمد بها غيرها من العلوم، وهو ما يفهم منه بأن البرهان يتمتع بصفة التجوال بين الحقول المعرفية وكأنها علم واحد، فهو ينتقل من علم أعلى إلى علم تحته. وعليه، فإذا كان أرسطو قد اعتمد في تصنيفه للعلوم على الموضوع ومن ثم على معيار “التبري من المادة”، فإن ابن سينا سيضيف “وثوقية العلوم”.
    •    الغزالي وتصنيفه للعلوم :
هذا الوصل بين الرياضيات والمتافزيقا لابن سينا سيرفضه الغزالي حيث يقول: “لما أخذ فلاسفة الإسلام عن اليونان تصنيفهم للرياضيات والطبيعيات ضمن أقسام الفلسفة فإنهم انساقوا إلى نقل الصفة العلمية التي تطبع العلوم على أقسام الفلسفة الأخرى التي ليست رياضية ولا طبيعية (تهافت الفلاسفة). وهكذا انتقد وثوقية الإلهيات عند الفلاسفة لثقتهم العمياء في براهينها والاعتقاد بأنها براهين شبيهة ببراهين الرياضيات أو تفوقها صحة ويقينا: “لما استقر في نفوس الناس بأن ما بعد الطبيعة علم برهاني اعتقدوا بأن مسائل العلم الإلهي يقينية بإطلاق”. وهو ما قام الغزالي بالرد عليه.
صنف الغزالي العلوم إلى علوم دينية وعلوم عقلية في “إحياء علوم الدين”و”الرسالة اللدنية”. وهما تصنيفان مختلفان بأن طغت العلوم الدينية في الكتاب الأول، في حين طغى الطابع الفلسفي الأرسطي في الثاني. وصنف هذه الأخيرة كما صنف العلوم الدينية إلى كلية وجزئية إلى ثلاث طبقات متراتبة لكل طبقة موضوعها ومنهجها، من دون أن يحول ذلك دون تعاونها وتداخلها التكاملي.
سعى الغزالي في تهافت الفلاسفة إلى فحص الآليات الاستدلالية عند الفلاسفة خصوصا في باب الإلهيات. فشكك في دعوى برهانية القول الفلسفي. لهذا، دعا إلى الفصل بين علوم التعاليم وعلم الإلهيات، لأن التكامل هنا يؤدي إلى الالتباس، كما أقر بأن بعض الطبيعيات مخالف للشرع والدين والحق، فبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغييرها؛ فوقعت البدع. أما علوم التعاليم، فيضعها على رأس قائمة العلوم؛ لأنها أوثق العلوم. فقواعد الرياضيات والمنطق برهانية، ولا تتعارض مع الدين. هكذا يحترم الغزالي الحدود الفاصلة بين العلوم. ليختلف بذلك مع الفلاسفة كليا فيما يتعلق بالإلهيات، وجزئيا فيما يتعلق بالعلوم الطبيعة. ولا يختلف معهم في شيء بالنسبة لعلوم التعاليم. وهذا يعني أن الرياضيات أكثر وثوقا من العلم الطبيعي، وهذا الأخير أكثر وثوقا من علم ما وراء الطبيعة. بالتالي، فالتراتب حسب اليقين هو على التوالي: علوم التعاليم والمنطق، ثم علوم الطبيعة، وأخيرا الإلهيات. نخلص من هذا إلى أن ما جعله ابن سينا الأول في الوثاقة جعله الغزالي أدنى. أما العلوم الطبيعية التي تحتل المرتبة الأخيرة في تصنيف ابن سينا فتحتل المرتبة الثانية عند الغزالي.
اشتهر الغزالي بإدخال جملة من العلوم المنقولة في حظيرة العلوم المأصولة، فقد استهدف مثلا بناء الفقه على المنطق، فسعى إلى رد الأقيسة الأصولية إلى الأقيسة المنطقية. ويبرز هذا في “المستصفى” الذي مهد له بمقدمة منطقية إيمانا منه بأهمية المنطق بالنسبة لعلوم الشرع. بذلك اعتبرت هذه المقدمة حدثا بارزا في تاريخ الممارسة التكاملية، بالوصل بين علمي المنطق والأصول. لكن من جهة أخرى ينتقد التداخل غير السليم المتمثل في إدماج المتكلمين والنحويين صناعة الكلام وصناعة النحو في علم أصول الفقه، ولا يعني هذا أنه يرفض تداخل العلوم بعلم الأصول بإطلاق، بل تداخل يبقي التمييز واضحا بين علم مقصدي من جهة، وعلوم آلية في خدمته من جهة أخرى. فالعلوم المطلوبة للتداخل مع علم أصول الفقه في نظر الغزالي هي كل العلوم والمعارف التي تجعل الفقيه المجتهد محيطا بمدارك الشرع. فبعد معرفة القرآن والسنة والإجماع والقياس، ينبغي معرفة طرق الاستثمار التي تتطلب اندماج علوم أخرى، فيصبح المجموع ثمانية علوم يرتبها الغزالي بحسب أدوارها الآلية والإنتاجية: علمان مقدمان وعلمان متممان، وأربعة علوم في الوسط. أما العلمان المقدمان اللذان يردا للتقديم للصناعة الأصولية: فأحدهما يساعد على نصب الأدلة وشروطها التي تصير بها الآليات الاستدلالية الأصولية منتجة عند الفقيه، والثاني علم اللغة العربية. أما العلمان المتممان فأحدهما معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة. وثانيهما المتمم هو معرفة الرواية وتمييز الصحيح منها عن الفاسد. تلك هي العلوم المطلوبة ليفتي الفقيه فتوى محمودة ومقبولة يدخل بها سلك الاجتهاد.
– ابن رشد وتصنيفه للعلوم :
اتجه ابن رشد اتجاها معاكسا لابن سينا، حيث اتجه جهة الوصل متى اتجه ابن سينا جهة الفصل، والعكس بالعكس. حيث نجد ابن سينا يدفع في اتجاه تداخل العلوم في متنه الفلسفي، في حين سينتقده ابن رشد الذي يرى بأنه ليس هناك ما يوجب هذا التداخل؛ بل يرى أن التداخل قد يضر بإنتاجية العلم المقصدي. لهذا، نجد ابن رشد يقول بالتداخل التكاملي في المعارف الفقهية، وبنقيض ذلك في المعارف الفلسفية. وقد وضع العلوم المأصولة والمنقولة جنبا إلى جنب، فصنف المأصولة إلى ثلاثة مرتبة على التوالي: العلوم الآلية، والعلوم النظرية، و العلوم العملية. وهو تصنيف يخالف ما ذهب إليه الغزالي الذي قسم العلوم إلى قسمين: العلوم الدينية والعلوم العقلية. فإذا كان الغزالي قد اعتبر أصول الفقه من العلوم النظرية، فقد رد عليه ابن رشد بقوله: إن علم أصول الفقه آلي . فهو علم مقصدي لا يحتاج إلى التداخل مع علوم أخرى.
يرى أن العلوم تشترك في جنس واحد وهو النظر في الوجود بما هو موجود. إلا أن وجهات النظر تختلف من علم لآخر، فهناك علوم تنظر فيه نظرا كليا وأخرى جزئيا. فالعلوم الجزئية تدرس الأعراض التي تلحق بأجزاء الموجود. وعليه، إذا كان ابن سينا يرى أن العلوم الجزئية تراهن على العلم الكلي، فإن ابن رشد جعل العلم الكلي يراهن على العلوم الجزئية في بيان مسائله. أما العلوم الجزئية عنده فلا تستمد من العلم الكلي إلا أوائل موضوعاتها، لتنظر بعد ذلك فيها بطرقها وبمناهجها وآلياتها الخاصة. يقسم ابن رشد علم ما بعد الطبيعة إلى أجزاء مرتبة حسب أهميتها شأنها في ذلك شأن علوم التعاليم والعلوم الطبيعية. وإذا كان ابن رشد قد وضعها في أول السلم فليس هذا لبرهانيتها كما قال ابن سينا، وإنما لكون الشريعة الخاصة بالحكماء هي معرفة جميع الموجودات من أجل معرفة الخالق. بمعنى، مرد ذلك إلى أفضلية الموضوع، لا إلى أفضلية المنهاج (البرهان). إنها أولوية وجودية بالدرجة الأولى، فهو المتقدم بالوجود والشرف والسببية، فهناك علاقة بين علوم التعاليم ما بين الأعلى والأدنى. هذا التداخل يسري على أجزاء العلم الواحد (أي علوم التعاليم فيما بينها) وتنسحب على علاقة المجموعات العلمية (ما وراء الطبيعة وعلوم التعاليم). والدافع الذي جعل المجموعات العلمية تنفصل بعضها عن بعض هو الاشتراك الذي يلحق موضوع ما وراء الطبيعة وعلوم التعاليم خاصة علم العدد (الواحد) الذي كان وراء غلط ابن سينا. وهو ما دفع ابن رشد إلى الفصل بين الصنفين وجعل موضوع الواحد التعالمي يباين موضوع الواحد المتافزيقي بالجنس. على هذا، إذا كان الغزالي قد قال بالفصل انطلاقا من عدم برهانية الخطاب الفلسفي، فإن ابن رشد سيقول بذلك لكن لأسباب مخالفة. إن علاقة العلوم وتداخلها عند ابن رشد من جهة علاقة الأعلى بالأدنى تكاد تنعدم، لولا بعض الحالات، كتداخل العلم الأعلى بالأدنى داخل المجموعة العلمية الواحدة على مستوى بعض المبادئ فقط التي تبدو ضرورية في بناء جسور بين هذه العلوم؛ كتداخل المجموعة التعالمية فيما بينها، والمجموعة الطبيعية فيما بينها. أما التداخل بين المجموعات العلمية من الجهة الأعلى إلى الأدنى فهو مستحيل. مع ذلك فقد نجد عند ابن رشد نوعا من الوصل عندما يقول بأن العلوم تحتاج بعضها إلى بعض. لكن هذه العلاقة تصاعدية والتي تتبين في حاجة ما بعد الطبيعة إلى باقي العلوم لتوضيح مباحثه.
العلوم مستقلة عند ابن رشد بحسب الموضوعات المدروسة. فهناك علم أوثق من علم آخر. ويعود ذلك لأسباب من بينها: العلم الذي يبين وجود الشيء بعلته أوثق من العلم الذي يبين الشيء بمتأخر عنه. كما أن العلم الذي يكون موضوعه أشد تبريا من المادة أوثق من غيره. وكذلك العلم الذي تكون مبادئ موضوعاته أبسط تكون براهينه أوثق من العلم الذي تكون مبادئ موضوعاته مركبة.
ب. التصنيف وفق معيار النقل والعقل :
نستحضر هنا موقف ابن خلدون الذي قسم العلوم إلى عقلية ونقلية، فالأولى أداة تحصيلها الحواس والعقل،أما الثانية فسبيلها الوحي. حيث يتوارثها الناس عمن وضعها، وبالتالي، لا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع بالأصول، ويؤخذ على ابن خلدون بأنه أهمل في تقسيمه الفلسفة العملي، فلا يشير إلى الأخلاق أو تدبير المنزل، كما أهمل السياسة، وكذلك فقد لحق بالعلوم العقلية علوما غير عقلية (كالسحر، والشعوذة، وعلم الأسرار، وعلم الحروف).
كما قد نستحضر موقف الكندي الذي اعتبر العلوم الدينية مستقلة عن العلوم العقلية التي قسمها إلى علوم آلية ونظرية وعملية. وهو ما يعكس الصراع الذي دار بين أصحاب العقل والنقل. وكانت نتيجته تكريس تصور يدعي وجود حدود بين ما هو عقلي وما هو نقلي. وهو تصور قابل للدحض، باعتبار وجود تلازم بين العقل والنقل، وليس انفصال.
ج. ربط التصنيف بالنظام التعليمي والتربوي، وبالقيمة العلمية لهذا العلم أو ذاك.
المعيار المعتمد في مثل هذه الحالة هو التدرج في المراحل التي يتوجب اجتيازها لاكتساب هذه العلوم، وفي هذا المقام يجب أخذ بعين الاعتبار الاختلافات التي تطرأ على العلوم في كل زمان؛ وكذا استحضار فهم الأمة للعلم ولطبيعته والغاية منه. كما أن التوجه الفكري إلى جانب الأوضاع السياسية والاجتماعية والتاريخية تلعب دورا أساسيا في التصنيف.  
يمكن أن نستحضر في هذا المقام أعمال الفارابي، رغم تأثره بالأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة إلى جانب أرسطو. وعليه، انعكست محاولته للتوفيق بين الفلسفة والدين على تصنيفه للعلوم، حيث عمد إلى دمج العلوم المنقولة بالعلوم العقلية. يقول في مقالة (فيما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم): “فضيلة العلوم والصناعات إنما تكون بإحدى ثلاث: إما بشرف الموضوع، وإما باستقصاء البراهين، وإما بعظم الجدوى الذي فيه، سواء كان ذلك منتظرا أو محتضرا. أما ما يفضل على غيره لعظم الجدوى الذي فيه، فكالعلوم الشرعية والصنائع المحتاج إليها في زمان زمان، وعند قوم قوم. وأما ما يفضل على غيره لشرف موضوعه، كعلم النجوم. وقد تجتمع كل هذه الثلاثة كلها، أو الاثنان منها، في علم واحد كالعلم الإلهي.
نجده في كتاب “إحصاء العلوم” يكتفى بإحصاء العلوم و تعدادها والتعريف بها باقتضاب، على أن يفصل القول فيها في كتب أخرى، خصوصا “تحصيل السعادة” و”التنبيه على سبيل السعادة”.
فالهدف في الكتاب الأول هو مجرد إحصاء العلوم أما في الكتابين الآخرين فهو التأكيد على أن هذه العلوم هي سبب السعادة الحقة. بمعنى أن من ينشد السعادة عليه أن يحصل هذه العلوم. وهو ما يجعلنا نقول بأن همه في إحصاء العلوم هو الإحصاء والتصنيف أكثر منه ترتيب العلوم والمفاضلة بينها. (يضع المنطق في الدرجة الثانية قبل علم اللسان).
نشير في هذا الصدد إلى أنه في كتب أخرى (تحصيل السعادة والتنبيه على سبيل السعادة) يورد المنطق في المرتبة الأولى. أما أجزاء الأورغانون فيحددها في ثمانية بأن استبعد المدخل لفرفوريوس.
يمكن التمييز لدى الفارابي بين ثلاثة أنماط من معايير تصنيف العلوم وترتيبها: أولها تعليمي وثانيها تقليدي وثالثها تركيبي.
– الأول يبدأ مع السؤال: أين يجب أن يبدأ متعلم الفلسفة والعلوم التي تتضمنها وإلى أين ينتهي؟ وهو ترتيب يقتضي أن يتحدد كل علم وفق سابقه ويتأسس على لاحقه. وله رسالة في هذا الشأن تحت عنوان: “فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة”، حيث حدد فيها عددا من المقدمات التوجيهية الضرورية لكل من يريد تعلم الفلسفة.
– أما الترتيب التقليدي فهو الترتيب الأرسطي، وقد لخصه في كتابه فلسفة أرسطوطاليس وأجزاء فلسفته ومراتب أجزائها، والموضع الذي منه ابتدأ وإليه انتهى. وهو تصنيف أورده في كتب أخرى، مثل تحصيل السعادة، انطلاقا من تصنيف الفضائل التي ينال بها الإنسان السعادة. ويقصد بها الفضائل الأربعة. وكل فضيلة منها تنال بضرب من العلوم، كما أورده في رسالة تحمل عنوان “المدخل”، وأخرى “التوطئة”؛ لكن انطلاقا من معيارين، أحدهما منطقي قياسي والآخر معرفي خطابي: فبمقتضى المعيار الأول تكون العلوم أو الصنائع إما قياسية أو غير قياسية، فالقياسية هي خمسة: الفلسفة، الجدل، السفسطة، الخطابة، الشعر. أما بحسب الثاني فالمخاطبة إما برهانية أو جدلية أو سوفسطائية أو خطابية أو شعرية.
– أما التصنيف التركيبي فهو الذي حدده وفق نظرة أكثر شمولية. فهو يجمع بين العلوم بمعناها الأرسطي التقليدي، وأضاف إليها ثلاثة علوم اعتبرها مرجعية بالنسبة للثقافة الإسلامية العربية ولها علاقة بالعلوم الحكمية، وهي علوم اللغة،علم الفقه،علم الكلام.
د. تصنيف العلوم بحسب مراتب الإدراك :
اعتمدت بعض الدراسات على تصنيف العلوم وترتيبها بحسب مراتب الإدراك عند الإنسان، فالمعرفة في نظرهم تبدأ بالحواس التي تقوم على معرفة مباشرة حسية أولية لننتقل إلى مرحلة الفهم حيث نعمد إلى وضع افتراضات، لننتهي بمرحلة التعقل. ومن ثم، هناك علوم مرتبطة بالمعرفة الحسية، وعلوم مرتبطة بالفهم، وعلوم مرتبطة بالعقل. فالمعرفة المرتبطة بمرتبة الحواس تعكس ما يقوم به اللسان من التعبير عما في الضمير؛ والتي في مرتبة الخيال تعبر عما يحصل في النفس بالفهم من مدلولات الألفاظ.
أما مرتبة العقل فتبتغي المعقولات الثابتة، وإن كانت بعض التصنيفات قد أقامت ترتيبها للعلوم على هذا المعيار فهي مع ذلك تقر بأن العلوم تختلف فيما بينها من جهة حضور هذين الوصفين، فمنها ما يغلب عليه الجانب النظري، ومنها ما يغلب عليه الجانب العملي.
القسم الثاني: العلوم في العصر الحديث.
مع بداية العصر الحديث بدأ الصراع حول المنهج الذي يعد السبيل الأمثل للوصول إلى الحقيقة، فكان أن تبنى التوجه العقلاني مقولة أن العقل وحده قادر على إدراك الحقائق، في حين تبنى التوجه التجربي فكرة أولوية الحواس، وأن مصدر كل معرفة هي التجربة. وبذلك سلما معا بأن الإنسان قادر بوسائله المنهجية الخاصة على إدراك الحقائق، فكانت أن استندت الدراسات إلى مقومات الحقيقة والموضوعية والدقة، لتمييز العلوم التي دأبنا على تسميتها بالدقيقة عن المباحث الإنسانية التي نقول بأنها غير دقيقة. فهناك علوم نقول عنها بأنها تبني نتائجها وفق سبل يقينية، في الوقت الذي تبقى فيه نتائج علوم أخرى ظنية وترجيحية. فكان ذلك هو الطريق لانفصال علوم عن علوم أخرى وظهور التخصصات وتخصصات التخصصات، وأصبح كل علم في معزل عن العلوم الأخرى، إلا فيما يتعلق بجوانب محدودة. واستفحل الأمر عندما انفصلت العلوم الإنسانية فيما بينها، وسعى كل منها إلى اعتماد علم طبيعي معينا سبيلا إلى معرفة الإنسان. فأصبح الإنسان هو القائس والمقيس في نفس الوقت. الأمر الذي انعكس على مضامينها و طرق تدليلها. على هذا، سنبدأ باستحضار المعايير التي اعتمدت لفك كل ارتباط بين العلوم الدقيقة والمباحث التي تهتم بالإنسان. لنعمد بعد ذلك إلى الرد على التصورات التي اعتمدت لرسم حدود بين ما أسمته بالقول العلمي في مقابل القول غير العلمي. وعليه، سنبين من جهة، الأخطاء التي وقع فيها الداعون إلى توحيد العلوم.
    1.    معايير تفضيل العلوم الدقيقة عن العلوم الإنسانية :
    1.    من جهة المضامين :
كثيرا ما نعمد عند تصنيفنا للحقول المعرفية إلى معايير الحقيقة والموضوعية والحياد لتمييز العلوم الدقيقة عن العلوم الإنسانية. ويتمثل المصدر الأساسي لهذه الموضوعية في القول بقدرة العلوم الدقيقة على فصل الذات عن الموضوع، عكس ما هو عليه الحال في المباحث الإنسانية، حيث لا تنفك الذات عن الموضوع .هذا الوضع هو الذي يسمح للعالم ببناء معرفة صارمة وموضوعية وقابلة للتحقق. وهو ما يسمح بالقول إن العالم قادر على التحكم بشكل موضوعي في الظاهرة، في حين يصعب ذلك في الإنسانيات. كما أن المناهج والأدوات التي يستخدمها العالم تتسم بالدقة المطلوبة بما يجعله يحصل حقيقة موضوعية، وهذه الموضوعية ناتجة في جزء منها عن كون العلوم الدقيقة تستخدم ألفاظا متواطئة، في مقابل الألفاظ المشتركة المعتمدة في العلوم الإنسانية، فما يميز ألفاظ اللغة الصورية هو الوضوح والدقة والصراحة، في حين تبقى الشبهة من أهم خصائص ألفاظ اللغة الطبيعية. من ثم، عمدت العلوم إلى استبعاد كل ماهو مجازي وضمني. وعليه، صنفنا معارفنا بحسب مدى تحصيلها لليقين أوالظن. فنقول عن الأولى بأنها تتصف بالدقة، في الوقت الذي تخضع فيه نتائج العلوم الإنسانية لمعيار الترجيح.
لقد نظر أصحاب التوجه الموضوعي إلى الإنسان وكأنه محايد، وإلى المعنى وكأنه مجرد، ولا يتوقف على أية مقومات خارجة عن المدلول اللفظي للعبارة. ولهذا، سلموا بدعوى أن التعابير تحمل معنى موضوعيا مستقلا عن كل سياق، وعن كل ما يمكن أن تقتضيه الذات. فصدق العبارة أو كذبها يتوقف على مدى مطابقتها للواقع. ومن ثم، يمكن التسليم بوجود نظرية موضوعية للمعنى. ضمن هذا المنظور سُلم بإمكان إعطاء العبارة معنى حرفيا، وتحديد شروط صدقها في استقلال تام عن كل ما يتعلق بالأحوال. ذلك أن العالَم من وجهة نظرهم يتشكل من أشياء لها خصائص تلازمه ومستقلة عن مدارك الناس، وعن تجاربهم وتفاعلاتهم مع المحيط. وما دامت الحقائق موضوعية، فيمكن أن نتكلم عنها بكيفية موضوعية، ونقول عنها أشياء صادقة أو كاذبة بطرق محايدة. فالعلم بوصفه ينتصر للموضوعية يمنحنا مناهج ومسالك تمكننا من تجاوز تصوراتنا ومعتقدانا وأحكامنا الخاصة. فالعلم متى جردناه عما هو ذاتي مكننا من الوصول إلى حقائق الأشياء. وعليه، فإن استحضار البعد الموضوعي يجعلنا لا نهتم بالوقائع إلا بقدر ما تمكننا من الوصول إلى صياغة قوانين كلية وموضوعية.
2. من جهة مسالك التدليل :
شكلت الأركان التي بني عليها المنطق التقليدي (الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع) حدودا للتفكير الإنساني. فلا يحق لأحد أن يخرقها. فكل محاولة تبتغي تجاوز هذه المبادئ تعد بمثابة خروج عن حدود العقل والتعقل. فلا يسمح مثلا بتصور تحقق الصدق ونقيضه في القضية، بنفس الكيفية التي لا يسمح بالقول إن الشيء هو وليس هو. إنها قوانين كلية ومطلقة تسري على جميع العلوم وملزمة لكل ناظر. كما أن تحصيل اليقين يتم باعتماد القياس الكلي الذي يفضي إلى اليقين التام. ومن ثم، عُدّ طريقا لتحصيل العلم. أما الاستقراء فيوصلنا إلى اليقين متى كانت عناصره متناهية، وإلى الظن متى كانت غير متناهية. أما التمثيل فتبقى نتائجه ظنية في كل الحالات. بموجب هذا، ميزوا الطريق العلمي عن الطريق الظني. فالعلم هو معرفة العلة. والعلة تفضي بنا إلى اليقين الذي تنتج عنه معرفة ثابتة وضرورية، بينما يقع الإحساس والظن على الحادث والممكن. بالتالي، حُدد الصدق في تطابق القضية مع الواقعة التي تصفها. بهذا، تم التسليم بأن العقل الإنساني يفكر ويستدل وفق قوانين وضوابط ثابتة اعتبرت كلية وصالحة لكل زمان و مكان. ومن ثم، اعتبرت هذه المبادئ معيارا للعلمية ونموذجا لكل يقين، وأن السعي لتجاوزها هو تحد للعقل. فكانت النتيجة، التسليم بأحادية التفكير الإنساني.
ب. تقويم معايير التفضيل :
أمام المسار الذي اتخذته بعض العلوم سواء الدقيقة أو الإنسانية تبين أن العديد من التصورات التي اعتمدت لرسم مسار هذه العلوم أصبحت عرضة لصعوبات وظيفية وإجرائية، بشكل يتطلب إعادة النظر فيها. ومن ثم، وجوب مراجعة العديد من النظريات والمواقف التي بنيت على أساس التسليم بتفضيل العلوم الدقيقة على المباحث الإنسانية. من هذا المنطلق، سنسعى إلى إعادة تحديد هذه العلاقة، بالدعوة إلى تخلي المباحث الإنسانية عن اعتماد نفس المسالك التي نهجتها العلوم الدقيقة في تحصيل نتائجها. ذلك أن المشاكل التي اصطدمت بها هذه الأخيرة تستوجب من العلوم الإنسانية إعادة النظر في مساعيها الهادفة إلى تحصيل نتائجها وفق نفس المنوال المتبع في العلوم الدقيقة؛ خصوصا وأننا أصبحنا نلاحظ بأن العديد من العلوم الدقيقة أضحت تأخذ بمقومات وإجراءات كانت إلى وقت قريب من نصيب العلوم الإنسانية. وهو ما يقتضي إعادة النظر في المعايير المعمول بها للتمييز والمفاضلة بين العلوم مضمونا ومنهاجا.
1. النظر في المضامين :
متى نظرنا في معيار الموضوعية أمكن القول بصعوبة الدفاع عن هذا التصور، خاصة بعد أن أضحت العديد من العلوم الطبيعية تبحث في ظواهر يصعب معاينتها و قياسها بأدوات دقيقة ومضبوطة. وهو ما أجبر العالم عن التخلي عن الحقيقة والموضوعية بالمفهوم التقليدي القائل بأن الظاهرة مستقلة عن داركها، وأنها تكشف عن نفسها متى تجرد الباحث عما هو ذاتي. وعليه، تبقى مسألة الموضوعية قضية نسبية فقط، لنقول بأن درجة موضوعية علم ما أعلى من درجة موضوعية علم آخر.
أما فيما يخص علاقة الذات بالموضوع، فنحن نسلم باختلاف الوضع بين الحقلين. ومرد هذا إلى أن الواقعة في العلوم الإنسانية تختلف عن الواقعة في العلوم الطبيعية. ومع ذلك، فنحن ندعي استحالة أن تحقق العلوم الإنسانية الذاتية الكاملة، بنفس الكيفية التي يستحيل بها أن تحقق العلوم الطبيعية الموضوعية المطلقة. ذلك أن تفسير الظواهر الطبيعية يتوقف على مقومات عدة، منها طبيعة الفرضيات ومصدرها؛ بالإضافة إلى آليات وأدوات القياس التي يستعملها العالم. وكل هذا لا يمكن عزله كليا عن ذات العالم والمحيط الذي يعيش فيه. فما نلاحظه أمام التقدم العلمي هو أن مهمة العالم لم تعد تتحدد في أن ينقل إلينا الظاهرة كما هي موجودة في الواقع، بل إن ذاته وأدوات القياس التي يعتمد عليها تتدخل في تحديد علاقات معينة بين الأدات وما يقاس. لهذا، تخلت العديد من الدراسات عن التصور القائل بأن الحقائق توجد جاهزة، وأن المعارف العلمية ثابتة وقارة، بشكل يسهل معه رصدها. لقد سلم العديد من الدارسين بأن المعرفة العلمية أصبحت بدورها رهينة التفاعل القائم بين العالم والظاهرة التي يدرسها. بهذا، لم تعد مهمة العالم تنحصر في مراقبة الظاهرة لتكشف له عن الحقيقة الكامنة فيها، بل قد يجد نفسه أمام ظواهر لا يستطيع أن يراقبها بالعين المجردة، مما يفضي به إلى القيام بافتراضات يربط بينها وفق علاقات معينة، وباستخدام معادلات رياضية لا يمكن إخضاعها للتجربة، بل أحيانا يربط بين أمور قد تبدو لا رابط بينها في الظاهر. بالتالي، يصعب القول بأن الحقيقة في العلوم الطبيعية تختلف كليا عما هو عليه الحال في بقية المباحث. ذلك أن التطورات التي شهدتها مختلف العلوم بينت صعوبة الإقرار بالصدق الموضوعي القائم على نظرية التطابق مع العالم الخارجي. فليست هناك خصائص ملازمة للأشياء كما تدعي المقاربة الموضوعية. فالمعنى ليس موضوعيا، بل هو كذلك بحسب فهمنا. بالتالي، من الصعب الكلام عن صدق مطلق وثابت، فكل ما نمتلكه هي حقيقتنا، أي حقيقة نستند فيها إلى فهمنا الذي يبقى نسبيا. وهو ما يفضي بنا إلى رفض دعوى الحقيقة الكلية أوالصدق المطلق الخارج عن كل إطار زماني ومكاني. أضف إلى ما سلف، أن الحقيقة صفة من صفات الأحكام. ومتى كانت الحقيقة صفة من صفات الحكم، وكان الحكم بدوره فعلا من أفعال العقل، فلا معنى للحديث عن الحقيقة إلا حين يقوم عقل معين بإطلاق حكم معين. والنتيجة أن الحقيقة هي كذلك بالنسبة لمن بعتقد فيها.
تشكيكنا يهم كذلك مفهومي اليقين والظن. فهما لا يتمان بشكل مطلق وأبدي سواء على مستوى العلوم الدقيقة أو الإنسانية، بل قد يتطلب الأمر أحيانا مراجعة أحكامنا سواء في هذا الحقل أو ذاك. إذ يكفي أن تتدخل حجة واحدة أحيانا لتحول قضية ظنية إلى يقينية، والعكس بالعكس. لذا، فالمعرفة ليست ناتجة عن تطور خطي ورتيب ينتقل بنا من الشك إلى اليقين، بل عبر عملية تفاعل مستمر بينهما. فما دامت الظاهرة قد لا تكشف عن نفسها مرة واحدة، ومادام العقل لا ينتج المعرفة من فراغ، فقد أجد نفسي أمام حجج جديدة قد تتدرج بي جهة اليقين أو تنزل بي جهة الظن. الأمر الذي يجعل الحكم في الوضع الأول ينتقل بي من الظن إلى الظن الغالب ليصير يقينا. أما في الحالة الثانية، فأجد نفسي أمام حجج تسير في عكس اتجاه النتيجة بشكل يجعلني أرجح المرجوح على الراجح؛ ليتحول الظن إلى ظن ضعيف، فشك، ثم، وهم. وعليه، فكل من اليقين و الظن مراتب. فالأمر المظنون لا يبقى كذلك بشكل مطلق وأبدي، بل قد يرتفع جهة اليقين متى تدخلت حجج تعضد النتيجة التي يسعى إليها؛ وقد ينزل إلى الجهة الأخرى في حالة العكس. وكذلك الحال بالنسبة لليقين، فقد يكون كذلك مادامت لم تظهر حجة أو حجج تقوضه.
نخلص إلى القول بصعوبة الحديث عن الحقيقة الموضوعية بنفس الكيفية التي يصعب معها القطع بأن الحقيقة ذاتية في كل الحالات. فمن الحقائق ما يخصنا وحدنا، كما أن منها ما نتقاسمه مع آخرين تجمعنا بهم مقتضيات معينة، قد تكون اجتماعية، أو ثقافية،أو عقدية إلخ. وهذه العوامل المشتركة هي التي تشكل دائرة العلاقات التفاعلية بيننا، بكيفية تجعلنا نفهم القضية فهما نتقاسم من خلاله نفس التقويم. وقد يتغير هذا التقويم بتغير إحدى هذه العوامل على الأقل. وبناء عليه، لا يحق لأي شخص أو جماعة ما أن تُحول فهمها للأشياء إلى سلطة تعمم من خلالها حقيقتها وتعطيها طابعا كليا ومطلقا. إذ ليس هناك معيار واحد للحقيقة، يمكن أن يشكل نموذجا كليا وثابتا. كما أنه من الصعب التسليم بأننا نفكر بطريقة موضوعية ومحايدة.
2. النظر في الآليات :
مع مرور الوقت وجد العالِم نفسه أمام ظواهر يقول بوجودها لكنه عاجز عن البرهنة عليها باعتماد العلاقة السببية والروابط الحتمية بين الأحداث. بالتالي، أصبح يفترض أشياء لا يمكن له أن يثبتها بأدلة قطعية. الأمر الذي أفضى به إلى أن يتكلم عن “مرونة الحقيقة العلمية”. كما أصبح يعتمد على تصورات قائمة على الاستعارة والمجاز لتوصيل ما حصله من نتائج. وحتى عندما يدعي بأنه يقوم بتجريد الوقائع بهدف نزع الطابع المباشر والحسي عنها، فإن ذاته تتدخل. فهدفه المتمثل في التحرر من ضيق التجربة وضغط الوقائع يجعله يستعين بالحدس والخيال. لذا، على المهتم بالعلوم أن يتخلى عن الحديث عن حقائق ثابتة وموضوعية، وعن حياد كلي للعالم. فلا يمكن تجاهل وجود تفاعلات بين مختلف العمليات المعرفية والتفكرية. كما لايمكن إغفال الدور الذي يمكن أن تلعبه التعددية الاستدلالية في بناء المعرفة العلمية. فلم يعد بالإمكان التسليم بأن فهم الظاهرة يتحقق بمجرد الملاحظة أو المعاينة، بل لا بد من الأخذ بعملية التأويل. من ثم، من غير الممكن رسم حدود فاصلة بين الذات و الموضوع في العلم، شأنه في ذلك شأن المباحث الإنسانية. كما لا يمكن التسليم بحياد تام لأدوات القياس، وأن اختيار طريقة تدليلية دون أخرى لا يخضع لخلفية معرفية معينة. وقد يضطر العالم أحيانا إلى اعتماد أكثر من طريقة في دراسته لنفس الظاهرة. فقد يستخدم الاستقراء في سعيه إلى وضع قانون عام، وفي نفس الوقت يعمد إلى التمثيل للمقارنة بين ظاهرتين يستقرئهما. بالتالي، علينا أن ننظر إلى التفاعل بين أدوات التدليل، ليس من جهة التداخل، بل من جهة التكامل. كما أن طرق التدليل لاتنحصر فقط في القياس والاستقراء والتمثيل. فإذا كان من الصعب وضع حدود واضحة بينها، فلا يمكن عزلها عن أدوات أخرى مثل السبر والتقسيم، وقياس الأولى، والدوران، والملازمة، والاستدلال بالمتفق عليه والمختلف فيه، وغيرها من الطرق التدليلية التي قد نستعين بها لحل مسألة ما. لهذا لا يمكن الاعتماد على الفصل التقليدي بين طرق التدليل، وكأن هناك طريقا للعلم واليقين، وآخر للظن، بل يجب أن ننظر إلى مختلف الطرق التدليلية من منظور تفاعلي متكامل. فقد يترك الاستقراء مكانه للتمثيل، وهذا الأخير للسبر والتقسيم أو الدوران، أو غيرهما؛ وذلك ضمن تفاعل بين الحجة والحجة المضادة. فلا تكفي البنية المنطقية المتعلقة بصحة أو فساد استدلال ما للأخذ به، بل لابد من استحضار معايير أخرى مثل القوة والملاءمة، وغيرهما. بهذا يمكن النظر إلى العملية التدليلية على أنها سلسلة تتكون من حلقات عدة قد نجمع فيها بين أكثر من طريقة. فقد نعمد إلى استقراء وقائع معينة، ثم نحتاج في لحظة ما إلى استخراج وجوه التشابه والاختلاف، بما يجعلنا نلجأ إلى التمثيل؛ لنحتاج ونحن بصدد استخدام التمثيل إلى الاستدلال بالتقسيم أو الاستدلال ببيان العلة، وغيرهما من الطرق التي نراعي فيه معيار ملاءمتها للموضوع. وعليه، يتضح أن التعددية الاستشكالية غالبا ما تستدعي التعددية الاستدلالية. فنحن نبني ونهدم عبر التفاعل بين الحجة والحجة المضادة. وعليه، فإذا كانت عملية البناء تختلف باختلاف المعطيات والدارس والخطوات المعتمدة، فإن الإقناع بدوره يختلف باختلاف السبل وتبدل الطرق. وهو ما قد يجعل استدلالا ما أقوى من استدلال آخر. فلا يمكن التسليم بأن كل ما لا نصل إليه بطريق البرهان ليس يقينا؛ بل وجب الإقرار باختلاف المسالك التدليلية؛ وبأن اليقين الذي يتم بواسطة الحجاج يخالف في مفهومه فقط اليقين البرهاني. فإذا كان التصور التقليدي يعتبر البرهان استدلالا صحيحا صحة مطلقة، فإن التطورات المعاصرة جعلتنا نعتبر صحته نسبية ومقيدة. فلا يكتسب هذه الصحة إلا ضمن نسق محدد نعتمد في على قوة وصرامة الاستنتاج.
محصول الكلام، أن الاعتبارات الذاتية أضحت تلعب دورا في بناء الخطاب العلمي، بشكل أضفى على المعرفة العلمية بعدا نسبيا. وبالجملة، فكما تتفاعل المباحث فيما بينها ضمن ما نسميه بالفكر المركب الذي يقتضي التعددية الاستشكالية، فإن الوضع يقتضي كذلك التفاعل بين مختلف الطرق التدليلية ضمن تصور تكاملي متسق .
ج. إعادة رسم العلاقة بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية :
بعد أن أبرزنا أهم المقومات التي انبنت عليها معايير التمييز بين العلوم الدقيقة والإنسانية، وكيف يمكن أن يعاد النظر فيها، ننتقل إلى استحضار بعض المشاكل التي اصطدمت بها هذه العلوم بموجب إخضاعها للنظرة القائمة على التجزيئ، عوض التكامل.
لما كانت المعرفة وسبل تحصيلها تخضع لمعياري اليقين والظن عمد الدارسون إلى تحديد أنواع المعارف وطرق التصديق، وتحديد ما هو علم عما ليس بعلم. وكل ذلك بهدف إبعاد كل الطرق التي يمكن أن تشوش على المعرفة العلمية. فكان أن ضيق مجال العلم أحيانا ووسع أحيانا أخرى، بشكل نتج عنه اختلاف تصورالدارسين للعلم. ويمكن تصنيف المواقف إلى تصورات تنبني على:
أ- تصوراستند إلى مبدإ الدليل: إما بفهومه الإيجابي أو السلبي. ومن ثم، حصر مفهوم العلم في ماهو طبيعي. ومع هذا التصور ظهرت مفاهيم من قبل قابلية التحقق، وقابلية التكذيب، وقابلية الإبطال،وقابلية التأييد، وغيرها من المفاهيم التي اعتمدت معيارا لفصل القول العلمي عن القول غير العلمي.
ب- تصور استند إلى مبدإ التعليل السببي أو السبب الكافي: يرى أن العلم بمفهومه الأول ضيق، لذا، وجب توسيع نطاقه، بإضافة تصور يقوم على ضرورة معرفة سبب ظاهرة ما. فلا يمكن أن يكون  أمر ما موجودا، أو أن يكون تعبير ما صادقا من دون وجود سبب كاف ليكون هذا الأمر على ما هو عليه أو على خلاف ما هو عليه، حتى وإن كانت الأسباب غامضة. ومن ثم، أخذوا بمبدإ التعليل السببي كمعيار يمكننا من تمديد المجال ليضم علوم الإنسان إلى جانب علوم الطبيعة.
ج- تصور أخذ بالتعليل الغائي: سعى إلى توسيع مجال العلوم باستحضار المعيار الغائي سبيلا لتحديد العلم. فكل ما هو موجود لايوجد إلا لغاية محددة هي السبب في وجوده.ليصبح العلم هو المعرفة العلمية التي تدرس عالم الطبيعة وعالم الإنسان وعالم الاعتقاد.
يستفاد مما سلف، إمكان توسط المبادئ المشار إليها لتحديد التصورات المختلفة للعلم. حيث نلاحظ أن الاختلاف في تحديد مفهوم العلم ينبني بالأساس على تصور يضيق من مجاله ليحصره في ماهو طبيعة فقط، أو على تصور يسعى إلى توسيع مجاله ليشمل حقولا أخرى خاصة بالإنسان.
إذا كان المنحى الذي اتخذه التوجه القائل بإمكان توسيع تصور العلم يفضي بنا إلى التسليم بإمكان رد علوم إلى علوم أخرى؛ فلا يعني ذلك وجوب تجاهل وجود اختلافات بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان. فقد سلمنا من قبل باستحالة إخضاع الإنسان لنفس المعايير المعمول بها في المجال الطبيعي.
قد يُعترض علينا بالقول بأن الحقيقة في الحقل الإنساني لا تملك، حتى بالنسبة لصاحبها ذلك اليقين الجازم الذي تملكه الحقيقة الرياضية أو الطبيعية. جوابنا أن تاريخ الفلسفة مثلا يشهد أن الفيلسوف حين يقرر أحكامه يقررها على أنها حقائق لا يقل يقينها عن يقين أية حقيقة علمية. وقد يعترض علينا بعدئد بالقول إن القضية الفلسفية، حتى ولو نظرنا إليها من حيث اتصافها بالصدق بالنسبة إلى من يقررها تختلف في طبيعتها عن القضايا العلمية؛ ذلك أن القضية العلمية واضحة الحدود، وثابتة التصورات. بحيث نستطيع أن نقرر صدقها استنادا إلى دلالتها المحددة الثابتة، بينما القضية في العلوم الإنسانية غير واضحة الحدود. ردنا أن اشتراك ألفاظ اللغة الطبيعية لايعني البتة أنها غير واضحة عند من يستعملها. فحين نربط القضية بصاحبها فإننا نقرر في الوقت ذاته أن معناها هو ذاك الذي قصده القائل بها. بهذا، تصبح درجات الإدراك متشابهة بين العلوم الدقيقة والإنسانية ما بين اليقين المطلق والشك المطلق. لأن الحقيقة ليست كلية وموضوعية، بل موضعية وتراتبية. وعليه، ليس من الجائز النظر في العلوم الإنسانية بنفس معايير التدليل المعمول بها في العلوم الدقيقة. ولا يجب أن ننتظر من نتائجها أن تحقق نفس المفعول الذي تفضي إليه نتائج العلوم الصورية والطبيعية. فدور العالم غالبا ما يكون تحققيا، حيث ينظر إلى كيف توجد الأشياء. وقد يتخذ من مبدإ الدليل السلبي أو الدليل الإيجابي أو ما يشبه ذلك أحد المعايير التي يعول عليها لتناول ظاهرة ما. وغياب مثل هذه المعايير في العلوم الإنسانية يجعل القول فيها قابلا أكثر من غيره للتصادم. إذ غالبا ما يكون نظرا تقويميا تتكاثر فيه الحقائق بتكاثر الذوات. من هنا الخطأ الذي وقع فيه العديد من الدارسين حين سعوا إلى بناء العلوم الإنسانية وفق نماذج صورية صارمة. فدافعوا عن دعوى توحيد العلوم تحت راية علم واحد. في حين، لا يمكن حل مسائل العلوم الإنسانية ببراهين حاسمة. لكن هذا الاختلاف بين المقاربات لايعني رفض التكامل بين العلوم.