الرئيسية / أثر ذهاب المحل في الحكم.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : أثر ذهاب المحل في الحكم.

الكاتب(ة) : د. علي جمعة محمــــــــــــد

 أثر ذهاب المحل في الحكم

علي جمعة محمد
أستاذ  التعليم  العالي   بجامعة   الأزهر  – القاهرة.

أولا –   تحرير معنى محل الحكم وذهابه.

ـ 1 ـ
عرف الأصوليون الحكم بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير().
وهو تعريف مدرسة الرازي وأتباعه كالبيضاوي والأرموي، وزاد ابن الحاجب(): “أو الوضع”، ليشمل الحكم التكليفي والوضعي.
على أن صدر الشريعة في التنقيح نص على أنه ينبغي أن يقال : “بأفعال العباد”(). وغرضه من ذلك شمول التعريف لإتلاف الصبي والبهيمة الموجب للضمان، وهو ما استغنى عنه البيضاوي، حيث جعل الحكم الوضعي داخلا في التكليفي، وكذلك ابن الحاجب حيث زاد قيد “أو الوضع”.
ـ 2 ـ
ونرى من هذا أن الحكم عندهم متعلق بفعل، والمقصود بالفعل هنا هو ذلك العرض المعدود من المقولات العشر عند الحكماء، وذلك أنهم كانوا يتصورون الموجود منقسما إلى متحيز وغير متحيز، أما المتحيز، فهو إما فرد، وهو الجزء الذي لا يتجزأ، على مذهب أهل السنة، حيث أبطلوا التسلسل الذي لا نهاية له، ويسمى جوهرا؛ وإما مركب، وهو ما يسمى بالجسم.
أما غير المتحيز فهو العرض، ومن هنا جاء كلام المتكلمين المشهور، إن الله ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض، وإن الله غير متحيز، أي لا يحده حد أو زمان أو مكان، وهو وإن كان موجودا إلا أنه مخالف للحوادث كلها بما فيها الأعراض.
ـ 3 ـ
ومن هنا يجب أن نعرف معنى العرض وأحكامه، ثم نعرف الفعل كعرض من الأعراض، ثم نبين كنه الفعل واحتياجه لفاعل فقط، أو فاعل ومفعول، حتى نحدد ما المقصود بالمحل الذي نريد معرفة أثر ذهابه على الحكم الذي هو خطاب الله، المتعلق بذلك الفعل.
ـ 4 ـ
عرفوا العرض بأنه الممكن الموجود في موضوع. فخرج بقولهم “الممكن” الواجب والمستحيل، حيث لا يمكن أن يكونا أو واحد منهما بعرض؛ لأن العرض من أحكامه ألا يبقى زمانين، والواجب لا يحيط به الزمان، والمستحيل معدوم في ذاته، على حين أن العرض من أقسام الموجود، وهو جنس في التعريف يشمل المحيز وغيرالمحيز.
وقولهم “الموجود في موضوع” فصل أخر المحيز، وعلى ذلك فالعرض يحتاج إلى غيره حتى يقوم فيه، فلا يتصور عرضي قائما بنفسه.
ـ 5 ـ
والمقولات العشر، واحدة منها هي الجوهر، والتسعة أعراض، مجموعة في قول بعضهم:
زيـــد الطويل الأزرق ابن مالك         في بيته بالأمس كان متكي
بـيـده غـصـن لــــواه فالتـــــــوى          فــهذه عشر مقولات ســــوى
1 ـ زيد يشار به إلى الجوهر وهو متحيز.
2 ـ الطويل يشار به إلى مقولة الكم وهي من الأعراض.
3 ـ الأزرق ـ الكيف.
4 ـ ابن مالك ـ النسبة.
5 ـ في بيته ـ المكان.
6 ـ بالأمس ـ الزمان.
7 ـ كان متكي ـ الهيئة، وتسمى عند بعضهم: الوضع.
8 ـ بيده ـ الملك.
9 ـ لواه ـ الفعل.
10 ـ فالتوى ـ الانفعال.
ـ 6 ـ
قسم النحاة الكلمة العربية إلى فعل واسم وحرف، وعرفوا الفعل بأنه:”كلمة دلت على معنى في نفسها، واقترنت بأحد الأزمنة الثلاثة وضعا”. وفي حاشية العشماوي على الأجرومية يقول: الأفعال اللغوية هي مطلق الحدث وهي لا تنحصر.()
ويقول العلامة أبو النجا على شرح الشيخ خالد على الأجرومية: الأفعال اللغوية هي:جمع فعل، بفتح الفاء، وهو المصدر، أي الحدث الذي يحدثه الفاعل من قيام أو قعود أو غير ذلك …. ثم قال: الأفعال أي ـ الاصطلاحية عند النحاة ـ:جمع فعل بكسر الفاء. ثم عرفها تعريف النحاة الاصطلاحي.()
ومن هنا: يتبين لنا أن الأفعال اللغوية هي الحدث، وهو المسمى عند النحاة بالمصدر، في حين أن الأفعال في اصطلاح النحاة ربط ذلك الحدث بزمن من الأزمان، فأصبح منها الفعل الماضي والمضارع والأمر.
والمقصود في تعلق الحكم بالفعل هو المعنى اللغوي، وليس ما اصطلح عليه النحاة، فنقول: إن الصلاة واجبة أو الزنا حرام، وهي ألفاظ تدل على الأحداث من غير ارتباط بزمن.
على أننا ينبغي أن نتذكر أن الفعل بالمعنى الاصطلاحي يشتمل أيضا على الحدث فيكون الفاعل هو من أوجد الفعل.
قال الشيخ العشماوي: “الفاعل لغة من أوجد الفعل”()، وهو تعريف له بالرسم.
ـ 7 ـ
ويذكر الشيخ حسن العطار على شرح الأزهرية في النحو عند الكلام على الأفعال الناقصة: هذه الأفعال لتقرير الفاعل على صفة متصفة.. بمصدر ذلك الفعل، فمعنى: “كان زيد قائما” أن زيدا متصف بصفة القيام المتصف بصفة الكون، أي الحصول والوجود.
ومعنى: صار زيد غنيا،أي أن زيدا متصف بصفة الغنى، المتصف بصفة الصيرورة، أي الحصول بعد أن لم يحصل.
ومعنى تقرير الفاعل على الصفة، جعله وتثبيته عليها.()(أ.هـ)
ومن هنا يتبين لنا: أن بعض المصادر يقوم فاعل بها لتحقيقها وإيقاعها، وأن بعض الأفعال تكون صفة للصفة، كالأفعال الناقصة، وليست صفة قائمة بالفاعل، وهذا معنى نقصانها.
فالأفعال التامة يقوم بها الفاعل حتى تصير مسندة إليه، وقد تحتاج إلى مفعول أو مفعولين أو ثلاثة، وهو ما أسموه المتعدي، وقد لا يحتاج وهو اللازم. أما الناقصة فهي ليست للإيقاع، إنما لوصف صفة الفاعل.
ومن أجل ذلك كان مرفوعها اسما لها ومنصوبها خبرا، وليسا فاعلا ومفعولا. وعلى ذلك فالأوامر المتعلقة بتلك الأفعال الناقصة، تعني أمر الفاعل السعي لتحصيل صفة تتصف بمصدر ذلك الفعل.
فقولنا: كن قويا، أي حصل من أسباب القوة ما تصبح به متصفا بصفة موصوفة بالحصول بعد أن لم تكن.
ـ 8 ـ
والفعل يحتاج إلى فاعل، وقد يحتاج إلى مفعول. يقول الشيخ حسن العطار في حاشيته على الأزهرية عند الكلام على منع الاسم من الصرف. “وهو ماأشبه الفعل في علتين فرعيتين مختلفتين، مرجع إحداهما اللفظ، ومرجع الأخرى المعنى، أو فرعية تقوم مقام الفرعيتين، وذلك أن في الفعل فرعية عن الاسم في اللفظ، وهو عند البصريين اشتقاقه من المصدر، فضرب مثلا مشتق من الضرب، وعند الكوفيين التركيب، لأن الاسم كالمفرد، والفعل كالمركب، والمفرد أصل المركب.
وفرعية المعنى، وهو احتياجه إلى الفاعل، والفاعل لا يكون إلا اسما”.()
أقول: وحاصل ذلك أن الاسم شابه الفعل في الاحتياج فنزه عن التنوين لعلة، فالفعل محتاج إلى غيره من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، فمن جهة اللفظ يحتاج إلى المصدر (على رأي البصريين) ليشتق منه، ومن جهة المعنى يحتاج إلى الفاعل ليتم الكلام. وقد يقال: يحتاج إلى وقوعه في الخارج إلى فاعل، بل قد يحتاج إلى مفعول أيضا بهذا الاعتبار إذا كان متعديا، لأنه عرض، والعرض لا يقوم بنفسه بل بذات.
ـ 9 ـ
قال العلامة حسن العدوي الحمزاوي() عند شرحه على البسملة: ثم إنه يقال: إن البسملة عمل يصدر من المكلف فتعتريه أحكام الشرع، فحينئذ يسأل:هل التكليف بها وبغيرها من بقية الأفعال: يكون بالمعنى الحاصل بالمصدر، أو بالمعنى المصدري؟
وحاصل الفرق بينهما أن المعنى المصدري هو تعلق القدرة الحادثة ومقارنتها بالفعل، والمعنى الحاصل بالمصدر الأثر الحاصل عند تعلقها بالفعل.
وهذا الذي صرح به المحقق السيد الشريف قدس الله سره، خلافا لما يفيده كلام الفنري على المطول من أن المعنى المصدري نفس الحركات والسكنات، والحاصل بالمصدر هو الهيئة الناشئة عن ذلك.
وبسملة في اللغة كدحرجة مصدر، والمصدر يستعمل تارة ويراد منه المعنى المصدري، وهو تأثير الفاعل، أي تعلق قدرته بالمفعول، فهو أمر اعتباري نسبي، وهو بهذا المعنى لا ينسب إلا للفاعل، ويطلق تارة ويراد منه الحاصل بالمصدر، وهو أثر التأثير، أعني الفعل الذي تقارنه القدرة كالحركات، فالفعل هو التأثير والحركات أثر التأثير، والحركة أثر التحرك.
ويقال للمعنى الحاصل بالمصدر بهذا المعنى حدث، لحدوثه عن فاعل ومفعول مطلق، لأنه مفعول الفاعل، وهو التكليف به بالمعنى الأول أو الثاني؟ فأقول: قد اشتهر عن أهل التحقيق أن التكليف إنما هو بالمعنى المصدري، وذلك لأنه لا معنى لكون هذه الحركات واجبة علينا من حيث ذاتها، إنما الواجب علينا تحصيل هذه الحركات، ولا معنى لتحصيلها إلا التأثير فيها والكسب لها بقدرتنا الحادثة الذي هو المعنى المصدري. وهو إن كان ظاهرا يطمئن له القلب إلا أنه خلاف ما اشتهر.
قال بعض المحققين: وإذا أمعنت النظر تجد الخلاف لفظيا، لأن المعنى الحاصل بالمصدر لاينفك عن المعنى المصدري وبالعكس، فهما متلازمان قطعا، إلا أن من جعل التكليف بالحاصل نظر للمقصود، ومن جعله بالمصدري نظر لكونه وسيلة، لأنه لا تفعل حركة إلا بتحرك، ولا تحصل إلا بتحصيل، ولكن يبعد جعل الخلاف لفظيا قولهم “التحقيق”، لأنه إنما يعبر به في الخلاف الحقيقي. وبالجملة فكل من الملحظين صحيح، واتباع القوم في مقالتهم هو الحري بالاعتماد. وهل استعمال المصادر في كل من المعنيين حقيقة أو هو حقيقة في المعنى المصدري مجاز في الحاصل به؟ نقل بعض فضلاء الروم عن السيد الشريف أنها حقيقة فيهما، وعن العلامة الفنرى على المطول: أنها حقيقة في المصدري مجاز في الحاصل به. ورجح بعض المتأخرين عكس ما للعلامة الفنري، إنها حقيقة في المعنى الحاصل بالمصدر مجاز في المعنى المصدري.
وهو مرسل علاقته اللزوم بين الأثر والتأثير، وذلك أن العرب كانت تستعمل المصادر مرادا بها الحركات والسكنات التي يفعلها الفاعل.
وأما المعني المصدري، وهو تعلق القدرة، فلا يعرف أنه معنى لفظ المصدر إلا من دقق النظر في العلوم، وما كان متبادرا لاستعمال العرب له بدون قرينة يحكم عليه بالحقيقة.
فتوضيح المقام هنا: أن البسملة حقيقتها إما تعلق القدرة بحركة اللسان والشفتين عند قوله بسم الله، أو نفس الحركة المذكورة، فإطلاقها على لفظ بسم الله، المسموع بالأذن مجاز من إطلاق الشيء على لازمه المسبب عنه، لأن اللفظ مسبب عن الحركات أو عن تعلق القدرة بالحركة، ثم تجوز مجازا على مجاز، وأطلقوها على بسم الله الرحمن الرحيم، وصارت حقيقية عرفية بحيث لا يفهم عرفا من بسملة عند الإطلاق إلا “بسم الله الرحمن الرحيم”. (ا.هـ)
ـ 10 ـ
ويزيد هذا إيضاحا ما ذكر عند شراح النسفية عند قوله: “الاستطاعة مع الفعل، وهي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل، ويقع هذا الاسم على سلامة الأسباب والآلات والجوارح.وصحة التكليف تعتمد هذه الاستطاعة”.()
أقول: الاستطاعة لها معنيان:
الأول: وهو سلامة الأسباب والآلات والجوارح التي بها يقع الفعل، والاستطاعة بهذا المعنى سابقة على الفعل.
والثاني: وهو القدرة التي يكون بها الفعل، وهي قوة يخلقها الله تعالى عند إرادة العبد لفعل الخير أو الشر، وهذه القدرة لابد أن تكون مقارنة للفعل، لأنها عرض، والعرض لا يبقى زمانين، فلا تكون سابقة على الفعل ولا متأخرة عنه، وبهذا الإطلاق للاستطاعة يمكن الرد على المعتزلة، حيث إن ما أوردوه على أهل السنة في وجوب تقدم القدرة على الفعل هو عين الاستطاعة بالمعنى الأول، وهو مسلم.
ويسمي أهل السنة خلق قدرة الطاعة توفيقا، وخلق قدرة المعصية خذلانا. وعلى هذا فإن للعبد إرادة تتوجه لإيقاع الفعل، فيخلق الله فيه قدرة على إيقاعه، فيقع الفعل عند خلق هذه القدرة.
فهناك إرادة وتوجه وقدرة وفعل، فالإرادة مخلوقة، والتوجه متروك للإنسان بعد أن ألهمه الله طريق الخير وطريق الشر، وعليه يتم التكليف ويقع الثواب والعقاب، والقدرة والفعل مخلوقه كذلك، والله أعلم (ا.هـ).
ـ 11 ـ
ولا بد علينا من الكلام على أنواع المفاعيل حيث لا يتحقق الفعل في بعض الأحيان إلا بوجود مفعول:
فالمفعول به هو الاسم الذي يقع عليه الفاعل.
والمفعول المطلق هو المصدر الفضلة المؤكد لعامله أو المبين لنوعه أو عدده.
والمفعول فيه المسمى عند البصريين ظرف الزمان وظرف المكان لوقوع الفعل فيه، أي لابد له من زمان ومكان يقع فيه، ويسميه الكوفيون مفعولا فيه ومحلا وصفة. وقد عرفوه بأنه.. المفعول فيه.. وهو ما ذكر فضلة لأجل أمر وقع فيه من زمان مطلقا أو مكان مبهم أو مفيد مقدارا أو مادته مادة عاملة. وظرف الزمان هو اسم الزمان المنصوب بتقدير “في” الدالة على الظرفية، نحو اليوم والليلة وغدوة ….. إلخ. وظرف المكان هو اسم المكان المنصوب بتقدير “في” نحو: أمام وخلف وقدام ووراء وفوق وتحت وعند… إلخ.
والمفعول من أجله، ويسمى المفعول لأجله ويسمى المفعول له. وهو الاسم المنصوب الذي يذكر علة وبيانا لسبب وقوع الفعل نحو: قام زيد إجلالا لعمرو، ويشترط كونه مصدرا، واتحاد زمانه وزمان عامله واتحاد فاعلها.
والمفعول معه، وهو الاسم الفضلة المنصوب بما قبله، الذي يذكر بعد واو بمعنى “مع” أي مفيدة للمعية، لبيان من فعل معه الفعل، على جهة المصاحبة، مسبوقا بجملة فيها فعل، أو اسم فيه معنى الفعل، وحروفه نحو: جاء الأمير والجيش، أنا سائر والنيل.()
وعلى هذا فالمحل قد يكون زمانا وقد يكون مكانا، وقد يكون موضعا، وقد يكون شخصا، وقد يكون هيئة ونحو ذلك.
ـ 12 ـ
من كل ما تقدم يتبين لنا بأن الفعل المطلوب تحقيقه من المكلف له محل، وقد يكون ذلك المحل هو نفس الفاعل أو المفعول أو هما معا.
فإذا كنا نقصد بالأفعال الأحداث، وهي أعراض، فإننا نقصد بالمحل ما تحتاج إليه تلك الأحداث للقيام به، حتى تتحقق في الخارج.
ومن هنا نجد أن بعض الخطابات الشرعية الموجهة إلى المكلفين قد ذهب محلها سواء في جانب الفاعل أو المفعول.
فالخطاب الموجه إلى المكاتب بعد انتهاء الرق وفقده في الأرض، خطاب قد فقد فيه المحل الذي هو الفاعل.
والخطاب الموجه إلى خليفة المسلمين بعد انهيار الخلافة() قد فقد محله، حيث لا خليفة بالمعنى المعروف عند المسلمين.
أما فقد محل المفعول، فمنه ما حدث فعلا، ومنه ما يمكن أن يحدث، ومنه ما هو خاص بشخص معين، ومنه ما يعم الأمة.
فالأقسام أربعة:
– الخاص الذي حدث: كفقد المكلف ذراعه المأمور بغسله في الوضوء، أو فقد الإنسان لوالديه أو أحدهما والمأمور ببرهما، حيث كان ذلك الفقد حال صغره قبل التكليف، فهو يصدق عليه أنه لم يتمكن من برهما أبدا للخطاب الموجه إليه.
– الخاص الذي قد يحدث: مثل التائه في الفضاء، حيث فقد علامات الصلاة والصيام، وفقد استقبال القبلة أو الاستقرار على الأرض.
– العام الذي قد حدث: ومثاله حال المسلم المار أو المقيم ببلاد القطب الشمالي حيث لا تغيب الشمس أو تختل علامات الأوقات، فلا يوجد وقت لصلاة معينة، فيكون قد فقد المفعول فيه.
أو فقد الأمة للخليفة المأمورة بطاعته، والجهاد تحت رايته، أو انعدام التعامل بين الناس بالذهب والفضة عند من علق عليهما لذاتهما أحكام الربا، كالشافعية الذين يرون أنه لا ربا في الفلوس، ولو راجت رواج النقدين.
– العام الذي يمكن أن يحدث: كزوال القبلة ـ والعياذ بالله تعالى ـ بزوال الكعبة المشرفة حماها الله من كل سوء، أو زوال الحلال بالكلية من الأرض، أو زوال أهل العلم بالكلية بحيث لا يبقى أهل ذكر يمتثل بهم المكلف، لقوله : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون()  أو نحو ذلك مما نسأل الله تعالى السلامة منه، وأن يتوفانا على الإسلام.
فهذه صورة عامة للبحث الذي نحن بصدده، وهو إجمال لا يغني عن تفصيل نأتي إليك به قريبا إن شاء الله تعالى.
ـ 13 ـ
الفرق بين ما نحن فيه وبين النسخ :
1 ـ ذهب الإمام الرازي في المحصول إلى أن ذهاب المحل هو من قبيل النسخ بالعقل فقال:”فإن قيل: لو جاز التخصيص بالعقل، فهل يجوز النسخ به؟ قلنا : نعم، لأن من سقطت رجلاه فقد سقط عنه فرض غسل الرجلين، وذلك إنما عرف بالعقل”(). وأيده الأرموي فقال: فرع: العقل قد ينسخ، فإن سقطت رجلاه دل العقل على سقوط فرض غسلهما عنه.()
2 ـ على أن الإمام ابن السبكي والزركشي وغيرهما يخالفون الإمام في ذلك، ويرون أن ذلك لا ينطبق عليه مفهوم النسخ. قال الشوكاني في إرشاد الفحول بعد أن حكى كلام الرازي: “وأجاب غيره بأن النسخ إما بيان مدة الحكم، وإما رفع الحكم على التفسيرين، وكلاهما محجوب عن نظر العقل بخلاف التخصيص، فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل، فلا ملازمة، وليس التخصيص بالعقل من الترجيح لدليل العقل على دليل الشرع، بل من الجمع بينهما لعدم إمكان استعمال الدليل الشرعي على عمومه لمانع قطعي، وهو دليل العقل”.()
وقال ابن السبكي في الإبهاج:”فرع، قال الامام بالنسخ بالعقل، واحتج بأن من سقطت رجلاه نسخ عنه غسلهما، وهو مدخول، فإن ساقط الرجلين لم ينسخ عنه غسلهما، بل زال الوجوب لعدم القدرة لا غير، ثم إن ما ذكره مخالف لما قاله في النسخ من أنه لا بد وأن يكون بطريق شرعي”.()
وقال الزركشي في تشنيف المسامع بجمع الجوامع: علم من قوله: الحكم الشرعي بخطاب، أنه لابد أن يكون الحكمان ـ أعني الناسخ والمنسوخ ـ شرعيين، لان العجز يزيل أثر التعبد، ولا يقال إنه نسخ؛ ولا يكون النسخ بالعقل. وخالف فيه الامام الرازي فقال في المحصول: فإن قيل: لوجاز التخصيص بالعقل، فهل يجوز النسخ به؟ قلنا نعم، لأن من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين، وذلك إنما عرف بالعقل.
يقول الزركشي: وهو مدخول، إذ لا خطاب، وزوال الحكم لزوال سببه لا يكون نسخا، لكن الخلاف فيه سهل لرجوعه إلى التسمية().
وقال الزركشي أيضا في البحر المحيط: زعم في المحصول أن العقل يكون ناسخا في حق من سقطت رجلاه، فإن الوجوب ساقط عنه، وهو مردود بأن زوال الحكم لزوال سببه لا يكون نسخا. وقد قال القاضي في التقريب: لا خلاف، لأنه لا سبيل من جهة العقل إلى معرفة الناسخ من ناحية ضرورته أو دليله. نعم، حكى أبو إسحاق المروزي في كتابه عن جماعة، أن ارتفاع الحكم لارتفاع شرطه أو سببه يسمى نسخا”.()
ـ 14 ـ
الفرق بين ما نحن فيه وبين التخصيص :
رأينا الشوكاني يعد ما نحن فيه من فقد المحل نوعا من أنواع التخصيص بالعقل، ونرى خلاف ذلك، حيث إن التخصيص الوارد على الحكم أمر متعلق بالكافة، وليس أمرا يختلف باختلاف الأشخاص أو الأزمان أو الأماكن أو الأحوال، وما نحن فيه إنما هو حالة خاصة تمنع من إيقاع الحكم في الخارج، ويبقى الحكم كخطاب إلهي موجها إلى المكلفين إلى يوم القيامة، ينبغي عليهم الامتثال له سواء كان فعلا أم تركا، متى أمكن ذلك.
فالتخصيص إنهاء للحكم عن بعض أفراده، والنسخ إنهاء للحكم عن كل أفراده، وما نحن فيه ليس به معنى الإنهاء مطلقا، بل حكم الله سبحانه ثابت باق، وعدم تطبيقه في الواقع عائد إلى فقد المحل (سواء أكان فاعلا أم مفعولا) وليس راجعا إلى أن الله قد أنهى الحكم ورفعه عن المكلفين أو بعضهم أو عن الفعل أو حالة منه، فهو فارق دقيق ينبغي الالتفات إليه.
ـ 15 ـ
الفرق بين ما نحن فيه وبين فقد الشرط :
إن هناك تشابها بين ذهاب المحل وفقد الشروط، إذا ما نظرنا إلى أن المحل في ذاته إنما هو شرط من شروط إيقاع الفعل، حيث لا يتحقق الفعل إلا به، وذلك باعتبار الشرط، وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. وهذا ينطبق على المحل في علاقته بالفعل، إلا أن فقد الشروط أعم من ذهاب المحل، فقد يكون الشرط ليس محلا، فمن فقد الماء والصعيد معا فقد شرطا من شروط صحة الصلاة، وهو الطهارة.
في حين أنه بالنسبة للصلاة لم يفقد محلا حتى أجاز له بعض الفقهاء الصلاة عند ذلك، وأسقطوا عنه الطهارة، وهذا من باب إسقاط الشرط لتعذره وليس عدم إيقاع الحكم بذهاب محله.
على أننا لو تأملنا في المسألة باعتبار آخر لوجدنا أن الطهارة في نفسها عند فقد الماء والصعيد تعذرت لذهاب المحل، فتأمل.
تنبيه :  ينبغي أن لا يشتبه ذهاب المحل بزوال المانع، فموت الزوجة والذي يعد من قبيل زوال المانع في اقتران زوجها بأختها، ليس مما نحن فيه في أثر ذهاب المحل في الحكم، لأن المانع هنا كان العلاقة بين الزوجين والتي انتهت بموت الزوجة، وليست الزوجة محلا لفعل معين، بحيث يتعذر فعله بذهاب محله.
ـ 16 ـ
الفرق بين ما نحن فيه وبين الاستحالة:
قرر الفقهاء أن الخمر إذا استحالت خلا بنفسها فقد طهرت، وحينئذ ستتغير الأحكام المتعلقة بها.
وهذا يشتبه مع ما نحن فيه من ذهاب المحل، حيث إن المحل الذي تعلقت به الأحكام أولا قد تحول إلى شيء آخر مخالف للأول في الكنه والماهية والخصائص، بما يمكن معه القول بذهاب المحل الأول لذهاب خصائصه على الرغم من أن ذاته مازالت موجودة، فبقاء الذات مع ذهاب الخصائص هو الفرق بين ذهاب المحل والاستحالة، ففي ذهاب المحل ينعدم بالكلية، وفي الاستحالة تتغير أوصافه.
ـ 17 ـ
الفرق بين ما نحن فيه وبين عدم تطبيق الشريعة عمدا أو لضرورة:
إن تعذر إيقاع الحكم في الخارج لذهاب محله يشتبه عند بعضهم بتعذر إقامة الشريعة لظروف طارئة تكتنف المسلمين في بعض البلاد()، والفرق بينهما واضح، فذهاب المحل يحيل عقلا إيقاع الحكم، في حين أن تعطيل إقامة الشريعة لعدم تمكن فعلها يرجع إلى العادة لا إلى العقل، حيث يمكن تطبيقها حينئذ مع شدة أو حرج أو حتى بطريقة يترتب معها الهلاك، وهذا مختلف تماما عما نحن فيه.
ومن الممكن ارتكابا لأخف الضررين أو لفقد الشروط أو قيام الموانع أو للعمل على تحقيق مقاصد الشريعة العليا، الوقوع مؤقتا تحت مسألة تعطيل الشريعة من باب إيقاف العمل بالحكم، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة في تعطيل حد السرقة لفقد الشرط، أو العفو عن الزانية لعدم العلم، فهذا يختلف عن منعه سهم المؤلفة قلوبهم، والذي يعد من أثر ذهاب المحل في إيقاع الحكم، حيث ذهب المحل بالفعل، فلم يعد هناك مؤلفة قلوبهم، فإن عادوا فالحكم باق إلى يوم القيامة.
ـ 18 ـ
وهناك فرق بين ما نحن فيه وبين ضيق المحل :
والمقصود بضيق المحل أن يتعين فرض الكفاية حيث لا يجد أحدا يقوم به إلا واحد أو جماعة محتاج إليها لتحقيق الفعل المأمور به، وهذا مخالف لما نقصده، لأن ضيق المحل لا يعني انتفاءه أو ذهابه بالكلية، وهو ما نقصده من بحثنا هذا.
وعلى ذلك فقد يتحول فرض الكفاية إلى فرض عين، ولا يكون ذلك من قبيل ذهاب الحكم بذهاب محله.
ـ 19 ـ
ويشبه ما نحن فيه مسألة الغافل، وهو الصبي قبل البلوغ والمجنون والنائم والساهي والناسي والمكره إكراها ملجئا. فذلك الغافل يأتيه الخطاب فلا يجد محلا لما عرض له من عوارض الأهلية التي منعت من قيامه بالتكليف الذي كلف به، فتلك الصورة تشبه ذهاب المحل وهو الفاعل.
ـ 20 ـ
فإن تقرر ذلك فنرى أن عبارة ذهاب الحكم بذهاب محله غير دقيقة، فالأولى أن نقول: (أثر ذهاب المحل في الحكم).
حيث إن الحكم كخطاب إلهي باق إلى يوم القيامة. وإنما تعذر إيقاعه لذهاب محله بالمعنى السابق.
ثانيا  –  التطبيق.
وفيه مسـائل: مسألة الصلاة، مسألة الرق، مسألة الخلافة، مسائل متفرقة.
– مسألة الصلاة :
هل وقت الصلاة محل لها باعتباره مفعولا فيه، وقد قدمنا أن المحل قد يكون فاعلا أو مفعولا، وعليه فتعد حركات الشمس محددات لذلك المحل، بحيث لو ضاعت فقد ضاع تحديد المحل، وهو ما يقتضيه إطلاق اسم السبب عليها -والسبب عند الأصوليين: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فيلزم من زوال الشمس وجوب الظهر على المكلف، ويلزم من عدم الزوال عدم الوجوب- أم أن وقت الصلاة ما هو إلا علامة لوجوب قد استقر في ذمة المكلفين بخطاب الشرع لهم، وعلى ذلك فلا يعد محلا للصلاة؟
ذهب إلى كل رأي فريق من العلماء، وأثيرت المسألة ومحصت في كتب الحنفية حتى أفردها المرجاني بكتاب مستقل أسماه “ناظورة الحق في وجوب العشاء وإن لم يغب الشفق” عرض فيه لآراء الفريقين حتى من خارج المذهب، وهم قلة كالقاضي عياض. وانتصر فيه لرأي من أوجب الصلاة حتى مع انتفاء العلامات الخاصة بأوقاتها. والمتأمل في عبارته يرى أن ذلك من باب عد تلك العلامات معرفات للواجب وليست محلا باعتبار الزمان له.
وهذا يشعر بأن هناك اتفاقا على أن ذهاب المحل يعدم عقلا إيقاع الحكم في الخارج، وأن الخلاف في المسائل المتعلقة بذلك إنما يرجع إلى تكييف المسألة من كونها مشتملة على محل قد انعدم، أو أن المعدوم ليس محلا لايقاع الحكم، مع اتفاق الكافة بأنها لو كيفت محلا قد انعدم لأثر ذلك على إيقاع الحكم قطعا.
ومن هنا نستفيد، أن على الفقيه أن يتأمل ويبذل الوسع في دراسة وتكييف الحالة المعروضة عليه، حتى لا يشتبه أي معنى آخر بمسألة ذهاب المحل الذي معنا.
وننقل هنا من كتاب ناظورة الحق ما تتضح به المسألة، ونكثر النقل لندرة الكتاب وعدم توفره بين أيدي العلماء، ونعلق عليه بما يفيد مسألتنا، وعسى أن نحققه قريبا.
فيقول في صفحات 119، 120، 121: فهل تجب الصلوات الخمس والصوم وسائر العبادات المتعلقة بالأوقات على سكان هذه الأقطار، لم ير فيه كلام في كتب المتقدمين، ولم يرو خبر عنهم في تصانيف واحد من العلماء الكبار المتبحرين.
وقد كانت المسألة معركة فيما بين العلماء المتأخرين من أهل القرن السادس() وبعده في وجوب العشاء و الوتر وعدمه على من لا يجد وقتهما، بأن لا تتحقق المدة الفاصلة التي هي مدة غروب الشفق في الأيام المعتدلة والأقطار المتوسطة. ففي الفتاوي الظهيرية والمضمرات والتتارخانية وغيرها، أفتى الشيخ الإمام الأجل، برهان الدين الكبير() في أهل بلد كما تغرب الشمس يطلع الفجر، أن عليهم صلاة العشاء، والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء.()
وقال ابن الهمام في فتح القدير: وأفتى الإمام البرهان الكبير بوجوبهما، وفي التبيين شرح الكنز للزيلعي: ذكر المرغيناني أن الشيخ برهان الدين الكبير أفتى بأن عليهم صلاة العشاء.()
وقال محمد بن عبد الله التمرتاشي الغزي في كتاب تنوير الأبصار: وفاقد وقتهما مكلف بهما. وقال الشيخ سري الدين عبد البر بن محمد الحلبي المعروف بابن الشحنة في الذخائر الأشرفية أن الصحيح خلاف ما اختاره صاحب الكنز في هذه المسألة.
وقال في ترجمة الكنز أن الفتوى على الوجوب.
وفي المحيط البرهاني ورد فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة وكان فيها أنا لا نجد وقت العشاء في بلدتنا، فإن الشمس كما تغرب يطلع الفجر من الجانب الآخر هل علينا صلاة العشاء؟
فكتب في الجواب أنه ليس عليكم صلاة العشاء، وهكذا كان يفتي ظهير الدين المرغيناني().
وفي المضمرات: “ورد فتوى في زمن..” إلى قوله: “وهكذا كان يفتي” بعبارته. غير أنه لم يذكر فيه فاعل قوله: “يفتي”، فيكون الفاعل ضميرا راجعا إلى الصدر الكبير أو ساقطا من الناسخ؛ فإن الظاهر أن هذا القول مأخوذ من المحيط. ثم قال: وفي الظهيرية: وأفتى الإمام الأجل برهان الدين الكبير في أهل بلد كما تغرب الشمس يطلع الفجر أن عليهم صلاة العشاء، والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء.(أ.هـ)
وفي خلاصة الفتاوى: ولو كانوا في بلدة إذا غربت الشمس طلع الفجر، لا يجب عليهم صلاة العشاء.
وفي الكافي لأبي البركات النسفي: ولا يجب العشاء لقوم لم يجدوا وقته بأن يطلع الفجر كما غربت الشمس، لعدم سبب الوجوب وهو وقته. وفي الكنز له: ومن لم يجد وقتهما لم يجبا().
وذكر الزاهدي في المجتبى شرح المختصر عن البدر الطاهر، قال: وردت فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة، أنا لا نجد وقت العشاء في بلدتنا، هل علينا صلاة؟ فكتب: ليس عليكم صلاة العشاء. وبه أفتى ظهير الدين المرغيناني، وفي الجواهر: إن كانوا في بلدة يقال لها بلغار، إذا غربت الشمس طلع الفجر لا يجب عليهم صلاة العشاء، كذا أفتى الصدر الكبير برهان الأئمة وظهير الدين المرغيناني.
وقد نسبت الفتوى بالوجوب إلى ظهير الدين المرغيناني في غير واحد من الشروح وغيرها.
وبالجملة فمأخذ القول بالوجوب هو برهان الدين الكبير، ومأخذ القول بعدمه هو الصدر الكبير برهان الأئمة، واختلف عن ظهير الدين المرغيناني.
ثم قال في ص 124: وقد عرفت أن الخلاف فيمن لا يجد الوقت أصلا، ومن أفتى بالوجوب لم يبال بعدم الوقت، وذهب إلى وجوبه مع عدمه؛ لأن الوقت غير مقصود بالذات، ولا بسبب حقيقة، ويسقط اعتباره بأدنى سبب(). كما في عرفة ومزدلفة وأيام الدجال بالاتفاق، ويجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت أحدهما، وكذا المغرب والعشاء عند مالك والشافعي ومن وافقهما(). وقد أخرج الشيخان() عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي  لما رجع من الاحزاب، قال: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد ذلك منا، فذكر ذلك للنبي ، فلم يعنف أحدا منهم. وقد روي أن بعضهم صلاها بعدما انتصف الليل.()
فإن صاحب المحيط ذكر في كتابه وجوب الصلاة على المستحاضة في أيام يتردد رأيها فيها بين كونها طاهرة أو حائضا، ولا تستقر في أحدهما، مع حرمة الصلاة قطعا على تقدير الحيض وكفرا عند العلم به.()
وقد قام الدليل القطعي على وجوب العشاء بعد غروب الشمس، فلا يجوز تركها بانتفاء سبب جعلي محتمل للسقوط، والتكليف إنما هو بقدر الوسع، فيجب أداؤها، وإن لم يتحقق الوقت أصلا لثبوت أصل الوجوب في الذمة.()
وقد قالوا: إن العبادات متى دارت بين الوجوب وعدمه، أوجبها الاحتياط، لأن مبناها على التكثير، لأن الانسان إنما خلق للمعرفة وإظهار العبودية، فكيف لا إذا قام الدليل على وجوبها قياما لا مرد له، وثبت ثبوتا لا ريب فيه، بخلاف أمر العقوبات فإنها تندرئ بالشبهات.()
ذكر الزاهدي في المجتبى شرح المختصر حكاية في هذه المسألة نقلا عن أستاذه فخر الدين بديع بن أبي المنصور القرميني أنه قال: بلغنا أنه وردت فتوى عن بلاد يطلع الفجر فيها قبل غيبوبة الشفق في أقصر ليالي السنة، على شمس الأئمة الحلواني، فأفتى بقضاء العشاء، ثم وردت بخوارزم على الشيخ الكبير سيف السنة البقالي، فأفتى بعدم الوجوب، فبلغ جوابه الحلواني فأرسل إليه من يسأله بعامته بجامع خوارزم: ما تقول فيمن أسقط من الصلوات الخمس واحدة هل يكفر؟ فسأله وأحس به الشيخ، فقال ما تقول فيمن قطعت يداه من المرفقين أو رجلاه مع الكعبين، كم الفرائض في وضوئه؟ فقال: ثلاث، لفوات محل الرابع، قال: كذلك الصلاة الخامسة، فبلغ الحلواني جوابه فاستحسنه ووافقه فيه. انتهى.()
ثم إنه قاس على قطع اليدين والرجلين بدون علة مطردة ولا جامع هو للقياس شرط من شرائط الصحة، فإن المأمور به بالنص في مسألة الوضوء غسل العضو المخصوص، فعلى تقدير سقوطه لا يمكن غسله ضرورة، ولا يحصل الامتثال بغسل عضو آخر، والمأمور به بالنص في مسألتنا إقامة الصلاة في المساء وزلفة من الليل، وهو على تقدير عدم تحقق الوقت أصلا لا محالة أمر ممكن، وإن ثبتت سببية الوقت وشرطيته للصلاة بقطعي، فإن الطاعة على قدر الطاقة، فضلا عما تنتفي العلامة المعرفة لتحقق المدة المقررة.
ولذلك اعترض عليه العلامة المحقق كمال الدين ابن الهمام رحمه الله بقوله: ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض، وبين عدم سببه الجعلي الذي جعل علامة للوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر، وجواز تعدد المعرفات للشيء، فانتفاء الوقت انتفاء للمعرف، وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه لجواز دليل آخر.
ثم قال في ص 128: وقد وجد، وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الصلاة خمسا بعدما أمر أولا بخمسين، ثم استقر الأمر على الخمس شرعا عاما لأهل الآفاق، لاتفصيل فيه بين قطر وقطر، وما روي من أنه ذكر رسول الله  الدجال قلنا: مالبثه في الأرض؟ قال:أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فقيل: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة، أيكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: لا اقدروا. رواه مسلم.
فقد أوجب أكثر من ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مثلا أو مثلين وقس عليه، فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم، غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها، ولا يسقط بعدمها الوجوب.
ثم إنه هل ينوي القضاء؟ الصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء. ومن أفتى بوجوب العشاء يجب على قوله الوتر أيضا.
ثم قال في ص 130: وعلم بما ذكرنا عدم الفرق بين من قطعت يداه أو رجلاه من المرفقين والكعبين وبين هذه المسألة كما ذكر الإمام البقالي، ولذا سلم الإمام الحلواني ورجع إليه.. وذلك لأن الغسل سقط ثمة لعدم شرطه، لأنه محل والمحل شرط، فكذا ههنا سقطت الصلاة لعدم شرطها، بل سببها أيضا، ولما لم يقم هناك دليل يجعل ماوراء المرفق إلى الإبط، وما فوق الكعب بمقدار القدم خلفا عنه في وجوب الغسل، كذلك لم يرد دليل يجعل جزءاً من وقت المغرب أو من وقت الفجر خلفا عن وقت العشاء، وكما أن الصلوات خمس بالإجماع على المكلفين، كذلك فرائض الوضوء على المكلفين، لا تنقص عن أربع بالإجماع، لكن لابد من وجود جميع أسباب الوجوب وشرائطه في جميع ذلك فليتأمل.
ثم قال في ص 131، 132: على أنه قد سبق أن وجوب العشاء قطعي، واعتبار وقتها بدليل ظني، وبمدخل من الرأي، فإن نفس الصلوات الخمس موزعة على أوقاتها، فكانت معهودة معروفة عند كل الأمة ثابتة من الدين بمنزلة الضروري والبديهي الأولي، وما كان السلف يحتاجون إلى المسألة عنها، وإنما كانوا يتساءلون عن حدود أوقاتها وتفاصيل أحوالها وتعيين أوائلها وأواخرها، ولكن تنزلنا عن هذا القدر، فلا نسلم أن الوقت من الأسباب والشروط التي لا تحتمل السقوط، فإنه لاريب في سقوط اعتبار الوقت بأدنى علة، مثل عرفة ومزدلفة وأيام الدجال بالاتفاق، وبعذر المطر والسفر وغير ذلك عند الشافعي ومن وافقه، لكونه وسيلة غير مقصودة، وكان المعرف الحقيقي لوجوب الصلاة على العبد بإيجاب الله تعالى يحقق سببها الذي هو نعمه سبحانه، ولكنه لما كان أمرا خفيا، جعل الوقت معرفا لكونه أمرا ظاهر التحقق. وهذا معنى كونه سببا جعليا، بمعنى أنه اعتباري وضعي يحتمل السقوط، وليس بحقيقي لازم الوجود، وهو كلام في غاية المتانة ونهاية الاستقامة.
فإن قيل: لا فرق بين الوقت والنعم في كون كل منهما سببا ظاهريا غير حقيقي، فإن السبب الحقيقي هو الله تعالى ليس إلا.
قلت: نعم، تحقق الأشياء كلها ووجود الممكنات بأسرها، ليس إلا بتقدير الله تعالى وخلقه وإيجاده إياها على الاستقلال وبالإرادة والاختيار، ومع ذلك للأسباب والوسائط تأثيرات حقيقية بالطبع أو بالإرادة على ما هو مذهب الحنفية، وهي مسألة شرعية المأخذ، غامضة المدرك، حكمية البيان، راسخة البنيان.
ومن المسائل المتعلقة بالصلاة: ما يتعلق بالطهارة كشرط من شروطها، فإن فاقد الطهورين له حكم عند العلماء تفصيله كالتالي:
يقول ابن قدامة(): “فصل: وإن عدم بكل حال صلى على حسب حاله، وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يصلي حتى يقدر، ثم يقضي، لأنها عبادة لا تسقط القضاء فلم تكن واجبة كصيام الحائض.
وقال مالك: لا يصلي ولا يقضي، لأنه عجز عن الطهارة، فلم تجب عليه الصلاة كالحائض. وقال ابن عبد البر:هذه رواية منكرة عن مالك. وذكر أصحابه قولين: أحدهما، كقول أبي حنيفة، والثاني يصلي حسب حاله ويعيد.
ولنا ما روى مسلم في صحيحه أن النبي  بعث أناسا لطلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي  فذكروا ذلك له فنزلت آية التيمم، ولم ينكر النبي  ذلك، ولا أمرهم بالإعادة، فدل على أنها غير واجبة؛ ولأن الطهارة شرط فلم تؤخر الصلاة عند عدمها، كالسترة واستقبال القبلة.
وإذا ثبت هذا فإذا صلى على حسب حاله ثم وجد الماء أو التراب لم يلزمه إعادة الصلاة في إحدى الروايتين، والأخرى: عليه الإعادة، وهو مذهب الشافعي، لأن فقد شرط الصلاة أشبه ما لو صلى بالنجاسة، والصحيح الأول لما ذكرنا من الخبر، ولأنه أتى بما أمر فخرج عن عهدته، ولأنه شرط من شرائط الصلاة فيسقط عند العجز كسائر شروطها وأركانها. ولأنه أدى فرضه على حسبه، فلم يلزمه الإعادة كالعاجز عن السترة إذا صلى عريانا، والعاجز عن الاستقبال إذا صلى إلى غيرها، والعاجز عن القيام إذا صلى جالسا. وقياس أبي حنيفة على الحائض في تأخير الصيام لا يصح؛ لأن الصوم يدخله التأخير بخلاف الصلاة، بدليل أن المسافر يؤخر الصوم دون الصلاة، ولأن عدم الماء لو قام مقام الحيض لأسقط الصلاة بالكلية، لأن قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصيام، وأما قياس مالك فلا يصح، لأن النبي  قال: فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. فقياس الطهارة على سائر شرائط الصلاة أولى من قياسها على الحائض؛ فإن الحيض أمر معتاد يتكرر عادة، والعجز هنا عذر نادر وغير معتاد. فلا يصح قياسه على الحيض، ولأن هذا عذر نادر فلم يسقط الفرض كنسيان الصلاة وفقد سائر الشروط”.
وإنما ذكرنا ذلك لبيان أثر ذهاب المحل، وهو ههنا مفعول به ـ الماء والصعيد ـ وذكرنا لأحكام الصلاة لفاقد الطهورين إنما هو لتمام الفائدة، فالمقصود مسألة التطهير، لأن فيها فقدا للمحل، وليس مسألة الصلاة، لأن فيها فقدا للشرط فتأمل. وقد قال الشربيني() عند شرحه قول النووي:”ومن لم يجد ماء ولا ترابا لزمه في الجديد أن يصلي الفرض ويعيد”، قال: ومقابل الجديد أقوال:
أحدها: تجب الصلاة بلا إعادة، وطرد ذلك في كل صلاة وجبت في الوقت مع خلل، وهو مذهب المزني، واختاره المصنف في المجموع، قال: لأنه أدى وظيفة الوقت، وإنما يجب القضاء بأمر جديد.
ثانيها: يندب له الفعل وتجب الإعادة.
ثالثها: يندب له الفعل ولا إعادة.
رابعها: يحرم عليه فعلها، ففي مسلم: لا تقبل صلاة بغير طهور، لأنه عاجز عن الطهارة فأشبه الحائض.
–  مسألة   الرق :
ظل الرق نظاما معمولا به في العالم قديمه وحديثه، وكانت مصادره كثيرة منها: أسرى الحرب، وهو المصدر الوحيد الذي اعترف به الإسلام وأبقاه، وذلك في القتال مع غير المسلمين، على سبيل المعاملة بالمثل، على أنه نهى أيضا عن ضرب الرق على العرب والمسلمين المأسورين من جيش العدو، وألغى كل مصدر سوى هذا: مثل تملك الدائن لمدينه عند تعذر السداد، ومثل الخطف، ومثل بيع الأولاد من الفقر، وغير ذلك من الصور. ثم فتح باب العتق وجعله من أفضل القربات إلى الله تعالى، حتى صاغ العلماء العبارة المشهورة مستنبطين إياها من مجمل الشريعة ومقاصدها (إن الشرع يتشوف إلى الحرية)، وجعلوا هذا التشوف من الشرع الشريف أصلا في كثير من أحكامهم.
ولظروف سياسية واجتماعية، وبعد دعاوى حقوق الإنسان والتي نبتت مع الثورة الفرنسية 1789م ومع الثورة الأمريكية في مطالع القرن التاسع عشر، نودي بعقد اتفاقات دولية، لإنهاء الرق من العالم، فاستجابت كثير من الدول الإسلامية لهذه المعاهدات، ومنها مصر التي أبرمت معاهدة مع انجلترا في 14 أغسطس 1877م، من مقتضاها: أن الاسترقاق والنخاسة ملغيان في جميع أنحاء القطر المصري ومن جملته السودان، بل لم تكتف بذلك، وفعلت ما هو زائد عليه، فوضعت في جميع الأقاليم مكاتب، لعتق من يطلب من الأرقاء الحرية. وكانت هناك مصلحة حكومية تسمى مصلحة إلغاء الرقيق.()
وجدير بالذكر أن كثيرا من الأرقاء -لشعورهم بالانتماء لأسيادهم- فضلوا الرق وضلوا عليه وعلى ولائهم إلى أن ماتوا.
وكانت آخر البلاد إلغاء للرق هي المملكة العربية السعودية التي ألغته في الستينات من القرن الماضي حوالي 1380هـ، على عهد الملك فيصل.
وبذلك انتهى الرق رسميا من الأرض، وإن كانت هناك بعض الصور غير الرسمية التي يقوم بها الفاتيكان مع أطفال الهند، أو بعض الشركات التي تتجر في المخدرات في أمريكا الجنوبية، أو بعض الأثرياء الذين يتعاملون فيما يسمى بالرقيق الأبيض، وهو نظام يشبه الدعارة. على أننا الآن لا نجد موردا صحيحا للرق من جهة الشرع الشريف، فافتقادنا للرقيق يعد افتقادا للمحل المتعلق به كثير من الأحكام.
1 ـ العتق: فلقد فقد المكلف القدرة على الامتثال للأمر الموجب بالاعتاق في الكفارات، باعتبار أن العتق خصلة من خصال الكفارة. وهو من قبيل فقد المفعول. وأثر ذلك هو ذهاب الحكم ـ يعني الآن ـ بمعنى عدم القدرة على تنفيده، وليس بمعنى تغيره في نفسه، حيث إن الحكم قديم؛ وهو باق إلى يوم القيامة. وعلى هذا فإنه يمكن أن يقال إن العتق لا يوجد الآن، وإنه غير ممكن، من غير أن يقدح ذلك في الشرع، ولا يوصف هذا بأنه تعطيل للشريعة، ولا بأنه نقص فيها، ولا يتصور ضرر لعدم تمكن المكلف من تطبيق ذلك.
2 ـ الكتابة: وهي في عرف الشرع عتق معلق على مال منجم بوقتين معلومين فأكثر. وهي مستحبة إذا سألها العبد أو الأمة، وكان كل منهما مأمونا مكتسبا قادرا على كسب ما يوفي به ما التزمه من نجوم الكتابة.
فلقد فقد المكلف القدرة على الامتثال للأمر الطالب للكتابة طلبا غير جازم -أي ندب- وهو من قبيل فقد المفعول، وأثره هو ذهاب الحكم يعني الآن بمعنى عدم القدرة على تنفيذه.()
3 ـ التدبير، وهو في عرف أهل الشرع: عتق عن دبر الحياة، أي تعليق عتق بدبر الحياة، الذي هو الموت وحده، أو مع صفة قبله لا معه ولا بعده، مثال الأول: إن مت فأنت حر، فيصير العبد مدبراً يعتق بوفاة سيده. ومثال الثاني: أن يقول: إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي، فيصير التدبير معلقا على دخول الدار فلا يصير مدبرا حتى يدخل الدار، فيشترط دخوله الدار قبل موت سيده حتى يعتق بموته، وقد فقد المكلف هنا المحل وهو من قبيل فقد المفعول.()
4 ـ أحكام أم الولد: كثبوت الاستيلاد، وحرمة البيع والرهن والهبة، وجواز التصرف بالاستخدام والوطء والإجارة والإعارة، وعتقها من رأس المال بموت السيد، ونحو ذلك، وقد فقد المكلف هنا المحل وهو من قبيل فقد المفعول.()
5 ـ التبعيض والسراية: وهو إذا أعتق جائز التصرف جزءاً من العبد أو الأمة، مبينا كيد، أو شائعا كربع، كأن قال: أعتقت يدك أو ربعك، فيعتق عليه جميعه، موسرا كان السيد أو لا، لأن الفرض أن جميع العبد له، بخلاف ما إذا كان له شرك فيه فقط، فإنه يشترط فيه أن يكون موسرا.
وقد فقد المكلف هنا المحل، وهو من قبيل فقد المفعول.()
6 ـ طاعة السيد: فإن الإسلام أوجب على العبد طاعة سيده وعدم مخالفته، وحرم الإباق. وبانتهاء الرق فقد المكلف هذا الحكم، وهو فقد للمحل الذي هو الفاعل.
7 ـ أحكام النسب، اتباع الولد أمه في الرق: الولد يتبع الأم في الرق والحرية، يقول ابن قدامه: “إذا كانت زوجة العبد مملوكة فولدها عبيد لسيدها لأنهم يتبعونها، فتكون نفقتهم على سيدهم”.()
ومن كل ما تقدم يتبين لنا أن ذهاب المحل يستلزم ذهاب الحكم، بمعنى عدم القدرة على إيقاع موجبه في الخارج، وينبغي علينا أن نتنبه إلى أن ذلك لا يقتضي حذفه من كتب الفقه أو التدريس كما هو شائع بين كثير من طلبة العلم بدعوى أنها مسائل ليس لها وجود في الواقع، وأن غيرها أولى بالدرس والتحصيل، وهذا مردود من وجوه:
ـ الوجه الأول: أن درسها يفيد في فهم كتب الأولين فهما تاما، يختل إذا ما تغاضينا عنها أو أهملناها، حيث جعلت أصلا في قياس، أو ألحق بها غيرها من الفروع، أو خرج عليها قول من الأقوال المنسوبة إلى إمام المذهب، أو ضربت مثلا للتفهيم، ولا يمكن إدراك كل ذلك إلا بفهمها فهما واضحا جليا.
مثال ذلك: تعليق الطلاق جائز قياسا على العتق، وقد ورد الشرع بتعليقه في التدبير.()
وأيضا: لو قال: “طلقتك واحدة أو اثنتين” على سبيل الإنشاء، فيختار ما شاء من واحدة أو اثنتين كما لو قال: أعتقت هذا أو هذين().
وأيضا أنه لو وكلها بتطليقها بألف ووكل آخر بتطليقها بألفين، فأيهما سبق وقع الطلاق بما سمى، وإن أوجبا معا، فقالت: قبلت منكما، أو كانت وكلت وكيلين أيضا، فقبل وكيلاها من وكيله معا لم يقع شيء كما لو وكل رجلا بيع عبده بألف، وآخر ببيعه بألفين، فعقدا لا يصح البيع().
ـ الوجه الثاني: أنا نحتاج إليها في أقيستنا التي يمارسها المجتهد إلى يوم القيامة، وكذلك نحتاج إليها في إلحاق الفروع بها، أو في نسبة قول مخرج على قول منصوص بما يفتح الله على المتأخرين مما ادخره لهم، فكم ترك الأول للآخر.
ـ الوجه الثالث: هو أن هذه الأحكام وإن تعذر إيقاعها لذهاب محلها إلا أنها ينبغي اعتقاد بقائها إلى يوم الدين فلم تزل ولم تنته.
وهذا هو معنى من رد على الرازي في تسميته لذلك بالنسخ بغض النظر عن أن الخلاف لفظي، والله أعلم.
– مسألة  الخلافة :
ظلت الخلافة الإسلامية عالية الرايات خفاقة منذ تولية أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى أوائل القرن العشرين، حتى أعلن مصطفى كمال أتاتورك بتركيا إلغاء الخلافة في 6 مارس 1924م فكان آخر الخلفاء ممن بيدهم مقاليد الحكم هو السلطان عبد الحميد خان رحمه الله تعالى، وآخرهم اسما هو السلطان محمد وحيد الدين خان، والذي قام الإلغاء الأتاتوركي في عهده().
وعلى مر العصور لم تسقط الخلافة بهذا المعنى سوى أربعة أيام، عندما سقطت بغداد في يد المغول سنة 656 هـ وقتل الخليفة العباسي. ففر المتوكل أحمد وأقيم خليفة بمصر القاهرة فلم يمر يوم الجمعة على المسلمين وهم من غير خليفة.
وانهيار الخلافة هو البلية العظمى والطامة الكبرى الذي تشتت بموجبه الأمة وخبطت خبط عشواء وركبت متن عمياء، وشاعت فتنة لا يزال الحليم فيها حيران، وإلى الله المشتكى.
ولما ذهبت الخلافة، ذهب محل أسمى وجه إليه الدين كثيرا من أوامره ونواهيه..
بذهاب الخلافة ذهب المحل كفاعل ومفعول:
أما في جانب الفاعل فتلك الأوامر الموجهة إلى الخليفة من تجييش الجيوش، وتجميع المسلمين ورعاية مصالحهم، وسياسة أمورهم، وإدارة المال العام والإذن في الولايات وإقامة الجمع، إلى غير ذلك مما لا يخفى على أحد من الأحكام التي تعلقت بمنصب الخلافة.
وكذلك ذهب المحل في جانب المفعول، ويتمثل في تلك الأوامر الموجهة إلى الرعية كطاعة الخليفة وعدم الافتيات عليه ولا الخروج عن أمره، وأنهم إذا استنفروا فلينفروا، إلى غير ذلك من الأوامر الواضحات التي كانت تحفظ على المسلمين دولتهم وجماعتهم.
على أن العلماء قد نصوا أنه في حالة تصور ذهاب ذلك المحل ينتقل إلى آخر يقوم مقامه، وضربوا مثلا لذلك: الوالي وقائد الجند والقاضي والمفتي، ثم أهل الوجاهة من الناس ممن لهم شوكة أو علم بسياسة الأمور أو غير ذلك، وبناء عليه، فإن رئيس الدولة القطرية الذي يعلن إسلامه، وينص في دستور بلاده على ذلك، يحل محل الخليفة كفاعل ومفعول، وتجري بذلك الأحكام ولا تنتهي.
إلا أن العلماء فرضوا ما هو أشد من ذلك، وهو خلو الناس حتى من العلماء العارفين أو نقلة المذاهب المتمكنين حتى قالوا: إن ذلك يستوجب والحالة كهذه، عدم الحكم على الأفعال الحادثة، لعدم وجود المفتي وانسداد طريق الفتوى، أو الحكم، كما سيرد في نقل الجويني قريبا، وننقل هنا عن الإمام الجويني نصوصا حول مسألتين من كتابه الغياثي يتكلم عن فقد الخليفة وعن فقد المفتي، وفيها كفاية لمن وفقه الله إلى الرشاد والصواب، وطريق يبين كيفية الاجتهاد وإبداء الرأي في تلك المسائل الدقيقة التي تتعلق بفقد المحل، والتي ينبغي على المفتي فيها أن يراجع نفسه مرات قبل أن يحكم بتعذر إقامة الحكم أو انعدامه بذهاب محله.
*- فقد الخليفة  (خلو الزمان عن الخليفة) :
قال إمام الحرمين: قد حان الآن أن أفرض خلو الزمان عن الكفاءة ذوي الصرامة، خلوه عمن يستحق الإمامة، والتصوير في هذا عسر، فإنه يبعد عرو الدهر عن عارف بمسالك السياسة، ونحن لا نشترط انتهاء الكافي إلى الغاية القصوى، بل يكفي أن يكون ذا حصافة وأناة، ودراية وهداية واستقلال بعظائم الخطوب، وإن دهته معضلة استضاء فيها برأي ذوي الأحلام، ثم انتهض مبادرا وجه الصواب بعد إبرام الاعتزام. ولا تكاد تخلو الأوقات عن متصف بهذه الصفات.()
ثم قال: ولكن قد يسهل تقدير ما نبغيه بأن يفرض ذو الكفاية والدراية مضطهدا مهضوما، منكوبا بعسر الزمان مصدوما محلا عن ورد النيل محروما. وقد ذكرنا أن الإمامة لا تثبت دون اعتضاد بعدة واستعداد بنجدة وشوكة، فكذلك الكفاية بمجردها من غير اقتدار واستمكان لا أثر لها في إقامة أحكام الإسلام.
فإذا شغر الزمان عن كاف مستقل بقوة ومنعة فكيف تجري قضايا الولايات، وقد بلغ تعذرها منتهى الغايات؟ فنقول:  أما ما يسوغ استقلال الناس بأنفسهم، ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر، ومراجعة مرموق العصر، كعقد الجمع، وجر العساكر إلى الجهاد، واستيفاء القصاص في النفس والطرف، فيتولاه الناس عند خلو الدهر.
ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نفض الطرق عن السعاة في الأرض بالفساد، فهو من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.()
ثم يقول: وإنما ينهى آحاد الناس عن شهر الأسلحة استبدادا إذا كان في الزمان وزر قوام على أهل الإسلام، فإذا خلا الزمان عن السلطان وجب البدار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان. ونهينا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل الاستحثاث على ماهو الأقرب إلى الصلاح والأدنى إلى النجاح، فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجع وأدفع للتنافس وأجمع لشتات الرأي، وفي تمليك الرعايا أمور الدماء وشهر الأسلحة وجوه من الخبل لا ينكرها ذو العقل.
وإذا لم يصادف الناس قواما بأمورهم يلوذون، فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد(). وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره، فإنهم لو لم يفعلوا ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إظلال الواقعات.
ومما يجب الاعتناء به أمور الولايات التي كانت منوطة بالولاة، كتزويج الأيامى والقيام بأموال اليتامى. فأقول: ذهب بعض أئمة الفقه إلى أن مما يتعلق بالولاية تزويج الأيامى، فمذهب الشافعي رضي الله عنه وطوائف من العلماء: أن الحرة البالغة العاقلة لا تزوج نفسها، فإن كان لها ولي زوجها، وإلا فالسلطان ولي من لا ولي له، فإذا لم يكن لها ولي حاضر، وشغر الزمان عن السلطان، فنعلم قطعا أن حسم باب النكاح محال في الشريعة، ومن أبدى في ذلك تشككا، فليس على بصيرة بوضع الشرع، والمصير إلى سد باب المناكح يضاهي الذهاب إلى تحريم الاكتساب.
وهذا مقطوع به لا مراء فيه، فليقع النظر وراء ذلك في تفصيل التزويج فأقول: إن كان في الزمان عالم يتعين الرجوع إليه في تفاصيل النقض والإبرام ومآخذ الأحكام، فهو الذي يتولى المناكح الذي كان يتولاها السلطان إذا كان.()
ثم يقول: وقد اختلف قول الشافعي ـ رحمه الله ـ في أن من حكم مجتهدا في زمان قيام الإمامة بأحكام أهل الإسلام، فهل ينفذ ما حكم به المحكم، فأحد قوليه ـ وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة رحمه الله ـ أنه ينفذ من حكمه ما ينفذ من حكم القاضي الذي يتولى منصبه من تولية الإمام … قال: وغرضي منه أنه إذا انقدح المصير إلى تنفيذ أمر محكم من المفتين في استمرار الإمامة، واطراد الولاية والزعامة مع تردد وتحر واجتهاد وتأخ، فإذا خلا الزمان وتحقق من موجب الشرع على القطع والبت استحالة تعطيل المناكح، فالذي كان نفوذه من أمر المحكم مجتهدا فيه في قيام الإمام، يصير مقطوعا به في شغور الأيام، وهذا إذا صادفنا عالما يتعين الرجوع إلى علمه ويجب اتباع حكمه.. ثم كل أمر يتعاطاه الإمام في الأموال المفوضة إلى الأئمة، فإذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد.
فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم. إلى أن قال: والقول المقنع في هذه القواعد، أن الأئمة المستجمعين لخصال المنصب الأعلى ليس لهم إلا إنهاء أوامر الله، وإيصالها طوعا أو كرها إلى مقارها.
ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربط الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها، بمرموقين في الأقطار والديار.
ومن الأسرار في ذلك أنه إذا وجد في الزمان كاف ذو شهامة، ولم يكن من العلم على مرتبة الاستقلال، وقد استظهر بالعدد والأنصار، وعاضدته موافاة الأقدار فهو الوالي وإليه أمور الأموال والأجناد والولايات، ولكن يتحتم عليه أن لا يبت أمرا دون مراجعة العلماء.()
(هناك فرق بين ذهاب المحل وأثره على الحكم، وبين كون هذا المحل شرطا في إيقاع فعل آخر) فالأوامر الموجهة إلى الخليفة بالجهاد كل عام، والتي فقدت فاعلها بفقد الخليفة شيء، وكون الخليفة شرطا للجهاد شيء آخر، حيث إنه عند فقد المحل يمكن أن ننتقل إلى محل آخر فيجوز القتال تحت راية رئيس أو زعيم درءاً عن حياة المسلمين وأعراضهم وأموالهم بما يمكن أن نسميه بالحرب الدفاعية، في حين لا تجيش الجيوش كل عام، ولا يترتب على هذا إثم في عناق الأمة كلها، وذلك لفقدان شرطه وهو الخليفة.
ومن هذا يتبين تشابه المعنيين: فقد المحل وفقد الشرط من بعض الوجوه، وافتراقهما من وجوه أخرى.
يقول ابن عابدين: [ إذا ] مات والي مصر وكذا لو لم يحضر بسبب الفتنة فجمع ـ أي صلى الجمعة ـ خليفته، أي من عهد إليه قبل موته، أو المراد من كان يخلفه ويقوم مقامه إذا غاب، أو من أقامه أهل البلد خليفة بعده إلى أن يأتيهم وال آخر، أو جمع صاحب الشرط، في باب الجمعة يراد به أمير البلدة أو القاضي أو المأذون له في ذلك، لأن تفويض أمر العامة إليهم إذن بذلك دلالة، فلقاضي القضاة بالشام أن يقيمها، وأن يولي الخطباء بلا إذن صريح ولا تقرير الباشا.
وقالوا: يقيمها أمير البلد ثم الشرطي ثم القاضي ثم من ولاه قاضي القضاة. ونصب العامة الخطيب غير معتبر مع وجود من ذكر، أي إذا كانوا مأذونين، أما مع عدم وجودهم فيجوز للضرورة. ومثله لو منع السلطان أهل مصر أن يجمعوا إضرارا وتعنتا، فلهم أن يجمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة، أما إذا أراد أن يخرج ذلك المصر من أن يكون مصرا لسبب من الأسباب فلا.()(أ. هـ.)

*- فقد المفتى :
– (خلو الزمان عن المفتين البالغين مبلغ الاجتهاد):
قال إمام الحرمين() رحمه الله: فأما المرتبة الثانية فهي إذا خلا الزمان عن المفتين البالغين مبلغ المجتهدين، ولكن لم يعر الدهر عن نقلة المذاهب الصحيحة عن الأئمة الماضين..
فإذا وقعت واقعة فلا يخلو إما أن يصادف النقلة فيها جوابا من الأئمة الماضين، وإما أن لا يجدوا فيها بعينها جوابا، فإن وجدوا فيها مذهب الأئمة منصوصا عليه نقلوه واتبعه المستفتون.. فإذا نقل الناقلون مذهب الشافعي رحمه الله، ونقلوا مذاهب عن المجتهدين المتأخرين عن عصره، فالمستفتي يتبع أي المذاهب، مع اعتقاده أن من بعد الشافعي رضي الله عنه لا يوازيه ولا يدانيه.
قال: والذي أراه في ذلك القطع باتباع الإمام المقدم، والإضراب عن مذاهب المتأخرين عنه قدرا وعصرا، وإن كنت أرى تقليد مفتي الزمان لو صودف، لأنه الذي يوجد، لا يعسر تقليده وتطويقه أحكام الوقائع..
وإن وقعت واقعة لم يصادف النقلة فيها مذهبا منصوصا عليه للإمام المتقدم، وقد عرى الزمان عن المجتهدين، فهذا مقام يتعين صرف الاهتمام إلى الوقوف على المغزى منه.. فأقول: قد تقدم أن نقل الفقه يستدعي كيسا وفطنة وحظوة بالغة في الفقه، ثم الفقيه الناقل يفرض على وجهين:
أحدهما: أن يكون في الفقه على مبلغ يتأتى منه بسببه نقل بعض المذاهب في الجليات والخفايا تصويرا وتحريرا وتقريرا، لا يكون في فن الفقه بحيث يستد له قياس غير المنصوص عليه على المنصوص، فإن كان كذلك اعتمد فيما نقل.
وإن وقعت واقعات لا نصوص لصاحب المذهب في أعيانها، فما يعرى عن النص ينقسم قسمين: أحدهما أن يكون في معنى المنصوص عليه، ولا يحتاج في درك ذلك إلى فضل نظر وسبر عبر وإنعام فكر، فلا يتصور أن يخلو عن الإحاطة بمدارك هذه المسالك من يستقل بنقل الفقه، فليلحق في هذا القسم غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه.. وإذا احتوى الفقيه على مذهب إمام مقدم حفظا ودراية، واستبان أن غير المذكور ملتحق بالمذكور فيما لا يحتاج فيه إلى استثارة معان، واستنباط علل، فلا يكاد يشذ عن محفوظ هذا الناقل حكم واقعة في مطرد العادات.
والسبب فيه أن مذاهب الأئمة لا تخلو في كل كتاب، بل في كل باب، عن جوامع وضوابط وتقاسيم تحوي طرائق الكلام في الممكنات، ما وقع منها وما لم يقع..
وما ذكرناه فيما إذا لم يكن ناقل المذهب بحيث يقوى على مسالك الأقيسة، ويستمكن من الاستداد في استنباط المعاني.
فأما من كان فقيه النفس متوقد القريحة بصيرا بأساليب الظنون، خبيرا بطرق المعاني في هذه الفنون، ولكنه لم يبلغ مبلغ المجتهدين لقصوره عن المبلغ المقصود في الآداب، أو لعدم تبحره في الفن المترجم بأصول الفقه.. وإن كان لا يستقل بنظم أبوابه وتهذيب أسبابه فمثل هذا الفقيه إذا أحاط بمذهب إمام من الأئمة الماضين، وذلك الإمام هو الذي ظهر في ظن المستفتين أنه أفضل المقدمين الباحثين، فما يجده منصوصا من مذهبه ينهيه ويؤديه، ويلحق بالمنصوص عليه ما في معناه..
وإذا عنت واقعة لا بد من إعمال القياس فيها، وقد خبر الفقيه المستقل بمذهب إمامه، ومسالك أقيسته، وطرق تصرفاته في إلحاقاته غير المنصوص عليه للشارع بالمنصوص عليه، فلا يعسر عليه أن يبين في كل واقعة قياس مذهب إمامه. ثم الذي أقطع به أنه يتعين على المستفتي اتباع اجتهاد مثل هذا الفقيه في إلحاقه ـ بطرق القياس التي ألفها وعرفها ـ ما لا نص فيه لصاحب المذهب بقواعد لمذهب. والدليل عليه أن المجتهد البالغ مبلغ أئمة الدين، صفته أنه أنس بأصول الشريعة، واحتوى على الفنون التي لابد منها في الإحاطة بأصول المسألة والاستمكان من التصرف فيها، فإذا استجمعها العالم كان على ظن غالب في إصابة ما كلف به في مسالك الاجتهاد..
والذي يحقق الغرض في ذلك أنا إذا عدمنا مجتهدا ووجدنا فقيها دربا قياسا، وحصلنا على ظن غالب في التحاق مالا نص فيه في المذهب الذي ينتحله بالمنصوصات، فإحالة المستفتين على ذلك أولى من تعرية وقائع عن التكاليف، وإحالة المسترشدين على عمايات وأمور كلية..
– (خلو الزمان عن المفتين ونقلة المذاهب):
يقول إمام الحرمين(): إذا خلا الزمان عن المفتين وعن نقلة لمذاهب الأئمة الماضين، فماذا يكون مرجع المسترشدين المستفتين في أحكام الدين؟
وملاك الأمر في تصوير هذه المرتبة أن لا يخلو الدهر عن المراسم الكلية، ولا تعرى الصدور عن حفظ القواعد الشرعية، وإنما تعتاص التفاصيل والتقاسيم والتفاريع، ولا يجد المستفتي من يقضي على حكم الله في الواقعة على التعيين..
ثم قال: لا يخفى على من شدا طرفا من التحقيق أن مآخذ الشريعة مضبوطة محصورة وقواعدها معدودة محدودة، فإن مرجعها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله  والآي المشتملة على الأحكام وبيان الحلال والحرام معلومة والأخبار المتعلقة بالتكاليف في الشريعة متناهية.
ونحن نعلم أنه لم يفوض إلى ذوى الرأي والأحلام أن يفعلوا ما يستصوبون؛ فكم من أمر تقضي العقول بأنه الصواب في حكم الإيالة والسياسة، والشرع وارد بتحريمه، ولسنا ننكر تعلق مسائل الشرع بوجوه من المصالح، ولكنها مقصورة على الأصول المحصورة، وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسالك الاستصواب.
ثم نعلم مع ذلك أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى على المتعبدين. وقد ذهب بعض من ينتمي إلى أصحابنا إلى أنه لا يبعد تقدير واقعة ليس في الشريعة حكم الله فيها، وزعم أنها إذا اتفقت، فلا تكليف على العباد فيها..
والمعتقد أنه لا يفرض وقوع واقعة مع بقاء الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسك بحكم الله فيها.
والدليل القاطع على ذلك أن أصحاب المصطفى  رضي الله عنهم استقصوا النظر في الوقائع والفتاوى والأقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا فيها متعلقا، راجعوا سنن المصطفى  فإن لم يجدوا فيها شفاء اشتوروا واجتهدوا، وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقراض عصرهم، ثم استن من بعدهم بسنتهم. فلم تتفق في مكر الأعصار وممر الليل والنهار، واقعة نقضي بعروها عن موجب من موجبات التكليف، ولو كان ذلك ممكنا، لكان يتفق وقوعه على تمادي الآماد مع التطاول والامتداد، فإذا لم يقع علمنا اضطرارا من مطرد الاعتياد أن الشريعة تشتمل على كل واقعة ممكنة، ولما قال رسول الله  لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: بم تحكم يا معاذ؟ فقال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأيي(). فقرره رسول الله  وصوبه، ولم يقل: فإن قصر عنك اجتهادك فماذا تصنع؟ فكان ذلك نصا على أن الوقائع تشملها القواعد التي ذكرها معاذ.
فإذا تقرر ذلك فلو قال قائل: ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له، ومآخذ الأحكام متناهية، فكيف يشتمل ما يتناهى على ما لا يتناهى، وهذا إعضال لا يبوء بحمله إلا موفق ريان من علوم الشريعة.
فنقول: للشرع مبنى بديع وأس هو منشأ كل تفصيل وتفريع، وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية، وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية، وذلك أن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات، والأمر والنهي، والاطلاق والحجر، والإباحة والحظر، ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما وتنتفي النهاية عن مقابله ومناقضه.
ونحن نوضح ذلك بضرب أمثال، ثم نستصحب استعمال هذه القاعدة الشريفة في تفاصيل الأغراض من هذه المرتبة والله المستعان في كل حين وأوان فنقول: قد حكم الشارع بتنجيس أعيان، ومعنى النجاسة: التعبد باجتناب ما نجسه الشرع في بعض العبادات، على تفاصيل يعرفها حملة الشريعة في الحالات. ثم ما يحكم الشرع بنجاسته ينحصر نصا واستنباطا. وما لا يحكم الشرع بنجاسته لا نهاية له في ضبطنا، فسبيل المجتهد أن يطلب ما يسأل عن نجاسته وطهارته من القسم المنحصر، فإن لم يجده منصوصا فيه ولا ملتحقا به بالمسلك المضبوط المعروف عند أهله، ألحقه بمقابل القسم ومناقضه وحكم بطهارته.
فاستبان أنه لا يتصور -والحالة هذه- خلو واقعة في النجاسة والطهارة عن حكم الله تعالى فيها، ثم هذا المسلك يطرد في جميع قواعد الشريعة، ومنه يستنبط حكم الله تعالى على ما لا نهاية له.
*- مسألة الأوراق النقدية :
تعامل الناس على مر العصور بوسيط للتبادل يكون مقبولا بينهم قبولا عاما، وهو معيار لقيم الأشياء ومخزون للقيمة، فبه تقوم السلع وتدفع الأجور والمهور، وتقام الشركات، وعليه مدار البيع والشراء والمداينات والديات وغير ذلك من التعامل الجاري بين الناس، و شاع استعمال الذهب والفضة لما خلق الله فيهما من خصائص الندرة والنفاسة، وعدم التغير بالصدأ، وتحملهما للتداول بين أيدي الناس دون نقص يذكر في الوزن، والصلادة التي تؤهلهما للحفظ والكنز، وغير ذلك من الخصائص التي تميز بها المعدنان، فاختيرا دون سواهما ليقوم بدور وسيط للتبادل بين الناس.
ولقد أناط الشارع بهما أحكاما في الزكاة وفي الربا وفي الشركة وغيرها، ثم لظروف طرأت في القرن التاسع عشر الميلادي استبدل الناس بهما تلك الأوراق        -البنكنوت- التي شاعت وزاحمت النقدين، حتى انتهى التعامل بهما تماما في العالم، ولو في صورة غطاء بنكي سنة 1970م، وأصبح البنكنوت هو أساس التعامل بين الناس منفصلا تماما عن قاعدة الذهب أو الفضة، مستمدا قوته الشرائية، لا من ذاته، ولا من كونه سلعة كما كان الحال في المعدنين، بل بتأييد الحكومة المصدرة له من ناحية، وبقوة إنتاج الدولة المصدرة له وعلاقتها التجارية الدولية من ناحية أخرى.
فهل ذهب بذلك محل تلك الأحكام المتعلقة بالزكاة والربا والشركة وغيرها؟ وهذا الذهاب إلى غير بدل أو إلى بدل؟ ونحاول فيما يلي أن نتكلم عن تلك القضية، خاصة فيما يتعلق بمسألة الربا، وما يتصل بها من انقطاع النقد وأثره على الدين مع إشارة إلى الفرق بين الزكاة والربا في تعلقهما بالمعدنين فنقول:
في هذه المسألة مذهبان أو موقفان من النقود الورقية:
*- أولهما: موقف من يقول بعدم ربوية النقود أو على الأصح يذهب إلى عدمها، لأنه لا نص من الأقدمين في النقود الورقية، ولكنها مشمولة بالعموم وبالنص على المثيل، وهذا الموقف هو رأي أكثر العلماء. ويمكن إرجاع بواعثهم حسب رأينا إذا قرأنا كلامهم قراءة متأنية إلى مايلي:
1 ـ إن تحريم الربا أمر تعبدي لا تظهر له علة واضحة معقولة، فهو من قبيل الابتلاء والاختبار، وما كان من هذا القبيل يقتصر فيه على محل الورود.
2 ـ إن الذهب والفضة لهما مزايا وخصائص لا توجد في غيرهما، فهما معدنان نفيسان قابلان للكنز واختزان الثروة، ويبقيان على مر الزمن.
والذهب والفضة لا يمكن طرح كميات منها في الأسواق بين الناس كوسيط للتبادل، إلا بعد إنتاج يتمثل في استخراج هذين المعدنين النفيسين، في حين أن الحكومات خاصة الواقعة في مشكلات اقتصادية أو حروب، تطبع الأوراق البنكية لتسد عجز الثغرة في الموازنة العامة، فتزداد الكمية المعروضة من وسيط التبادل بين الناس، ويحدث ما يسمى بالتضخم النقدي، فإذا أقرض أحدهم مائة جنيه في أول العام نجدها تشتري ثمانين وحدة فقط من نفس العملة، وهذا لا يكون في حالة الذهب والفضة، فما زال الذهب خاصة، يرتبط بعلاقة شبه ثابتة بالسلع الأخرى عبر العصور.
وما حدث من انهيار في قيمة الذهب في إسبانيا في القرن السادس عشر فشيء شاذ انتهى بسنة كونية خلق الله بها خصائص معينة للذهب.
ومن أجل هذا الثبات عده كثير من الفقهاء مقياسا أساسيا لتحديد قيم الزكاة والديات وغيرها من المقدرات الشرعية، وأهملوا الفضة وجعلوها ثابتة لانهيار علاقتها بالذهب، واستأنسوا في ذلك بذكر الذهب أولا في كلام الله سبحانه وتعالى، مع عموم قوله  ابدأوا بما بدأ الله به.
هذا من ناحية الخلقة. أما من الناحية الشرعية، فيحرم اقتناء آنيتهما، ولا يجوز التحلي بهما للرجال غير ما استثنى الشارع، فهما أثمان بالخلقة، وهما أصل الثمنية، وهما النقدان الشرعيان.
3 ـ صعوبة إبراز علة مقنعة سالمة من القوادح مطردة منعكسة، وقد بين إمام الحرمين في البرهان أنه لا شبه فيها ولا إخالة حيث قال: مسألة، إذا استنبط القائس علة في محل النص وكانت مفتقرة عليه، منحصرة فيه لا تتعداه، فالعلة صحيحة عند الشافعي رضي الله عنه، وتفرض المسألة في تعليل الشافعي رضي الله عنه تحريم ربا الفضل، في النقدين بالنقدية، وهي مختصة في النقدين لا تعدوهما، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: إذا لم تتعد العلة محل النص كانت باطلة.
والمعتمد في صحة العلة أنها مستجمعة شرائط الصحة إخالة ومناسبة وسلامة عن الاعتراضات ومعارضات النصوص، وهي على مساق العلل الصحيحة ليس فيها إلا اقتصارها وانحصارها على محل النص، وحقيقة هذا يؤول إلى النص يوافق مضمون العلة ويطابقها.. إلخ.()
ثم قال: فإن قيل ما ذكرتموه تصريح بإبطال التعليل بالنقدية: قلنا: لم نر أحدا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده ونصدره. والصحيح عندنا أن مسائل الربا شبهية، ومن طلب فيها إخالة اجترأ على العرب كما قررناه في مجموعاتنا. ثم الشبه على وجوه، فمنها التعلق بالمقصود، وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة: الطعم، والمقصود من النقدين النقدية. وهي مقتصرة لا محالة وليست علة، إذ لا شبه لها ولا إخالة فيها.()
4 ـ نوع من الخوف من التجاوز والافتيات على النصوص، نجد مثالا في ترجيح العلة القاصرة على المتعدية على رأي الأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني إذا صح التعليل بها.
قال إمام الحرمين في البرهان: ومن رجح العلة القاصرة، احتج بأنها متأيدة بالنص، وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة. فكان التمسك بها أولى.()
5 ـ إن ثمنية غير النقدين ثمنية مستعارة ومعرضة للزوال في أي لحظة، ومن شأن هذا أن يجعل الثمنية فيه صفة عارضة.
6 ـ أن التحريم تكليف، والتكليف يحتاج إلى ورود النص، كحديث الطعام بالطعام() الذي جعل الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ يرجح علة الطعمية، ويسهل ذلك على أصحابه المترددين في قبول العلة وقبول تعديها، ولأن جهة التحريم محصورة، وجهة الإباحة لا حصر لها، فالواقعة إذا ترددت بين الطرفين، ووجدت في شق الحصر فذاك، وإلا حكم فيها بحكم الآخر الذي أعفي من الحصر.
7 ـ في الربا من الخطورة والتحريم ما لو كان قائما في هذه المسألة ما ترك بيانها، والله سبحانه وتعالى يقول: وقد فصل لكم ما حرم عليكم.()
* – أما الفريق الآخر فيعتضد بما يلي:
1 ـ الشريعة جاءت لمصالح العباد، ويستحيل أن تحرم شيئا لمفسدة وتترك شيئا فيه نفس المفسدة، فنظير الحرام حرام.
2 ـ التعليل أولى، لأنه أكثر فائدة، وترك التعليل خشية.
قال إمام الحرمين في البرهان: “وما ذكره مرجح العلة القاصرة من الأمن لا وقع له، فإنه راجع إلى استشعار خيفة، لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد”.()
3 ـ إعمال التعليل في أربعة من الستة وتركه في اثنين تحكم، أي ترجيح بلا مرجح.
4 ـ أن غلبة الثمنية أصبحت واقعا للنقود الورقية، فالاعتراف لها بأحكام النقدين إنما هو من تحقيق المناط، وليس إحداثا لاجتهاد جديد إلا بقدر ما يقتضيه تحقيق المناط، لأن الحكم كان موجودا معلقا، وقد تحقق شرطه في جزئيته، فيجب إثبات الحكم.
5 ـ أن عدم إجراء الربا فيها تعطيل لحكم يتعلق بمسألة خطيرة من مسائل المعاملات.()
وكثير من العلماء المعاصرين لا يقولون بقول أكثر العلماء السابقين في عدم جريان الربا في غير النقدين الذي يلزم عليه عدم جريان الربا في أوراق البنكنوت، خوفا من أن يجر هذا إلى إسقاط الزكاة في النقدين، حيث تعلقت بالدرهم والدينار، ويجر هذا أيضا إلى فساد التعامل بين الناس بهذه الأوراق التي تحل بها الفروج وتقام بها الشركات وتتملك بها الأشياء … إلخ.
ونرى أن فرقا دقيقا بين النقدية (الذهب والفضة) التي هي مناط تحريم الربا، وبين المالية التي هي مناط المعاملات الأخرى، والأوراق الجارية بين الناس، وإن فقدت النقدية إلا أنها لم تفقد المالية حيث تصلح لتقويم القيم بين الناس، وتصلح للقيام بوظيفة التبادل ولإغناء الفقير..
يقول العز بن عبد السلام: “ولم أقف على المفسدة المقتضية لجعله من الكبائر، فإن كونه مطعوما وقيمة الأشياء أو مقدرا لا يقتضي أن يكون كبيرة، ولا يصح التعليل بأنه لشرفه حرم ربا الفضل وربا النساء، فإن من باع ألف دينار بدرهم واحد صح بيعه ومن باع كر شعير بألف كر حنطة أو مد شعير بألف مد من حنطة أو مداً من حنطة بمثله أو ديناراً بمثله وأجل ذلك للحظة فإن البيع يفسد، مع أنه لا يلوح في مثل هذه الصورتين معنى يصار إليه”.()
وفي التعبد لا تظهر المناسبة والإخالة كما سبق عن إمام الحرمين، وأثر ذهاب المحل وهو الذهبية والفضية عندما ينقطع بين الناس في تحريم التفاضل الذي لا يوصف حينئذ بأنه ربا دون باقي المعاملات المعقولة المعنى.
وخلاصة هذا أن الربا تعلق بالنقدية التي ذهبت، وباقي المعاملات، بالمالية وهي باقية.
على أنه ينبغي التنبيه على أن بيع الدين بالدين، الكالئ بالكالئ() منهى عنه بالحديث الصريح(). وهو أمر مطلوب يمنع من تضخم المديونيات، فسيظل ربط سعر الفائدة بالزمن بحيث تزيد المديونية مع مرور الزمن حراما لذلك.
– مسائل متفرقة :
* – انقطاع النقد وأثره على الدين :
صورة المسألة: أن يفقد النقد من أيدي الناس، ولا يتوفر في الأسواق لمن يريده.() وفي هذه الحالة لو اشترى شخص سلعة بنقد معين، ثم انقطع قبل أن يؤدي الثمن فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: للحنابلة() ومحمد بن الحسن الشيباني، وهو المفتى به في مذهب الحنفية() وهو أن على المشتري أداء ما يساويه في القيمة في آخر يوم قبل الانقطاع، لتعذر تسليم مثل النقد بعد انقطاعه، فيصار إلى بدله وهو القيمة، ومثل ذلك يقال في دين القرض وغيره. وإنما اعتبرت القيمة قبل الانقطاع، لأنه الوقت الذي ينتقل الوجوب فيه من المثل إلى القيمة.
جاء في تنبيه الرقود لابن عابدين: “وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد وعليه الفتوى”.()
وفي المضمرات: “فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع وهو المختار”.()
القول الثاني: لأبي يوسف، وهو أنه يجب على المدين أداء ما يساويه في القيمة يوم التعامل، لأنه وقت الوجوب في الذمة.()
القول الثالث: لأبي حنيفة، وهو أن الانقطاع كالكساد يوجب فساد البيع.()
قال التمرتاشي في رسالته: “بذل المجهود في مسألة تغير النقود”: والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد، وحكم الدراهم كذلك، فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائما، ومثله إن كان هالكا وكان مثليا، وإلا فقيمته، وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا. وهذا عند الإمام الأعظم. وقالا: لا يبطل البيع، لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد، لاحتمال الزوال بالرواج”.()
القول الرابع: للشافعية والمالكية، وهو إن أمكن الحصول على ذلك النقد مع فقده وانقطاعه فيجب الوفاء به، وإلا فتجب قيمته سواء أكان دين قرض أم ثمن مبيع أم غير ذلك. لكن أصحاب هذا القول اختلفوا في الوقت الذي تقدر فيه القيمة عندما يصار إليها.
فقال الشافعية: تجب في وقت المطالبة.()
وقال المالكية في المشهور عندهم() تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق، وهو حلول الأجل والعدم الذي هو الانقطاع.()
* – مسألة :
قال الإمام النووي: “تقطع من السارق والسارقة يده اليمنى، فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعا قطعت رجله اليمنى، فإن سرق من بعد ذلك عذر، ونقل الإمام عن القديم قولا: إنه يقتل للحديث، والمشهور التعزير، والحديث منسوخ أو مؤول على أنه: يكون قتله لاستحلاله أو لسبب آخر”().
وقال الكاساني: “أصل المحل عند أصحابنا ـ يعني الحنفية ـ طرفان فقط، وهما اليد اليمنى والرجل اليسرى، فتقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى، وتقطع الرجل اليسرى في السرقة الثانية، ولا يقطع بعد ذلك أصلا، ولكنه يضمن السرقة ويعزر ويحبس حتى يحدث توبة عندنا، وعن الشافعي رحمه الله تعالى: الأطراف الأربعة محل القطع على الترتيب”(). انتهى ما أردته.
* – مسألة : عدم الزواج بالكتابيات لذهاب المحل.
قال الإمام الشربيني عند شرح قول الإمام النووي: والكتابية يهودية … إلخ قضية كلام المصنف التحريم إذا شك هل دخلوا قبل التحريف أو بعده. وهو كذلك، وكذا تحرم ذبائحهم، ولكن يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم.
أما من دخل أول آبائها في ذلك الدين بعد نسخه كمن تهود أو تنصر بعد بعثة نبينا  فلا تحل، وكذا من تهود بعد بعثة عيسى عليه السلام. واحترز المصنف بقوله: ” فإن لم تكن الكتابية إسرائيلية “، عما إذا كانت إسرائيلية نسبة إلى إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام، فالشرط فيها أن لا يعلم دخول أول آبائها في ذلك الدين بعد بعثة تنسخه.. وذلك بأن علم دخول أول أبائها في ذلك الدين قبل البعثة أو شكّ، وإن علم دخوله فيه بعد تحريفه أو بعد بعثة لا تنسخه كبعثة من بين موسى وعيسى، فإنه يحل نكاحها لشرف نسبها ـ ثم قال: وعلى هذا يتعذر أو يتعسر نكاح الكتابية اليوم.ا.هـ.
وبناء عليه فقد انسد النكاح من الكتابيات في عصرنا الآن لضياع أنسابهم وفقدنا للمحل الموصوف بتلك الصفات السابقة والله أعلم.
ومن كل ما تقدم يمكن الإفتاء بإلحاق الفروع المستجدات بما مر معنا، خاصة ما يتعلق بمن خرج من الأرض إلى الفضاء، أو ما ينتظره الناس من إلغاء التعامل بالعملة من كل وجه، حتى لا يكون هناك وسيط محسوس للتبادل بين الناس كما هو حاصل في أوراق البنكنوت الآن، ويستبدل بذلك آلة صغيرة تشبه القلم تصدر ضوء عند الإعطاء وتشحن بخلايا كهرومغناطيسية عند الأخذ، وغير ذلك من الصور التي تنتج من ثورة المواصلات والاتصالات والتكنولوجيا المتطورة شديدة التغير.
والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.
فهرس المراجع
1 ـ الإبهاج في شرح المنهاج/ تأليف علي بن الكافي السبكي المتوفى سنة 685 هـ وولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771 هـ تحقيق أ.د شعبان محمد اسماعيل، نشر مكتبة الكليات الأزهرية 1401هـ/1981 م.
2 ـ أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة / للشيخ عبد الله ولد بيه. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي.
3 ـ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول / محمد بن علي الشوكاني (ت1255هـ).ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي /الطبعة الأولى 1356 هـ /1937م.
4 ـ البحر المحيط في أصول الفقه للإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794هـ، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ط أولى 1409هـ / 1988م.
5 ـ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع / تأليف علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني المتوفى سنة 587 هـ ط دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الثانية 1406 هـ/1986 م.
6 ـ البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين عبد الملك الجويني المتوفى سنة 478 هـ تحقيق د. عبد العظيم الديب ط دار الوفاء الطبعة الثالثة 1412هـ / 1992م.
7 ـ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لعثمان بن علي الزيلعي وبهامشه حاشية أحمد الشلبي عليه. الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق القاهرة 1314 هـ.
8 ـ التحصيل من المحصول لسراج الدين الأرموي المتوفى سنة 683 هـ تحقيق د. عبد الحميد علي أبو زنيد طبع مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1408 هـ /1988 م.
9 ـ تشنيف المسامع بجمع الجوامع للإمام بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794هـ ، مخطوط بدار الكتب المصرية.
10 ـ تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر الهيثمي، وبهامشه حاشية عبد الحميد الشرواني وحاشية ابن قاسم العبادي ط المطبعة الميمنية بالقاهرة سنة 1315 هـ.
11 ـ تنبيه الرقود على مسائل النقود لمحمد أمين عابدين. مطبوعة ضمن رسائل ابن عابدين في الأستانة.
12 ـ الجوهر الفريد على شرح إرشاد المريد في خلاصة علم التوحيد للشيخ حسن العدوي طبع القاهرة.
13 ـ حاشية الباجوري على ابن قاسم الغزي في الفقه الشافعي ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي / 1343 هـ
14 ـ حاشية الشيخ حسن العطار على شرح الأزهرية للشيخ خالد ط المطبعة الميمنية 1307 هـ.
15 ـ حاشية العشماوي على متن الأجرومية ط المطبعة العلمية / 1310 هـ.
16 ـ حاشية محمد بن الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل وبهامشه حاشية محمد بن المدني علي كنون الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق 1306 هـ.
17 ـ ورد الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، تعريف فهمي الحسيني طبعة مكتبة النهضة في بيروت وبغداد.
18 ـ شرح عبد الباقي الزرقاني على مختصر خليل وبهامشه محمد بن الحسن البناني عليه مطبعة محمد مصطفى سنة 1307 هـ.
19 ـ رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
20 ـ الرسالة الفقهية للشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفى سنة 386 هـ ط دار الغرب الإسلامي / قطر طبعة أولى 1406 هـ / 1986م.
21 ـ الرق في الإسلام تأليف أحمد شفيق بك ط مطبعة بولاق سنة 1892م.
22 ـ روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي ط المكتب الإسلامي بيروت ـ الطبعة الثانية 1405 هـ / 1985 م.
23 ـ سبل السلام شرح بلوغ المرام لمحمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة 1182هـ، مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1357 هـ.
24 ـ السلطان عبد الحميد الثاني، للدكتور محمد حـرب طبعة دار القلـم دمشـق 1990 م.
25 ـ سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن سورة المتوفى سنة 297 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
26 ـ سنن أبي داود للإمام سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275 هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد طبعة المكتبة العصرية ـ بيروت ـ لبنان.
27 ـ شرح محمد بن عبد الله الخرشي على مختصر خليل وبهامشه حاشية علي العدوي الصعيدي عليه ط مطبعة بولاق بالقاهرة سنة 1318 هـ.
28 ـ شرح النسفية لعبد الملك عبد الرحمن السعدي طبعة بغداد.
29 ـ صحيح الإمام البخاري المتوفى سنة 256 هـ بحاشية السندي تصوير دار الفكر ببيروت عن طبعة سريانا بأندونسيا، طبع عيسى البابي الحلبي بالقاهرة 1374هـ / 1955 م.
30 ـ غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 هـ، ط حيدر آباد بالهند سنة 1384 هـ.
31 ـ الغياثي -غياث الأمم في التياث الظلم- لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة 428 هـ تحقيق د. عبد العظيم الديب. ط مطبعة نهضة مصر/ الطبعة الثانية 1401 هـ.
32 ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، ط دار المعرفة ـ بيروت، لبنان.
33 ـ الفتاوى الهندية لأبي المظفر محيي الدين محمد أورئك عالكير. الطبعة الثانية بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة 1310 هـ.
34 ـ الكواكب الدرية شرح متممة الأجرومية لمحمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل ط مطبعة بولاق سنة 1312 هـ.
35 ـ لسان العرب لابن منظور، طبعة دار صادر بيروت.
36 ـ المحصول في علم الأصول للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت606هـ). تحقيق الدكتور طه جابر العلواني، ط مطابع الفرزدق بالرياض 1399هـ/1979م.
37 ـ مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد وحواشيه، مراجعة وتصحيح أ.د شعبان محمد اسماعيل. نشر مكتبة الكليات الأزهرية 1393 هـ / 1973م.
38 ـ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير لأحمد بن محمد الفيومي المتوفى سنة 770هـ. تحقيق أ.د شعبان محمد إسماعيل / الطبعة الأولى 1413 هـ / 1993 م.
40 ـ المعرب في ترتيب المغرب لناصر الدين عبد السلام المطرزي الحنفي المتوفى سنة 616 هـ تحقيق محمود فاخوري وعبد الحميد مختار. ط حلب / 1402 هـ.
41 ـ المغنى والشرح الكبير للإمامين موفق الدين بن قدامة وشمس الدين بن قدامة طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت 1403 هـ / 1983 م.
42 ـ مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربيني الخطيب ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي / 1377 هـ / 1958 م.
43 ـ مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور. نشر مكتبة الاستقامة بسوق العطارين ـ تونس ط أولى سنة 1366.
44 ـ منح الجليل شرح مختصر خليل لمحمد بن أحمد بن محمد عليش المتوفى سنة 1299 هـ ط المطبعة الأميرية ببولاق القاهرة / 1294 هـ.
45 ـ ناظورة الحق في وجوب العشاء وإن لم يغب الشفق للشيخ هارون بن بهاء الدين المرجاني طبعة قازان 1287 هـ / 1870 م.
46 ـ نصب الراية لأحاديث الهداية / جمال الدين بن يوسف الزيعلي، المتوفى سنة 762هـ، مطبعة دار المأمون بالقاهرة بعناية المجلس العلمي بالهند، ط 1357 هـ / 1938 م.
47 ـ نهاية السول شرح منهاج الوصول تأليف جمال الدين عبد الرحيم الاسنوي المتوفى سنة 772 هـ، ط مطبعة محمد علي صبيح وأولاده.
48 ـ النهاية في غريب الحديث والأثر، للمبارك بن حمد بن الأثير المتوفى سنة 606 هـ ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة / 1357 هـ.
49 ـ نهاية المحتاج شرح المنهاج لمحمد بن أحمد الرملي المصري المتوفى سنة 1004هـ ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة 1357 هـ / 1938 م.