الرئيسية / أصول أزمة النظام التربوي في البلاد الإسلامية.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : أصول أزمة النظام التربوي في البلاد الإسلامية.

الكاتب(ة) : د. عبد الحميد عشــــــــــاق

أصول أزمة النظام التربوي في البلاد الإسلامية

عبد الحميد عشاق
أستاذ  بدار  الحديث  الحسنية  –  الرباط

   الواقع التربوي القائم اليوم في معظم أقطار العالم الإسلامي والعربي هو حصاد الهزات المختلفة التي تعرض لها هذا العالم وأثرت فيه خلال القرون القريبة الماضية؛ فهو يعبر عن ركام من المآزق والتحديات التي ورث بعضها عن عصور الانحطاط، وبعضها الآخر عن “البنى الجديدة” التي أحكم غراسها الاستعمار الحديث.
ربما اختلفت الدراسات في تحليل مكونات هذا الواقع التربوي وتقويم ظواهره ومشكلاته، ولكنها لم تختلف في شأن حقيقة ظاهرة، وهي الحكم على هذا الواقع بأنه يعاني “أزمة مفتوحة”.. أزمة تربوية خانقة صارت في الآونة الأخيرة محل نقاش مثير بين خبراء التربية والساسة والإعلاميين ومراكز التأطير، والأسر والآباء والأساتذة والطلبة أنفسهم…
إن القواعد تقضي بمعرفة أصل المشكلات والوعي بمتضمناتها وأسبابها لا التناثر مع الفروع والجزئيات، وإلا التهم الكلام في هذا الموضوع قضايا عديدة ومتشعبة من قبيل مشكلة العلاقات والطرائق البيداغوجية، ومشكلة المناهج والسياسات المتبعة، ومشكلات التخطيط والتقييم، والإدارة التربوية، ومشكلات التمويل والإنفاق والاعتمادات المالية، وقضايا المركزية والجهوية، ومعضلة عدم تساوق قطاع التعليم مع حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من المآزق التي انتهى إليها النظام التعليمي الحديث، والتي قد يحتاج بحثها وتمحيصها إلى ضخام المطولات. لذا، رأيت أن أختصر الكلام هنا على أمهات هذه المشكلات، وذلك بملاحظة الجوانب المعيارية والنوعية، والعوائق التي تحول دون تنمية الإنسان، وتطوير محيطه الحضاري والنفسي.
أولا – أزمة  قصد:
أحسب أن من أبرز الثغرات التي يعاني منها النمط التربوي السائد في البلاد الإسلامية غياب فلسفة تربوية واضحة المقاصد، رغم استغراق الوسط التربوي الأكاديمي في الحديث عن “نظرية الأهداف” والتنويه بمزاياها، وتكرر الدعوات النادبة إلى الالتزام ببعض الأهداف والمبادئ العامة على نحو ما نجد في ديباجة التقارير والوثائق الرسمية مثل: (الإيمان بالله، والتسلح بالعلم، والتفتح على الحضارة المعاصرة، واستلهام روح الأصالة… إلخ).
والمشكلة أن ثمة اضطرابا حاصلا في ضبط مقاصد العملية التربوية، وأن هناك فراغا علميا ومنهجيا يطبع الفلسفة التربوية التي تهيمن بحكم وظيفتها على جملة أركان التربية. وهكذا، انعكس أثر هذا الاضطراب الفكري والاختلال المنهجي على جميع مكونات النظام التربوي، سواء على مستوى التعليم أو التنظيم أو المردودية العامة (Rentabilité).
وتتجلى أزمة القصد التي يكابدها النظام التربوي الراهن -برأيي- في نقطتين على الأقل:
الأولى: تتعلق بالدلالة الشاملة العميقة التي يشير إليها السؤال الكبير -والذي لم يجب عنه إلى حد الآن- وهو: “على أي أرض نقف؟ وأي تربية نريد؟ ولأي مجتمع؟”. فعلاوة على الأبعاد المعتادة  التي يثيرها هذا السؤال من معنى ضرورة تحرير الولاء التربوي والانتماء الثقافي والحضاري، وضرورة استئناف البناء على الأصول والمعايير العليا التي أجمعت عليها الأمة… يتضمن السؤال أيضا أكثر من قضية منهجية؛ ذلك أن العجز عن تحديد الأرض التي نقف عليها معناه –بوجه آخر- إخفاق على المستوى المنهجي، وقفز على مقدمات وخطوات ضرورية لا مندوحة لأي خطة تربوية عنها.
ومن أولى هذه المقدمات تحصيل الوعي المنهجي الذي يشكل أسلوب التناول العلمي الموضوعي للواقع واحدا من أهم مستوياته، وما يقتضيه ذلك من فقه اجتماعي وتاريخي بعقائد النمط المجتمعي المحلي وقيمه وعوائده ومؤسساته. إذ كيف يعقل أن نفهم مختلف المعضلات القائمة في الواقع التربوي الإسلامي المعاصر بمعزل عن فهم تاريخه والسنن التي تتحكم بسياقه، أو بمعزل عن معرفة سمات أهله وأحوالهم وقدراتهم ومكامن ضعفهم وقوتهم، أو بمنأى عن معرفة الأهداف التي يؤمنون بها وينشدونها.
إن استثمار هذا الفقه المنهجي بالواقع لم يزل يشكل حلقة فراغ في فلسفة النظام التربوي الحديث. وهذا هو مرد أزماته المتعاقبة؛ لأنه قام –منذ البدء- وهو مفتقر إلى مذهبية تربوية متناغمة، تلتئم فيها المقاصد والنماذج مع البرامج والوسائل، وتأتلف فيها البرامج والوسائل مع الإنسان ومحيطه.
ولن يتغلب على هذا الملحظ بزيادة رفع العقائر بشعارات “الأصالة” وأساليب التمدح و”التمجد” كما فعلنا في القرن الماضي…!! ولكن سبيل التغلب عليه أن نرفع من قدر البحوث الاجتماعية التطبيقية، وأن تتراكم البحوث العلمية الميدانية الكفيلة بتعميق وتصحيح معرفة المثقف عندنا بمحيطه الاجتماعي والطبيعي والتاريخي. ومقتضى ذلك أن يتأصل البحث في العلوم الإنسانية كاللسانيات وعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ الموضوعي، وأن تتعمق مناهج الدراسة والتقويم لتراثنا الثقافي المتجمع.
والثانية: تتعلق بفقدان التكامل بين الأهداف التربوية المرسومة، واتساع الهوة بين ما هو معلن من تلك الأهداف وبين التطبيق العملي في مختلف مناحي الاشتغال التربوي ومستوياته.
فقد تفلح مثلا بعض الوثائق المعنية بتحديد الأهداف والتنويه بالمنزلة السامقة التي يتبوؤها الإسلام في جملة المنطلقات التربوية، وترتيبه على رأسها، لكنها لا تفلح في إعطاء مفهوم عملي لمعنى أولوية هذا المنطلق، كما أنها لا تصيب منهجيا في الربط العضوي بينه وبين بقية المنطلقات وإبراز أثره عليها. وقس على ذلك قضية اللغة العربية، والنموذج الثقافي الذي ننتمي إليه…
أما عن اتساع الهوة بين ما هو مسطر وما هو واقع، فتلك أزمة حقيقية تقدم أكبر دليل على أن تربيتنا تسير على غير هدى ولا كتاب منير، ذلك أننا وجدنا كثيرا مما اصطلح عليه بالسياسات التربوية عبارة عن “مذكرات وزارية” أو “تعليمات” ظرفية صادرة عن الجهاز الإداري!
وهذه الملاحظة تجرنا إلى الحديث عن واقع التخطيط التربوي في البلاد الإسلامية، إنه واقع يشكو عوائق جمة تحول بينه وبين أداء وظيفته الذي أضحى مستقبل التربية مرتهنا بها. فقد انقلب مفهوم التخطيط التربوي في كثير من هذه البلاد إلى مجرد حسابات رقمية لتقدير التوسع في التعليم، وتقدير النفقات والميزانية حسب الضغوطات والحاجات. وبسبب ذلك ظلت السياسة التربوية مجرد فقرة من نص “المخططات الاقتصادية والاجتماعية العامة” التي تعدها الحكومة، وأصبح جهاز التخطيط التربوي أشبه بوحدة إدارية ملحقة بسلسلة من الأجهزة الإدارية الجامدة التي لا تتلاءم بسهولة مع طموحات التجديد وطوارئ المستقبل.
ولهذه الأسباب كانت معالجة النظام التربوي الحديث لمختلف مشكلاته منافية للتناول العلمي المنهجي، ومصطبغة بالارتجال والعشوائية والتقليد؛ وهذا شأن من لا يملك رؤية واضحة، فلا يعمل على إيجاد حلول للمشاكل المتوقعة إلا بعد وقوعها، بدلا من التخطيط المسبق الذي يهدف إلى تفاديها. ومن هنا، كانت المدرسة وما زالت حقلا للتجارب المرتجلة التي ينسخ بعضها بعضا، ويلعن بعضها بعضا، فانعكس هذا التخبط على تربية المدرسة والبيت والثقافة والإعلام والشارع والسلوك الجمعي العام، وتباعدت الهوة بين كثير مما نؤمن به ونؤمله، وتضاعف المشكلات الاجتماعية والإنسانية في الواقع.
ثانيا –  أزمة  محتوى  البرامج  التربوية :
إذا أردنا تحديدا جامعا لمعالم أزمة محتوى البرنامج التربوي ضمن السياسة التعليمية المتبعة، فإنه يكون من النافع والأنسب تصفحها من خلال المظاهر الآتية:
1 – اختلال المعادلة بين الديني والدنيوي:
هذا خلل قد أطلت الكلام عليه في ثنايا دراسة نقدية () للنمط التربوي القديم. وهاهو ذا  النظام التعليمي الحديث يعيد إنتاج المشكلة بـ”متضمنات” أكثر حدة، وبخلفية فكرية جديدة ترتبط بنظرية علمنة التعليم!!
لقد عمد واضع البرنامج التربوي الحديث إلى تقسيم المنهج الدراسي إلى شعب ومواد متعارضة، سمى إحداها بـ “الإسلامية” والأخرى بـ “الوطنية”، واصطلح على أخرى بـ “الحديثة”، وهذا بناء على معتقده أن العملية التربوية تنشطر إلى نوعين منفصلين: تربية دينية ومدنية، واعتبارا منه بأن “التراث” أو الحضارة وما يمت إلى الدين بصلة هو معرفة على هامش “العلم”!.
وبالمقابل، اقتطع المشرع حصة من الزمن الدراسي لتلقين مادة يتيمة باردة -أطلق عليها اسم مادة التربية الإسلامية-() منفصلة عن سائر المواد روحا ومنهجا، فأدى هذا الفصل المنظم بين ثقافتي “الدين” و”الدنيا” إلى تشطير وحدة المعرفة الإسلامية والعربية، كما قسم العمالة إلى طائفتين: طائفة مشتغلة بعلوم “الدين”، وطائفة مشتغلة بشؤون الحياة النظامية والمدنية. وتحددت المراكز الاجتماعية لكلا الفريقين على هذا الأساس، فتدنت مكانة المشتغلين بعلوم “الدين” اقتصاديا واجتماعيا، في الوقت الذي علا فيه شأن المتعلمين بالوظائف المدنية.()
وبعد خطة التقسيم هذه، عمد إلى تدعيم خطة التقليد في مواد التعليم الديني مبقيا على حالها ولغتها وطرائقها وأهدافها، دون أن ينالها تجديد أو تطوير بدعوى “المحافظة”.. وبإيعاز أن العلمانية ظلت تخطط لإبعاد التعليم الإسلامي عن الاحتكاك بالواقع وبالتطورات الحديثة حتى لا يشكل خريجوه عناصر منافسة لخريجي المعاهد العلمانية ()؛ مما نشأت عنه عواقب وخيمة في نفس طالب العلم، وفي أداء النظام التربوي نفسه، وفي سياق المؤسسات المجتمعية الحية على حد سواء، وحسبنا أن نذكر من هذه العواقب أن المتخرج العصري تنفصل رؤيته إلى الأشياء انفصالا سلبيا حيث ينظر إلى مختلف الموضوعات من خلال رؤية تجزيئية، ويدركها من خلال الأخلاط والأجزاء المتناثرة في تفكيره، لأن مراجعه المعرفية ومفاهيمه الثقافية تشكلت منذ البدء على أساس تعارض الأنماط، وفقد الرؤية الكلية الواحدة. وبتقديري، إن هذا النظام التربوي السائد من أبرز أسباب الأزمات السياسية الحادة السارية في كثير من البلاد الإسلامية، وهو مرد فشل فهم جيل من المثقفين لمعادلات التداخل الكامنة بين “الديني” و”السياسي”، وبين المجال الديني والمعرفي، وبين المجال السياسي والاجتماعي وغير ذلك مما يختص به النسق الحضاري لهذه البلاد.
إنه نشاز حقا أن يلحظ أن نظاما تربويا يدين بالتوحيد وبالولاء للنموذج الحضاري الإسلامي، ثم تجده يعمد إلى الفصل بين العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية والإنسانية وكأن لكل منها كيانها الخاص في نظام المعرفة؛ إذ كيف يحصل ذلك في معاييرنا، وقد جعل الوحي هذه العلوم سبيل الإنسان الأعظم لمعرفة الله والإيمان به، و”معرفة الله هو أول واجب النظر” كما قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وكيف يجوز عزل الدين عن بقية العلوم ونشاط المعرفة وهو كله دعوة لاستكناه النفس، والإبصار بآياتها وأحوالها، والضرب في الأرض للنظر كيف بُدئ الخلق، ومعرفة أيام الناس وسير الـدول ومصيرهـا واعتبـار جميـع ذلـك مرجعـا للإنسـان في الإدراك والتحصيل، قال : فاعتبروا يا أولى الأبصار.()
2 – اختلال المعادلة بين النظري والتطبيقي:
تعاني المنظومة التربوية في البلاد الإسلامية من مشكلة الفصل المتعسف بين التعليم النظري والبحث التطبيقي، ومن الغلو في تضخيم النظرة إلى التعليم الأكاديمي مقابل نظرة ازدراء إلى التعليم المهني والتقني، كما تشكو من الأكاديمية المتمحورة على الحشو والتلقين مقابل إهمال طرق التفكير، وتنمية مهارات الكشف والاجتهاد.
فالملحوظ أن البرامج التربوية السائدة ما تزال تحمل في طياتها الفجوات الواسعة بين الجهد الفكري والعملي، وبين المعرفة والتجريب، وبين المعلومات والخبرات والمهارات. وما زالت لغة هذه البرامج توهم المتعلم بعدم جدوى الاختبار الميداني، وتترك شعورا عاما بأن حشد المعلومات واستظهارها هو غاية ما يرام وأعز ما يطلب، وأن ذلك هو معيار التحصيل والإجازة العلمية.
ولعل هذا التوجه هو أثر من فلسفة الأهداف التربوية نظرا لما تتصف به من تعويل مبالغ فيه على”جمع المعلومات المتفرقة، وعلى الجوانب اللفظية في الحصول عليها والتعبير عنها، مع إهمال المهارات العلمية… كما أهمل إلى حد بعيد تطوير الشخصية الإنسانية من جميع نواحيها، والعناية بالقيم الإنسانية والفضائل الخلقية والاتجاهات الاجتماعية بجملتها”.()
ويمكن أن نرد المشكلة إلى التربية ذاتها من حيث مفهومها للمعرفة، وموقفها من الدور الأساسي للشخصية، وعلى المواقف القيمية للمجتمع المسلم من العمل اليدوي والحرفة والصناعة.. هذه المواقف التي تأثرت جدا –في فترة ما- بعقائد الإرجاء والاتكال والقدرية، وبالإرث القديم الذي استصحبه هذا المجتمع منذ “كان الشاعر الأموي الفرزدق يهجو خصمه بـالقين ابن القين”!!()
كما يمكن أن يعد من الأسباب –ومن قبيل النتائج في الوقت نفسه-، مناخ التخلف الصناعي التقني المهيمن في معظم البلاد الإسلامية، الذي يظهر تارة في شكل افتقار إلى الأجهزة والأدوات الفنية، وتارة في صورة انغماس الوسط العلمي في ممارسة “الاستيراد” الذي يعفي النفس من واجب الابتكار.
إن انعكاس هذه الاتجاهات على الواقع التربوي الحديث أمر واضح للعيان بدءا بملاحظة اتساع الشقة بين التعليم العام والتعليم التقني، وشعور التلاميذ المنتسبين إلى التكوين المهني بتدني رتبتهم ومنزلتهم عن أقرانهم في التعليم العام، وفشو “البطالة المقنعة” بين المتعلمين المتخرجين، وافتقاد بعضهم لملكة الاجتهاد والمبادرة، وإخلادهم إلى الدعة والانزواء، وتدهور قطاع الحرفيين والمهنيين والصناع مقابل تكدس أعداد الجامعيين (المنظرين) العاطلين، واضمحلال الإنتاج العلمي ومردودية البحث للمعاهد والكليات المتخصصة رغم بعض الإمكانات الفنية التي تتوفر عليها.
ومن الآثار أيضا الاستهانة بطريقة الوحدات والأنشطة الفنية في جميع مراحل التعليم الأساسي والثانوي؛ وهنالك تحيز واضح للدراسات النظرية حتى في العلوم الطبيعية والتخصصات التكنولوجية؛ وهنالك تباعد كبير بين نشاط المدارس والجامعات ونشاط المؤسسات في مجالات الإنتاج والخدمات، وتم التركيز على الإلقاء والتلقين من جانب المعلمين، وعلى الحفظ والاستذكار من جانب التلاميذ، فكانت المواقف التربوية إجمالا تلقينية محضة خالية من الحوار والمناقشة والمباحثة، وصار “الكتاب المدرسي الوسيلة المفضلة الأكثر شيوعا، وظلت الامتحانات تقليدية في أغراضها وأشكالها ومحتوياتها”.()
وهكذا، بقي التعليم التقني في كثير من البلاد الإسلامية عاجزا عن استيعاب مفردات النظام الصناعي المعاصر، وحركة نموها المتسارع فضلا عن أن يفي بمطالب الانفجار المعرفي والمعلوماتي للدورة الحضارية الجديدة التي انخرط فيها العالم؛ دورة مجتمع ما بعد الصناعة.
ومن ثم، وجدنا بعض الدارسين يعتبر فشل النظام التربوي في هذه الناحية خللا بنيويا لا تجدي معه التعديلات الجزئية، وإنما قد يكون المطلوب حينها إعادة تركيب بنى أجزاء الجهاز التربوي جذريا، وتصحيح شامل لنظريات التعليم ومقاصده وأدواته فروعا وأصولا.
وصالح ما يظهر لمعالجة هذا الخلل، إعادة النظر أولا في المقاصد التربوية الكليـة التي تتحكم بمسالك الاشتغـال التربوي ومساقاته وتوجهاته النهائية (Les Finalités). وهذا يوجب أولوية تحديد الأهداف الاجتماعية من التعليم على منوال دقيق مدروس، بحيث ينبغي أن نكون قادرين دائما على الإجابة عند بداية كل مرحلة تعليمية على السؤال المركب الآتي: ما المطلوب؟ وما الذي نختاره؟ وما أثره وفائدته؟ وأي نوع من التكوين والتعليم يلزم لوظيفة اجتماعية معينة؟ بدلا من الإجابة على السؤال المعكوس القائم اليوم: أي وظيفة اجتماعية تصلح لهذا الخريج؟()
إن الإجابة العلمية الموضوعية على هذا السؤال هي التي ستضع الجهد التربوي في مساره الصحيح لبلوغ هدفه الحقيقي، وهي التي ستحكم الوثاق بين المقدمات والنتائج، وبين الوسائل والمقاصد بدل انسياب العمل التربوي في متاهات غامضة عديمة الجدوى!
إن عملية تجديد من هذا النوع يقتضي بيئة خاصة ومناخا معنويا وقيميا جديدا، فالحاجة ملحة إلى ترقية مهارات الإنسان الفكرية وخبراته المكتسبة، والحاجة ملحة إلى تصحيح الاتجاهات القيمية المجتمعية من العمل اليدوي والحرف والصنائع، ولا بد لتحقيق ذلك من التعبئة الإعلامية والتثقيفية، وإعادة الوفاق بين المدرسة وقطاعات الحياة المهنية والحرفية، والاهتمام بتقنية التعليم ما قبل الجامعي من حيث مكافحة كل مظاهر التمييز بين التربية والمهنة بحيث يصيران “وحدة شاملة في قيمتها عن طريق التعديل التدريجي في المناهج والبرامج التعليمية إلى أن تأخذ في النهاية نموذج المدرسة الشاملة حيث تتنوع فيها البرامج النظرية والعلمية، وتغلب فيها فرص التجربة والقدرة على اختبار المقررات والتخصصات”.()
كما يقتضي ضخامة الأمر تأسيسا مكثفا للمعاهد التقنية والمتوسطة، ودعمها بالحوافز المعنوية والمادية، وتوثيق صلتها بالمؤسسات المعنية بالتصنيع لا بوزارة التعليم فحسب، ليتم التعاون بينهما على إعداد الأطر التقنية اللازمة، واقتناء أدوات البحث العلمي من مواد ومختبرات ووسائل اتصال و”بنوك” معلومات وخدمات توثيقية، وتمويل تعلم التخصصات النادرة وغير ذلك.
3 – اختلال المعادلة بين المعرفة والحكمة.
هناك أزمة حادة تسكن قلب النظام التربوي الحديث في البلاد الإسلامية وكأنها ضربة لازب. ومرد ذلك كون هذا النظام قام من أول يوم على فكرة إضعاف القيم والحط من قدرها وعزل تأثيرها، بل التوجه نحو نسفها وإبطالها تصديقا بما روجته الحملـة التمدينيـة الغربيـة (Mission Civilisatrice) من أن هزيمـة أمـة تعني هزيمة بنية عقائدها، وفساد قيمها ومعاييرها الحضارية، وأن تغلب أمة يعني -بالمقابل- تفوق معتقداتها، وصحة قيمها وموازينها الحضارية!! وهذا نظر فج بـيِّن السخف وأسخف من أن يرد عليه!
إن أزمة القيم التي يعاني منها النظام التربوي الحالي لا تعدو في الحقيقة أن تكون فرعا من الأزمة الأصلية المذكورة آنفا: أزمة انعدام الرؤية، وعدم الأخذ بمنهج ذاتي منبثق من الروح التربوية لهذه البلاد،ومتساوق مع حاجاتها وطموحاتها وخصائصها الموضوعية والفكرية والتاريخية.
لقد كان بالإمكان أن يحصل تفجر معرفي اجتهادي أصيل في مختلف ميادين العلم ومحاوره، وتتحقق بناء على ذلك نقلة معرفية ثالثة في مساق حضارة العالم الإسلامي لو أن الحركة التربوية الأولى في هذه الأقطار استعصمت بالقيم التي حررت بها السيادة والأرض، وتمسكت بمفاهيمها المستقلة للتربية والعلم.
لكن، بالأسف عمل مسئولو التربية بفرية التعارض المصطنع بين العلم والقيم المرتبطة بالتصور الغربي لمفهوم المعرفة، ذلك التصور الذي ولد في سياق تاريخي استثنائي شهدته أوربا ابتداء من القرن التاسع عشر الميلادي، وهو سياق التحول الثقافي العلماني وانحسار الفكر اللاهوتي المسيحي، وظهور المذاهب الوضعية، واندحار المذاهب الميتافيزيقية والأخلاقية والفلسفية بعد سجال طويل بين الروحانية والمثالية من جهة، وبين الدهرية والمادية من جهة أخرى.
وواضح أن نتائج هذا الصراع التاريخي الذي وقع في رقعة يسيرة من الأرض لا تلزم إلا أصحابه، ولا تعبر محصلاته المذهبية والنظرية إلا عن تجربة الغرب وحده. فهذا الصراع خصيصة من خصائصه المعرفية والفكرية التي وجهت علومه ومناهجه، وانعكست على تصوراته وأحكامه، ولا يصح ألبتة أن تصير هذه المشكلة كونية، وأن تفرض عنوة على نماذج ثقافية ترعرعت في ظل الوئام بين الإيمان والعقل، والغيب والشهادة.
فمن المؤسف أن يولي نظامنا التربوي ظهره لهذه القيم وأن يبخس شأنها، ويعتنق “بدعة” الفصل المنهجي بين التربية والحكمة، وبين الاشتغال البحثي والالتزام الأخلاقي لا لشيء إلا لأن التجربة المعرفية الأوربية قامت على هذا الأساس وما زالت تدين به! والحق، أننا نجد هذه الدعوى نفسها لا تخلو من مغالطة، ولا يتسع المقام هنا لتمحيصها وتحقيقها.()
ولكن أقول باختصار: إن اختلال المعادلة بين المعرفة والحكمة في النظام التربوي السائد عطب طارئ عن مجرد التقليد، وهو عطب –كما ذكرت- لا تحتمله المعايير المعتبرة والقيم المشتركة والممارسة التربوية لهذه البلاد. إذ من المقرر أن “العلم” في مجالنا الثقافي والمصطلحي هو “الحكمة” و”التربية” هي “التزكية” و”الموضوعية” هي الاستقامة والالتزام وذلك لكون هذه المفاهيم مرتبطة بمسلك الإنسان العملي في الحياة، وبمدى التزامه بمبدأ المصلحة الشاملة الذي من أجله وضع العلم، وهو تحقيق السعادة في الدارين. قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت 740 هـ) في الموافقات: “العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا، أعني الذي مدح اللهُ ورسوله أهلَه على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها”()، ويقول: “روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به، فقد قال الله : إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال: وإنه لذو علم لما علمناه ثم استشهد بقول البصري: “الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم بالعمل” وقول الثوري: “العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل” …وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به”.()
ومن هذا المنطلق، حفل تراثنا التربوي الإسلامي بكثير من التآليف في فضل العلـم وأخلاق العلماء وآداب البحث وشروط التأليف، مثل كتاب “آداب المعلمين” لابن سحنـون (ت 256 هـ)، و” أحكـام المعلمـين والمتعلمـين ” لأبـي الحسـن القابسـي (ت 403 هـ)، و”آداب المتعلمين” لنصر الدين الطوسي(ت 567 هـ)، و”أخلاق العلماء” للآجري (ت360هـ)، و”إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ)، و”جامع بيان العلم وفضله” لابن عبد البر القرطبي (ت463هـ)، و”الإلماع” للقاضي عياض (ت544هـ)، وكتاب “السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم” لابن جماعة (ت733هـ)، و”معيد النعم ومبيد النقم” لابن السبكي (ت771هـ)، و”أدب الإملاء والاستملاء” للسمعاني (ت562هـ)، وكتاب “المعيد في أدب المفيد” للعلموي، و”آداب البحث” للسمرقندي (ت600هـ)، و”التعريف بآداب التأليف” للسيوطي (ت911هـ)، و”المقدمة” لابن خلدون (ت808هـ)، و”رسالة في أدب البحث” لطاش كبرى زاده (ت968هـ)، وغيرها من التواليف المطبوعة والمخطوطة مما لا يحصر كثرة!
إن القصد من إنجاز هذا التراث هو تأكيد الخصيصة الأخلاقية للعملية التعليمية، وتأكيد أن المعرفة أمانة، وبيان رسالة العالم بعد تحصيله للمعلومات وتعلمه الصناعة، والتي تتلخص في مبدأ إرادة وجه الله تعالى بالعلم، والتجرد من نوازع “الهوى” في البحث، والاجتهاد في طلب الحق، والإذعان لمقتضى نتائج النظر، والاصطبار على مشاق التحصيل ولأوائه، والتزام سبيل الاستقامة والإصلاح فيه، وعدم التزلف به إلى الكبراء، والتكبر به على عامة الناس… ونحو ذلك مما أريد به حفظ أصالة العلم، وصيانة استقلاله واستقامته، وضمان الانتفاع بالوظائف والأعمال الجسيمة التي ينهض بها في المجتمع.
لقد استنكف النظام التربوي السائد عن الأخذ بأسباب هذا المنهج القويم، معتنقا تقاليد الفصل المنهجي التي ألقت بظلها الثقيل على الساحة التربوية والأخلاقية والحضارية للمجتمع، فلم يقف الأمر عند حد اضمحلال إنسانية المعرفة وتراجع القيم الأخلاقية في التعليم، والتركيز على جانب المعلومات وتعزيز الاتجاهات التغريبية والدهرية فحسب، بل تداعت المشكلة إلى حد زحزحة نظرة المجتمع والمدرسة معا() إلى نظام القيم كله، وتسويغ بوائق الواقع الاجتماعي وسقطاته، بل إلى تدمير أشواق الإنسان الروحية والإنسانية، وإعطاب نزوعه الفطري نحو الفضيلة والحكمة.
إنها أزمة قيم تتجلى في فشل النظم التربوية الحديثة في أقدس مهمة وهي تكوين الإنسان الصالح الذي يفشي في الناس معاني الحكمة والعدل والسلام، ويقوم بالتزامه اعوجاج حال كثير من المؤسسات الاجتماعية.
إن ما تمور به الأرض من انفجارات وثارات عرقية وقومية ودينية وسياسية، بحيث لا تكاد تخمد أزمة في بقعة ما حتى تنبعث في أخرى، لا تفسير له سوى خفوت صوت العلم والحكمة في الضمير العالمي، وضمور سلطانه وقداسته إزاء جلجلة أصوات الغرائز، وتنكر الإنسان لروح الموقف العلمي في التطبيق والممارسة رغم تظاهره بتمثل هذه الروح في الخطاب والشعار!!
وهذا التناقض الذي تعبر عنه الأزمات البشرية الراهنة هو أصدق برهان على أن النمط المعرفي السائد –الذي يتعنى بنو جلدتنا في تقليده- مدخول في تصوره وأهدافه وموضوعاته. وهذا ما جعل جورج ألدنبرغ في كتابه “هل ينقذنا العلم” يلاحظ “أن المنهج العلمي في التفكير لم يحرز بعد تقدما يذكر، إذ لا نكاد نجد أحدا يواجه المشكلات الاجتماعية بروح علمية مجردة”!
وعبر الأستاذ علال الفاسي عن نظير هذا الموقف في كتابه النقدي قائلا: “وأما طلب العلم لأجل العلم كما يريده كثير من رجال التربية، فهو مقصد شريف ولكنه لا يكفي لإعطاء الهدف الحقيقي للتربية الصحيحة، لأن العلم يدركه الشيطان كما يدركه الملك، ويكون آلة لفعل الخير، كما يكون أداة لفعل الشر..”().
ومن المفيد والمثير جدا أن يلاحظ أحد أساطين الفكر الفلسفي المعاصر، وهو الأستاذ روجيه غارودي، أن ما تعد به التربية الإسلامية للعلم الإنساني في المستقبل هو عقد قران جديد بين الحكمة والمعرفة حيث قال: “هذا ما يعبر عنه النظام التربوي الإسلامي الذي نقطة بدايته هو تعليم القرآن الكريم بالمسجد، فحكمة الإيمان تدمج جميع العلوم في وحدة عضوية، لأن مـوضـوع جميعها عالم هو في كليتـه صنـع إلـهـي (Une Théophanie) وتـجل لقـدرة الله تعـالى وصفاتـه، فالكـون عبـارة عـن أيقونــة (Icône) يتجلى فيها الواحد الأحد سبحانه عبر أضعاف مضاعفة من الرموز.
إن إحدى الخصائص الرئيسة للعلوم العربية الناتجة عن مبدأ الوحدة هذه هي ارتباطها المتبادل (Interdépendance)؛ فليس هناك انفصال بين علوم الطبيعة والحس من جهة، وبين علوم اللاهوت أو الفنون من جهة أخرى، كذلك لا توجد حواجز سميكة بين العلوم المختلفة ابتداء بالرياضيات إلى الجغرافيا، وهذا ما يفسر العدد الكبير للنوابغ الموسوعية في الثقافة الإسلامية…
لا نجد في التاريخ الغربي سوى عدد ضئيل من العبقريات العالمية مثل ليوناردو دافينشي؛ بينما نجد في الحضارة الإسلامية كثرة كاثرة بدءا بالكندي إلى الرازي، إلى البيروني، إلى ابن سينا إلى عشرات آخرين من العلماء المبتكرين في مجال الرياضيات، واللاهوت، والجغرافيا، وأحيانا كثيرة في الشعر، كالرياضي عمر الخيام، أو الفيلسوف ابن عربي، أو في فن الموسيقى كما فعل الإمام الرازي.
هذه الرؤية التوحيدية تفسر بجلاء الأهمية التي أولتها الحضارة الإسلامية لقضية تصنيف العلوم بتأكيد اعتبار وحدة الواقع والمعرفة التي يمتلكها الإنسان، والتي تفضي إلى تأمل وحدة الكون بموازاة وحدة الله  من حيث إن وحدة العالم ما هي إلا آية على وحدانية  الله .
إن المساق التربوي يتصل أيضا دون انقطاع من المسجد إلى المدرسة، حيث يشكل تعليم وحدانية الله  ، ووحدة الطبيعة والكون أساس كل معرفة، وهذا ما وجد بالقرويين بفاس، والزيتونة بتونس، والأزهر بالقاهرة، وفي جامعات سمرقند وقرطبة. ()
4 – البعد عن الواقع أو (اللاواقعية):
إن التحليل العلمي والكشف الفاحص لواقع التربية والتعليم في البلاد الإسلامية يهدي إلى أن من أهم عناصر أزمته بعده عن الواقع، وتحليقه بعيدا عن مقتضياته وحاجاته، سواء من جهة الموضوع، أم من جهة الزمان والمكان.
ومن أجل فهم واضح لهذا الملحظ لا بد من طرح السؤال الآتي:
ما هي المهام التي يفرضها الوقت والواقع المحلي على التعليم؟ وما هو سلم الأولويات اللازم احترامه ومراعاته في تطبيق هذه المهام ؟
طبعا سيكون الجواب على الفور –وبإجمال-: أن أهم الأهداف التي نبتغيها من التعليم -بصفته مؤسسة خاصة بتكوين الإنسان داخل معادلات الزمان والمكان، ونسج عقليته وميولاته واهتماماته وترتيبها حسب الأهمية التي تريدها الأمة منه- تربية جيل قوي قادر على حمل الأمانة في جميع المستويات: أمانة تربية الإنسان الذي لا يغلب على عقله، وأمانة تأسيس دولة الحق والشورى والعدل، وأمانة تحقيق مجتمع المؤسسات والتكافل، ثم أمانة استثمار المعرفة البشرية والسيطرة على التقنيات الحضارية والإنتاجية.
فهل استطاع النظام التربوي –نظام ما بعد الاستعمار- أن يرعى هذه الأمانات التي نحتسبها أم المعايير الحاكمة على مدى واقعية وصلاحية التربية والتعليم؟ جوابا عن هذا السؤال، ولإلقاء مزيد من الضوء على جوانب تتعلق به، لا بد من تقديم الملحوظات الآتية حول عناصر المشكلة التربوية وخصائصها، والتي تمثل –في الآن نفسه- الجوامع المشتركة لنظام تربوي قائم منذ ما يسمى بعهد “الدولة الوطنية المستقلة”:
1- اعتبار التعليم قطاعا “غير منتج”، وعبئا ثقيلا على كاهل الدولة(!).
2- اعتبار النظام التربوي الحالي سببا في بطالة حملة الشهادات.
3- الابتلاء بالاستنساخ الشكلي للتجارب والنظريات دون مراعاة الخصوصيات والفروق، بل دون مراعاة شروط الاقتباس العلمي وشرائطه.
4- طغيان المثالية على المخططات والسياسات والمواثيق التربوية مقابل إضعاف “المؤطر” التربوي المكلف بتنفيذ هذه المخططات معرفيا ومعنويا وماديا!!
5- انقطاع الصلة بين النظام التربوي وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
6- صعوبة الظروف المعيشية والمادية والتمويلية التي تحف سائر مكونات العملية التربوية.
7- التخطيط المستمر لتقليص ميزانية وزارة التربية والبحث العلمي بأساليب التصفية وإغلاق أبواب المؤسسات التكوينية، وتضييق الخناق على النشاط البحثي بمختلف أنواعه ودرجاته.
8- انعدام التجانس والتكامل بين مكونات النظام التربوي (بين النمط التقليدي، والنمط المزدوج، ونمط البعثات الأجنبي، مما نجم عنه تكوين ثلاثة مجتمعات متنافرة تحت سقف واحد) ومتطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي، ومواد التدريس نفسها ومحتوى المناهج والبرامج.
9- افتقار العملية التربوية إلى تراكم البحث العلمي التربوي الميداني الخاص بالاتجاهات والعينات المحلية.
10- تحول الأكاديميات التربوية إلى “إدارات” لاستهلاك الأوراق ورص الملفات في ظل عزلة ثلاثية الأبعاد: عزلة عن وزارة التربية، وعزلة عن فعاليات المجتمع، وعزلة عن خبراء التربية.
هذه الملحوظات العامة حول النظام التربوي القائم تتوارد جميعا على وصفه بالبعد عن الواقع، وجريان مساره بعيدا عن مستلزماته الوقتية والموضوعية. والحاصل ضعف الفعالية التربوية التي تعني هزالا في النوعية والكفاية، وعجزا في تحكم الإنسان بمصيره، وضعفا في مغالبة تحديات الحاضر والمستقبل.
لقد نشأ عن “لا واقعية” النظام التربوي الحالي تراكم الكثير من تحديات الواقع السياسي والمجتمعي والثقافي والاقتصادي: فهناك الفقر والأمية والبطالة المعلنة و”المقنعة”، وغياب الديمقراطية، واهتزاز نظام القيم، وتعدد الولاء الفكري، وسيادة التبعية، وتقليد الغالب في أحواله الناقصة، والعجز عن تحقيق تراكم جدي في البحث الصناعي والتقني، والعجز عن استيعاب التكنولوجيا فضلا عن إبداعها.. علاوة على علل الفكر، وأنكرها على الإطلاق علة “السكولستيكية” بمعنى انفصال الفكر عن الواقع، وحلول “اللغة” محل المنجزات المشهودة، واستبدال الأقوال بالأفعال!!
وهكذا أصبحت مؤسسات التربية عاجزة عن تخريج نماذج القوة والأمانة، وأصبحت تنتج شخصيات قلقة ومنعزلة تحمل الكثير من التشوهات والتناقضات بدلا من سمت التوازن والصحة والإبداع.
وحيال هذه النتائج التي لم نذكر منها إلا نزرا يسيرا، يتحتم المبادرة إلى إخضاع النظام التربوي الحالي لتجديد جذري يعيده إلى قلب الواقع الاجتماعي وحركته الإيجابية على ضوء الأسئلة والاعتبارات التقويمية التالية:
* هل تستطيع المعرفة التربوية مواجهة سلبيات الواقع وتناقضاته ومشكلاته المتعددة؟ أم أنها مصرة على إعادة إنتاج الأزمات بإضافة تناقضات جديدة؟
* هل راعى الاشتغال التربوي الحالي الصعوبات والمعوقات الكثيرة التي أصبحت تلتف بالحياة اليومية للمربي والمتعلم وظروفهما المعنوية والمادية العصيبة في البادية والحاضرة أم إن هذه الصعوبات و”الهموم” ليست ذات أهمية في ميزان العمل التربوي؟!
* هل راعى الاشتغال التربوي الحالي خصوصيات الأنماط الفكرية والثقافية والنفسية والمدنية لهذه البلاد، وكونها تقوم على أسس عقدية وروحية وحضارية مستقلة؟
* هل ربطت المعرفة التربوية المكونة حتى الآن بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، بحيث تتجاوب وطموحاته الحضارية، وتستجيب لمتطلبات تلك البنى وما تقتضيه من تغيرات عميقة لتحرير الفعالية الحضارية؟.
* هل أسهم النظام التربوي الحالي في إطلاق قطار التنمية الشاملة، والتغلب على الصعوبات التي تعيقه؟ أم أسهم بالعكس في استفحال “الفيروسات” والآفات الحضارية، والتناقضات القيمية والسلوكية المتمثلة في الأمية والاتكالية والتهارج والاستهتار بالمسئولية، واختلاس المال العام، والكسل المؤسساتي، وقصور التخطيط، والتهوين بمعايير التقوى، وسوى ذلك من معوقات التجديد الاجتماعي.
إن هذه الأسئلة –ونظائرها- تتضمن ضرورة أن نبتدر ممارسة النقد التربوي للواقع، وتقويم مستوى جدوى وفعالية المنظومة التربوية المأخوذ بها حتى الآن، ولا بد أن ينصب على عوامل التربية الأساسية كالمعلم، والمتعلم، والبرنامج، والإطار، والعلاقات، والأهداف، والوسائل، والإدارة، والمراقبة ومنهج التقييم().