الرئيسية / أي آفاق أمام الدراسات الإسلامية في الجامعة ومعاهد البحث.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : أي آفاق أمام الدراسات الإسلامية في الجامعة ومعاهد البحث.

الكاتب(ة) : د. محمد الكتانــــــــــــــــــــي

أي آفاق أمام الدراسات الإسلامية في الجامعة ومعاهد البحث

محمد الكتاني
مكلف  بمهمة  بالديوان  الملكي

  من المعلوم أن الحالة الثقافية والحضارية بصفة عامة قائمة على جدلية لا تتوقف من التأثير والتأثر المتبادلين، بين الحياة الاجتماعية والحياة العقلية من جهة، وبين قانون التطور من جهة أخرى، غير أن هذه الجدلية لم تأخذ في أي عصر مضى ما أخذته في عصرنا من القوة والتسارع، إلى حد كونها اكتست مظهر الثورة العارمة على كل قديم، والتعلق بكل جديد. وفي غمرة الثورات المتلاحقة، خلال القرنين الأخيرين شعر فكرنا الإسلامي بأنه يواجه تحديات هذا التطور الجارف الذي يكاد يقتلع المجتمعات الإسلامية من جذورها الحضارية والثقافية، وبأنه لا سبيل لرفع هذه التحديات إلا باستيعاب المتغيرات والانفتاح على المؤثرات الإيجابية وملاحقة سنة التطور.
والواقع أن فكرنا الإسلامي وجد نفسه منذ بداية القرن الماضي أمام عدة واجهات مفتوحة أمامه، منها انقطاع التواصل الحضاري بين ماضي المسلمين وحاضرهم، ببعدهم عن قيم دينهم وتخليهم عن شريعتهم، ومنها التخلف الاجتماعي للمسلمين تخلفا عبر عنه المصلحون الرواد بالانحطاط، ومنها الغزو الفكري الغربي بمناهجه وفلسفاته، الذي عمل على فشو الإلحاد والطعن في الدين باسم العلم، والطعن في التراث باسم الحداثة، والتشكيك في الثوابت الإسلامية جملة وتفصيلا.
في هذه المرحلة من بداية القرن العشرين ظهرت حركة صحوة الفكر الإسلامي بفضل قيام الرعيل الأول من المجددين المصلحين بتجديد الفكر الإسلامي، والرجوع إلى أصوله الأولى، وإحياء تراثه المرجعي، ومحاولة التوفيق بين الدين والمدنية الحديثة، وفي هذه المرحلة أيضا وقع تركيز أولئك المصلحين والمجددين على ثلاثة محاور:
أولها : إحياء التراث الإسلامي في الحديث والفقه وعلم الكلام والسيرة النبوية واللغة والآداب وسائر العلوم الإسلامية.
ثانيها : تجديد علم الكلام والدفاع عن العقيدة لمواجهة الإلحاد والتشكيك.
ثالثها : الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي من منظور الإسلام أو من منظور تبني المناهج الغربية.
ويمكننا أن نؤكد أن الفكر الإسلامي قد استعاد منذ عقود من السنين علاقته بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، الذي يحياه المسلمون، في جميع أقطارهم، فأصبح هذا الفكر معنيا بأوضاعهم الاجتماعية وبحياتهم الروحية والعقلية.
وفي هذا السياق وقع الاهتمام بالتعليم وبإنشاء المعاهد الإسلامية وبالجامعات، وبالإقبال على الصحافة والنشر للتراث، وتوعية الرأي العام وتكوين الجمعيات الإسلامية. وبفضل هذه العوامل أصبحت العلوم الإسلامية تسترجع حضورها، بين شتى العلوم والفنون التي تلقن بالكليات والمعاهد، وتقوي وعي المسلمين بضرورة اعتماد العلم أساسا للنهضة بكون الجامعة يجب أن تتحمل الدور المناط بها، في هذا السياق، لأن دور الجامعة في أي بلد متحضر يتمثل في خدمة المجتمع الذي تنتمي إليه فكريا، وفي الارتقاء به حضاريا، عن طريق تنمية البحث العلمي، وتعميق القيم الإنسانية، والانفتاح على كل العلوم والثقافات، للإفادة من النتاج العلمي والعقلي البشري على أوسع نطاق ممكن.
لكن، برغم التقدم الذي حققه المسلمون في حياتهم الاجتماعية والفكرية والثقافية، بفضل تلك الصحوة وعلى مدى عقود من القرن الماضي، فإن الفجوة بين العالم الإسلامي من جهة، وبين العالم الغربي من جهة أخرى ظلت تزداد اتساعا، بحكم تفاوت سرعة حركة التطور في كل من العالمين، ولا سيما في مستوى البحث العلمي، والممارسة الديموقراطية لدى شعوب العالم المتقدم في إدارة شؤونها، ومراقبة أجهزة الحكم فيها، التي أتاحت لها تنمية مواردها البشرية، وتحقيق إرادتها في توجيه سياساتها نحو التقدم، وتحقيق الرخاء بينما كان العالم الإسلامي على النقيض من ذلك. وهكذا تباينت مستويات التقدم بين عالمين، أحدهما يستثمر العلوم التطبيقية والأنظمة الديموقراطية، والثاني يجتر التأثير الحضاري الغربي في عالمنا الإسلامي في المظاهر التالية :
-تأثر معظم الأجيال الصاعدة في العالم الإسلامي بما تلقته في الجامعات الغربية، ومدارس التكوين بمختلف اللغات من ثقافات وعلوم سلختها عن هويتها الإسلامية أو كادت.
-ظهور تيارات فكرية متباينة الرؤى والأهداف في الأوساط الإسلامية الفكرية والسياسية، عمل بعضها على نشر “التغريب” والدعوة إلى القطيعة مع الماضي أو مع التراث الإسلامي. وركب بعضها الآخر مطية التطرف والانغلاق، كرد فعل لاستعلاء التغريب والعلمانية، أو كأسلوب للمعارضة للأنظمة العلمانية السائدة، بينما ظلت طائفة أخرى مؤمنة بالتجديد في اعتدال وتوازن بين قيم التراث والانفتاح على التقدم العلمي والتقني والحضارات، فأصبح الفكر في العالم الإسلامي تتجاذبه هذه التيارات المتناقضة بين حداثي وتجديدي، وبين سلفي ومتطرف أو معتدل، كما أصبح فضاء العالم الإسلامي ملبدا بالغيوم والتقلبات التي تظهر بين حين وآخر. أما الجماهير الإسلامية الواسعة الغارقة في الأمية، والمبعدة عن ممارسة حقوقها السياسية أو العاجزة عن ذلك، فإما متأثرة بمن يستفزها عاطفيا، ويضرب على أوتار آلامها ومعاناتها اليومية، وإما منساقة للإكراهات اليومية التي حصرت همها في تلبية حاجاتها الأساسية.
هذا هو السياق السوسيو-ثقافي الذي برزت فيه الصحوة الإسلامية الأخيرة، وهو سياق مشحون بالإسقاطات السياسية المتناقضة وبظهور الحركات الأصولية، حسب “التعبير الإعلامي”. وقد تميز هذا السياق بازدياد الإقبال على الإنتاج الفكري الإسلامي، ولا سيما حينما أصبح الإسلام الحركي كما يقال، ظاهرة يتسع تأثيرها ضمن المشهد السياسي في كل المجتمعات الإسلامية.
ولم تكن الجامعة المغربية بمنأى عن التأثر بهذه التيارات المتباينة التي أشرت إليها. فكان من الطبيعي أن يقوى الانفتاح على التراث الإسلامي كرد فعل للانفتاح المقابل على الفكر الغربي، هذا الانفتاح الأخير الذي عشنا بعض أطواره في السبعينات، وكان ينذر بردود فعل قد تنفلت من قبضة التحكم فيها. وفي هذه الآونة بالذات أنشئت شعب الدراسات الإسلامية بكليات الآداب، بالجامعات المغربية، وتخرج منها منذ بداية الثمانينات ألوف الحاصلين على الإجازات ومئات الحاصلين على الشهادات العليا، وقبل ذلك كانت قد أنشئت دار الحديث الحسنية التي عنيت أساسا بالدراسات العليا في علوم الإسلام وفي مقدمتها علوم الحديث.
إن حصيلة ربع قرن من هذه الدراسات الإسلامية في جامعاتنا تستوقف النظر في نتاجها، وتدعونا إلى تقويمها في ضوء مستجدات حياتنا الفكرية والحضارية في جدلية التطور التي تتفاعل داخلها. ومما يذكر من إيجابيات هذه الدراسات الإسلامية بكليات الآداب ودار الحديث الحسنية، أنها قامت على الصعيد الأكاديمي، بالتعريف بتراث الغرب الإسلامي وأعلامه من الأندلسيين والمغاربة، في مجال العلوم الإسلامية، وبتحقيق تراثهم في علوم الحديث ومجامعه، وفي القراءات والفقه ومصادر التشريع، وبذلك سدت كل الدراسات الفراغ الذي كان ملحوظا في المكتبة الإسلامية عامة، التي لم تكن تعرف غير تراث العلماء المشارقة، كما اهتمت هذه الأبحاث بدراسة أعلام المغرب، وما برزوا فيه من علوم إسلامية، كانوا فيها أندادا للمشارقة، في التصنيف والتحقيق والتحرير للمسائل، فأصبح معظم التراث الأندلسي والمغربي من شتى العلوم الإسلامية محققا ومدروسا ومقدما للقارئ، وفق منهجية التحقيق والتقديم المطلوبة في إحياء التراث القديم.
وبذلك حققت الدراسات الإسلامية المزيد من التواصل مع التراث الإسلامي الفكري والعلمي، في شتى فنونه ومراجعه.
كما يذكر من الإيجابيات في هذه الأبحاث محاولات عديدة في مجال إجراء المقارنة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، في مجالات التشريع والنظم الحضارية والاقتصاد، ولكن بصورة تفتقر هذه المقارنة فيها إلى استيعاب الفكر الغربي ومذاهبه الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية على نحو عميق وموضوعي، فظلت هذه المقارنة أسيرة قبليات دوغمائية، مفتقرة بالأساس إلى الإلمام بالسياقات التاريخية التي أنتجت هذه أو تلك. ومن ثم لم يكن لهذه المقاربات في معظم الأحيان أثر في تنوير الفكر الإسلامي أو مده بعناصر التجديد التي يفتقر إليها.
ولهذا يحق لنا أن نتساءل عن قيمة الإنتاج العقلي في هذه الدراسات ؟
صحيح أن الدراسات الإسلامية تظل مقيدة بصفة عامة بمرجعية التراث، ومعظم هذا التراث يعتمد “النقل” والرواية، واسترجاع الماضي، وإعادة إنتاج نفس الأحكام التي انتهى إليها علماء السلف. فالباحثون في هذا التراث لا يطمعون في أكثر من إعادة تقديمه محققا أو استخلاص الأفكار العامة منه، أو القيم الأساسية فيه. ومن ثم يظل التجديد في التراث أمرا صعبا، لأنه يقتضي إعادة قراءته في ضوء مستجدات الحياة الحاضرة وتطور مناهج البحث، باعتبارهما السبيل الوحيد الذي يفتح أمام الباحثين فيه آفاقا جديدة للتقويم والتحليل والمقارنة. كما يعينان على استعادة الفكر الإسلامي لعلاقته بالحياة المعاصرة. واصطناع هذا المنهاج هو المقصود عندنا بالإنتاج “العقلي” أي تلك القراءة الجديدة للتراث، بما تقتضيه من نقد وشك وتحقيق وتأويل واستقراء للعوامل التي أنتجته.
وهذا هو نفس المنهج الذي اتبعه الأوربيون في بداية العصور الحديثة، فتواصلوا مع تراثهم القديم، دون البقاء في أسره، وانطلقوا منه إلى آفاق جديدة، وهكذا نرى أنه منذ القرن الثامن عشر وقع تصنيف العلوم في أوربا على نحو جديد يخالف التصنيف الفلسفي القديم، وذلك على يد مؤلفي الموسوعة الفرنسية الذين حولوا تلك العلوم إلى علوم المادة وعلوم الفكر، فتغيرت نظرة الإنسان الأوربي إلى العلم وإلى الغاية من اكتسابه. واستقلت الكثير من العلوم عن الفلسفة، وعن النظريات المجردة، وتجددت مناهج البحث في كل منها، معتمدة على التجريب والملاحظة، وهي مناهج كان المسلمون قد وضعوا أسسها وبلغوا في تطبيقها درجة عالية، لكنهم توقفوا في عصور الانحطاط بفعل عوامل، في مقدمتها التقليد وتقديس السلف، والاستبداد في الحكم، وكبت الحريات، وسد باب الاجتهاد.
صحيح أن علاقتنا نحن المسلمين بتراثنا الإسلامي تختلف عن علاقة أوربا بتراثها الهيليني والديني. فبالنسبة للدين المسيحي فإنه لم يكن يعنى في أوربا بغير اللاهوت الذي كرسته الكنيسة، والذي تعرض لثورة إصلاحية من لدن مارتن لوثر. بيد أن الأهم من تلك الثورة هو تعرض الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل) لنقد علمي خلال بداية العصور الحديثة، وكشف النقاب عن عدم ثبوتها فضلا عن تواترها. ونستحضر هنا ما قام به سيميليو الألماني الأستاذ بجامعة هال، من تحقيقات في هذا الشأن، وأعلن أن الدين اليهودي والدين المسيحي كانا مجرد حلقة في تطور الأديان. غير أن خط الأحبار والأساقفة هو اعتبار أن هذا الدين أو ذاك هو الدين المطلق لكل الإنسانية. وأما الفلسفة الهلينية أو اليونانية فسرعان ما تقلصت وذهب تأثيرها في العصر الحديث بفعل ظهور العلوم التجريبية التي أخذت كثيرا من موضوعات الفلسفة، وحولتها إلى علوم إنسانية تقوم على منهج حديث. وبذلك تجاوزت تيارات التحديث المتوالية كل ما كانت حققته تلك الفلسفة القديمة من تألق وتأثير. وأما الآداب القديمة فمن المعلوم أنها لم تستقر قيمها الفنية، وإن ظلت مادة استلهام في بداية العصر الحديث، فقد أصبحت الآداب الحديثة في أوربا تعبر باللغات القومية التي ظهرت حديثا كالفرنسية والإيطالية والإنجليزية التي حلت محل اللاتينية واليونانية. وبذلك أصبح الأدب الحديث في أوربا أدبا جديدا في لغته وشكله ومضمونه، ويعبر عن المجتمعات الصناعية في تعقيدها وما تعانيه من تجارب جديدة.
أما علاقتنا نحن المسلمين بتراثنا الإسلامي والعربي فلا تشبه في شيء ما حصل للغرب، ولم تخضع للمنطق الذي خضع له تاريخ تلك العلاقات، فالتراث الإسلامي يتعلق بالعلوم الإسلامية التي محورها القرآن والسنة. وهما باقيان ما بقي الإسلام متجذرا في نفوس المسلمين، وما بقيت العقيدة الإسلامية قوام هويتهم. فالقرآن والسنة يتميز أولهما بالتواتر والثبوت المطلق، والثاني بتواصل الإسناد والرواية المحكمة. فنحن نقرأ القرآن اليوم وكأنه إنما تنزل بالأمس القريب، لا تحجبنا عنه لغة أو أسلوب ولا يخامرنا شك في ثبوته، كما نفهم السنة النبوية بأسلوبها ونتأثر ببيانها. كل ذلك بفضل ثبات اللغة العربية واستمرارها على أنساقها في التركيب والنظم الفني. وهذا ما يثير عجب الغرب كما يثير حفيظته، ويسعى جاهدا للقضاء على هذه اللغة الواصلة بين أجيال الأمة الإسلامية عبر أربعة عشر قرنا.
وأما الآداب العربية فإن مهمتها الأساسية أنها ظلت مؤتمنة على حفظ هذه اللغة القرآنية، تهيئ الأجيال، الجيل بعد الجيل لإدراك إعجاز القرآن والتواصل مع كتاب الله. ذلكم الإعجاز الذي هو مَعقد صدق النبوة المحمدية. فلا تفقد هذه الأجيال إدراكها للإعجاز القرآني إلا فقدت مقوما أساسيا من مقومات إيمانها بالرسالة الإسلامية.
ولكن برغم هذه الصلة الثابتة التي تقوم بيننا وبين تراثنا والتي تقتضي استمراره أو استمرار قيمه الإنسانية في حياتنا، فإن منطق التاريخ أو منطق التطور يقضي بأن نحافظ على هذا التراث بمنهج آخر، لاستخلاص ثوابته وتجاوز متغيراته والتفاعل معه على نحو ما يقتضيه عصرنا.
وهذه المسألة أثارت جدلا كبيرا في فكرنا الإسلامي، وها نحن اليوم نشعر بأن العلوم التي ورثناها والمعارف التي نقلناها عن الأسلاف توجد في طريق مسدود، وفي سياق حضارة يطبعها التوجه العام إلى علوم المادة العضوية واللاعضوية والتكنولوجيا، وفي عصر يتميز بكون مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية قد التحمت بالدراسات الاستراتيجية للتنمية، فأصبح البحث العلمي في جميع مناحيه وميادينه مجالا لالتقاء السياسة بالتخطيط، وبالبرمجة للمشاريع التنموية. ولم يعد العلم يطلب لذاته كما كان الشأن من قبل، وإنما يطلب كوسيلة للعيش، ولتطوير الحياة الاقتصادية والصحية والإعلامية، وبالتالي فإن العلم أصبح يطلب من أجل تحقيق الرخاء والرفاهية، والوقاية من المخاطر والأمراض، والاستثمار الأمثل للطبيعة، والهيمنة على الطاقة. وهذا هو المناخ العام الذي أصبحت فيه الجامعة المغربية اليوم مطالبة بالاندماج في محيطها الاجتماعي والاقتصادي، الجهوي والوطني، وإلا فقدت مبررات وجودها.
فمن الطبيعي أن يتساءل المرء عن جدوى الدراسات الإسلامية فيها أو في أي معاهد أخرى، أو عن الآفاق التي يمكن أن تنفتح أمام هذه الدراسات النظرية، في عصر تحكمه آليات اقتصادية ومعرفية، وحركات اجتماعية ديمقراطية وحقوقية، تهتم بالتطبيق الميداني للمعرفة التجريبية.
لكن بالرغم من هذا التوجه إلى علوم المادة والتكنلوجيا والإعلام والإدارة والتنمية، فقد ظل الفكر الإنساني المعاصر يقر بما للعلوم الإنسانية -أي علوم الفكر والنفس والظواهر الاجتماعية للإنسان- من أهمية، شريطة أن تتكيف مع متطلبات عصرها وتوجهاته. فالتطور المتسارع الذي تعرفه حضارتنا متأثر باكتشافات العلوم وإنجازات التكنلوجيا والمتغيرات السياسية التي حملت في ثناياها إشاعة الديموقراطية وحقوق الإنسان، وزحف العولمة ببعديها الاقتصادي والإعلامي، والذي لم يعد أحد يستطيع الوقوف في وجهه ولا التحكم فيه. كل ذلك أصبح يفرز إلى جانب ما نقر به من إيجابيات لهذه العلوم المادية سلبيات لم تكن في الحسبان، في مقدمتها شيوع مظاهر التفاوت بين الفقر والغنى، بين شعوب الشمال وشعوب الجنوب، واتساع الفروق بين التقدم والتخلف بين العالمين، والتمكين لأسباب الهيمنة من لدن الأقوياء على المستضعفين، وتفكك الأسرة، وشيوع النزعات المادية، فانفجرت ردود الفعل تجاه هذه الهيمنة وتلك الفوارق في كل منها، وما صاحب ذلك من ظواهر الرفض والتطرف والإقصاء، وتدهور القيم الروحية وتراجع تأثيرها في الحضارة الغربية.
وهذه الظواهر هي التي قوت في المجتمعات الإسلامية الوعي بالخلل الحضاري لدى المجتمعات الغربية، وبالأخطار التي يحملها التأثر بهذه المجتمعات في حياتنا، والمتجلية أساسا في التهديد لهوياتنا الثقافية وقيمنا الأخلاقية، فأصبح التفكير في الحفاظ على العقيدة الإسلامية مطلبا أساسيا، ليس فقط للحفاظ على الهوية الثقافية، ولكن أيضا من أجل تحرير طاقاتنا الإنسانية وعقولنا من التقليد، ومن أجل تفعيل هذه العقيدة في تحقيق تنمية متوازنة للمجتمعات الإسلامية، توفق من خلالها بين مطالب التقدم والتطور، ومطالب الحفاظ على الذاتية. ومن ثم أصبح للثقافة الإسلامية دورها المهم، مثل سائر العلوم الإنسانية الأخرى، في خلق التوازن المطلوب في كل مشروع للنهضة والتطور.
وفي هذا السياق، كان من الطبيعي أن يقع التوجه إلى توظيف الدراسات الإسلامية، في إطار دعم النهضة الوطنية، والتساؤل عما يمكنها أن تلبيه من متطلبات أساسية، في سياق تنمية المجتمع، وتأهيل أبنائه لتحمل مسئولياتهم والاندماج في عصرهم، في عالم تحكمه وسائل العولمة ووسائل الاتصال والإعلام، واستثمار التكنلوجيا الدقيقة، والمنافسة الشرسة في تسويق الإنتاج والاستهلاك المادي والهيمنة على الأسواق. وإذا كان البعض منا يأبى إلا أن يتساءل عن جدوى الدراسات الإسلامية في هذه المرحلة فإنه لا يخالفني في أن هذا التساؤل أصبح لا يخص الدراسات الإسلامية وحدها  بالنسبة للعلوم التي تلقن في الجامعات، لأنه تساؤل يمكن أن يطرح في مجال العلوم الإنسانية أيضا كالفلسفة والتاريخ واللغات والآداب، فهذه العلوم أصبحت كذلك ومنذ منتصف القرن الماضي موضع تساؤل عن جدواها، في تنمية المجتمع تنمية مادية، ولذلك أصبح الطلاب يبتعدون عنها ولا يقبلون إلا على العلوم الدقيقة، المتعلقة بالطبيعة والتكنلوجيا والإعلاميات، إلى جانب العلوم القانونية والاجتماعية.
ولكنه تساؤل يغفل أو يستغفل البعض فقط، حينما يوهمهم بأن الحياة التي يحياها الإنسان مجرد واقع مادي صرف، نتحكم فيه بهذه الآليات المادية وحدها، بينما حياة الإنسان هي نسيج من تفاعل المادة والفكر والجسد والروح، فعلوم الفكر ضرورية كعلوم المادة، وقيم الروح على أضعف تقدير توازي قيم المادة. ولذلك نرى أنه من الضروري الإقرار بهذه الثنائية من جهة، وانفتاح كل من علوم المادة وعلوم الفكر على بعضها والتفاعل معها، من جهة ثانية.
كما نرى من واجب الدراسات الإسلامية في هذه المرحلة بالذات أن تتوجه أساسا إلى التفاعل مع قضايا عصرها والتجاوب مع مطالبه الحيوية، وذلك بالخروج بأبحاثها من المنهجية الاستردادية المنغلقة على ذاتها، إلى المنهجية الإبداعية التي تتناول مشكلات عصرها، وتسعى إلى تقويم ظواهره في ضوء المنظور الإسلامي. ولن يتحقق لها ذلك إلا بالانفتاح على غيرها من مناهج العلوم الإنسانية، للإفادة من تجاربها ومناهجها، وأن تتجاوز هذه الدراسات توخي مراكمة المعارف لذاتها، إلى توخي تفعيل هذه المعارف في مجال التنمية البشرية، بما فيها ترقية شعور الإنسان المسلم بما عليه من تبعات يفرضها تعايشه مع حضارة عالمية، وتفاعله مع نظم الحياة فيها، إلى جانب ما ينبغي أن تستهدفه هذه الدراسات الإسلامية من تعميق وعيه بالقيم الروحية، واستثمار كل المعطيات العلمية في مجال علوم الإنسان في التخطيط للتنمية الإنسانية، أي جعل الإنسان موضوعا للبحث العلمي والهدف منه في نفس الوقت حتى بالنسبة لهذه الدراسات.
ويظل البحث في العلوم الإسلامية أكثر رحابة واتساعا منه في العلوم الأخرى، لأنه لا ينظر إلى الإنسان وكأنه كائن مطلق أو كائن رمت به الصدفة في خضم الحياة، وإنما ينظر إليه ككائن مسؤول أمام خالقه، واثق من رسالته الإعمارية والاستخلافية في الأرض، وأنه قادر على التغيير لأوضاعه ومحيطه، مستجيبا لقوله    إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم  .
فهذه المسؤولية الوجودية لا يؤسسها إلا الإيمان بالغيب واليقين بالمصير الأخروي، اللذين هما قوام العقيدة الدينية في الإسلام، وإذا تمعنا في الثقافة الإسلامية ألفيناها تستهدف تعميق هذا المنظور الإسلامي إلى الإنسان والحياة. فبعض علومها يتناول ترسيخ البنيات الأساسية لهوية المسلم في عقيدته وقيمه، وبعضها الآخر يتناول ترسيخ صلة المسلم بمرجعية هذه الهوية. ومن شأن الدراسات الإسلامية سواء تعلقت بالقرآن أو بالسنة أو بالشريعة، أو بالقيم الأخلاقية أو بالنظم الاجتماعية أن تنمي وعي المسلمين بهويتهم وانتمائهم وبرسالتهم الكونية في عالم لا تتحصن فيه الهويات الثقافية والعقدية من الذوبان أو الانحسار إلا بتقوية هذه الهوية المتمثلة في القرآن والسنة. وخلق ما يشبه جهاز المناعة لديها أمام المؤثرات السلبية. وإذا كان العالم بأسره يحتاج اليوم إلى تنمية العلوم الإنسانية التي بوسعها تنمية الجوانب العقلية والثقافية، وتخليق الحضارة الإنسانية، فإن العالم الإسلامي أشد حاجة إلى تنمية تلك الجوانب، بتفعيل قيم تراثه في شخصيته، وتعميق الوعي بكون تلك القيم هي ملاك التوازن في عالم فقد توازنه أو كاد.
ومن صميم هذه الحاجة الأخلاقية والروحية للحفاظ على شخصية المسلمين تنفتح آفاق جديدة أمام الدراسات الإسلامية. وهذا ما يفرض على مؤسسات التعليم العالي، ومراكز البحث العلمي في العالم الإسلامي أن تنطلق من استراتيجية مدققة لتحقيق هذه المقاصد في نشاطها، وفي مقدمة تلك المقاصد تنمية الموارد البشرية، من خلال التعليم العالي وتأهيلها للقيام بأدوارها المحددة في الميادين التي تنتظرها. وفي مقدمة الأولويات بالنسبة للمجتمعات الإسلامية المهددة بشيوع الإلحاد أو بالأوبئة النفسية المبيدة، أن يتواصل العمل المشترك والمنهجي الفعال، بين سائر المؤسسات العلمية والتربوية والاجتماعية في سبيل الحفاظ على الهوية الإسلامية، وتعميق إيمان المسلمين بعقيدتهم عن طريق تسليح العقل بكل قدرات البرهنة والاستدلال والاستبصار، لمواجهة المخالفين والمناوئين، ولإقدار الشباب المسلم أساسا على مواكبة التطور التاريخي، دونما تصادم مع قيم الإسلام أو التنازل عنها، مع الإسهام الفعال في صيانة التوازن الأخلاقي للإنسانية، وتوسيع فضاء الانتماء الإسلامي، بالدعوة إلى حقائق الإسلام وقيمه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالقدوة التي يجب أن يشخصها المسلمون في أنفسهم، وفي علاقاتهم فيما بينهم، ملتزمين أكثر من غيرهم باحترام قيم الحرية والعدل والمساواة وكرامة الإنسان والتسامح، وتحري أداء المسؤولية على أكمل وجه ممكن.
فبناء شخصية الإنسان المسلم وبخاصة في هذا العصر وفق القيم مسؤولية تربوية وعلمية يجب أن تنهض بها مؤسسات تكوين الفكر الملتزم والعقل المستنير، بالإضافة إلى التأهيل العلمي المتخصص. والدراسات الإسلامية داخل هذه المؤسسات أولى بتحقيق المقاصد التي يمكن تحديد آفاقها في أربعة:
– أولا: تحقيق المزيد من التواصل بين الأمة وتراثها الإسلامي الأصيل، بالأسلوب العلمي الذي يعتمد التحقيق والتوثيق، وبالمنهج العصري الذي ينزع إلى التدقيق والتحليل والإقناع، كما يعتمد توطئة أكناف هذا التراث وتعبيد مسالكه، أمام قراء لهم عقلية جديدة وينتظرون من هذا التراث أن يمدهم بالإجابة عن تساؤلات ملحة.
– ثانيا: ممارسة القراءة العلمية للتراث الإسلامي من منظور اجتهادي، يرقى إلى أفق انتظار الفكر المعاصر، وقبل أن تنجز هذه القراءة الاجتهادية يتعين استيعاب الفكر المعارض بكل ما يعتمل فيه من تساؤلات، وما يحركه من دوافع مشروعة، ويتوفر لديه من معرفة وعلوم معمقة عن الإنسان. وفي ضوء ذلك يجب أن تتم قراءة تراثنا الإسلامي، ولا سيما ما يتعلق منه بالقرآن والسنة وفقه المقاصد، قراءة تأخذ بعين الاعتبار كل التطلعات الفكرية التي نتوجه إليها اليوم، من موقع الاعتقاد بأن الإسلام يقدم “الحل الشامل” لاستعادة الإنسان لتوازنه الحضاري.
وإن من أهم ما يعترض طريقنا في هذا السياق هو الجهل أو التجاهل أو التحامل على الإسلام نفسه، لذلك ينفتح أمام علمائنا وباحثينا في شعب الدراسات الإسلامية :
– ثالثا: تنقية صورة الإسلام مما أصابها من تشويه وتحريف، بالنسبة لحقائقه الدينية، وقيمه الإنسانية وتاريخه، بالأسلوب العلمي الذي يتصدى لتلك الأباطيل والشبهات، والمزاعم المفتراة على عقيدتنا وتاريخنا. فيكشف بالبيان المقنع عن سوء الفهم أو التحامل أو العداء الدفين للإسلام في معظم كتب الغربيين، وتراث أساقفة الكنيسة الحاقدين على الإسلام.
على أن هذا الأفق المنفتح أمام مواصلة الجهود المبذولة حتى اليوم في ميدانه، والتي يجب الاعتراف بما كان لها من قيمة علمية وتوجيهية، يظل محصورا في النطاق الإسلامي، وهذا ما لا يحقق الهدف البعيد الذي نتوخاه، ألا وهو الدخول في الحوار الحضاري من أوسع أبوابه. وهذا ما يفتح أمام الدراسات الإسلامية والقائمين عليها:
– رابعا: إعداد هذه الدراسات لتكون مادة لحوار الحضارات والأديان، هذا الحوار الذي اصبح من مكونات ثقافة عصرنا. ولعل الفكر الغربي أن يكتشف من خلال هذا الحوار المعتمد على المادة العلمية الموضوعية والتاريخ المنصف، تلك الحقائق التي كانت محجبة عنه.
وحينما نتحدث عن الدراسات الإسلامية فإنما نتحدث عن الفكر الإسلامي الذي يوجهها وينميها ويوسع آفاقها، بحسب دواعي التطور الحضاري والسياسي والاقتصادي والعلمي، فالفكر الإسلامي اليوم هو المسؤول عن إعادة بناء المجتمعات الإسلامية على أسس العقيدة والقيم الخلقية النابعة منها، توخيا للأهداف المثلى المتضمنة في الأمانة العظمى التي يحملها الإنسان أمام خالقه. فالإسلام كما لا نحتاج إلى التأكيد هو خيار مطروح أمام البشرية جمعاء للملائمة -وعلى أفضل وجه ممكن- بين تجاذب أو تعارض جملة من الثنائيات الكونية والإنسانية المتعددة: كالمادة والروح، والواقع والمثال، والوجود المشهود والغائب اللامتناهي، وفيما بين الفرد والجماعة، وفيما بين الغريزة والعقل أو الفطرة السليمة.
كل هذه الآفاق تنفتح أمام الدراسات الإسلامية باعتبار هذه الدراسات تتوخى منهجية القيام بمقاربة شمولية وروحية، تتلاءم وتطور الفكر الإنساني وتستدعيها ضرورة رفع التحديات التي تواجه الإسلام. وهو “الدين” الوحيد الذي يظل محافظا على توازنه صامدا في وجه “التطور العلمي” قادرا على مقارعة الدليل بالدليل في مجال النظر الفلسفي، مؤيدا بالاكتشافات العلمية التي كثيرا ما جعلت “النص القرآني” يبهر العقول أمام حقائق أشار إليها قبل أربعة عشر قرنا في سياق الهداية والإرشاد، وجاء العلم التجريبي ليؤكد صدقها وثبوتها.
فالفكر الإسلامي اليوم مدعو إلى اقتحام هذه الميادين بصورة شاملة، تستفيد من تقنيات التواصل والإعلام، وتزاحم بالمناكب الأعمال التي يقوم بها الفكر الغربي في كل المجالات التي يلتقي فيها العلم بالقيم الأخلاقية، أو التي يتم من خلالها توسيع حقوق الإنسان، والعمل على المحافظة على البيئة، أو في مجالات الفقر والظلم الاجتماعي، أو في مقاومة الأوبئة والعنصرية. وإسهام علماء المسلمين اليوم في هذه القضايا بالبحث والتحليل واقتراح الحلول وبالحضور الإيجابي للفكر الإسلامي في هذه المجالات ومن اللقاءات الدولية هو الذي سيحدد نظرة الغرب إلى الإسلام.
ولا يخفى أن الفكر الإسلامي أصبح مسؤولا عن تفعيل آليات الاجتهاد، لكي يواجه هذه القضايا الراهنة، في عدة مستويات فقهية وسياسية واقتصادية وحقوقية ودولية وعلمية. وإلا فقد صلته بالحياة المتطورة، وازدادت القطيعة بينه وبين هذه الحياة.
وقد شعرت فئة من المفكرين المسلمين بضرورة تحقيق هذا التوافق بين الإسلام من جهة، وبين تطور الفكر الإنساني بكل تخصصاته من جهة أخرى، فاقتنعت بمبدإ “أسلمة المعرفة” أي جعل العلوم الإنسانية كلها تنطلق من رؤية إسلامية، لتفضي إلى نتائج ونظريات تجعل من الإسلام ليس مجرد عقيدة وشريعة فقط، ولكن أكثر من ذلك منهجا في النظر والتقويم والاكتشاف والملاحظة والاستقراء، حتى في مجال العلوم البحثة.
وبذلك يظل فكرنا الإسلامي هو المسئول في كل منعطف تاريخي للأمة الإسلامية عن التوجيه القويم لها، ليس فقط لتخليص المسلم من التناقض  أو التجاذب بين واقعه وبين مثالية عقيدته، ولكن من أجل التحكم في هذا الواقع وصياغته وفق إيمانه واختيار مصيره.
وعندما ينكص الفكر الإسلامي عن تحمل هذه المسئولية التاريخية المتجددة، أو ينقاد للتقليد، أو ينساق لاجترار إنتاج الحقب التاريخية السابقة، أو يعجز عن الاجتهاد في تحرير المسلمين من أزماتهم الروحية والاجتماعية والحضارية، فإنه يتخلى عن أمانته العلمية الأساسية.