الرئيسية / الاجتهاد التشريعي في الإسلام بقلم الشيخ محمد رشيد رضا.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : الاجتهاد التشريعي في الإسلام بقلم الشيخ محمد رشيد رضا.

الكاتب(ة) : د. خليفة با بكر الحســن

[الاجتهاد التشريعي في الإسلام]
بقلم الشيخ محمد رشيد رضا(∗)
قراءة وتقديم ومراجعة : د. عبد الحميد عشاق
مؤسسة دار الحديث الحسنية

«لا يمكن للمسلمين أن يجمعوا بين هداية الإسلام وحضارته من حيث هو دينُ سياسة وسلطان إلا بالاجتهاد في شرعه الواسع المرن، فتركُ الاجتهاد هو الذي رد بعضهم إلى البداوة التي قضى عليها أو إلى ما يقرب منها، وطرح ببعضهم إلى التفرنج والإلحاد والسعي إلى البعد عن الدين».
[هكذا يفتتح محمد رشيد رضا رحمه الله مقالاته في الرد على فتاوى مصطفى كمال الدينية، ويبين حاجة السلطة السياسية الناشئة في بلاد المسلمين إلى الاجتهاد التشريعي، وأن التشريع ركن السياسة، وأساس نظامها، وأنه لا يستقيم أمر حكومة مدنية بدون اشتراع، ولا ترتقي أمة في مدارج العمران والحضارة بدون نظام تشريعي عادل مستقل، وأن الإسلام مبني على جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وكل ما ليس فيه نص قطعي مفوض إلى اجتهاد أولي الأمر منهم. وهذا نص بحثه القيم مع شيء من التصرف].
نريد بـ”الاشتراع” ما يعبر عنه عندنا بالاستنباط والاجتهاد، وفي عرف هذا العصر بالتشريع (وقد استعمل بعض علمائنا هذا كالشرع في الإلهي خاصة) وهو وضع الأحكام التي تحتاج إليها الحكومة لإقامة العدل بين الناس، وحفظ الأمن والنظام، وصيانة البلاد، ومصالح الأمة وسد ذرائع الفساد فيها.. وهذه الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الناس الدينية والمدنية كما قال الإمام العادل عمر بن عبد العزيز : «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور..» أي وغيره من المفاسد والمصالح، والمضار والمنافع.
لا يقوم أمر أي حكومة مدنية بدون اشتراع، ولا ترتقي أمة في معارج العمران بدون حكومة يكفل نظامَها اشتراعٌ  عادل يناسب حالتها التي وضعها فيها تاريخها الماضي..، ولا يصلح لأمة من الأمم شرع أمة اخرى مخالفة لها في مقوماتها ومشخصاتها وتاريخها، كما أنه لا يصلح للغة من اللغات قواعد لغة أخرى في صيغ كلمها وأحكام تأليفها، إلا إذا أرادت أمة أن تندغم في أمة أخرى وتتحد بها فتكون أمة واحدة كما اتّحدت شعوب كثيرة بالإسلام..
وأما الشعوب التي تقتبس شرائع شعوب أخرى بغير تصرف ولا اجتهاد فيما تحوله إلى ما يلائم عقائدها وآدابها ومصالحها التي كان الشعب بها شعبا مستقلا بنفسه، فإنها لا تلبث أن تزداد فسادا واضطرابا، ويضعف فيها التماسك والاستقلال الشعبي فيكون مانعا من الاستقلال السياسي وما يتبعه.
فشرع الأمة عنوان مجدها وشرفها..، وروح حياتها ونمائها، وأعجب ما منى به بعض الشعوب الإسلامية أن تَركَ شريعةً له؛ ذات أصل ثابت في الحق وقواعد كافلة للعدل والمساواة، واستبدل بها قوانين شعوب أخرى هي دونها، فأصبحوا ولا إمام لهم في حياتهم الاشتراعية من أنفسهم، بل هم يقتدون فيها بأفراد من أعاجم الفرنجة يقلدونهم بما خسروا به أهم مقومات أمتهم، وأعظم مظهر من مظاهر شرفهم، وأشرف أثر من آثار تاريخهم، وهو الشرع الديني، الذي هو أساس الاشتراع البشري الاجتهادي.
لا تتسع هذه الخلاصة التي نكتبها في هذا البحث لبيان أنواع الحكومات الغابرة والحاضرة وشأنها في الاشتراع ومكان المسلمين فيه، وإنما نقول إن صحفنا العربية تصرح في هذا العهد آناً بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون هذا وأكثر من يقرأون كلامهم أن هذا الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا تشريع فيه للبشر، لأن شريعته مستمدة من القرآن (والأحكام المدنية والسياسية فيه قليلة محدودة) ومن السنة، والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة ومناسبة لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا، وأن الإجماع والاجتهاد على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد انقطعا، وأقفلت أبوابهما باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية، وأن هذا هو السبب في تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية، واضطرار الحكومتين المدنيتين الوحيدتين التركية والمصرية إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليداً ثم تشريعاً.
[التشريع بين الاصطلاح الفقهي والاصطلاح العصري ]
ذلك ظن الذين يجهلون أصول الشريعة الإسلامية وأساس الاشتراع فيها، الذين لا يفرقون بين الاصطلاح الفقهي والاصطلاح العصري في التشريع، فيعمى عليهم حقيقة اختلاف الاصطلاح؛ ذلك بأن اسم الدين والشرع قد يستعملان استعمال المترادف، وإن كان بينهما عموم وخصوص، فإنهم كثيرا ما يخصون الشرع بالأحكام القضائية أو العملية دون أصول العقائد والحكم والآداب التي هي قواعد الدين المتعلقة بصلاح المعاش والمعاد، ولذلك جعلوا الفقه قسمين: عبادات ومعاملات، والفقهاء يفرقون في ذلك بين الديانة والقضاء، يقولون يجوز هذا قضاء لا ديانة، وتسمى الأحكام العملية دينا باعتبار أنها يدان بها الله تعالى فتتبع إذعانا لأمره ونهيه.
وبهذا الاعتبار تطلق كلمة الشارع على الله تعالى، وأطلقت على النبي (ﷺ) بأنه مبلغ الشرع ومبيّنه، ومن العلماء من قال إن الله تعالى أذن له أن يشرع، والجمهور على أنه مبلغ ومبين لما نزل عليه من الوحي، وأن الوحي أعم من القرآن.
[التشريع الخاص بالمصالح العامة]
والتحقيق أن هذا كله خاص بأمر الدين، وهو ما شرع ليتقرب به إلى الله تعالى من العبادات، وترك الفواحش والمنكرات، ومراعاة الحق والعدل في المعاملات، تزكية للنفس وإعدادا لها لحياة الآخرة، ومنها ما في المعاملات من معنى الدين كاحترام أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم والنصح لهم وترك الإثم والبغي والعدوان والغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل، وأما ما عدا ذلك من نظام الإدارة والقضاء والسياسة والجباية وتدبير الحرب مما لا دخل للتعبد والزلفى إلى الله في فروعه بعد حسن النية فيه، فقد كان الرسول (ﷺ) في زمنه مشترعا فيه باجتهاده، مأمورا من الله بمشاورة الأمة فيه، ولا سيما أولي الأمر من أفرادها الذين هم محل ثقتها في مصالحها العامة، وممثلو إرادتها من العلماء والزعماء والقواد، وهو كذلك مفوض من بعده إلى هؤلاء أنفسهم، ويخلفه لتمثيل الوحدة من يختارونه إماما لهم وخليفة له، والدليل على هذا:
1 – من الكتاب قوله تعالى:  ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾()، وقوله:  ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾() وقوله: ﴿وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾.()
2 – ومن السنة ما صح عنه من أن أمته «لا تجتمع على ضلالة»، وما كان يجعله (ﷺ) موضع الشورى من أمور الحرب وغيرها من المصالح الدنيوية، وما أذن فيه من الاجتهاد والرأي عند فقْد النص من الكتاب، وعدم السنة المتبعة، والحديث فيه مشهور.
3 – ومن آثار الخلفاء الراشدين المهديين ما كانوا يستشيرون فيه أهل العلم والرأي من أمور الإدارة والقضاء والحرب أيضا، وما وضعوه من الدواوين والخراج وغير ذلك مما لم يرد به نص في الكتاب والسنة.
4 – ومن أصول الفقه حجية إجماع الأمة، واجتهاد الأئمة، فكل هذا مما يسمى في عرف علم الحقوق والقانون تشريعا، وهو ميدان المجتهدين الواسع وجرى عليه العمل في خير القرون.
فثبت بهذا أن للإسلام اشتراعا مأذونا به من الله تعالى، وأنه مفوض إلى الأمة يقره أهل العلم والرأي والزعامة فيها بالشورى بينهم.. وأن السلطة في الحقيقة للأمة، فإذا أمكن استفتاؤها في أمر، وأجمعت عليه فلا مندوحة عنه، وليس للخليفة – دع مَن دُونه من الحكّام – أن ينقض إجماعها، ولا أن يخالفه ولا أن يخالف نوابها وممثليها من أهل الحل والعقد أيضا.
واتفاق هؤلاء إذا كانوا محصورين يسمى إجماعا عند علماء الأصول، بشرط أن يكونوا من أهل العلم الاجتهادي. وأما إذا اختلفوا فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الأصلين الأساسين وهما الكتاب والسنة، والعمل بما يؤيده الدليل منهما أو من أحدهما، لقوله تعالى بعد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾() أي أحسن عاقبة ومآلا مما عداه، ومنه العمل برأي أكثر نواب الأمة في تشريع قوانين أوربة ومقلديها فشرعنا مخالف لها في هذه المسألة، ومن وجوه كونه خيرا من غيره، وأحسن عاقبة أن النزاع بين الأمة يزول بتحكيم الكتاب والسنة فيه، وتطيب نفوس جميع نواب الأمة بما يظهر رجحانه بالدليل، ولا يبقى للأضغان والنزاع بينهم مجال.
[التشريع ضرورة من ضرورات الاجتماع]
الاشتراع – أو التشريع أو الاستنباط – ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري، ومن قواعد الشرع الإسلامي أن الضرورة لها أحكام: منها أنها تبيح ما حرمه الله تعالى بإذنه في قوله بعد بيان محرمات الطعام: ﴿إلا ما اضطررتم إليه﴾() ومنها نفي الحرج والعسر من الدين، وانتفاؤهما من قسم المعاملات أولى من انتفائهما من قسم العبادات التي يعقل أن يكون فيها ضرب من المشقة لتربية النفس وتزكيتها إذ لا تكمل تربية بدون احتمال مشقة وجهد، ويسهل هذا الاحتمال نية القُربة وابتغاء المثوبة فيه، وليس في المعاملات شيء من معنى التدين إلا ما ذكرنا آنفا، والغرض منه حفظ الأنفس والأموال والأعراض أن يعتدى عليها بغير حق، فمن لم يردعه عن ذلك خوف عقوبة الحكام في الدنيا يردعه خوف عذاب الله في الآخرة إن كان مؤمنا به وبما جاء به رسوله (ﷺ).
فتبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل كثيرة، منها قواعد الضرورات، ونفي الحرج ومنع الضرر والضرار، فلو لم ينص في القرآن على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة أولي الأمر بالتبع لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه الأمور إليهم، ويفوض إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي (ﷺ) معاذاً على الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا التي لا نص عليها في كتاب الله ولم تمض فيها سنة من رسوله، لو لم يرد هذا كله وما في معناه لكفت الضرورة أصلا شرعيا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا العصر بالتشريع.
ووراء هذا وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام، وخير القرون، وكذا ما بعدها من القرون الوسطى التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة عن منهج العلم الاستقلالي، فزالا معا لتلازمهما.
الخلافة مناط الوحدة، ومصدر الاشتراع، وسلك النظام، وكفالة تنفيذ الأحكام، وأركانها أهل الحل والعقد رجال الشورى، ورئيسهم الإمام الأعظم، ويشترط فيهم كلهم أن يكونوا أهلا للاشتراع، المعبر عنه في أصولنا بالاجتهاد والاستنباط.
[بوادر ضعف التشريع في الأمة وأسبابه]
وقد كان أول فساد طرأ على نظام الخلافة وصدع في أركانها جعلها وراثية في أهل الغلب والعصبية، وأول تقصير رزئ به المسلمون عدم وضع نظام ينضبط به قيامها بما يجب من أمر الأمة على القواعد التي هدى إليها الكتاب والسنة، وأول خلل نشأ عن هذا وذاك تفلت الخلفاء من سيطرة أهل الحل والعقد الذي يمثلون الأمة، واعتمادهم على أهل عصبية القوة، التي كان من أهم إصلاح الإسلام لأمور البشر إزالتها، فصار صلاح الأمة وفسادها تابعا بذلك لصلاح الخليفة وأعوانه أهل عصبيته، لا لممثلي الأمة ومحل ثقتها من أهل العلم والرأي فيها، والغيرة والحدب عليها.
ثم ترتب على ذلك شعور الخلفاء بالاستغناء عن العلم أو عدم شعورهم بالحاجة إليه، وترك التمتع باللذات اشتغالا به لتحصيل رتبة الاجتهاد فيه، ورأوا أنه يمكنهم الاستعانة بالعلماء الذين يتقلدون مناصب الوزارة والقضاء والإفتاء وغيرها من الأعمال التي يحتاج فيها إلى استنباط الأحكام، فتركوا العلم ثم جهلوا قيمة العلماء فصاروا يقلدون الجاهلين من أمثالهم للأعمال، ووجدوا فيهم من يفتـي بعدم اشتراط العلم الاستقلالي (الاجتهاد) في إمام المسلمين ولا في القاضي لإمكان استعانتهما بالمفتي الذي لا يكون إلا مجتهداً، ثم عمّ الجهل فصاروا يستفتون الجاهلين (أي غير المجتهدين) أمثالهم، ثم أذاع هؤلاء الجاهلون الذين احتكروا مناصب الدولة وأموالها أن الاجتهاد قد أقفل بابه، وتعذر تحصيله، وأوجبوا على أنفسهم وعلى الأمة تقليد أفراد معينين من العلماء والانتساب إليهم، ثم صاروا يقلدون كل من ينتمي إليهم مع الإجماع على امتناع تقليد المقلد، فضاع علم الأحكام، وفُقدت ملكة الاشتراع والاستنباط بالتدريج، والأمة لا تشعر، فلما صار أمر الحكومة في أيدي الجاهلين ضاعت الشريعة والاشتراع، واختل نظام الأمة، وانحل أمرها، وتضعضع ملكها، وقع كل ذلك بترك ما صح فيه من أصول الإسلام وفروعه، والجاهلون يحسبون أنه وقع باتباع تعاليمه!!
[انحلال الدولة بانحلال القضاء]
قال القاضي أبو علي محسن التنوخي في “جامع التواريخ”: «حدثني أبو الحسين بن عباس قال: كان أول ما انحل من سياسة الملك فيما شاهدناه من أيام بني العباس؛ القضاء، فإن ابن الفرات -الوزير المشهور- وضع منه وأدخل فيه قوما بالزمانات لا علم لهم ولا أبوة فيهم، فما مضت إلا سنوات حتى ابتدأت تتضع ويتقلدها كل من ليس لها بأهل، حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة، إلى أن تقلد وزارة المتقي أبو العباس الأصفهاني الكاتب؛ وكان في غاية سقوط المروءة والرقاعة.. إلى أن قال: “وتلا سقوط الوزارة اتضاع الخلافة وبلغ أمرها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس بانحلال القضاء. وكان أول ما وضع ابن الفرات من القضاء تقليده إياه أبا أمية الأخوص الفلاني البصري”.
وذكر أنه إنما قلده لموعدة وعدها إياه، إذ أوى إليه واختفى عنده في أيام محنته. وأقول إن ابن الفرات كان من أقدر الوزراء وأعلمهم بشؤون الملك والسياسة، وكان حسن السيرة، وإنما جرأه على مثل هذا جهل الخليفة وانصرافه إلى اللهو واللعب، ثم التلذذ والإسراف في اللذات، فإنه ولي وله ثلاث عشرة سنة، قال الحافظ الذهبي: “اختل أمر النظام كثيراً في أيام المقتدر بصغره”، يعني أن الخلل قد طرأ قبله من أيام المتوكل بن المعتصم، إذ كان قد اشتد عبث التّرك الذين استكثر منهم المعتصم، وجعلهم عدة الخلافة وسياجها، فكانوا هم الذين دكوا بنيانها، وهدموا أركانها.
فعلم بهذا القول الوجيز أن التساهل في بعض شروط الخلافة التي عليها مدارها وهي العلم الاستقلالي، والعدالة، والشورى بنصب الإمام وفي تصرفه، قد كان معلولا للتغلب، وعلة لفقد الاشتراع – الاستنباط – الذي لا يقوم أمر الدولة ولا يطّرد ارتقاؤها ولا حفظها بدونه، فكان هذا علة لضعف الدولة، وكان ضعف الدولة علة لضعف الأمة، إذ صارت تابعة للدولة لا متبوعة وكان فساد أمرهما معا علة لتغيرات كثيرة في الأحوال الاجتماعية وشئون المعيشة تقتضي أحكاماً شرعية أخرى غير التي كان الأمر عليها قبلها، أو تعود الإمامة الحق إلى أصلها.
[ما بين الاشتراع وحال الأمة من تباين وتوافق]
وضع الإسلام قواعد عامة لأنواع المعاملات الدنيوية راعى فيها هداية الدين، وتقييد حكومته بالتزام الفضائل واجتناب الرذائل، فلم يجعل ما فوض إلى أولى الأمر فيها من الاستنباط – الاشتراع – مطلقاً من كل قيد لئلا يجنوا على آداب الأمة خطأ في الاجتهاد، أو اتباعاً للهوى إذا غلب عليهم الفساد، فحرم الربا الذي كان فاشياً في الجاهلية، لما فيه من القسوة والبخل والطمع الذي يحمل على استغلال ضرورة المحتاج، كما حرم الغش والخيانة، وجعل الأمة متكافلة بما أوجب من النفقة على القريب، والزكاة لإزالة ضرورة الفقير والمسكين، ولغير ذلك من المصالح العامة، وجعل لكل امرأة كافلا يقوم بأمرها من زوج أو قريب، وإلا فالإمام الأعظم أو نائبه، لئلا تضطر إلى ما يشق عليها القيام به من الكسب مع قيامها بوظائفها الخاصة بها من الحمل والوضع والرضاعة وتربية الأطفال، فيكون اضطرارها إلى الحياة الاستقلالية سبباً لقلة النسل ولغير ذلك من المفاسد.
[تأثير ضعف الدين في مسائل من حياة الأمة]
وقد كان تأثير ضعف الدين في الشعوب الإسلامية وحكوماتها أن ترك كل منهما مراعاة ما يجب عليه من تلك القواعد والتزام أحكامها، فترتب على ذلك احتياج كل منهما إلى ارتكاب بعض المحظورات كالربا إما اضطراراً وإما اختياراً ترجح فيه المصلحة على المفسدة رجحاناً ظاهراً.
[1 ــ المسألة المالية]
هذا الاحتياج الذي يدفع صاحبه إلى ارتكاب المحرم إذا لم يجد له مخرجاً لا يعرض في الإقراض كما يعرض في الاقتراض، فكان من أثره أن المسلمين لم يجدوا من يُقرضهم إلا من غيرهم، إما من أهل ذمتهم وإما من الأجانب عنهم؛ كالمعاهَدين الذين يكونون في بعض الأحيان حربيين، وهذه مفسدة أخرى هي ذهاب ثروة المسلمين إلى غيرهم، وناهيك بذهابها إلى أعدائهم، وحاجتهم إليهم في أهم مصالحهم.
ثم إن توسع الفقهاء في مسائل الربا وإدخالهم فيها ما لم يكن معروفاً في عصر الوحي، وتضييق أكثرهم في أحكام العقود المالية، واستحداث الأمم التي يتعاملون معها لأنواع كثيرة من العقود والمعاملات، وترقي العلوم الاقتصادية والأعمال المالية إلى درجة قضت بتفوق متبعي قواعدها ونظمها على غيرهم في الثروة والقوة والسيادة.
كل أولئك كان دافعا في تدهور المسلمين ورافعاً لغيرهم عليهم حتى في ديارهم، بل هو أظهر العلل لسلب جل ملكهم منهم، والسيطرة عليهم فيما بقى لهم شيء من السيادة فيه، ولاعتقاد أكثر الذين يعرفون أحوال هذه الأمم العزيزة في علومها وأعمالها ويجهلون أصول الإسلام، أن الإسلام نفسه علة ضعف المسلمين بما في شرعه من الجمود على أحكام عتيقة مالية واجتماعية توجب فقر ملتزمها وكل ما يجره الفقر في الأمم من الذل والضعف وفقد الملك.
بدأت بضرب المسألة المالية مثلا لما طرأ على كثير من البلاد الإسلامية من تأثير ترك العمل بأحكام الشريعة الغراء، إذ كان المال قوام حياة الأمم والدول في كل زمان، وصار له من الشأن في هذا الزمان ما لم يكن له من قبل ولاسيما عصر النبي (ﷺ) الذي كانت فيه الأمة قليلة الحاجات، وغير مرتبطة في حياتها بمعاملات الأمم الأخرى، ولكن عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم قد أنزل في ذلك العصر قوله ﴿ولا تُؤتوا السفهاء أموالَكم التي جعلَ الله لكم قياماً﴾() فأرشدنا به إلى مكانة المال من حياة الأمم، ونظام أمرها، وكونها لا تقوم إلا به، وحثنا على المحافظة عليه، وعدم تمكين السفهاء من التصرف فيما هو ملك لهم منه، كما أمرنا في آيات أخرى بالاقتصاد، ونهانا عن الإسراف والتبذير، وذمه كما ذم القمار بما أفاد تحريمهما تحريم القمار بأنواعه في الدين، فهل يمكن أن يقال إن مقتضى شرع هذا الدين أن يكون أهله فقراء؟ وأن يكون ما به قيام معاشهم وعزة أمتهم ودولتهم في أيدي الطامعين فيهم من الأمم الأخرى؟ وإذا كان هذا مخالفاً لهدى هذا الدين، فما بال المشتغلين بعلم الشرع فيه أجهل أهل بلادهم بالفنون المالية، وبما يرتبط بها من الأمور السياسية، ولا يجعلون هذه الفنون ما يتدارسونه في مدارسهم الدينية؟ السبب لهذا أنه ليس لهم حكومة إسلامية تطلبه منهم لتكون أحكامها وميزانيتها موافقة لحكم الشرع.
[المسألة الاجتماعية]
وأضرب لهم مثلا آخر مَيْل بعض المسلمين في مصر والترك إلى التعاليم الاشتراكية بل قيامهم بتأليف الأحزاب لها والدعوة إليها، سواء كان ذلك افتتاناً بتقليد الفرنجة أو شعوراً بما يشعر به الاشتراكيون في أوربة من تأثير أثرة أرباب الأموال على العمال وغيرهم من أهل الإملاق.
لو كانت الشريعة الإسلامية نافذة الأحكام وهي الهداية التي يتبعها الخواص والعوام، لما شعر بالحاجة إلى التعاليم الاشتراكية أحد من أهلها، بل لرأى الاشتراكيون من الأمم الأخرى أنه يجب حل المسألة الاجتماعية على ضوئها، ولكان ذلك سبباً لاهتداء كثير منهم إلى الإسلام ودعوتهم إليه.
[المسألة النسائية]
ومالي لا أذكر من المثل في هذا المقام دعوة كثير من النساء والرجال في مثل هذه البلاد إلى تربية المرأة تربية استقلالية تساوي بها الرجل في كل شيء حتى لا يكون قيما عليها في شيء. سبق الإسلام جميع الملل إلى المساواة بين الرجال والنساء في الشؤون الزوجية إلا هذه الدرجة بقوله تعالى: ﴿ولهن مِثلُ الذي عليهم بالمعروف وللرجال عليهن دَرجة﴾() وهي الرياسة التي بينها في قوله: ﴿الرجال قَوَّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾() فجعل سببها تفضيلهم عليهن بالقوة على الكسب والحماية والدفاع، وما فرض لهن عليهم من المهر والنفقة. أفرأيت لو أن أفراد المسلمين وحكامهم أقاموا هذه الشريعة فساوى الرجال النساء بأنفهسم في كل شيء ماعدا رياسة المنزل وكذا الرياسة العامة كالإمامة العظمى وإمامة الصلاة، وكرموهن كما أوصاهم الرسول (ﷺ) أكانت النساء تشعر بالحاجة إلى إعداد أنفسهن للكسب وغيره من أعمال الرجال الشاقة؟ أم يفضلن أن يعشن في هناء وراحة يتمتعن من كسب الرجال في ظل كفالتهم وكفالة الشريعة التي تنفذها حكومتهم بما لا يتمتع به الرجال أنفسهم؟ فإن المرأة تأكل من كسب الرجل ما يأكل وهي المدبرة لأمر مأكله، ولكنها تفضله بما تلبس من الحلل وما تتزين به من الحلي..
وجملة القول في هذا المقام أن ترك العمل والحكم بالشريعة في بعض المسائل يفضي إلى ترك بعض آخر منها، أو يفضي إلى جعله متعذراً إذ يصير مفسدة بعد أن كان في الأصل عين مصلحة، ثم يؤثر ذلك في أفكار الأمة وأخلاقها وعاداتها، حتى تنقلب بتغيير عظيم في مقوماتها ومشخصاتها، الشر والخير أو الباطل والحق كل منهما يقوي جنسه ويؤيده، وقد فقدت الأمة الإسلامية ما يصونها من ذلك التدهور والهوى، وينصب لها معارج الرقي، ويستنبط لها من الأحكام في كل زمن ما يليق بحالها، مبنياً على قواعد الشريعة الهادية إلى كمالها.
ذلك بأن الاستنباط (الاشتراع) الذي أُذن به لأولي الأمر من المسلمين قد فُقد بفقْد جماعتهم، وزوال الإمامة الحق الـمُنفّذة لاستنباطهم، ومن بقي يشتغل بعلم الأحكام الشرعية الإسلامية فقصارى أمر جمهورهم مدارسة الكتب التي ألفت للأزمنة الماضية التي كانت دار الإسلام فيها ذات استقلال ومنعة، وبيت مال غنى كاف لكفالة المعوزين والغارمين وغير ذلك من النفقات الشرعية، فهؤلاء لا يستطيعون أن يفتوا بما يخرج عن قواعد مصنفي تلك الكتب لتلك الأزمنة ولحكوماتها، التي كانت تلتزم العمل بها، بل قرروا فيما وضعوه من الشروط للإفتاء أن يلتزموا فروع كتب معينة لا يتعدونها، لأن تعديها ضرب من الاجتهاد ولو في المذهب، وقد قرروا منعه كالاجتهاد المطلق. ومنتهى ما يرجي من توسعتهم على الحكومة التي تريد العمل بأحكام الشريعة أن يستخرجوا لها بعض الفروع الموافقة للمصلحة العامة في هذا الزمان من كتب المذاهب المعتمدة، فإن الذين حرموا عليهم الاجتهاد والاستنباط من أصول الشريعة والاقتباس من مصباحها مباشرة قد أوجبوا عليهم تقليد مذاهب معينة؛ كما قال صاحب جوهرة التوحيد: “فواجب تقليد حبر منهم”. يعني الأئمة المشهورين في الفقة، فاعتمدوا هذا التحريم والتحليل ممن ليس بأهله، وإنما أباحوا تقليد غير الأربعة من المجتهدين للعالم بذلك في خاصة نفسه دون الإفتاء به لغيره، كما قال بعضهم: «وجائز تقليد غير الأربعة في غير إفتاء وفي هذا سعة».
[ضرورة التوسع في المذاهب الفقهية]
مثال هذه التوسعة في أصول المعاملات؛ أن القاعدة عند أكثر الفقهاء المشهورين أن الأصل في العقود البطلان فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على صحته، وذهب آخرون إلى أن الأصل فيها الصحة إلا ما دل الكتاب أو السنة على بطلانه، لقوله تعالى في أول سورة المائدة وهي آخر ما نزل من السور ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾()، والعقود ما يتعاقد الناس عليه، فهذا المذهب أقوى دليلا، وأقوم قيلا، وأهدى سبيلا، بما فيه من التوسعة على الناس وهو الذي رجحه المحققون من الحنابلة.
ألم تر أنه لما شاءت الحكومتان العثمانية والمصرية أن تخرجا عن مذهب الحنفية في بعض أحكام النكاح والطلاق وفسخ النكاح في بعض الأحوال، وتأخذا فيها بما تقرر في المذاهب الأخرى لباهما شيوخ الفقه ووضعوا لهما قوانين في هذه الأبواب مقتبساً بعضها من المذاهب الثلاثة الأخرى ولعلهما لو شاءتا الأخذ في بعض الأحكام بأقوال غير علماء المذاهب الأربعة من الصحابة والتابعين وأئمة العترة لما أبوا مواتاتهما، فإن الجمود على مذهب معين لم يكن إلا تحقيقاً لرغبة الأمراء والسلاطين، والاسترزاق من الأوقاف التي زمامها بأيديهم، فالذنب فيه مشترك بينهم وبين الفقهاء الذين رأوا فيه منفعة لهم.
وأما الذي لا يجرؤ عليه هؤلاء المتفقهة فهو الاستنباط من الكتاب والسنة، وقواعدهما العامة ككون الضرورات تبيح المحظورات، وكون ما حرم لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، وإن نص أئمتهم على هذه القواعد لأن هذا عندهم من الاجتهاد الممنوع!!
[دعوى انقطاع الاجتهاد وسببها]
والحق أن العلم الاستقلالي (الاجتهاد) لم ينقطع ولن ينقطع من هذه الأمة المحمدية، وإلا لبطلت حُجة الله على الخلق بفَقْد حمَلتها والدعاةِ إليها والذَّابّـيـن عنها، ولما صح من خبر المعصوم من عدم اجتماعها على ضلالة، ومن أنه لا يزال فيها طائفة ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله، ولكن هؤلاء العلماء المستقلين كانوا ينتسبون في كل عصر من أعصار غلبة الجهل إلى المذاهب التي نشأوا عليها قبل الاجتهاد لسببين:
أحدهما: أنهم لم يكونوا يجدون رزقاً يتمكنون به من الانقطاع للعلم إلا من الأوقاف المحبوسة على المشتغلين بهذه المذاهب فيضطرون إلى تدريس كتبها والتصنيف فيها ليحل لهم الأكل مما وقف على أهلها.
وثانيهما: أن الملوك والحكام وأعوانهم من المقلدين كانوا وما زالوا حرباً للعلم الاجتهادي الذي يفتضحون به، ويظهر جهلهم وضلالهم بظهوره، فإذا وجدت حكومة إسلامية جريئة تحيي العلم الاجتهادي، فإنها تجد منذ الآن سدادا من عوز لما تحتاج إليه من الأحكام.. على أن مقلدة المذاهب لا تكاد تطلب الحكومة منهم شيئاً إلا ونجد فيهم من يفتيها ولو بالتأويل والخروج عن صحيح المذهب.
[خاتمة]
إذاً لا يمكن خروج الأمة الإسلامية من جُحر الضب الذي دخلت فيه إلا بالاجتهاد ووجود المجتهدين، وما يلزمه من وجود الإجماع الأصولي الذي هو إحدى الحُجج عند الجمهور، وإن شئت قلت هو ركن الاشتراع الركين الذي لا يمكن أن ترتقي أمة ولا ينتظم أمر حكومة بدونه كما قلنا في صدر هذه المسألة. بل وجود الإمامة الحق يتوقف على هذا الاجتهاد كما علم مما تقدم، وإن اجتماع المجتهدين في هذا العصر مُمهَّد السَّبيل، موطّأ الأكناف لإمكان العلم بهم ودعوتهم إلى الاجتماع في مكان واحد أو عرض المسائل عليهم أينما وجدوا، وهذا لم يكن ممكناً في عصر أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ومن بعدهم، ولذلك قال بعض المحققين: «إن العلم بالإجماع إن وجد غير ممكن».