الرئيسية / التأويل المصلحي تقييدا وتأصيلا.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : التأويل المصلحي تقييدا وتأصيلا.

الكاتب(ة) : د. زيد بوشعــــــــــــــــــــــــراء

التأويل المصلحي تقييدا وتأصيلا

زيد بوشعراء
أستاذ  التعليم  العالي  بجامعة  ابن  طفيل  –  القنيطرة

  التأويل المصلحي عملية اجتهادية تكشف، بواسطة المصلحة الشرعية، أن المراد بخطاب شرعي ما معنى يحتمله لا المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن.
والمصلحة الشرعية تعتبر، بتعبير أصولي، دليلا من أدلة التأويل أو قرينة من القرائن المرجحة للاحتمال الذي في اللفظ الظاهر، وهي قد تكون منصوصا عليها أو مستنبطة، وقد تكون مقصد النص المؤول أو مقصد نص آخر أو مقصداً خاصا بباب من أبواب الشريعة أو مقصدا كليا، وهي بكل أنواعها هذه قد يصرف بها اللفظ عن عمومه الظاهر إلى الخصوص المحتمل فيعد أثرها هذا تخصيصا مصلحيا، وهو ما عبر عنه الغزالي بـ “استعمال مصلحة في تخصيص عموم”، وعبر عنه القرطبي بـ”تخصيص عموم بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار”، وعبر عنه ابن دقيق العيد بـ “تخصيص العموم بالنظر إلى المعنى”(). وهذا هو أكثر أنواع التأويل المصلحي وقوعاً. وقد يصرف بالمصلحة لفظ من إطلاقه الظاهر إلى ما يحتمله من التقييد فيكون أثرها هذا تقييداً مصلحيا .
وهذا النوع من الاجتهاد أصيل بلا ريب، وشواهد مشروعيته صحيحة وكافية، واعتماده من قبل الفقهاء مطرد ومنضبط، غير أنه قد أوشك اليوم أن يضيع بين جسارة المتساهلين وخوف المتشددين، ومن هنا جاءت الحاجة إلى تأصيله وضبطه، وقد رأيت أن أعالج هذا الموضوع من حيث شواهده في الشرع وتطبيقاته عند الفقهاء وشروطه لدى الأصوليين.

شواهد  التأويل  المصلحي :

1 ـ الأصل أن يؤخذ بعموم اللفظ العام حتى يرد الدليل على تخصيصه، وإن ثمة نصوصا قرآنية عامة ثبت أن النبي  خصصها بما ظهر له من مقاصدها، فكان ذلك منه سنة منهجية مسنونة للمجتهدين من بعده.
ومن شواهد ذلك أن الله ، بعد أن حرم من النساء ما حرم، قال: وأحل لكم ما وراء ذلكم() فقوله ما وراء ذلكم عموم لغوي ناتج عن حرف (ما) الذي هو أحد الموصولات المفيدة للعموم، فالآية إذن تقتضي بظاهرها حلية الزواج من كل ما سوى المحرمات من النساء المنصوص عليهن،ولكن الرسول أخرج من عموم هذا الزواج الحلال بعضه اعتمادا على حكمة شرعية لاحظها ونص عليها()، فقال فيما يرويه عنه أبو هريرة: “لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها”()، وصرح في رواية أخرى بالعلة فقال: “إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن”()، وفي رواية أيضا: “إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم”(). فهذه هي حكمة هذا المنع الذي خصص به الرسول  الآية فكان تخصيصا مصلحيا(). ومن الشواهد أيضا أن قوله : وأحل الله البيع() يفيد بظاهره العموم أي حلية كل بيع، وسبب ذلك “ال” المحلى بها لفظ “البيع”، فهي مفيدة للاستغراق، غير أن الرسول  نهى عن بيوع كثيرة لما فيها من المفاسد، فأخرجها بذلك من عموم الإباحة القرآنية، فدرء مفاسد تلك البيوع هو إذن الذي كان وراء نهيه  عنها، ومن ثم وراء التخصيص.
ومن البيوع التي نهى عنها النبي : بيع ما هو رجس وضرر، وفيه قال الرسول : “إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام”()، وشرب الخمر مثلا معلوم المفاسد، بل هو مفتاح كل شر()، كما نص على ذلك الرسول .
ومنها بيع ما يتضمن الغرر، وفيه جاء عن الرسول  أنه نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر()، وأغلب تعريفات الفقهاء للضرر تدور حول معنى واحد هو كون المعقود عليه لا يعلم من الطرفين تحقق المقصود من العقد فيه إما للجهالة بذاته أو صفته أو أجله إن كان مؤجلا أو الشك في إمكان حصوله نتيجة لعدم القدرة على تسليمه(). ومن بيع الغرر بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فعن ابن عمر قال: “نهى رسول الله  عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع”. وصرح حديث آخر بأن العلة هي خوف التلف قبل القبض فقال : “أرأيت إذا منع الله الثمر بم تستحل مال أخيك”().
ومنها البيع المتضمن للغش، وجاء فيه عن الرسول  أنه قال: “لا تصروا الإبل والغنم”(). والمراد بالتصرية في الحديث أن يترك البائع حلب الناقة أو غيرها عمدا مدة قبل بيعها ليوهم المشتري كثرة اللبن.()
ومنها البيع المتعلق به حق للغير، وقد ورد فيه عن النبي  قوله : “لا يبع الرجل على بيع أخيه()ولا يسم على سوم أخيه”(). والبيع على البيع معناه أن يعمد بائع ثان إلى عرض مثل سلعة البائع الأول بثمن أنقص على المشتري، وذلك قبل لزوم العقد بين المشتري والبائع الأول.
وأما السوم على السوم فهو الزيادة في الثمن من آخر بعد تراضي المتبايعين وركون كل منهما للآخر(). ومفاسد هذا البيع وهذا السوم هي حصول العداوة، وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى أن ينص عليها الرسول . وبالجملة فالإباحة القرآنية للبيع خصص عمومها بالأحاديث التي نهت عن البيوع ذات المفاسد، وهو عين ما نقصده بالتخصيص المصلحي.
2 ـ الأصل أنه إذا ورد في الشرع خطاب مطلق، وهو الخالي من أي قيد زماني أو مكاني أو حالي أو وصفي أو شرطي أو غير ذلك من القيود التي تقلل من شيوعه في جنسه، فإنه يجب أن يعمل به على إطلاقه حتى يرد الدليل على تقييده. وقد جرى منهج الشارع على اعتبار المصلحة الشرعية دليلا يقتضي تقييد المطلق مثلما يقتضي تخصيص العموم(). ومن الشواهد الشرعية لهذا التقييد المصلحي أن الرسول  قيد بالمصلحــة كلـمـة وصيـة الـتي وردت في قولــه :من بعد وصية يوصي بها أو دين()، فكلمة “وصية” مطلقة غير مقيدة بمقدار محدد، ولكن النبي قيدها بالثلث، وبين أنه راعى في تقييده مصلحة الورثة، وهو عين ما نحن بصدده. قال سعد بن أبي وقاص: “عادني رسول الله  في حجة الوداع، من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت يا رسول الله: بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال لا، قال: قلت فأتصدق بنصفه؟ قال: لا، الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس”().
ومن شواهده أيضا أن لفظ البيع الوارد في قوله : وأحل الله البيع () لفظ مطلق فظاهر الآية أن البيع حلال في أي حال وقع()، ولكن وردت نصوص أخرى تبين أنه مقيد بالأحوال التي لا يكون فيها مفوتا لواجب أو مؤديا إلى حرام. ومن النصوص المشيرة إلى هذا التقييد المصلحي قوله  يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرلكم إن كنتم تعلمون ()، فالبيع وقت النداء للجمعة ليس بمباح لأنه يفضي إلى فوات مصلحة دينية هي خير من ربح ذلك البيع.
ومنها أيضا قوله : “من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة”(). فهذا البيع ليس بحلال، لأنه إعانة على مفسدة الخمر.
تطبيقات التأويل المصلحي :
من خصائص التأويل المصلحي أن الفقهاء لم يختلفوا فيه من حيث المبدأ، وكيف يختلفون فيه وقد علم كل واحد منهم أن الرسول ، وهو قدوتهم في الاجتهاد، هو الذي سن للمجتهدين هذه السنة المنهجية، وأما من حيث العمل فقد كانوا يتفقون في تأويل الأحاديث بالحكمة التي نص عليها الرسول . وكانوا يختلفون إذا كانت المصلحة غير منصوص عليها، فكان اختلافهم أحيانا يرجع إلى اختلاف التعليل بحيث يستنبط بعضهم عللا تقتضي عنده التأويل بها ويستنبط بعضهم الآخر عللا تقتضي عنده ترك تأويلها، وكان اختلافهم يعود أحيانا أخرى إلى قرائن ظهرت لبعضهم فأوجبت عندهم ترجيح ظواهر النصوص وترك تأويلها، ولهذا آل اختلافهم عمليا إلى مجرد تفاوت في مقدار الأخذ بالتأويل المصلحي إكثارا وتوسطا وإقلالا.
1 ـ وهكذا فبسنة التخصيص المصلحي استن فقهاء السلف فعمدوا إلى بعض السنن فخصصوها في ضوء ما لاح من مقاصدها، فقول النبي : “ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة”() يفيد بظاهره إعفاء عموم الخيل من الزكاة، ولكن روي عن ابن عباس تخصيص الخيل بما يغزى عليه في سبيل الله، فأما غيرها ففيها الزكاة(). ولعل الحكمة التي راعها في هذا التخصيص ما صرح به من بعده من أن خيل الجهاد “مشغولة بحاجة صاحبها، ومَال الزكاة هو المال النامي الفاضل عن الحاجة”()، فتكون مقيسة على البقر العوامل التي روي فيها عن الرسول  أنه قال: “ليس على العوامل شيء(). وبهذا التعليل تكون الحكمة في التخصيص هي الحكمة في اشتراط النماء في أموال الزكاة وهي إغناء الفقير من غير إفقار الغني()، أي ترك الإضرار بأصحاب الأموال.
ولعل ابن عباس راعى حكمة أخرى في قوله هذا، وهي ما عبر عنه بعض الفقهاء من أن الخيل إنما “خلقت للكر والفر والطلب والضرب وإقامة الدين وجهاد أعدائه، وللشارع قصد أكيد في اقتنائها وحفظها، وبهذا عفا عن أخذ الزكاة منها، ليكون ذلك أرغب للنفوس فيما يحبه الله ورسوله من اقتنائها وربــاطهـــا، وقـد قـــال :وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ()”.()
وروي عنه أيضا تخصيص عموم النساء المطلقات المدخول بهن الوارد في قوله : “يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة () فقد رأى  أن الزوجة المولى منها خارجة من هذا العموم بدليل أن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة”().
وروي أيضا عن الصحابي الجليل معمر بن عبد الله بن نضلة وعن التابعي سعيد بن المسيب أنهما كانا يحتكران الزيت ويحملان قوله : “لا يحتكر إلا خاطئ” على معنى خاص هو احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء()، لأن الاحتكار الذي لا يؤدي إلى الإضرار بالناس ليس عندهما داخلا في النهي النبوي، بناء على قاعدة فهموها من تصرفات الشارع في باب المعاملات، وهي أن التصرف الذي لا ضرر فيه حلال.
وعلى نهج التخصيص المصلحي جرى العمل عند الفقهاء من بعدهم، ومما عرف عن مالك في هذا تأويله لقوله  “البينة على المدعي واليمين على من أنكر”()، وذلك بتخصيص عموم قوله “من أنكر” بالمدعى عليه الذي كان بينه وبين المدعي خلطة، قال ابن رشد: “قال مالك: لا تجب اليمين إلا بالمخالطة، وقال بها السبعة من فقهاء المدينة، وعمدة من قال بها النظر إلى المصلحة لكيلا يتطرق الناس بالدعاوى إلى تعنيت بعضهم بعضا وإذاية بعضهم بعضا”().
ومن ذلك أنه يرى أن الذين لا يجوز لهم تلقي الركبان ليسوا كل المشترين، وإنما هم أهل الأسواق خاصة، وهذا تخصيص لقوله : “لا تلقوا الركبان”. ومنها تخصيصه حديث تغريب البكر الزاني بالذكر دون الأنثى، فقد قال النبي: “البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة”(). وفي رواية أخرى قال زيد بن خالد الجهني: “سمعت النبي  يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام”(). وهذا يفيد ظاهره شمول العقوبتين لكل بكر زان، غير أن مالكا قال: ينفى الرجل ولا تنفى المرأة، وقال ابن رشد بعد أن عزا هذا القول إلى مالك والأوزاعي: “من خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس، لأنه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنى، وهذا من القياس المرسل، أعني المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك”(). وعلل القرطبي هذا التخصيص بقوله: “المرأة إذا غربت ربما يكون سببا لوقوعها فيما أخرجت بسببه، وهو الفاحشة، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها، فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار، وهو مختلف فيه عند الأصوليين والنظار”().
وقول القرطبي إن التخصيص بالمصلحة “مختلف فيه عند الأصوليين والنظار” فيه إشارة إلى أن الشافعي لا يراه وهو ما نص عليه القاضي ابن العربي صراحة بقوله: “ولا يرى الشافعي لعلة الشرع -إذا ثبتت- تخصيصا”(). لكن نسبة هذا إلى الشافعي لا يسلم بها الشافعية أنفسهم، فالغزالي يقرر أن “استعمال مصلحة في تخصيص عموم لا ينكره أحد”، والإسنوى يذكر أن “المشهور من قول الأصوليين، ومن قول الشافعي أيضا، أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصه ثم ذكر من فروع ذلك” تخصيص الحديث الصحيح وهو “من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم” بحالة إفراده وعدم اعتياده، فإن ضم إليه يوما قبله، أو اعتاد صوم يوم الاثنين مثلا فوافق يوم الشك يوما قبله، لم يحرم، لأن الحكمة فيه إيهام أنه من رمضان، وذلك يزول بما ذكرناه” (). وقد ذكر ابن رشد تخصيص الشافعي ومالك لعموم حديث: “فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر”(). فقوله  “فيما سقت” يدل بظاهره على وجوب العشر في كل ما سقي بماء السماء، ولكن مالكا والشافعي قصرا الوجوب على المقتات من الحاصلات الزراعية، لأن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالبا إلا بما هو قوت(). هذا ما علل به ابن رشد قولهما، واستدل صاحب المهذب وشارحه لمذهب الشافعي بأمرين: أولها حديث معاذ بن جبل وغيره بما يفيد إعفاء غير المقتات، والثاني أن الأقوات تعظم منفعتها كالأنعام في الماشية().
هذا ونجد الشافعي لا يرى تخصيص بعض الأحاديث، والسبب في ذلك هو أن علتها تقتضي عنده العموم، فقوله  “لا تلقوا الركبان” خصصه مالك بالمشترين من أهل الأسواق بناء على ما لاح له من الحكمة، وهي أن لا ينفرد المتلقي برخص السلع دون أهل الأسواق، ولكن الشافعي لم ير تخصيصه بناء على تعليله للنهي بأنه “لأجل البائع لئلا يغبنه المتلقي، لأن البائع يجهـل سعر البلد”().
فانظر كيف رجع الاختلاف في تأويل الحديث إلى الاختلاف في تعليله، فكان تعليل بعضهم مفضيا إلى التخصيص، بينما كان تعليل البعض الآخر مفضيا إلى إبقاء العام على عمومه.
يعضد هذا ما لفت الغزالي الانتباه إليه من أن رفض الإمام الشافعي لبعض التأويلات ذات السند المصلحي لا ينبغي عده رفضا للتأويل المصلحي ذاته، بل هو راجع إلى خلل في التعليل لا تقوى معه المصلحة المستنبطة على تخصيص العموم، قال الغزالي مبينا سبب رفض الشافعي بعض تأويلات الحنفية: “فليس يبطل الشافعي هذا لانتفاء الاحتمال، لكن لقصور الدليل الذي يعضده ولإمكان كون التعبد مقصودا مع سد الخلة”، وذكر قرائن، ثم قال: “فهذه قرائن تدل على التعبد، والباب باب التعبد، والاحتياط فيه أولى”.()
ومن التخصيص المصلحي عند أبي حنيفة تخصيص قول النبي لحكيم بن حزام: “إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه”() بالمنقول دون العقار، لأن المنقول يتصور تلفه، فيكون عرضة للفسخ، فيؤدي إلى الضرر، بخلاف العقار، فلا يتصور تلفه قبل القبض في الغالب، فانتفت العلة المانعة من بيعه(). فهذا تخصيص لتخصيص الرسول ، فلئن كان النبي  بهذا الحديث ومقاصده قد خصص الإباحة في قوله  وأحل الله البيع فإن أبا حنيفة خصص هذا النهي النبوي بنفس مقصده.
ومن ذلك تخصيص طائفة من العلماء قول النبي  : “لا يرث المسلم الكافر” وحملهم إياه على الحربي خاصة دون الذمي والمرتد والمنافق.
قال ابن القيم: “فإن لفظ الكافر وإن كان قد يعم كل كافر فقد يأتي لفظـه والمراد به بعض أنواع الكفار كقوله   إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا()، فهنا لم يدخل المنافقون في لفظ الكافرين، وكذلك المرتد، فالفقهاء لا يدخلونه في لفظ الكافر عند الإطلاق، ولهذا يقولون إذا أسلم الكافر لم يقض ما فاته من الصلاة، وإذا أسلم المرتد ففيه قولان.
وقد حمل طائفة من العلماء قول النبي : “لا يقتل مسلم بكافر” على الحربي دون الذمي، ولا ريب أن حمل قوله “لا يرت المسلم الكافر” على الحربي أولى وأقرب محملا، فإن في توريث المسلمين منهم ترغيبا في الإسلام لمن أراد الدخول فيه من أهل الذمة، فإن كثيرا منهم يمنعهم من الدخول في الإسلام خوف أن يموت أقاربهم ولهم أموال فلا يرثون منها شيئا، وقد سمعنا ذلك منهم من غير واحد شفاها؛ فإذا علم أن إسلامه لا يسقط ميراثه ضعف المانع من الإسلام وصارت رغبته فيه قوية، وهذا وحده كاف في التخصيص. وهم يخصون العموم بما هو دون ذلك بكثير، فإن هذه مصلحة ظاهرة يشهد لها الشرع بالاعتبار في كثير من تصرفاته، وقد تكون مصلحتها أعظم من مصلحة نكاح نسائهم، وليس هذا مما يخالف الأصول، فإن أهل الذمة إنما ينصرهم ويقاتل عنهم المسلمون ويفتدون أسراهم، والميراث يستحق بالنصرة، فيرثهم المسلمون وهم لا ينصرون المسلمين فلا يرثونهم، فإن أصل الميراث ليس بموالاة القلوب؛ ولو كان هذا معتبرا فيه لكان المنافقون لا يرثون ولا يورثون، وقد مضت السنة بأنهم يرثون ويورثون وأما المرتد فيرثه المسلمون، وأما هو فإن مات له ميت مسلم في زمن الردة ومات مرتدا لم يرثه، لأنه لم يكن ناصرا له، وإن عاد إلى الإسلام قبل قسمة الميراث فهذا فيه نزاع بين الناس، وظاهر مذهب أحمد أن الكافر الأصلي والمرتد إذا أسلما قبل قسمة الميراث ورثا، كما هو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وهو يؤيد هذا الأصل فإن هذا فيه ترغيب في الإسلام”.()
ومنه تخصيص أبي الوليد الباجي لقوله  “لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم”(). فظاهر الحديث شمول النهي لكل النساء، لكن الباجي رأى أن النهي خاص بالمرأة الشابة، وأما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر حيث شاءت بلا زوج ولا محرم، قال ابن دقيق العيد: “الذي قاله الباجي تخصيص العموم بالنظر إلى المعنى”() ويقصد بالمعنى الحكمة، وهي هنا الخوف على المرأة وصون عرضها وبضعها.
2 ـ ومما سار فيه الفقهاء على السنة النبوية المنهجية في التقييد أن تحديده  للوصية في الثلث بقوله لسعد بن أبي وقاص: “الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس” هذا الحديث مصرح بأن الوقوف عند حد الثلث كان لمصلحة الورثة ولمنع تضررهم بالزيادة عليه، وبناء على هذا المقصد رأى الفقهاء تقييد هذا الحديث بما إذا لم يجز الورثة الزيادة على الثلث، فأما إذا رأوا أنها لا تضرهم فأجازوها فإنها تجوز. قال القرطبي: “منع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة، وأجاز ذلك الكافة إذا أجازها الورثة، وهو الصحيح، لأن المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم، وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله  “لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة”().
فهذا تقييد للتقييد النبوي بمعنى أنه إذا كان الرسول  قد قيد آية الوصية بما نص عليه من المقصد الشرعي فإن الفقهاء قيدوا تقييده (أو حديثه) بالمقصد نفسه.
ومن ذلك أيضا تقييدهم لمنع الرسول  من بيع الوقف، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي  يستأمره فيها، فقال يا رسول الله: إني أصبت مالا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس عندي منه، فما تأمرني فيه؟ قال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أن لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث…(). وقد عد بعض الفقهاء هذا النهي عن بيع الوقف مقيدا بشرط أن تستمر منافع الوقف. ومستندهم في هذا التقييد الاجتهادي هو المصلحة الشرعية المرجوة من الوقف، فقد ذهب الحنابلة وبعض الحنفية كأبي يوسف إلى جواز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه لما في بيعه وجعل ثمنه في مثله حينئذ من تحقيق المقصود من الوقف الذي هو منفعة الموقوف عليهم، ولأن في منع بيعه مع تعطل منافعه وتعذر الاستفادة منه إضاعة للمال().
ومن آراء الفقهاء المبنية على هذا النظر تقييد المالكية لمطلق قوله  “لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر”()  ببيع السمك في الغدير ـ الماء الكثيرـ أو البركة الكبيرة، فقيدوا الماء بوصف الكثرة لعدم القدرة على تسليمه فبيعه فيه هو الذي يكون مظنة للغرر. وأما بيعه في بركة صغيرة ونحوها فينعدم فيه الغرر. ولذلك أباحوه(). وقيده الشافعية بأدق من هذا فربطوا النهي بمشقة تحصيل السمك فقالوا: بيع السمك في الماء الكثير، ولو في بركة إن شق تحصيله منها، لا يحل ولا يصح، فأما إن لم يشق تحصيله ولم يمنع الماء رؤيته فهو خارج عن النهي، لأنه مال مملوك لصاحبه ومعلوم ومقدور على تسليمه، فلا غرر فيه().
ومن آراء الفقهاء المبنية على هذا النظر أيضا تأويل الحنفية لقوله  “لا تلقوا الركبان ولا بيع حاضر لباد”، فهذا النهي يدل بظاهره على إطلاق المنع أي منع التلقي في أي حال من الأحوال، ولكن الحنفية رأوا أنه مقيد بحالتين تتضمنان سبب الضرر الذي قصد الرسول  دفعه:
إحداهما أن يكون أهل البلد في حالة قحط والمجلوب طعاما ونحو ذلك من الأحوال التي يظن أن شراء تلك السلع يضر بهم.
الثانية: أن يلبس المتلقي السعر على الواردين فيخبرهم بخلاف سعر السوق ليأخذ منهم أقل من السعر الحقيقي، فيكره تحريما في هاتين الحالتين()، ويباح فيما عداهما أي فيما إذا أخبر المتلقى الوارد بسعر السوق الحقيقي وكان أهل البلد في حالة رخاء مثلا.
ومن هذه الآراء أيضا تقييد مالك لنهيه  عن بيع ما في ضروع الأنعام إلا بكيل() بالحال التي يكون فيها وقوع الغرر غالبا، وهي حالة بيع لبن شاة واحدة أياما معدودة، فهذه هي الحالة التي ينطبق عليها النهي عنده وأجاز بيع لبن الغنم أياما معدودة إذا كان ما يحلب منها معروفا في العادة، وذلك لانتفاء الغرر في هذه الحال().
ومن التقييد المقاصدي أيضا زيادة تقييد ما هو مقيد من النصوص أصلا فقوله  “لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته إلا أن يأذن له()، وفي رواية أخرى “حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب”().  هذا الحديث اشتمل على نهي مقيد بإذن البائع أو الخاطب أو تركه، والمقصد الشرعي واضح لا يخفى، وهو صيانة حق السابق وحفظ الأخوة بين المؤمنين أو هو دفع الضرر واتقاء العداوة والخصومة، كما أشار إلى ذلك حديث عقبة بن عامر “المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يذر”(). غير أن بعض الفقهاء رأوا أنه بالإمعان في إعمال هذا المقصد الشرعي ينكشف قيد آخر سكت عنه النص هو علم الخاطب الثاني بقبول المخطوبة للخاطب الأول “فقال الشافعية والحنابلة: محل التحريم ما إذا صرحت المخطوبة أو وليها الذي أذنت له، حيث يكون إذنها معتبرا بالإجابة، فلو وقع التصريح بالرد فلا تحريم، فلو لم يعلم الثاني بالحال فيجوز الهجوم على الخطبة لأن الأصل الإباحة…”(). فظهر بهذا أن النظر المقاصدي زاد محل النهي تدقيقا.
هذا وإننا لو أعملنا مقاصد الزواج أيضا في هذا النص لتبينت قيود أخرى ومنها القيد الوصفي أو الحالي أي صفات الخاطبين، وهو ما لاحظه ابن القاسم من “أن الخاطب الأول إذا كان فاسقا جاز للعفيف أن يخطب على خطبته. ورجحه ابن العربي منهم. وهو متجه فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة ويكون الخاطب غير كفؤ لها فتكون خطبته لها كلا خطبة”(). فهنا رجح مقصد الزواج على مقصد هذا الحديث، لأنه لا عبرة بحفظ حق خاطب إذا كان سينتج عنه ضرر للمخطوبة وزواج خال من مقاصده بسبب فسق الزوج.
3 ـ ومن صور التأويل المقاصدي زيادة على التخصيص والتقييد صرف اللفظ عن ظاهر التعيين إلى ما يحتمله من التخيير، وذلك بواسطة المقاصد الشرعية.
ففي الشريعة نصوص تدل بظاهرها على وجوب شيء بعينه. ولكن بعض الفقهاء رأوا أن التعيين كان لحكمة معلومة، وأن الواجب يتحقق المقصود منه أيضا بغير ما عينته تلك النصوص، وبذلك تتبدل صفة الواجب من كونه في الظاهر معينا إلى كونه مخيرا().
وعلى سبيل المثال فإن قوله  لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: “خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقر من البقر”() يفيد ظاهره تعيين ما يجب أخذه من أصناف الممتلكات التي بلغت نصاب الزكاة. ولكن معاذا قال لأهل اليمن: “ائتوني بخميس أو لبيس() آخذه مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة”. وفي رواية “ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير”(). فمعاذ، وهو الراوي، خالف ظاهر روايته فطلب منهم إخراج القيمة بدل العين، لأنه لم يفهم من أمر الرسول  “أنه إلزام بأخذ العين، ولكن لأنه هو الذي يطالب به على أرباب الأموال، والقيمة إنما تؤخذ باختيارهم، وإنما عين تلك الأجناس في الزكاة تسهيلا على أرباب الأموال، لأن كل ذي مال إنما سهل عليه الإخراج من المال الذي عنده”().
ويغلب على الظن أن يكون فهم هذا المقصد من تصرفات النبي ، فقد روي عنه  أنه جعل في الدية على أهل الحلل حللا().
ومن المحتمل أيضا أن تكون تسويته بين القيمة والعين راجعة إلى أن إغناء الفقراء هو مقصود الزكاة وأنه يتحقق بالقيمة كما يتحقق بالعين. ولعل وجاهة هذا الرأي هي التي منعت الصحابة من إنكاره عليه فرفعته إلى مقام الإجماع (قول الصحابي الذي لا يعلم له مخالف)، بل لقد قيل:”إن صاحب الزرع إذا أراد أن يعطي الزكاة من غير الزرع نفسه فإن إجماع الأمة على أن له ذلك، ولم يجز إجباره على أن يعطي من عين ما أخرجت الأرض”()، فهذا إجماع منهم() على أن قوله : “خذ الحب من الحب” ليس على ظاهره من التعيين وأن أخذ الحب من الحب ليس: “واجبا معينا”.
هذا وإن الحنفية قد أخدوا بهذا الرأي واستندوا إلى هذا التعليل لقول معاذ، ووضعوا لذلك أصلا أو قاعدة مقاصدية فوسعوا بها مجال هذا التأويل المقاصدي الذي يجعل الواجب الظاهر التعيين مخيرا.
ومن تقعيد الأحناف لرأيهم قول أبي زيد الدبوسي “الأصل عند علمائنا أن من وجبت عليه الصدقة إذا تصدق على وجه يستوفي به مراد النص منه أجزأ عما وجب عليه”.. وفرع على هذا الأصل فروعا فقال: “قال أصحابنا إذا وجبت الزكاة في الدراهم فأدى بدلها حنطة أو غيرها جاز عندنا، لأن مراد النص سد خلة الفقير ودفع حاجته، وقد حصل. وكذلك في صدقة الفطر، وكفارة اليمين، وكل صدقة وجبت بإيجاب الله  أو وجبت بإيجاب العبد على نفسه، فإنه يجزيه أن يعطي القيمة عندنا”().
ثم يمكن إدراج قاعدة الحنفية هذه ضمن قاعدة أكبر، وهي أن الشارع إذا عين لتحقيق مقصد من مقاصده وسيلة ما ثم تبين أن وسيلة أخرى تحققه أيضا فإن الوسيلتين تكونان مطلوبتين على سبيل التخيير.
وقد اعترض الشافعية على رأي الحنفية وانصب اعتراضهم أكثر على الأساس المقاصدي لرأيهم فطعنوا في تعليلهم للزكاة من جهتين:
من حيث إن المقصد المستنبط ليس هو المقصد الوحيد للزكاة وأن أحكام الزكاة تشتمل على قرائن تدل على أن لها مقاصد أخرى لا يمكن إدراكها بالعقل، ومن ثم لا يجوز تأويل نصوص الزكاة بناء على بعض مقاصدها دون بعض.
ومن حيث إن هذه العلة المستنبطة من النص قد أبطلته فألغت وجوب الشاة بعينها، وذلك لا يجوز، وهو دليل بطلانها، لأنه يشترط لصحة العلة بإجماع الأصوليين، ألا تعود على الأصل بالإبطال(). وقد ساق الإمام الغزالي هذا الاعتراض، وناقشه، ولم يرتض ما جنح إليه الشافعية من الجزم في إبطال رأي الحنفية، فبدأ بنفي انطباق قاعدة إبطال العلة التي تبطل أصلها على رأي الحنفية قال: “هذا غير مرضي عندنا، فإن وجوب الشاة إنما يسقط بتجويز الترك مطلقا، فأما إذا لم يجز تركها إلا ببدل يقوم مقامها فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة، فإن من أدى خصلة من خصال الكفارة المخير فيها فقد أدى واجبها، وإن كان الوجوب يتأدى بخصلة أخرى. فهذا توسيع للوجوب، واللفظ نص() في أصل الوجوب لا في تعيينه وتصنيفه، ولعله ظاهر في التعيين محتمل للتوسيع والتخيير. وهو كقوله “وليستنج بثلاثة أحجار” فإن إقامة المدر مقامه لا يبطل وجوب الاستنجاء لكن يجوز أن يتعين ويجوز أن يتخير بينه وبين ما في معناه. نعم إنما ينكر الشافعي هذا التأويل لا من حيث إنه نص لا يحتمل، لكن من وجهين:
أحدهما: أن دليل الخصم أن المقصود سد الخلة، ومسلم أن سد الخلة مقصود لكن غير مسلم أنه كل المقصود، فلعله قصد مع ذلك التعبد بإشراك الفقير في جنس مال الغني، فالجمع بين الظاهر والتعبد ومقصود سد الخلة أغلب على الظن في العبادات، لأن العبادات مبناها على الاحتياط من تجريد النظر إلى مجرد سد الخلة.
الثاني أن التعليل بسد الخلة مستنبط من قوله (في أربعين شاة شاة) وهو استنباط يعود على أصل النص بالإبطال أو على الظاهر بالرفع، وظاهره وجوب الشاة على التعيين، فإبراز معنى لا يوافق الحكم السابق إلى الفهم من اللفظ لا معنى له، لأن العلة ما يوافق الحكم، والحكم لا معنى له إلا ما يوافق ظاهر اللفظ، واللفظ يدل على تعيين الشاة، وهذا التعليل يدفع هذا الظاهر”.
ثم يعترض الغزالي على هذا الاعتراض موضحا أن المسألة غير خارجة عن نطاق الاجتهاد فيقول: “هذا أيضا في محل الاجتهاد، فإن معنى سد الخلة ما يسبق إلى الفهم من إيجاب الزكاة للفقراء وتعيين الشاة محتمل أن يكون للتعبد كما ذكر الشافعي رحمه الله ومحتمل أن لا يكون متعينا، لكن الباعث على تعيينه شيآن:
أحدهما أنه الأيسر على الملاك والأسهل في العبادات كما عين ذكر الحجر في الاستنجاء، لأنه أكثر في تلك البلاد وأسهل، وكما يقول المفتي لمن وجبت عليه كفارة اليمين: تصدق بعشرة أمداد من البر لأنه يرى ذلك أسهل عليه من العتق، ويعلم من عادته أنه لو خير بينهما لاختار الإطعام على الإعتاق ليسره فيكون ذلك باعثا على تخصيصه بالذكر.
والثاني أن الشاة معيار لمقدار الواجب فلابد من ذكرها، إذ القيمة تعرف بها، وهي تعرف بنفسها، فهي أصل في التحقيق. ولو فسر النبي  كلامه بذلك لم يكن متناقضا، ولكان حكما بأن البدل يجري في الزكاة(). فهذا كله في محل الاجتهاد، وإنما تشمئز منه طباع من لم يأنس بتوسع العرب في الكلام وظن اللفظ نصا في كل ما يسبق إلى الفهم منه، فليس يبطل الشافعي هذا لانتفاء الاحتمال، لكن لقصور الدليل الذي يعضده، ولإمكان كون التعبد مقصودا مع سد الخلة، ولأنه ذكر الشاة في خمس من الإبل() وليس من جنسه حتى يكون للتسهيل، ثم في الجبران ردد بين شاة وعشرة دراهم ولم يردهم إلى قيمة الشاة() وفي خمسين من الإبل لم يردد، فهذه قرائن تدل على التعبد، والباب باب التعبد والاحتياط فيه أولى”().
أما “تعبدية” أحكام الزكاة فأمر غير مسلم عند الحنفية، لأنهم يرون “أن التنصيص على الأسنان المخصوصة والشاة لبيان قدر المالية”(). أي أن ذكر الرسول للشاة في خمس من الإبل هو لبيان قيمة الواجب، وترديده  في الجبران بين الشاة وعشرة دراهم هو كالتنصيص على أن قيمة الشاة في عهده  عشرة دراهم()، وأن عدم ترديده في خمس من الإبل بين الشاة وعشرة دراهم لا يمكن أن يكون لعدم اعتداده بالقيمة، إذ كيف يمكن أن يعتد بها في محل ولا يعتد بها في محل مثله.
هذا والملاحظ أن المعترضين على الحنفية هم أيضا وظفوا المقاصد الشرعية، إلا أنهم في سبيل منع تأويلهم وظفوا المقاصد من جهتين: من جهة بيان قصور تعليلهم، ومن جهة استنباط علة تعضد ظاهر النص، مثل تعليل بعضهم الزكاة بأنها وجبت لدفع حاجة الفقير وشكر الله على نعمة المال، والحاجات متنوعة فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تدفع به حاجته ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به. ومثله أيضا تعليل ابن العربي أن التكليف والابتلاء بإخراج الزكاة ليس بنقص الأموال فقط كما فهم أبو حنيفة فإن المالك يريد أن يبقى ملكه بحاله ويخرج من غيره عنه، فإذا مالت نفسه إلى ذلك وعلقت به كان التكليف قطع تلك العلاقة التي هي بين القلب وبين ذلك الجزء من المال، فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه().
تقييد التأويل المصلحي :
لئن كانت نصوص الإسلام ذات قابلية للتأويل وفسحة للاجتهاد، وهذا من خصائصها، فإنها قبل ذلك، ذات حرمة لا يجوز لأحد أن ينتهكها، وهذا من حقوقها، ولا ينبغي أن تنزل في المعاملة منزلة الكلام البشري، بل إذا كان شأن كلام الناس، عند العقلاء، ألا يؤخذ بظاهره جمودا ولا يصرف عن ظاهره قسرا فلا يفسره السامع أو القارئ بما يريده هو بل بما يدل على قصد المتكلم أو المؤلف منه ـ إذا كان هذا شانه فالأولى بالمنتمين للإسلام أن يعاملوا نصوصه باحترام أشد واحتياط أكبر إذ هي وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي أساس الدين ومصدر عقائده وقيمه وأحكامه ومقاصده وقواعده ومناهجه، والتساهل في تأويلها امتهان لقداستها ونيل من هيبتها في نفوس المسلمين، وهو يؤول إلى الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب الذين حكى الله من جناياتهم على كتبه أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه() أي يتأولونه على غير تأويله، وهو الأمر المخوف على المسلمين بعد أن حفظ الله كتابه وسنة نبيه  من الضياع والتحريف اللفظي، إذ هو عند فشو الجهل بالإسلام، من أخطر أسباب التضليل، ولذلك كان عمر بن الخطاب يحذر منه ويقول: أخوف ما أخاف عليكم … رجل تأول القرآن على غير تأويله. بل هو ما وقعت فيه طوائف من المسلمين منذ انقضاء عصر السلف. ولذلك كانت الحاجة ماسة إلى إحاطة النصوص بما يصون حرمتها والكشف عن قيود التأويل التي تضمن صحته وترفع مقامه.
والتأويل المصلحي ضرب من التأويل المشروع، إلا أنه من حيث هو محاولة للكشف عن مراد الشارع من خطابه لا يتأتى لأي كان، ولا يجوز لأي كان، بل إنما ينفتح باب التأويل وباب التوفيق فيه لمن كانت له أهلية التأويل، وكان يتقيد بشروطه في كل خطاب شرعي يتعامل معه().
1  ـ أهلية المتأول :
أول أسس الأهلية هو الإيمان بالله واليوم الآخر، فأما غير المؤمن فهو أصلا غير مقبول في دائرة التأويل والاجتهاد()، وهو أيضا لا يتوقع منه البتة أن يأتي بتأويل صحيح، فلقد أخبرنا الله ، بالنص الصريح أن مراده من كلامه محجوب عمن يكفر بالآخرة فقال  وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يومنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا(). فهم إذن محرومون من “فقه القرآن” أي من إدراك معانيه الخفية()، لأن من لا يؤمن بالآخرة يكون أسيرا لهواه متبعا له، كما أشار إلى ذلك القرآن(). والهوى من أكبر عوائق الفهم، فهو يعمي ويصم، ويمنع من تحري الحق وإبصار الحقائق كما هي.
وأيضا فإن من عنده شك في الله، في علمه وحكمته وعدله، أو في شيء من شرعه لا يرجى أن يكون تعامله مع خطابه موضوعيا، لأنه والحال هذه، لن يكون “لقراءته” له من هدف سوى أن ينفي عنه المعنى الذي لا يؤمن به، أو أن يحمله المعنى الذي يعتقده، أو أن يعثر لرأيه على سند شرعي، حتى إذا ظفر بمراده، أعني مراده هو من البحث والقراءة لا مراد الشارع من الخطاب توقف عن البحث والنظر، إذ لا يهمه بعد ذلك أن يعلم هل وافقت نتيجته مراد الشارع من خطابه أولا ؟
هذه الطريقة في تأويل نصوص الإسلام ليست جديدة، بل إنها قد حدثت في الأمة، بعد عصر السلف، ونبه العلماء منذ قرون على خللها وفسادها، وقد ذكر ابن تيمية أنها طريقة “قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها” وهم “تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه وإثباته من المعنى باطلا فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول(). وهذا كما وقع في تفسير القرآن فإنه وقع أيضا في تفسير الحديث.
فالذين أخطأوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط، الذين لا يجتمعون على ضلالة، كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم، تارة يستدلون بآيات على مذهبهم، ولا دلالة، فيها وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه”().
وثاني أسس الأهلية هو الصلاح، إذ لا يكفي أن يعلن الإنسان أنه مسلم وأن لا يصدر عنه تصريح بخلافه، بل ينبغي أن يكون مع إسلامه صالحا، وصلاح أعمال المسلم ناتج عن تقوى الله، كما قال :يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم(). والتقوى تجعل المتعاطي لعلم الدين على بصيرة كما قال : واتقوا الله ويعلمكم الله() أي يجعل في قلوبكم نورا تفهمون به ما يلقى إليكم(). وهذا كما قال  : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا().
وأما الفاسق والعاصي فليس متقيا لله، بل هو قليل الخوف منه، متبع لشهواته، غير عامل بما علمه، ولهذا لم يكن مؤتمنا على دين الله ولا موفقا لفهم خطابه، وإلى هذا الإشارة في قوله : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق()، قال سفيان بن عيينة: “أنزع عنهم فهم القرآن”، قال الزركشي: “اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم الوحي ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حب الدنيا، أو هو مصر على ذنب أو غير متحقق الإيمان أو ضعيف التحقيق أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض”().
وثالث أسس الأهلية هو العلم. ولذلك قيل: “كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه”(). فلا يكفي الإيمان والصلاح بل لابد من العلم أيضا لاسيما العلم بما اتفق الأصوليون على اشتراط معرفته. وهو أمران كبيران : العلم باللغة العربية، فهي لغة الخطاب الشرعي، والتمكن من المعارف الإسلامية التي تعين على فهم الخطاب الشرعي، أعني العلم بالقرآن والحديث وبأصول الفقه ومقاصد الشريعة ومواضع الإجماع().
وثمة شرط آخر هو معرفة التفسير المسموع المتعلق بظواهر النصوص. قال الغزالي: “فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط” وقال: “لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا، ولا مطمح في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يدعي بلوغ صدر البيت قبل مجاوزة الباب..”. وقال: “لا يكفي ذلك في فهم حقائق المعاني… وإنما ينكشف للراسخين في الفهم من أسراره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب”().
هذا وإن صحة التأويل لا تتوقف على مجرد أهلية من يتصدى له، بل لابد مع الأهلية للتأويل من مراعاة شروطه الخاصة عند كل عملية تأويل، وإلا فالمؤهل معرض لأن يزل ويخطئ في تأويل أي نص إذا لم يستفرغ وسعه في إيفاء كل شرط حقه: تسرعا أو غفلة أو تقصيرا.
ومن هنا كان التنبيه على شروط التأويل ضروريا:
2  ـ شروط التأويل:
لا يصح التأويل إلا بشروط هي :
أ ـ احتمال اللفظ للمعنى :
قال ابن قدامة المقدسي: “كل متأول يحتاج إلى بيان احتمال اللفظ لما يحمل عليه”(). وهذا شرط معلوم من الدين والعقل بالضرورة. وله دلالتان :
الدلالة الأولى أنه لما كان التأويل هو بيان رجحان المعنى المحتمل على المعنى الظاهر كان الواجب الأول على المتأول أن يتحقق من أنه إزاء لفظ محتمل ظني الدلالة أو “ظاهر”()، لأنه الذي يقبل التأويل، وأما قطعي الدلالة أو ما اصطلح عليه البعض بـ “النص” فلا اجتهاد معه. وهذا هو المقصود بالقاعدة “لا مساغ للاجتهاد في مورد النص”().
على أنه لا يكفي أن يكون اللفظ محتملا لغة لكي يكون قابلا للتأويل شرعا، فرب محتمل في الوضع العربي غير محتمل في الاستعمال الشرعي(). ولذلك فلا يؤول المحتمل إلا بعد التثبت من انعدام ما ينفي احتماله شرعا.
وعلى هذا فما لا يقبل التأويل شرعا هو قطعي الدلالة لغة وقطعي الدلالة شرعا فإذا وجدت في الموضوع الواحد روايات عن الرسول  متفقة في حكمها، إلا أن بعضها “ظاهر” وبعضها “نص” فإن “الظاهر” يصبح في حكم المنصوص، فينتفي ما كان فيه من الاحتمال، ويمتنع عن التأويل، لأن تأويله في هذا الحال يؤدي إلى مناقضة المعنى القطعي الذي دل عليه “النص”.
والدلالة الثانية أن “ظواهر” الشريعة مع ما فيها من الاحتمال ليست قابلة لأي تأويل ولا رموزا لما لا ينضبط من المعاني، بل هي تحتمل معاني ولا تحتمل أخرى خلافا للنزعة الباطنية التي تزعم أن للشريعة “بواطن هي المقصودة، وأن الظواهر غير مرادة، فقالوا: كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة ورموز إلى بواطن”(). وأهم ضابط يضمن للمعنى أن يكون محتملا في ظاهر من الظواهر هو أن يندرج احتمال اللفظ في أحد أوجه الاحتمال العربية()، مثل احتمال المجاز مكان الحقيقة والخصوص مكان العموم والتقييد مكان الإطلاق والتأكيد مكان التأسيس والترادف مكان التباين والتقديم والتأخير مكان الترتيب والإضمار مكان الاستقلال… وما إلى ذلك().
ب ـ بيان دليل التأويل :
بيان الدليل شرط شرعي كلي اشترطه الإسلام في كل دعوى كمـا قـال الله  قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (). وكما قالت القاعدة الإسلامية “إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل”. والتأويل دعوى، ولذلك فلا يقبل بدون دليل صحيح، وبهذا الشرط يرد ما يحذر من التفسير بالرأي المجرد.
وهكذا فبعد أن يثبت أن اللفظ الشرعي محتمل للمعنى الذي يراد صرفه إليه يتعين التدليل على أن ذلك المعنى مقصود للشارع، كما قال ابن قدامة: “كل متأول يحتاج إلى بيان احتمال اللفظ لما حمل عليه ثم إلى دليل صارف له”(). والدليل في التأويل المصلحي هو المصلحة، لكن المصلحة بذاتها لا تصلح دليلا إلا إذا ظهر أنها مقصودة للشارع، فإذا كانت منصوصا عليها فلا شك في اعتمادها لتأويل الخطاب الشرعي الذي وردت متصلة به، ولتأويل خطاب شرعي آخر إذا كان من نفس مجال الخطاب الذي وردت فيه()، ومن نفس درجته().
وأما إذا كانت المصلحة مستنبطة فلا تصلح دليلا للتأويل إلا بقيود أهمها:
أولا : إثباث كونها مقصودة للشارع أو مؤثرة في الحكم الشرعي، وذلك باتباع مسالك العلة من الإيماء بأنواعه والإجماع والدوران والاستقراء ونحو ذلك، مما ثبت عند الأصوليين أنه موصل إلى معرفة العلة .
ثانيا : إثبات كون المصلحة المستنبطة راجحة على ما يعضد الظاهر أو ما عبر عنه التلمساني بقوله بيان “رجحان ذلك الدليل على الأصل المقتضي للظاهر”(). ومما يتمثل فيه رجحان هذه المصلحة المستنبطة على قرائن الظاهر أن تكون موافقة لنص قطعي الدلالة، كأن يكون الظاهر عاما والنص خاصا، وتكون تلك المصلحة مقتضية للتخصيص. فإنها تكون هنا راجحة على كل قرينة أو مصلحة مستنبطة اعتمدها المستمسك بالظاهر. على أن المصلحة المستنبطة لـظاهر ما تكون مرجوحة إذا عارضت مصلحة منصوصا عليها لظاهر آخر من نفس حكمه أو بابه، فتصبح المستنبطة ملغاة، وتكون المنصوص عليها هي علة الظاهرين معا.
ثالثا: بيان عدم رجوع المصلحة المستنبطة على الحكم المستنبطة منه بالإبطال، وإلا فإن إبطالها إياه أمارة استحالة كونها مقصدا له. أو كما قال الآمدي: “إن ارتفاع الأصل المستنبط منه يوجب إبطال العلة المستنبطة منه ضرورة توقف عليتها على اعتبارها به”(). وهذا أمر متفق عليه بين الأصوليين.
تلك هي أهم شروط التأويل التي يكفي أن يختل واحد منها لكي يلغى التأويل. ومما هو ملغى من التأويل المقاصدي بسبب ما بني عليه من تعليل موهوم أو “مقاصد شرعية” مزعومة تقييد بعض الناس في أوائل القرن العشرين لمطلـق قولـه  وحرم الربا() بربا الاستهلاك دون ربا الإنتاج، بدعوى أن الربا إنما حرمه الله لما فيه من استغلال حاجة المحتاجين، وأن هذه المفسدة إنما توجد في ربا الاستهلاك.
يقول يوسف القرضاوي: “ولقد قال من قال في مرحلة التبرير: إن الربا الذي حرمه الله ورسوله هو ما يعرف بـ (ربا الاستهلاك) وهو خاص بالإنسان الذي يستدين لحاجته الشخصية، ليأكل ويشرب ويلبس، هو ومن يعول، وذلك لما في هذا الربا من استغلال حاجة المحتاج وفقر الفقير الذي دفعه العوز إلى الاقتراض، فرفض المرابي الجشع أن يقرضه إلا بالربا بأن يرد له المائة مائة وعشرة مثلا”.
وهذا الكلام لم يقله فقيه مسلم قط طوال القرون الثلاثة عشر الماضية، قبل أن نبتلى بالاستعمار، وهو تقييد للنصوص المطلقة بمحض الظن والهوى، وقد ذم الله من فعـل ذلـك بقولـه إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى().
والتاريخ الصحيح يكذب هذا التأويل: فإن الربا الذي كان سائدا في الجاهلية لم يكن ربا استهلاك، فلم يكن الشخص يستدين ليأكل، وما عرف عن العربي الغني أن يأخذ الربا ممن جاءه يطلب قرضا لطعامه وشرابه، وإن حدث ذلك كان شيئا نادرا لا تقام الأحكام على مثله.
إنما الشائع في ذلك الزمن هو ربا التجارة، الذي كان يتمثل في القوافل التجارية الشهيرة في رحلتي الشتاء والصيف، يعطيهم الناس أموالهم ليستثمروها لهم: إما قراضا ومضاربة يتقاسمان فيها الربح على ما اشترطا، وإن حدثت خسارة فعلى رب المال، وإما قرضا محدد الفائدة مقدما، وهو الربا، ومن هذا النوع الأخير كان ربا العباس بن عبد المطلب عم رسول الله  الذي أعلن في حجة الوداع أنه موضوع ملغى، حيث قال: “إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا عمي العباس”.
وما يتصور دارس منصف أن ابن عبد المطلب الذي كان يسقي الحجيج في الجاهلية متبرعا من حر ماله، يعمل عمل اليهود الجشعين فيقول لمن جاءه يسأل قرضا لطعامه وطعام عياله: لا أعطيك إلا بالربا .
ولو كان الربا الذي حرمه الله ورسوله هو ربا الاستهلاك أي ربا المقترض لحاجاته الشخصية والعائلية، كما يدعي مدعون اليوم، ما كان هناك وجه لأن يلعن رسول الله  مؤكل الربا -أي الذي يعطي الفائدة- كما يلعن آكل الربا -أي الذي يأخذ الفائدة- إذ كيف يلعن من يقترض ليأكل؟ وقد أباح الله ورسوله أكل الميتة والدم ولحم الخنزير لضرورات المخمصة والجوع …
ولكن الإمام مسلما روى في صحيحه عن جابر  قال: “لعن رسول الله  آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء”، وعن ابن مسعود لعن آكل الربا ومؤكله، وهو مروي عن غيرهما من الصحابة”.
وعقب القرضاوي على التعليل المعتمد لدى هؤلاء فقال: “وحصر الحكمة في استغلال المقرض الغني للمقترض الفقير الذي يأخذ القرض لحاجته وقوته وقوت عياله حصر غير صحيح… إن الحكمة هي أن المال لا يلد المال بذاته، والنقود لا تلد نقودا، إنما ينمو المال بالعمل وبذل الجهد”، والإسلام الذي جاء ليقيم العدل بين الناس لا يمكن أن يبيح من المعاملات المالية ما يناقض العدل، فالمال في الإسلام “ينمى بالحلال، أي بالعمل النافع المشروع، إما بنفسه أو بمشاركة غيره، وبهذا شرع الإسلام تعاون رأس المال والعمل لمصلحة الطرفين ومصلحة المجتمع أيضا، ومقتضى هذه المشاركة أن يتحمل الطرفان النتيجة إن كانت ربحا أو خسارة، فإن كان الربح كثيرا كان بينهما على ما اتفقا عليه، وإن قل الربح قل نصيبهما معا بنفس النسبة، وإن كانت الخسارة أصابت كلا منهما: رب المال في ماله، والعامل في جهده وتعبه، هذا هو العدل الكامل: الغرم بالغنم، والخراج بالضمان”().
ونرى في الختام أن ننبه على أن القيود الأصولية الموضوعية للتأويل مع أنها واضحة التناسب مع مقام الخطاب الشرعي ومع طبيعة هذا النوع من الاجتهاد ومع أن وجوبها تقتضيه كل الأدلة (النقلية والعقلية) فإن نفرا من الناس اليوم يعلنون، بكل شجاعة، أن من حقهم أن تكون قراءتهم الجديدة للخطاب الديني متحررة من القيود الأصولية بزعم أن الأصول نفسها تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر، إلا أن موقفهم هذا مصاب باختلال منهجي متعدد الأوجه:
فهم أولا : قد اقتحموا مجالا صعبا ودقيقا لا يوفق فيه إلا من ملك مفاتحه، وأعطوا أنفسهم الحق في التأويل قبل أن يكتسبوا أهليته، وهذا ما لا يمكن أن يقبل في الدين، كما لا يمكن أن يجيز أي تخصص من التخصصات العلمية الدقيقة، أن يقول فيه ويقرر غير المتمكن منه، ولو كان ذكيا أو كانت له فيه معرفة إجمالية، كالممرض بالنسبة لأي تخصص طبي، هذا ما لا يقره عاقل، والغريب أن من يبيحون لأنفسهم تأويل نصوص الإسلام، لا يبيحون لأنفسهم أن يفتوا في مجال الطب والفلك، مع أن الحماقة تقتضي إباحة كل ذلك بلا فرق ! كما يقتضي الرشد منع كل ذلك بلا فرق…
وهم ثانيا قد جعلوا القواعد والشروط الأصولية التي تضبط القراءة محل مراجعة، من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء الكشف عن دواعي هذه المراجعة، أو إظهار عيوبها حتى يعلم هل هي عيوب حقا أو مزايا… وهم إذ لم يفعلوا شيئا من هذا فقد برهنوا على أن مرادهم مجرد التشكيك في حجيتها من أجل ألا تبقى عبارة عن عراقيل في وجه “قراءتهم” التي يريدون تسويغها وتسويقها، وهيهات.. فإن قراءة غير قائمة على أصل ثابت هي كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار() فهي كالزبد يذهب جفاء. ونحن على ثقة بأن القيود الأصولية صحيحة ومعقولة، وأن مدعي عكس هذا هو المطالب بالدليل، ولن يتأتى له الظفر به وما يستطيع .
وهم ثالثا من منطلق ادعائهم امتلاك الحق في القراءة الحرة يقعون في أحد حرجين لا مفر منهما:
فإنهم إذا قالوا إن قراءتهم هي الصحيحة، وما عداها خطأ، كانوا مطالبين بالإتيان بالدليل الدال على صحتها، أو المقنع برجحانها، فإن أبدوا دليلا كانوا مناقضين لأصلهم في التحرر من القيود، لأن الدليل قيد أيضا، وإن لم يأتوا بدليل، وأصروا على أنهم غير ملزمين بذلك، كانوا مناقضين لأصلهم (أن الحقيقة ليست حكرا على أحد) لأن من يعتقد هذا الأصل ينبغي أن يصحح أي قراءة وهذا هو الحرج الأول.
وأما إن قالوا : كل قراءة فهي مقبولة، وكل فهم لأي نص يمكن أن يكون مطابقا لمراد الله أو رسوله، ولو كانت القراءات والأفهام متضاربة متناقضة ـ فيكونون قد نسبوا التناقض إلى الله أو رسوله، لأن قولهم ذلك يقتضي إمكان أن يقصد الشارع من النص معاني متناقضة، وهذا ما لا يمكن أن ينسب إلى بشر عاد فكيف بالرسول ، وكيف بالله ، وهذا هو الحرج الثاني.