الرئيسية / التجديد في علم أصول الفقه: دواعيه وحقيقته.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : التجديد في علم أصول الفقه: دواعيه وحقيقته.

الكاتب(ة) : د. عبد المجيد محيــــــــــــب

التجديد في علم أصول الفقه : دواعيه وحقيقته

د. عبد المجيد محيب
أستاذ  بدار  الحديث  الحسنية – الرباط

لقد كنت أتصور أنه لم يعد هناك من مجال للبحث في علم أصول الفقه، لأن الباحثين والعلماء المتخصصين في هذا الميدان لم يتركوا جانبا من جوانب هذا العلم إلا أتقنوه.

وفي الحقيقة أن البحث في أصول الفقه لن يتوقف مادامت هناك وقائع وقضايا تتطلب أحكاما شرعية جديدة.

فالوضعية المتأزمة التي يعيشها العقل المسلم راهنا تطرح ضرورة القيام “بعمليات عقلية” متعددة ومتفاوتة الأهداف تتراوح بين التقييم والتقويم والنقد والبناء، لأن هذه الحالة من الانكفاء تستدعي إعادة ” تشكيل العقل المسلم ” وصياغة عناصره من جديد وترتيب أولوياته، وتعديل مساره نحو مسلك الإبداع والعطاء.

وعلم أصول الفقه يعتبر النواة الأساس في هذه العملية، لأنه العلم الذي يقدم منهاج التفكير المتكامل حتى لقب “برياضيات العلوم الشرعية”.

وإذا كان تحديد موقف الشريعة من الوقائع الجديدة في كل عصر، يخضع لمدى تعمق أهل ذلك العصر في علم أصول الفقه، فمعنى ذلك أن أهل هذا العصـر -عصر العلم والتكنولوجيا والعولمة- هم أحوج الناس لمراجعة هذا العلم وتطويره، وتطوير أساليبه، خاصة بعد أن مر هذا العلم بفترة ركود وجمود.

إذا تقرر هذا فإننا في حاجة إلى الاهتمام بهذا العلم والتعمق فيه وكتابته بأسلوب بسيط يناسب العصر، وتنقيته من كل ما علق به من مباحث نظرية وكلامية لا علاقة لها بمجال الاستنباط والتقنين.

وفي الآونة الأخيرة كثر الحديث عن التجديد في علم أصول الفقه، فالتجديد مصطلح عام يعم جميع النتاج الفكري والثقافي، ولابد من التنبيه على أن التجديد في بعده الفكري هو نشاط عقلي دائب، قوامه تقليب النظر باستمرار في المعارف المكتسبة والتجارب الحاصلة بقصد تصحيحها وتكييفها مع الوقائع الجديدة.

وفيما يخص علم أصول الفقه فالتجديد يمكن أن يمس أكثر من مستوى، ويمكن أن يكون التجديد على مستوى التبويب والتصنيف، ويعني ذلك إعادة تبويب مباحث علم أصول الفقه تبويبا يضمن الانسجام بين هذه المباحث، بحيث يكون المبحث الأول ضروريا لفهم الذي يليه وهكذا دواليك، ويمكن أن يكون التجديد على مستوى فلسفة ومقاصد أصول التشريع، ويمكن أن يكون أيضا بتجريد ما علق به من المباحث النظرية التجريدية –الأصول العارية كما قال الإمام الشاطبي- التي أقحمها علماء الكلام في الدرس الأصولي نظرا لطبيعة ميولاتهم وتخصصاتهم.

فالمطلع على الثقافة الإسلامية في عصر الانحطاط لن يجد إلا مصنفات ومؤلفات تجتر ما مضى، وتكتب الحواشي على المتون، والحواشي على حواشي المتون.
وعلم أصول الفقه لم يسلم من ذلك، وهذه المحاولة التي سأقوم بها في هذا المقال ستروم الحديث عن التجديد في أصول الفقه انطلاقا من الدواعي الدافعة لهذا التجديد، ثم الحديث عن حقيقة التجديد في علم أصول الفقه.

دواعي التجديد فـي علم أصول الفقه:
أ  –  أهمية علم أصول الفقه :
إن الحديث عن التجديد في علم أصول الفقه ودواعيه، يحيلنا على الحديث عن الأهمية الفكرية والعلمية لهذا العلم قديما وحديثا.
فعلم أصول الفقه يجمع في دراسته بين الأدلة النقلية والعقلية، فلا يقف عند حدود الاستدلال العقلي عبر القياس والاستصلاح، وفي هذا السياق يقول الإمام الغزالي: “وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد.”()
فقد أجمع العلماء قديما وحديثا على أهمية المنهج الأصولي وعن دوره في عملية الاجتهاد، ويمكن إيجاز أهمية هذا العلم فيما يلي:
أولا: حفظ الشريعة الغراء التي اختارها الله لتكون آخر الرسالات وخاتمة الشرائع الإلهية، فقد كان علم أصول الفقه أحد الوسائل الناجعة لحفظ الدين من التحريف والتضليل، فصان أدلة الشرع وحفظ حجج الحكام، وعرف الناس بمصادر التشريع الأصلية التي يجب الالتزام بها والرجوع إليها، كما بين المصادر الفرعية والتبعية التي كانت المجال الرحب لاتساع الشريعة وتلبية حاجات الأمة فيما يعتريها من وقائع وأحداث. فكان علم أصول الفقه العقبة الكأداء في وجه المنحرفين والمضللين الذين حاولوا الدس في الأحكام، أو هدم الدين بنفي بعض مصادره وأحكامه كإنكار السنة، ونفي حجية خبر الآحاد في الحديث، والتضليل في الدلالات وطرق الاستنباط، وفي هذا المعنى يقول ابن برهان(): “إن المتمكن من هذا الفن يستطيع الرد على الفرق الضالة التي تنسب للإسلام كالحشوية() الذين ادعوا أن في القرآن ألفاظا مهملة، وبعض الفرق من الشيعة الإمامية الذين قالوا إنه لا دلالة في القرآن على الحرام والحلال، والمعتزلة الذين قالوا: لا حجة في أخبار الآحاد، وعلى من أنكر كون الإجماع والقياس  من الحجج والشرعية”.()
ثانيا: إن علم أصول الفقه يبين للناس عامة المنهج الذي سلكه الإمام المجتهد، ويرسم لهم معالم الطريق الذي سار عليه في الاستنباط، فتكون فائدة علم أصول الفقه هي معرفة الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها.
وعن أهمية علم أصول الفقه في عصرنا الحاضر يقول الدكتور وهبة الزحيلي: “لقد سمعت بعض أساتذتي في الأزهر يقول: إن علم أصول الفقه نشأ ونضج ثم انتهى وانطوى. وبعد التحري والتثبيت انتهيت إلى أن لهذا العلم فوائد عظيمة منها:
-التعرف بواسطته على قواعد الأصول ومدارك الفقهاء المجتهدين.
-والفائدة الثانية فهي علمية وعملية، ومفادها القدرة على استنباط الأحكام من الأدلة.
-والفائدة الثالثة في مجال المقارنة سواء في الشريعة في شتى مذاهبها أو بينها وبين القوانين الوضعية، باعتماد أسلوب الترجيح والموازنة.
-أما الفائدة الرابعة فهي عبارة عن فائدة دينية مرتبطة بمعرفة أحكام الله  .()
ومن خلال ما سبق تبين لنا ما لعلم أصول الفقه من أهمية ودور في إنعاش عملية الاجتهاد وتصحيح الأفكار وتنقيتها، الشيء الذي يدعو إلى الاهتمام به، لأن أهميته تشمل المحدث والمفسر واللغوي، وخاصة الفقيه، لأن صاحب فروع الفقه من غير معرفة بأصوله كالقابض بكفه على الماء كما قال القاضي عبد الجبار().
ب –  علم أصول الفقه من خواص هذه الأمة:
الدافع الثاني الذي دعاني للحديث عن التجديد في أصول الفقه، هو اعتبار هذا العلم من خواص هذه الأمة، وفي هذا السياق يقول الدكتور عادل الفاخوري: فالمجتمع الإسلامي امتاز عن سائر الأمم بأنه أول من وضع منطقا للشرع تحت اسم أصول الفقه.()
وقد أكد الدكتور وهبة الزحيلي هذا المعنى بقوله: “وقد كان علم أصول الفقه علما فريدا في تاريخ الأمم والشرائع القديمة والحديثة، وقد تميزت به الأمة الإسلامية عن غيرها.” ()
وأشار علال الفاسي إلى أن علم أصول الفقه من العلوم العجيبة التي امتاز بها المسلمون على غيرهم، إذ لا تجد لها نظيرا فيما وضعه الفقهاء الغربيون لمعرفة فلسفة التشريع وأسراره.()
ج –  واقع علم أصول الفقه فـي عصرنا الحالي:
فالحديث عن واقع علم أصول الفقه في عصرنا هذا يحيلنا على الحديث عن إسهامات المعاصرين في تطوير هذا العلم، فإن من يتأمل حال الدراسات والأبحاث في مجال العلوم الإسلامية، يجد أن واقعنا لا يسر ولا يرضي، فمنذ زمن بعيد والكتب تتوالى، والبحوث تنجز ولا تجد فيما ينشر ويطبع جديدا يذكر ولا مبتكرا يشكر، فكلها تسير في خط رتيب، ولا تتحرج من التكرار المعيب، وتكاد تكون هذه الكتب نسخا واحدة.
ولو تركنا التعميم وخصصنا أصول الفقه مثلا بالنظر والدراسة، لوجدنا أن ما خرج من كتب ودراسات –في العقود الأخيرة- لا يعدو أن يكون صورا منتزعة من عمل الأساتذة الرواد مثل محمد الخضري، وعبد الوهاب خلاف، وعلي حسب الله، ومحمد أبي زهرة.
يقول الدكتور محمد عبد العظيم الديب: وقد دعوت إلى عمل إحصاء للكتب التي ألفت في نصف القرن الأخير تحت عنوان “أصول الفقه” لنرى كم عددها، ولنرى ما قدمنا من جديد؟.()
وقد أشار الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد إلى نفس الفكرة بقوله: ثم وجدت معظم ما كتب في هذا العلم حديثا ينحصر في استخلاص بعض المسائل  التي بحثت قديما، مع جهد لا يكاد يجاوز تغيير بعض الأمثلة وأسلوب الكتابة، واستحداث شيء من العناوين الفرعية، وقد يفوت مع هذا شيء من الدقة في الحدود والتقعيد الذي نجده عند علمائنا الأقدمين، ومن الذي استطاع أن يضيف جديدا أصيلا إلى ما كتبه الجويني أو الشاطبي؟()
فالدراسات الأصولية في هذا القرن قد أخذت اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: كتابة المذكرات والمداخل والملخصات، وهي في الكثير الغالب إعادة لكتابة بعض مسائل هذا العلم بلغة عصرية.
أما الاتجاه الثاني: كان عبارة عن مجموعة من الرسائل الجامعية في بعض مباحث هذا العلم، أو تحقيق كتب قديمة من المخطوطات… لكن هذه الخدمات لم تزل دون الطموح المطلوب، فلا يزال هذا العلم واقفا في الموضع نفسه الذي تركه فيه أسلافنا في القرن السادس.()
ونفس الصورة القاتمة لواقع هذا العلم نجدها عند الشيخ المرحوم محمد الغزالي إذ يقول: وهناك منهج الأصوليين أو مدرسة الأصوليين، وهي مدرسة فيها دقة وضبط للنظر واستنباط الأحكام، ولكن يوشك أن يقال: إن آخر من ظهر فيها وجمدت بعده حتى كادت تموت الإمام الشاطبي… ولكن الرجل توقف عند علم الأصول عن العطاء، ولا أعرف من جاء بعده بشكل متميز، ومن ثم أصبح علم الأصول نفسه ذلك المنهج العظيم، على يد المتأخرين علما مضحكا، لأنه أصبح كالآتي: الخلاصة، التلخيص، الملخص، المتن، الشرح.. كأننا نطحن الماء فلا يزيد ولا ينقص.()
فالدراسة في أصول الفقه لم تتجه لمعرفة طريق الاستنباط ومناقشة الأدلة وفقا لمناهج الأصول، وإنما جمدت الدراسة في قوالب وأشكال تدرس وتحفظ.
فإذا كان هذا حال علم الأصول، فما العمل؟
لا بد أن نقف وقفة مع علم أصول الفقه تصله بواقع الحياة، لأن قضايا الأصول في أدبنا الفقهي أصبحت تؤخذ تجريديا، حتى غدت مقولة نظرية عقيمة لا تكاد تلد فقهاء ألبتة، بل تولد جدلا لا يتناهى، والشأن في الفقه أن ينشأ في مجابهة التحديات العلمية، ولا بد لأصول الفقه أن تنشأ مع هذا الفقه الحي.()
ففي يومنا هذا أصبحت الحاجة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن تؤسس عليه النهضة الإسلامية حاجة ملحة، لكن تتعقد علينا المسألة لكون علم أصول الفقه التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية لم يعد مناسبا للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء، لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل بطبيعة القضايا التي كان يتوجه إليها البحث الفقهي.()
حقيقة التجديد في أصول الفقه :
أ – أصول الفقه وإشكالية القطعي والظنـي:
إن إشكالية القطعي والظني قد ارتبطت بأحكام الشريعة ككل، فقد تضمنت نصوص الوحي الهدي الديني على مستويات مختلفة، فبعضها تضمن ذلك بصفة ظنية في الدلالة، بحيث يمكن أن يفهم منها أكثر من وجه واحد من الوجوه المحتملة، وبعضها لم يتضمن إلا إرشادا عاما مقصديا، ينير السبيل في المجالات التي لم ترد فيها هداية نصية مباشرة.
وخلاصة آراء الأصوليين في هذه القضية، أن أحكامه  منها القطعي مثل أصول العقيدة، وما علم من الدين بالضرورة، وأحكام الشريعة المنصوص عليها على وجه يحتمل أكثر من معنى، والأحكام التي لم يرد فيها نص ولكنها تندرج ضمن أصول الهدي العام، وقد ترجم هذا المبحث في كثير من الكتب الأصولية بمبحث “الإصابة والخطأ في الاجتهاد”()
هذا عن الأحكام الشرعية بصفة عامة، أما ما يتعلق بأصول الفقه بشكل خاص، فالدعوة للتجديد في هذا العلم ارتبطت بإشكاليتين هما:
أصول الفقه وإشكالية القطعي والظني، هذا من جهة، وإشكالية الأصلي والفرعي أو التبعي من جهة أخرى.
فما موقع علم أصول الفقه ضمن إشكالية القطعي والظني؟
فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح كلما تحدثنا عن التجديد في مناهج وطرق الاجتهاد والاستنباط هو كالآتي: هل يدخل الاجتهاد في علم أصول الفقه؟وهذا يحيلنا إلى الحديث عن القطعية والظنية في أصول الفقه، وفيما يخص هذه الإشكالية فقد انقسم العلماء حولها إلى مذهبين:
المذهب الأول: ذهب أصحاب هذا المذهب إلى أن أصول الفقه قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي.. ()
ويؤكد الشاطبي هذا المعنى في موضع آخر من كتابه الموافقات بقوله: فنسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين، وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة…()
وقد أشاد الدكتور عبد المجيد الصغير بطرح الشاطبي وقال: “أصول الفقه قطعية لا ظنية، تلك هي القاعدة الذهبية التي يستهل بها الإمام الشاطبي طرحه المنهجي… فإن أولى الخطوات لعقلنة التكليف، ورفع الخلاف، ونشدان الوحدة والاتفاق، لا تتم من غير قطع دابر الشك والظن المهيمن على المعرفة الفقهية والأصولية القديمة، ولا يتحقق هذا دون الرجوع بتلك المعرفة إلى قواطع الأدلة، باعتبار هذه الأخيرة كليات يقينية”.()
وعن القطعية والظنية في أصول الفقه يقول أبو الحسن البصري: “لا يجوز التقليد في أصول الفقه، والمخطئ في أصول الفقه ملوم غير معذور، بخلاف الفقه فإنه معذور… فأصول الفقه ملحق بأصول الدين لأن المطالب قطعية”.()
وقد ذهب إمام الحرمين كذلك إلى القول بقطعية أصول الفقه فقال: “فإن قيل فما هو أصول الفقه؟ قلنا: هي أدلته، وأدلة الفقه هي الأدلة السبعة، وأقسامها نص الكتاب، ونص السنة المتواترة، والإجماع، ومستند جميعها قول الله ، ومن هذه الجهة نستمد أصول الفقه من الكلام… فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول، وليست قواطع، قلنا حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به”.()
وهناك كتابات أصولية حديثة ذهبت إلى القول بقطعية علم أصول الفقه، ومن ذلك ما صرح به الدكتور محمد أبو السعود إذ يقول: فأصول الفقه معروفة للخاص والعام، وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وهي في ذاتها كليات وليست بجزئيات.()
ويستطرد قائلا: ولئن استسغنا نظريا الاجتهاد في أصول الفقه فيمكن قصره على الشكل دون الجوهر، إلا إذا أردنا أن نغير موضوع الأصل من أساسه وهذا ما لا أظن أحدا يفكر به… فمن الصعب أن نجتهد في أصول الفقه فقصارى ما يمكن أن يجتهد فيه هو إعادة تبويبه، أو إعادة صياغة أو معاودة البحث في أدوات القياس وغير ذلك من النواحي التنظيمية.()
أما المذهب الثاني: فيذهب أصحابه إلى أن مسائل أصول الفقه لا توصف بالقطعية في كليتها، ولكن بعض الأصول قطعية، والبعض الآخر ظني، والنتيجة جواز الاجتهاد في أصول الفقه.
يقول الدكتور القرضاوي مرجحا هذا المذهب: وذلك لما يُرى من الخلاف المنتشر في كثير من مسائل الأصول، فهناك من الأدلة ما هو مختلف فيه بين مثبت بإطلاق، وناف بإطلاق، وقائل بالتفصيل، مثل اختلافهم في المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قلبنا، وقول الصحابي، والاستصحاب وغيرها، مما هو معلوم لكل دارس للأصول.
والقياس وهو من الأدلة الأربعة الأساسية لدى المذاهب المتبوعة، فيه نزاع وكلام طويل الذيول من الظاهرية وغيرهم، حتى الإجماع لا يخلو من كلام في إمكانه، ووقوعه، والعلم به، وحجيته.
هذا بالإضافة إلى أن القواعد والقوانين التي وضعها أئمة هذا العلم لضبط الفهم والاستنباط من المصدرين الأساسين الكتاب والسنة، لم تسلم من الخلاف وتعارض وجهات النظر، كما يتضح ذلك في مسائل العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ وغيرها.
وإذا كان مثل هذا الخلاف واقعا في أصول الفقه، فلا نستطيع أن نوافق الإمام الشاطبي على اعتبار كل مسائل الأصول قطعية، فالقطعي لا يسع مثل هذا الخلاف ولا يحتمله.()
ب – أصول الفقه وإشكالية الأصلي والفرعي أو التبعي :
1 – أصول الفقه وإشكالية التعريف:
فمسألة تعريف أصول الفقه من المسائل التي كثر الحديث عنها في الكتب الأصولية إلى حد الإطناب، فالغالب في مقدمات هذه الكتب الأصولية هو الاهتمام بالتعريف اللغوي والاصطلاحي لهذا المركب “أصول الفقه”.
*الناحية الأولى: إن تعريف علم أصول الفقه هنا جاء لتجاوز تلك النظرة التقليدية التي تجعل التعريف بهذا العلم كمقدمة ومدخل لدراسته لا غير، فعلى العكس من ذلك نجد أن قضية التعريف تكتسي أهمية كبرى في إعطاء صورة واضحة عن حقيقة هذا العلم، وتحديد المواد الأساسية المكونة لماهيته.
فالتعريف بعلم أصول الفقه تظهر أهميته في الطرح الآتي:
فإذا قلنا: كلمة “أصل” و”فقه” في مطلق اللغة فإننا نتصور أن هناك ابتناء حسيا أو معنويا بينهما، والنتيجة أننا نخرج بتصور مفاده أن علم أصول الفقه ينبني عليه غيره، وهو أصل لما سواه، فنطرح السؤال الآتي: هل علم أصول الفقه هو أصل للفقه بدلالته الاصطلاحية باعتباره –العلم بالأحكام الشرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية-؟
أم أنه بمثابة أصل للفقه بدلالته الشمولية؟.
وفيما يخص الناحية الثانية، فإن الغرض المطلوب من هذا التعريف بهذا العلم هو التأكيد على مسألة مهمة وهي كالآتي:
إذا كان علم أصول الفقه بدلالته اللغوية والاصطلاحية يميل إلى معنى الأساس والبناء تارة، وإلى القواعد المنهجية تارة أخرى، فهل هذا العلم “أصول الفقه” ظل وفيا لهذه الثنائية باعتباره قواعد منهجية وأدلة إجمالية ؟
وإلى أي حد استطاع هذا العلم البقاء وفيا في البحث الخالص في هذه الأدلة والقواعد وطرق الفقه؟ خاصة ونحن نعلم أن هناك من خالف مصطلح عامة الأصوليين في التعبير عن ماهية أصول الفقه بعبارة “أصول الدين” أو “أصول الشرع”.()
2 – حقيقة تقسيم الدين إلى أصول وفروع:
يقول الإمام الشهرستاني عن الفرق بين الأصول والفروع:
وقال بعض المتكلمين: الأصول هي معرفة الباري  بوحدانيته وصفاته، ومعرفة الرسل بآياتهم وببيناتهم، وبالجملة فكل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول، ومن المعلوم أن الدين لما كان منقسما إلى معرفة وطاعة، والمعرفة أصل والطاعة فرع، فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصوليا، ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعيا، فالأصول هو موضوع علم الكلام، والفروع هو موضوع علم الفقه، وقيل أن كل ما هو معقول، ويتوصل إليه بالنظر والاستدلال فهو من الأصول، وكل ما هو مظنون أو يتوصل إليه بالقياس والاجتهاد فهو من الفروع.()
وأشار ابن قيم الجوزية إلى أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع تقسيم باطل، وفي هذا الصدد قال: فإنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية، وسموها أصولا وفروعا، وقالوا الحق في مسائل الأصول واحد، ومن خالفه فهو كافر وفاسق، وأما مسائل الفروع فعكس ذلك…()
3 – إشكالية الأصلي والتبعي في أصول الفقه :
فالتجديد والاجتهاد في أصول الفقه يرتبط كذلك بإشكالية الأصلي والتبعي في هذا العلم، فلا بد من التمييز بين ما هو أصلي وما هو تبعي.
لقد اختلف علماء الأصول في عدد الأصول، فقال عامة الفقهاء: الأصول أربعة، الكتاب والسنة والإجماع والعبرة (القياس).
واختصر بعضهم فقال: دلائل الشرع قسمان: أصل، ومعقول أصل.
فالأصل الكتاب والسنة.
وأشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن جماع الأصول نص ومعنى، فالكتاب والسنة والإجماع داخل تحت النص، والمعنى هو القياس.
وقد ضم بعضهم العقل إلى هذه الأصول، وجعله قسما خامسا.()
وقال الإمام الشاطبي: الأدلة الشرعية ضربان: “أحدهما” ما يرجع إلى النقل المحض. و”الثاني” ما يرجع إلى الرأي المحض. وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر، لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل.
فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة، وأما الثاني فالقياس والاستدلال ويلحق بكل واحد منهما وجوه، إما باتفاق وإما باختلاف. فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا، لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد. ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية.()
لقد استخدم علماء أصول الفقه لفظ “الأدلة” ولفظ “الأصول” بمعنى واحد، يقصدون به الأدلة الكلية للأحكام، والأصول التي تقوم عليها.
ومن هذه الأصول ما هو متفق عليه بين الأئمة والمذاهب، ومنه ما هو مختلف فيه، فالأصول الأدلة المتفق عليها عند أهل السنة –فيما عدا الظاهرية الذين يرفضون القول بالقياس- هي القرآن والسنة والإجماع والقياس.
وحين نتتبع أئمة الأصول منذ نشأته نجد اختلافا في تناول هذه الأصول “الأدلة”  وعدِّها وعرضها، فهناك من يقول: إن الأصل الوحيد هو القرآن الكريم، والسنة تابعة له، والإجماع مستند إليهما، والقياس مستنبط منها، وهناك من يعد الكتاب والسنة أصلا واحدا والإجماع مستند إليهما، والقياس تابع للثلاثة مبني عليها.
وذهب البعض إلى جعل القرآن والسنة والإجماع أصولا ثلاثة، ثم ألحق بها القياس، والبعض يعدها أصولا أربعة، متجوزا في التعبير، ملحقا القياس بالأصول المستقلة بذاتها.
فالأدلة منها ما هو اصلي متفق عليه، ومنها ما هو تبعي مختلف فيه يجوز الاجتهاد فيه.
ويلاحظ أن الذين يدعون إلى التجديد في علم أصول الفقه يستعملون مصطلح “التأصيل” ويقولون نحن في حاجة إلى تأصيل جديد.
فالحديث عن الأصول والتأصيل يستدعي منا -منهجيا- وقفة لتحديد معنى مصطلح التأصيل الذي يقصد به معنيان:
* – المعنى الأول: تركيز وتثبيت وتأكيد أصول وضوابط مقررة صراحة أو ضمنا، فالتأصيل في هذه الحالة يتم من ناحيتين، ناحية إبراز قوة الأصل المدافع عنه، وناحية إظهار اهتزاز الأصل المخالف.
* – أما المعنى الثاني للتأصيل: فهو إضافة أو صياغة أصول جديدة، ولو كانت هذه الإضافة ناتجة عن تطوير الصياغة وإعطائها أبعادا أو مفاهيم جديدة، وهذا المعنى هو الذي يستحق أن يطلق عليه الإبداع في تأصيل الأصول “أصول الفقه”. وهو أمر صعب، ليس في قدرة كل الأصوليين ولوج بابه، وشق عبابه، واكتساب أسبابه، إذ من السهل إدراك مقام الأصولية، لكن من الصعب إدراك مقام التأصيل، وهذا ما يفسر كثرة الأصوليين وقلة المؤصلين.()
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم التجديد بالمنظور الشرعي لا يعني إحداث انفصال مع الماضي، ولا يتضمن أية نظرة قدحية له، إنه يتضمن إعادة توظيف للطاقة في النموذج الأصل لضمان استمراريته وتجديد حيويته.
وبناء على ذلك، فمفهوم التجديد يجب أن يسير وفق ضوابط منهجية نذكر من بينها:
– أولا: ضرورة فهم النموذج الأصل فهما لا يخل بثوابته، أي أن لا يتضمن هذا التجديد إحداث قطيعة مع النموذج الأصل، وإلا لم يكن تجديدا بل تفسيرا، فلا يمكن الحديث عن الاستغناء عن القرآن والسنة مثلا في أية عملية للتجديد.
– ثانيا : ضرورة الاعتماد على منهج معرفي سليم، فالحديث عن التجديد يرتبط ارتباطا جدليا بضرورة فتح باب الاجتهاد المنهجي، فالمنهج هو المعبر عن روح الحضارة لأية أمة من الأمم، فحيث توجد حضارة يوجد منهج، لأنه في جوهره حشد للطاقات وتجميعها والتنسيق بين معطياتها، لكي تصب في الهدف الواحد، فتكون أغنى فاعلية، وأكثر قدرة على العطاء والتجدد، فالتجديد على مستوى المنهج هو التجديد المطلوب فيما يخص علم أصول الفقه.
– ثالثا: ضرورة ارتباط التجديد بالواقع ومعطياته:
وفي هذا السياق يقول سيد قطب: “فخاصة الواقعية تتمثل في أنها تصور يتعامل مع الحقائق الموضوعية، ذات الوجود الحقيقي المستيقن والأثر الواقعي الإيجابي، لا مع تصورات عقلية مجردة، ولا مع مثاليات لا مقابل لها في عالم الواقع، أو لا وجود لها”.()
فخاصية الواقعية يجب أن تتضح في علم أصول الفقه، لأنه العلم الذي يرتبط بشكل مباشر بما هو عملي، ولأنه العلم الذي يقنن تعامل العقل المسلم مع الواقع، ومن ثم يكون التجديد في أصول الفقه ينبع من ضرورة شرعية أولا، وضرورة واقعية ثانيا.
– رابعا : اعتماد المنهج التكاملي عند الحديث عن التجديد في أصول الفقه، فمثلا لا يمكن عزل المقاصد عن الأصول بصفة عامة، فالعمل بالمقاصد والتعويل عليه يؤدي حتما إلى طرح سؤال مهم يتعلق بحقيقة ذلك العمل بالمقاصد وطبيعته، وهل معناه استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية وانفرادها باستنباط الأحكام لتصير دليلا بعد النص والإجماع، ومصدرا مستقلا عنهما أو مهيمنا عليهما، وأصلا مقطوعا به يصار إليها في معرفة أحكام الله  وهدي رسوله ؟
أم أنه عمل في إطار المنظومة الشرعية، وانخراط ضمن أدلتها وقواعدها وهديها وتوجيهاتها؟
إن الجواب البديهي على إشكالية استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية، هو أن المقاصد ليست دليلا مستقلا عن الأدلة الشرعية، وإنما هي تابعة لها ولصيقة بها ومتفرعة عنها.
– خامسا : ضرورة الاستفادة من معطيات العلوم المعاصرة، ففي عصر الكمبيوتر والإنترنت لا يمكن الحديث على الاعتماد على المنطق الأرسطي، فلا بد من الانفتاح على آخر المستجدات والمعطيات العلمية، وبناء على ذلك فعلم أصول الفقه يجب أن يكون عن صلة بعالم الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة…
– سادسا : خدمة علم أصول الفقه تيسيرا وتبسيطا وتنقية، يقول الإمام الشاطبي: “كل مسألة موسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية… كمسألة ابتداء الوضع، ومسألة الإباحة هل هي تكليف؟ ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي  متعبدا بشرع أم لا؟()
ويمكن القول بأن المسائل التي أخرجها الإمام الشاطبي من صلب الدراسات الأصولية هي في الحقيقة أمثلة نموذجية، وليست على سبيل الحصر، وبناء على ذلك فالدرس الأصولي في حاجة ماسة إلى تنقيته من العديد من المباحث النظرية، فأغلب المباحث الكلامية والعقلية قد دخلت في صلب الدراسات الأصولية لأسباب عقدية وفكرية معروفة، أي أن تلك المباحث كانت وليدة عصرها، فلا يمكن الحديث في عصرنا الحاضر عن ماهية العلم وحقيقته وأقسامه، والعقل وماهيته، والنظر وحقيقته، ومسألة التحسين والتقبيح، ومسألة حكم الأشياء قبل ورود الشرع، ومسألة شكر المنعم، وجواز خلو الواقعة من حكم الله، وفتور الشرائع، وهل أحكام الله ثابتة إلى يوم القيامة؟
والكلام كذلك عن الكلام النفسي، وهل يجوز التكليف بالمستحيل وبما لا يطاق؟ والحديث عن الاستطاعة، والقدرة، وقد استطرد علماء الأصول إلى أن تحدثوا عن أشياء طريفة، كالحديث عن تكليف الحيوان، والجماد، وتكليف الجن…
وإذا نظرنا إلى القرآن باعتباره أصل الأدلة الشرعية وأساسها، نجده لم يسلم كذلك من عدة رواسب كلامية مثل علاقة تعريف القرآن بالكلام النفسي، والحديث عن مسألة خلق القرآن، وقضية عربية القرآن، ومفهوم الصرفة والإعجاز، وتفاضل الآيات والسور، وهل يشتمل القرآن على المهمل؟ وهل هناك زيادة ونقصان في القرآن؟ وبحثوا في دلالة القرآن على خلاف ظاهره، وهل يبقى مجمل بعد وفاة الرسول  ؟
وأطنب علماء الأصول إلى أن أدرجوا في كتبهم الأصولية بعض الأمور النظرية التي لا علاقة لها بالاستنباط، كالكلام عن القصد من إنزال المتشابه، وعن حقيقة التشابه.
أما السنة فقد علقت بها هي كذلك العديد من القضايا الكلامية كمسألة حال الرسول  قبل البعثة، ومسألة عصمة الأنبياء.
وفيما يخص الإجماع فقد ارتبطت به العديد من القضايا الكلامية كمسألة هل إجماع الأمم السالفة حجة؟ وتكفير جاحد المجمع عليه، إضافة إلى الحديث عن حقيقة الإجماع في العقليات، وهل يجوز ارتداد أمة محمد ؟ وهل الإجماع من خصائص هذه الأمة؟
وإذا انتقلنا إلى مبحث القياس فلم يسلم هو كذلك من هذه الرواسب الكلامية، كالحديث عن التعليل وعلاقته بفعل الصلاح والأصلح، والاختلاف في حقيقة العلة هل هي كاشفة عن الحكم أو مؤثرة فيه؟
والحديث عن القياس في العقليات، وهل يجوز القياس في أسماء الله الحسنى؟
أما عن باقي الأدلة الشرعية فقد تأثرت هي الأخرى بهذه المباحث النظرية، كمسألة تأخير البيان وعلاقته بتكليف ما لا يطاق، وبالحسن والقبح العقليين، ومسألة التخصيص بالعقل وعلاقتها بالتحسين والتقبيح…
فحتى مباحث الاجتهاد والتعليل والتعارض والترجيح تأثرت بهذه المباحث النظرية، مثل مسألة حقيقة التصويب والتخطئة في الاجتهاد، وهل يجوز التفويض في الاجتهاد، أي أن يقال للعالم احكم بما شئت؟ ومسألة التقليد في العقليات، وبالغوا إلى أن تكلموا عن الإلهام، وعن رؤيا الأنبياء، والهاتف الذي يعلم أنه حق، وتعريف الطاعة عند أهل السنة والمعتزلة.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الكتب الأصولية قد ختمت بمطالب العقائد، والأخلاق والتصوف.