الرئيسية / القراءة الفردية للنصوص وتدبير الاختلاف.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : القراءة الفردية للنصوص وتدبير الاختلاف.

الكاتب(ة) : د. أحمد الخمليشـــــــــــــــي

القراءة الفردية للنصوص وتدبير الاختلاف

أحمد الخمليشي
مدير  دار  الحديث الحسنية

تقديم :

يسعدني أن أساهم في النشاط الموازي لدار الحديث الحسنية بهذا الدرس الافتتاحي للسنة الدراسية 2002-2003 بعنوان “القراءة الفردية للنصوص وتدبير الاختلاف”. ولعل المصطلحات التي جاءت في العنوان غير مألوفة، ولكنني استعملتها عن قصد لأثير الانتباه إلى موضوع الاختلاف، وأكثر منه إلى موضوع تدبيره والاستفادة منه وتفادي سلبياته.
إن الاختلاف في النظر إلى الحياة وبالأحرى الاختلاف في فهم النصوص أمر حتمي وظاهرة لا يمكن تفاديها إطلاقا، وهي من مستلزمات العقل البشري ووجوده، لكن هذا الاختلاف يكون معول هدم إذا ترك له العنان، ووسيلة بناء وتطور إذا أحسن تدبيره والاستفادة منه.
أود الحديث باختصار شديد عن الموضوع في الفقرات الآتية:
أولا: تطور الاختلاف الفقهي.
ثانيا: مناقشة الاختلاف والحديث عنه.
ثالثا: تدبير الاختلاف من حيث الممارسة والتنظير.
رابعا وأخيرا: خلاصة واقتراح.
أولا: تطور الاختلاف الفقهي.
إذا ما ألقينا نظرة عامة وموجزة على المسيرة التاريخية للأمة الإسلامية فيما يرجع إلى تطور الاختلاف في الأحكام الواجبة التطبيق في شؤونها العامة يمكن أن نلاحظ المراحل الآتية باختصار:
1) المرحلة الأولى التي بدأت جزئيات قليلة، أحيانا بسيطة، وأحيانا أخرى كانت الجزئيات المختلف حولها ذات أهمية كما سنلاحظ في بعض الأمثلة بعد قليل. وهذه مرحلة الخلافة وبالأخص فترة الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما… الوقائع التي كان فيها الاختلاف محدودة وقليلة بسبب طبيعة الحياة الاجتماعية التي كانت تتسم بشبه استقلال الأفراد في شؤونهم الخاصة وبقلة علاقاتهم اليومية بالآخرين.
2) المرحلة الثانية طبعها اتساع الاختلاف إلى جزئيات كثيرة نتيجة تكون “طبقة القراء” ثم “الفقهاء” الذين تخصصوا في تقديم حلقات الدروس والجواب عن أسئلة المستفتين، ثم تأسست المذاهب، فأصبحت الجزئيات الفقهية محل الاختلاف لا تعد بالمئات وإنما بالآلاف المؤلفة في مختلف فروع الفقه وأبوابه.
3) المرحلة الثالثة تجاوز فيها الخلاف الموضوعات التي يقبل الاختلاف فيها نتيجـة الدلالة الظنيـة للنصوص، وفهمها وسط المحيط الذي يوجد فيه المفسر أو الفقيه.
انتقل الاختلاف إلى موضوعات لم تتناولها النصوص ولا طائل من الاختلاف حولها لا في علاقات الأفراد ولا في بناء المجتمع. مثلا:
– هل كان الرسول  قبل البعثة يتعبد بشريعة أم لا؟ وإذا كان يتعبد بأكثر من شريعة واختلفت في بعض الأحكام ماذا كان يطبق منها؟.
– إذا اختلف مجتهدون في حكم لواقعة واحدة، هل كلهم أصابوا الحق، أم أن أحدهم هو الذي أصابه والآخرون مخطئون؟ والمخطئون ما مبرر نيلهم أجرا على اجتهاد خاطئ؟.
– دراسة المنطق هل هي فرض كفاية كما يقول بعض الفقهاء؟ أم حرام لا يجوز الاشتغال به كما يقول آخرون؟.
يقول ابن تيمية:” رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله. حتى أن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي. وقال: آخذها منه أفضل من آخذ عكا [ عكا كانت تحت الاحتلال الصليبي ] مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما، وأمثلهم اعتقادا”.()
الاختلاف الذي أدى إلى فتاوى التكفير، وقتل أبرياء بين الأشاعرة والمعتزلة حول اتصاف الحق سبحانه أو عدم اتصافه بصفات المعاني، أي هل هو قادر وعالم مثلا ومتصف بالقدرة والعلم، أم إنه قادر وعالم دون حاجة إلى أن تنسب إليه صفتا القدرة والعلم.
هكذا انزلق الاختلاف في هذه المرحلة إلى ما لا فائدة في الاختلاف فيه، وحتى إلى ما أضر بالفكر الإسلامي وتوجهه الحضاري.
4 )المرحلة الرابعة انتهى فيها الاختلاف في الرأي في مفهوم قراءة النص الشرعي والانتهاء في تفسيره إلى رأي غير الذي انتهى إليه آخرون وانتقل إلى الاختلاف في التقليد، بمعنى أن كل ما يكتب حول تأييد رأي وانتقاد الرأي المخالف لا يبنى على تحليل النص والاقتناع الشخصي، وإنما على مجرد التقليد لآراء فقهاء المذهب الذي ينتمي إليه الكاتب أو المدرس أو المفتي.
ثانيا:  الحديث عن الاختلاف  :
نقصد بهذه العبارة الطريقة التي تحدث بها السـابقون عن الاختـلاف والجوانـب التي تناولـه منها الخائضون فيه.
كتب الكثير حول الاختلاف لكن من جوانب لا يبدو أن الحديث عنها أفاد في موضوع الاختلاف الذي عانت منه الأمة وما تزال تعاني منه.
ومن أهم ما تناوله المتحدثون عن الاختلاف:
1 – آداب الاختلاف:
هناك مؤلفات خصصت بكاملها للحديث عن آداب الاختلاف سواء من حيث إبداء الرأي، أو التعامل مع الرأي المخالف، أو أسلوب المناظرة مع من يخالفك في الرأي… الخ.
وفي حالات غير قليلة تبدو مبالغة واضحة في حكايات عن تعامل الأولين مع مخالفهم في الرأي.
2 – اعتبار الاختلاف نعمة ورحمة:
ويرى القائلون بهذا الرأي أن تعدد الآراء يجد فيها المسلمون سعة حيث يمكنهم اتباع أي واحد منها.
مما قاله ابن عبد البر في كتابه “جامع بيان العلم وفضله”:
“اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين: أحدهما أن اختلاف العلماء من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة رحمة واسعة. وجاز لمن نظر في اختلاف أصحاب رسول الله  أن يأخذ بقول من شاء منهم، وكذلك الناظر في أقاويل غيرهم من الأئمة ما لم يعلم أنه خطأ… هذا قول يروى معناه عن عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد، وعن سفيان الثوري إن صح، وقال به قوم”. ثم نقل رواية عن محمد بن أبى بكر   يقول فيها: “لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي  في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا أنه رأى نفسه في سعة، ورأى أن خيرا منه قد عمله”().
3 – ذم الاختلاف واعتباره غير جائز:
ومن القائلين بهذا الرأي ابن حزم في كتاب “الإحكام في أصول الأحكام” الذي أكد أن الواجب اتباع الكتاب والسنة:” فما صح في النصين أو أحدهما فهو الحق، ولا يزيده قوة أن يجمع عليه أهل الأرض، ولا يوهنه ترك من تركه، فصح أن الاختلاف لا يصح أصلا”.()
4 – التمييز بين الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم:
ويؤسس هذا التمييز على الوسيلة المستعملة للوصول إلى الرأي. فان اعتمدت في استنباط الرأي قواعد الاجتهاد المحددة في أصول الفقه كان الاختلاف محمودا، لأنه قائم على ما يأمر به الإسلام من الاجتهاد لفهم نصوص الكتاب والسنة.
أما إذا كان الرأي مستندا إلى الهوى دون استعمال لضوابط التفسير الأصولية فإنه يكون اختلافـا مذموما. علما بأنه لا أحد يعلن عن رأي اجتهادي لا يستند فيه إلى قواعد التفسير الأصولية.
هذه أهم المناقشات التي دارت منذ القرن الأول للهجرة إلى يومنا هذا. وهي مناقشات أخرت ولم تقدم، فقد اقتصرت على موضوعات نظرية لا تفيد شيئا في الحياة العملية، وأغفلت الجانب الأهم في موضوع الاختلاف وهو تدبيره وإدارته حتى يستفاد من إيجابياته وتستبعد سلبياته.
لكن هل صحيح أن السابقين لم يعنوا بتدبير الاختلاف؟ نجيب عن السؤال في الفقرة الموالية.
ثالثا:  تدبير الاختلاف  :
القصد من تدبير الاختلاف أو إدارته، هو وجود وسائل يؤمن بها الجميع، ويحترمها، ويتم الاحتكام إليها في الأحكام التي تختلف الآراء بشأنها، للانتهاء إلى حكم واحد يلزم كل أفراد الأمة.
وما نتحدث عنه قاصر على العلاقات الاجتماعية وتنظيم المجتمع ومؤسسات الدولة وعلاقاتها بالدول الأخرى. أما العبادات فغير مقصودة هنا، لان تحديدها وشكل أدائها لا علاقة للقانون به.
إذا ألقينا نظرة عامة على تاريخنا، ومدى العناية بتدبير الاختلاف يمكن التمييز بين الممارسة والتنظير:
1 – الممارسة:
يمكن الفصل بين مرحلتين: ما قبل مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان  وما بعده.

أ – ما قبل مقتل عثمان :
يحفظ التاريخ كثيرا من الوقائع التي حدث بشأنها الاختلاف في الاجتهاد بين الصحابة. وتم تدبير اختلافهم بوسائل وإن لم تكن واحدة، ولا متفقا عليها مسبقا، إلا أنها بالتعبير الحديث كانت وسائل “حضارية” حافظت بها الأمة على وحدتها. ومن لم يؤخذ برأيه في تلك الوقائع خضع للرأي المخالف الذي أقرته أغلبية الأمة أو الخليفة الذي كانت بيده صلاحية التقرير، ولم يتعصب بادعاء أن رأيه هو الموافق للشريعة وما عداه خطأ. ولم يطبق مقولة:” يحرم على المجتهد ترك الحكم الذي استنبطه واتباع الرأي المخالف “.
من الأمثلة على ما نقول:
* – تعيين الخليفة بعد وفاة الرسول :
لم يوافق على مبايعة أبى بكر الصديق  عدد من كبار الصحابة مثل سعد بن عبادة، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير … لكن لما بايعته الأغلبية اعتبر المعارضون أنفسهم ملزمين بقرار الأغلبية فانصرفوا من ساحة النزاع، ثم منهم من عاد بعد فترة وبايع، مثل علي بن أبي طالب ، ومنهم من أصر على عدم المبايعة إلى وفاته مثل سعد بن عبادة الذي لم يبايع لا أبا بكر ولا عمر بن الخطاب .
إذن الأغلبية لم ترغم بالقوة الأقلية على المبايعة، والأقلية لم تشوش على ما أقرته الأغلبية بالترويج العلني لرأيها والدفاع عنه. ولا شك أن هذا تدبير حكيم للاختلاف.
* – قتال مانعي الزكاة:
لما أراد الخليفة أبو بكر الصديق  قتال مانعي الزكاة إثر وفاة الرسول  كان من أشد المعارضين له عمر بن الخطاب، قائلا له: كيف تقاتل قوما يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. والرسول  قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟
أجاب أبو بكر بما رآه سندا للقتال، وأكد باليمين عزمه على تنفيذ قراره، فتوقف عمر عن المعارضة، وخضع لقرار الخليفة.
ولم يفعل عمر ما فعله اقتناعا بحجة أبي بكر بدليل أنه بعد توليه الخلافة أبطل ما كان من الاستعباد للنساء والأطفال الناتج عن حرب المرتدين، وردهم إلى ذويهم باستثناء النساء اللائى كن ولدن ممن تملكهن، ومنهن خولة بنت جعفر المعروفة بالحنفية التي كانت لدى علي بن أبي طالب وولدت منه ابنه المعروف بمحمد بن الحنفية.
عمر بن الخطاب إذن مع اقتناعه بصواب رأيه استسلم لقرار الخليفة الذي اعتبره حاسما للنزاع في التنفيذ، ولم يستمر يجاهر بأن رأيه هو الموافق للشريعة، وأن الرأي الآخر خاطئ، كما فعل كثير من المفتين طيلة القرون التالية.
* – جمع القرآن:
اقتنع عمر بن الخطاب بفكرة جمع القرآن وكتابته ولم يقتنع بها أبو بكر. ولم يزل عمر يلح عليه بالجمع وأنه خير، إلى أن اقتنع وأمر به.
هنا انتهى الاختلاف إلى الاتفاق بالحوار والاقتناع بسداد الرأي.
*- منع تقسيم الأراضي المفتوحة بالعراق:
كان الاختلاف واسعا بشأن تقسيم أرض العراق المفتوحة بين الفاتحين وبين عدم تقسيمها وفرض أداء الخراج على أصحابها لبيت المال.
وأخيرا قرر الخليفة عمر  عدم التقسيم. إما كما تقول رواية أنه أقنع معارضيه بآية:ما أفاء اللـه على رسوله من أهل القرى إلى قوله : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم حيث اعتبر الذين جاءوا من بعد معطوفين على من لهم الحق في الغنيمة المذكورين قبل الآية الأخيرة.
وإما كما تقول رواية أخرى أنه اختار خمسة من أعيان الأوس ومثلهم من الخزرج فوافقوه على رأيه.
وأيا كانت الرواية الصحيحة، فالمهم هو أن المطالبين بالتقسيم خضعوا للرأي المقابل دون أن يفرض عليهم ذلك بالقوة، ولم يثيروا فتنة بالتمسك برأيهم باعتباره الموافق لما كان عليه الأمر في حياة الرسول   كلها وفي خلافة أبى بكر.
هذه نماذج من الاختلاف في الرأي أيام الخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أحسن تدبيرها.
لم يكن هنالك تنظير لهذا التدبير ولم ينظم بشكل مؤسسي، ولكن المهم تحقق حسن التدبير، أما تنظيمه مؤسسيا فلم يكن متأتيا في هذه الفترة الباكرة، وبالأخص أن حالات الاختلاف كانت قليلة، وجهاز الدولة ما يزال بسيطا.
ب – ما بعد مقتل الخليفة عثمان :
أول اختلاف لم يتم تدبيره بوسائل الحوار والإقناع، ذلك الذي حدث بين الخليفة الثالث والوفد المصري ومعهم محمد بن أبي بكر الصديق حول تسليم مروان بن الحكم الذي نسبت إليه الرسالة التي تغدر بالوفد المصري وعاملهم الجديد محمد بن أبي بكر الصديق.
بدل التدبير تم الاحتكام إلى السيف، فكانت الفتنة التي أصابت أمة الإسلام بطعنة لم تندمل جراحها إلى يومنا هذا.
بعد هذه الواقعة الفاجعة يمكن أن نقول أن السلوك أو الممارسة التي اتبعت إزاء الاختلاف في الرأي هي:
1) الاحتكام إلى السيف في مجال الحكم والسياسة مع الاستعانة باختلاق أحاديث لإضفاء الصفة الشرعية والدينية على المطالبة بكرسي الحكم.
2) ظهور فتـاوى الزندقة والتكفير ضد المخالفين في الرأي، أودت بحيـاة كثيـر من الأبريـاء، وعذب وسجن آخرون.
نتيجة هاتين الممارستين تشكلت الفرق والطوائف التي تصف كل واحدة نفسها أنها وحدها على الصراط المستقيم وكل من عداها هو في ضلال مبين.
نشأت الفرق والشيع نتيجة الاختلاف في الرأي السياسي، ولكنه سرعان ما أنشأت كل واحدة منها “فقهها” الخاص بها في العبادات وفي المعاملات معا، فتجذر بينها الاختلاف في الرأي الفقهي حتى كادت أن تصبح لكل فرقة شريعتها المتميزة عن شرائع الفرق الأخرى، لذلك نقرأ مثلا عبارات:” الفقه السني” “الفقه الشيعي” … الخ.
وفي غياب الوسيلة الحاسمة لتدبير الاختلاف، تشعبت الآراء حتى داخل الفرقة الواحدة، وبالأخص “أهل السنة” الذين يمثلون أغلبية المسلمين، حيث قيل إن عدد المذاهب تجاوزت الخمسمائة في نهاية القرن الثالث الهجري.
أمام هذا الوضع غير القابل للاحتمال، تم تدبير الاختلاف بالدعوة إلى أن فقهاء معينين يشكل فقه كل واحد منهم “مذهبا” متميزا ومستوعبا لكل الأحكام الفقهية. وكان هؤلاء كثرا، ثم مع مرور الزمن، تمكنت المذاهب الأربعة المعروفة من الانتشار في كل العالم الإسلامي “السني”.
وكانت الدعوة إلى” المذهب” تستلزم قطعا وقف الرجوع إلى قراءة نصوص الشريعة والاجتهاد في فهمها المرتبط بظروف الزمن والمكان.
هذه الطريقة لتدبير الاختلاف أفادت في وقف تشعب الآراء مع اعتبار كل رأي “حكما شرعيا” واجب التطبيق، ولكنها من الجانب الآخر عقمت الحركة الفكرية، وغرست مرض  “التقليد” الذي ما يزال مسيطرا على مجموع الأمة، وعلى أغلب من ترجع إليهم وإلى فتاواهم في أمور دينها.
هذا ملخص الممارسة الخاصة بتدبير الاختلاف منذ مقتل الخليفة عثمان بن عفان : الاحتكام إلى السيف، فتاوى الرمي بالزندقة والكفر، ثم فرض المذهبية والتقليد.
وفي القرن الماضي ظهر تطور في فتاوى القذف بالإلحاد والكفر، فقد كانت هذه الفتاوى توجه ضد الأفراد، وفي أحيان نادرة إلى طائفة أو فرقة. أما ابتداء من القرن الماضي فقد وضع مصطلح  “الجاهلية” ووجه الاتهام بالإلحاد والكفر إلى الأمة بكاملها، وهو ما جعل المقتنعين بهذه الفتاوى يؤمنون بوجوب “الجهاد” في رموز “الأمة الكافرة” من الدولة ومؤسساتها وأعوانها، والمرافق العمومية للمجتمع، وحتى الأفراد الذين يعبرون عن رأي معارض، وقابلت الدولة ذلك بالعنف والمحاكمات… فكانت النتيجة أن هذه الوسيلة التي التجأ إليها الطرفان لتدبير الاختلاف ومحاولة القضاء عليه، تعتبر أخطر الكوارث التي حلت بالعالم الإسلامي خلال القرنين الأخيرين.
هذا عن أساليب الممارسة الفعلية لتدبير الاختلاف فماذا عن التنظير له؟.
2 –  التـنظيـر :
يمكن القول إننا لا نجد تراثا مفيدا في التنظير لتدبير الاختلاف وإدارته، نصادف في الكتب الفقهية مقولة “رأي الامام أو ولي الأمر يرفع الخلاف”، لكنها مقولة لا نجد لها تطبيقا عمليا، ولم تؤثر بشيء على اختلافات الفقهاء.
كما أن الدعوة إلى الالتزام بالمذهب وفرض التقليد، لم يحل دون تعدد الآراء داخل المذهب الواحد. وهو ما حمل فقهاء كل مذهب على وضع مصطلحات لدرجات الاختلاف بين الآراء وألزموا القضاة والمفتين بمراعاتها، فهنالك الراجح ثم المشهور مقابل المرجوح والضعيف، وما جرت به الفتوى الذي قد يكون ضعيفا ويساويه في الاصطلاح المغربي “ما جرى به العمل”.
وقد كانت ظهائر تعيين القضاة بالمغرب منذ وقت غير يسير تتضمن إلزام القاضي بالحكم بالراجح، أو المشهور، أو ما جرى به العمل من مذهب مالك.
وبصرف النظر عن عدم انضباط المصطلحات السالفة الذكر باعتبار أن ما يصفه فقيه بالرجحان أو الشهرة أو جريان العمل، قد يصفه فقيه آخر بضده – أقول مع صرف النظر عن ذلك، فإن هذا كان تدبيرا للتقليد، وليس تدبيرا للاختلاف في الرأي.
لذلك فإن كلا من مقولة: رأي ولي الأمر يرفع الخلاف، والإلزام بالراجح والمشهور وما به الفتوى من المذهب لم يكن تنظيرا بالمفهوم الحقيقي للمصطلح.
في الحقبة الأخيرة برزت أفكار في علاج موضوع الاختلاف في الرأي.
من أهم هذه الأفكار:

*- تشكيل مجلس العلماء:
هنالك من دعا إلى تشكيل هذا المجلس في حدود القطر الإسلامي المعني، ومن تجاوز ذلك دعا إلى إقامة مجلس واحد لكل العالم الإسلامي. فهل هذه وسيلة تحقق فعلا التحكم في اختلاف الرأي، وتوصل إلى إقرار رأي واحد يلزم الجميع؟.
لا نعتقد ذلك لعدة أسباب تبدو واضحة وغير قابلة للنقاش:
لا نذهب إلى تصور “مجلس علماء” كل العالم الإسلامي، فهذا يبدو بعيد المنال قطعا. وإنما نقتصر على إمكانية تشكيل هذا المجلس داخل قطر إسلامي واحد.
كيف يتم حصر القائمة بأسماء “العلماء”؟ ومن يختار من بينهم “أعضاء المجلس”؟ وهل “تخصص العلماء” قادر على التشريع في كل المرافق التي يتطلبها تنظيم المجتمع الحديث؟ أم أن المجلس يشرع في مجال تخصص أعضائه، وما عداه يفعل فيه المجتمع ما يشاء، لأنه ليس من الشريعة؟ فهل هنالك فعلا جزء من قواعد تنظيم المجتمع المسلم يجب التقيد فيه بأحكام الشريعة والجزء الآخر لا يجب فيه ذلك؟ أسئلة كثيرة لا تبدو ضرورة الاسترسال فيها.
ومن ناحية ثانية، القصد من الاختلاف المطلوب تدبيره هو الاختلاف في الرأي الناتج عن قراءة النصوص الشرعية وتفسيرها المرتبط بظروف المجتمع وواقع حياته المعيشة. فهل أغلبية “العلماء” على الأقل يعتمدون قراءتهم الشخصية للنصوص فيما يعبرون عنه من آراء أو يصدرونه من فتاوى؟ أترك الجواب للعلماء أنفسهم.
مثلا هنالك كمية كبيرة من الكتابات والآراء الفقهية القديمة حول الأقلية غير المسلمة في المجتمع المسلم، وعلاقات المسلمين دولة وأفرادا بالبلدان غير الإسلامية أو ما كان يسمى بدار الإسلام ودار الكفر، والتجارة مع الكفار … الخ.
إن ما يكتب اليوم من كثير من “العلماء” هو مجرد ترديد لما كتبه الأولون، والحال أنه لو أخذ في الاعتبار الواقع العالمي والإنساني الذي نعيشه، وتجددت قراءة نصوص القرآن مجتمعة، والسنة النبوية وفي مقدمتها “صحيفة المدينة” المشهورة – لظهرت آراء أخرى في الموضوعات السالفة الذكر.
*-التقريب بين المذاهب:
من الأفكار المروج لها في موضوع تدبير الاختلاف ما أطلق عليه: الحوار من أجل التقريب بين المذاهب، ومما يقال في هذا الصدد: لنبدأ بالمتفق عليه ثم الانتقال إلى المختلف فيه.
قد تبدو الفكرة منطقية وسليمة. ولكن ينبغي التعمق في تحليلها. إنها تفيد:
1 – أن المتفق عليه والمختلف فيه أمران نهائيان، قرر فيهما السابقون ولم تبق للاحقين صلاحية إعادة النظر فيهما بقراءة مستقلة لنصوص الشريعة وإنما عليهم التقليد والتقليد وحده.
2 – أن ممثلي كل طائفة أو مذهب ينطلقون في الحوار من عقيدة أن رأي طائفته أو مذهبه هو الحق الذي يمثل التفسير الصحيح لنصوص الشريعة. وهذا ما يؤدي إلى تعميق الاختلاف وليس إلى تدبيره الذي يتطلب أن يتم بالإقناع بالرأي المستخلص من قراءة النص ومن قراءة الواقع، ومن مآل تطبيقه في هذا الواقع.
*-اعتماد مقاصد الشريعة:
رأي آخر يدعو إلى اعتماد مقاصد الشريعة التي يختفي معها الاختلاف في الرأي أو تضيق دائرته على الأقل في الأحكام الفقهية.
والقائلون باعتماد المقاصد:
1 – منهم من يذهب إلى استعمال مقاصد الشريعة لتصحيح قواعد أصول الفقه. فهذه القواعد وضعت عن طريق الاجتهاد، وهي لذلك ظنية ومختلف في أغلبها، فلا يمكن أن تنتج إلا فقها ظنيا ومختلفا في أغلب أحكامه الجزئية.
وبما أن مقاصد الشريعة قطعية، فإن اعتمادها في صياغة القواعد الأصولية يؤدي إلى تحقق الصفة القطعية لهذه القواعد، وهو ما سيختفي معه – على الأقل في الغالب – الاختلاف في الأحكام الفقهية الجزئية.
2 – منهم من يتجاوز أصول الفقه ويرى اعتماد مقاصد الشريعة مباشرة في الاستنباط الفقهي. بمعنى أن الاجتهاد في تقرير الأحكام الفقهية للجزئيات ينبغي أن يعتمد فيه على مقاصد الشريعة، لأنها قطعية ومتفق عليها، فتنتج أحكاما فقهية متفقا عليها كذلك، بينما اعتماد قواعد أصول الفقه في الاجتهاد يؤدي إلى الاختلاف في الرأي، لأن الكثير من هذه القواعد الأصولية مختلف فيه، فيترتب عن ذلك حتما الاختلاف في الأحكام الفقهية.
لكن هل صحيح أن اعتماد مقاصد الشريعة لتصحيح القواعد الأصولية، أو للاستنباط المباشر للأحكام الفقهية منها، يؤدي إلى اختفاء الاختلاف أو تضييق دائرته على الأقل؟.
لا يبدو ذلك صحيحا. فبصرف النظر عن غياب التحديد الواضح للمبادئ التي تشكل المقاصد العامة للشريعة، فان المقصد لا يمكن أن يكون إلا عاما في دلالته.
فالغزالي ومن بعده الشاطبي يقولان إن المقاصد العامة للشريعة هي: المحافظة على الدين، وعلى النفس، وعلى المال، وعلى العقل، وعلى النسل أو النسب.
والشيخ محمد الطاهر بن عاشور ذهب إلى أن المقاصد العامة للشريعة مبنية على وصفها الأعظم وهو الفطرة، ثم اعتبر السماحة أكبر مقاصدها، وأن المقصد العام من التشريع هو حفظ النظام بجلب المصلحة ودرء المفسدة، وأن مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب مطمئنة البال.
ثم تعرض لما رآه مقاصد خاصة بأنواع المعاملات فاعتبر أن المقاصد الخاصة بأحكام الأسرة هي:
آصرة النكاح، وآصرة النسب والقرابة، وآصرة الصهر، والخاصة بالمال هي: رواجها ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها. الخ. ما رآه مقاصد في عقود العمل والتبرعات، والقضاء والعقوبات. (كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية).
والشاطبي في الموافقات أشار إلى ما أطلق عليه “الأدلة القطعية” للشريعة، ومثل لها بـ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتماع الكلمة، والعدل، وأشباه ذلك”.()
هذه النماذج لتعداد مقاصد الشريعة التي أوردتها كلها في مبادئ عامة، يترتب عنها قطعا اختلاف كثير في تطبيقها على الوقائع الجزئية، لذلك لا يبدو أن الرجوع إلى المقاصد العامة للشريعة في تقرير الأحكام الفقهية سيختفي معه الاختلاف ولو جزئيا.
رابعا :  خلاصة  واقتراح :
رأينا كيف تم احتواء الاختلاف في الرأي في فترة يسيرة من بدء تاريخ الدولة الإسلامية، ثم ترك له العنان، فأجهز أولا على وحدة الأمة ثم على تطور فكرها السياسي والفقهي، فخضع الأول لشريعة السيف والغلبة، واستسلم الثاني للتقليد، والمبالغة في الثناء على الأولين الذين أنهوا تفسير نصوص الشريعة، وأحاطوا بكل حاجات الأمة ووضعوا لها أحكامها إلى نهاية الحياة على الأرض، ولم يتركوا لمن بعدهم ما يقولون.
وإثر الهزة الاجتماعية والفكرية الناجمة عن الاحتكاك بالغرب، برزت النتائج المتراكمة عبر القرون للفرقة والاستكانة إلى التقليد، فكانت الدعوة إلى إنهاء الاختلاف بإقامة مجالس العلماء، أو محاولة التقريب بين المذاهب، أو باعتماد المقاصد العامة للشريعة في الاجتهاد، لكن لا يبدو أن ذلك أتى بثمار دان قطافها.
إذن ما العمل؟
الموضوع يتعلق بتحول شامل في ثقافة المجتمع، وفي تقدير مسئوليته إزاء شريعته وإزاء الواقع المتردي الذي يعيشه. لذا ينبغي أن تتكاثف الجهود، ويساهم الجميع في البحث عن الوسائل التي تحقق هذا التحول.
ويبدو أن الوصول إلى تحقيق تدبير الاختلاف في الرأي يمر بمرحلتين: مرحلة إنتاج الآراء المختلف فيها، ومرحلة تدبير وإدارة هذه الآراء.
–  مرحلة إنتاج الآراء المختلف فيها :
ينبغي التذكير بأن المطلوب ليس العكوف على ترديد الآراء المختلفة المنسوبة للسابقين والتعبد بها، ثم محاولة تدبيرها بالتوفيق بينها.
كما أنه بالمقابل ليس المطلوب إبعاد كل ما أنتجه الأولون، وبدء بناء منقطع الصلة به.
إنما المطلوب تحمل مسئولية التكليف التي تفرض على كل جيل مواصلة البناء بالانطلاق من الحاجات الفعلية للمجتمع للبحث عن الحلول الملائمة لها من نصوص الشريعة ومبادئها الكلية.
فالعلاقات الاجتماعية المطلوب تنظيمها تتأثر قطعا بعامل الزمن: فتتسع، وتتغير، وتندثر، وتظهر منها أنواع جديدة … الخ.
مثلا أنواع العقود اتسعت كثيرا عن التي كانت معروفة من قبل، وتحدث عنها الفقه، ومثل ذلك تنظيم مرفقي القضاء والإدارة، إلى غير ذلك مما يتطلبه تنظيم المجتمع الحديث.
وتغيرت أحكام كثيرة المنظمة لنفس العلاقة، مثل عقود الرهن، والعمل، والنقل، وموارد ومصارف الخزينة العامة (بيت المال)، وغير هذا كثير.
وانتهت العبودية فاندثرت كل الأحكام التي وضعت لتحديد أسبابها ولتنظيم علاقات السيد بالعبد، والتعامل في العبيد كمال من الأموال. ومثل ذلك نظام “أهل الذمة” .
وظهرت علاقات تتطلب التنظيم، لم تبد للمجتمعات السابقة حاجة إلى تنظيمها: شركات وأوراق تجارية، الجمعيات، الانتخابات، البيئة … والقائمة طويلة.
هذا الواقع يؤكد ضرورة الرجوع دوما إلى نصوص الشريعة ومبادئها الكلية لاستلهام الأحكام الملائمة للعلاقات التي يعيشها المجتمع فعلا، فهذه النصوص والمبادئ لم تنته معانيها ودلالتها بما فسرها وشرحها به السابقون، ولن تنتهي بما يمكن أن يضاف الآن من تفسير وتأويل.
لا نقول هذا جزافا، ولا نقصد فقط المبادئ الكلية التي لا ينازع أحد في اختلاف تطبيقها على الجزئيات باختلاف الزمن مثل: العدل، والمعروف، والخير، والتعاون على البر والتقوى المأمور بها، والظلم، والمنكر، وأكل أموال الناس بالباطل، والتعاون على الإثم والعدوان المنهي عنها.
وإنما ينطبق ما قلناه حتى على الأحكام الخاصة، والألفاظ العامة الواردة في نصوص الشريعة.
من الأمثلة على ذلك:
-الحديث المتعلق بالردة مع الآيات التي تقر حرية الاعتقاد والنهي عن الإكراه في الدين، وكذلك الآيات الخاصة بالعلاقة مع الآخرين مثل آيات: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ()،  وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ()، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ()، لا تجـد قومـا يؤمنـون باللـه واليـوم الآخـر يـوادون من حـاد اللـه ورسولـه، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ()، مع آيات:  وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ()،لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولائك هم الظالمون().
فقراءة هذه الآيات مجتمعة، تؤكد أن التطبيق مرتبط بواقع العلاقات القائمة بين الأمة الإسلامية وبين الآخرين المخالفين في الدين، وهو ما يفرض إعادة القراءة مع كل واقع تجدد في تلك العلاقات.
ـ أول آية من سورة المائدة تقول:يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود() أي العقود التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة.
الفقه القديم تحدث بإسهاب عن العقود التي كانت سائدة في التعامل بين الناس بأسمائها المتداولة، فأجاز ما رآه غير مخالف لنصوص الشريعة ومنع ما اعتبره مخالفا لها.
وإذا رجعنا اليوم إلى سوق المعاملات في المجتمع نجد من ناحية اختفاء عقود كانت حاضرة في الماضي مثل عقود مكاتبة العبد وبيعه، وتأجيره، ومن ناحية ثانية ظهرت عشرات العقود التي لم يتحدث عنها الفقه.
الواجب إذن هو قراءة جديدة للعقود المأمور بالوفاء بها انطلاقا مما يتداوله الناس فعلا في معاملاتهم.
والسرقة حددها الفقه بالوسائل التي كانت تمارس بها، فاشترط دخول السارق بجسمه إلى داخل الحرز والنقل المادي للمسروق إلى خارجه، بينما الآن يمكن لشخص في مكتبه مع الحاسوب أن يختلس الملايين من أي بنك في العالم وإن بعدت عنه في المسافة آلاف الكيلومترات.
وآية  (وأمرهم شورى بينهم) فسر الشورى باستشارة الحاكم أو ولي الأمر من اصطلح على تسميتهم بأهل الحل والعقد، ويمكن أن نفسره الآن بنظام الانتخاب للمؤسسات التي تقرر في الشئون العامة. وهي قابلة لأي تفسير آخر إذا تجاوز مجتمع الإنسان نظام الانتخاب إلى وسيلة أخرى أفضل لإدارة شؤونه.
من هذه الأمثلة تتأكد ضرورة القراءة المتلاحقة لنصوص الشريعة التي تختزن معاني ودلالات لا يكتشفها الإنسان إلا من خلال واقعه الاجتماعي الذي يعيش فيه.
بقي أن نتساءل عن القارئ من هو؟
ينبغي التفكير مليا في الجواب عن السؤال. هنالك جواب جاهز يكثر الالتجاء اليه، وهو أن قراءة وتفسير نصوص الشريعة وبيان أحكامها لا يسمح به إلا “للعالم”، وهو جواب سليم إذا كان المقابل لمصطلح “العالم” هو “الجاهل”، فهذا الأخير لا يتصور صدور تفسير منه لما لا يعلمه. لكن إذا أريد بالمصطلح المفهوم المتداول للفظ “العالم” فإن الأمر يتطلب بعض التوضيح.
بالأمس كان تنظيم السلطة السياسية، ومؤسسات الدولة والشؤون العامة للمجتمع مغيبا عن المناقشات العلنية والعمومية، والحديث المحدود جدا الذي تناوله به بعض الفقهاء في كتاباتهم بقي أفكارا نظرية محجوبة عن الواقع الذي تديره السلطة السياسية بعيدا عن كل تنظير أو تفكير مؤسسي.
أما العلاقات الخاصة بين الأفراد فكانت محدودة يكفي لضبطها الرجوع إلى تفسير النصوص الخاصة للشريعة، وهو ما تضبطه قواعد أصول الفقه.
لذلك كان من لا يحسن هذه القواعد لا يمكنه ادعاء القدرة على التفسير و”العالم” بها يستطيع الجواب عن كل الأسئلة التي توجه إليه من الأفراد حول سلوكهم الشخصي وحول علاقات التعامل فيما بينهم.
أما الآن فينبغي أن نأخذ في الحسبان بعض الحقائق التي منها:
1 ـ مرافق التنظيم الاجتماعي المطروحة للنقاش اتسعت كثيرا عن تلك التي كانت “فتوى العالم” كافية للإحاطة بها، وأصبحت موضوع عشرات وعشرات من التخصصات يستحيل أن يلم بها شخص واحد مهما أوتي من العبقرية والنبوغ.
2 ـ مرافق المجتمع مع تعددها متشابكة في قواعد تنظيمها، والتخصصات المعرفية الموزعة بينها لا يستقل بعضها عن بعض في مجال التنظيم، وإنما تتكامل فيه وتتعاون.
3 ـ المجتمعات الإنسانية ومنها المسلمة تجاوزت مرحلة تشخيص التقرير إلى مرحلة مأسسته، فلم يعد مقبولا إسناد التقرير إلى فرد أو مجموعة أفراد بأشخاصهم أيا كانت الصفة التي يحملونها، وإنما الذي يسند إليه ذلك هو “المؤسسات” التي يشكلها المجتمع لتعبر عن إرادته بوسائل يحتفظ معها بالرقابة والتوجيه عن طريق الشفافية في العمل، وحرية إبداء الرأي والنقد.
4 ـ التخصص المعرفي ما تزال له أهميته، ولكن في حدود تقديم المعرفة الصحيحة والمفيدة دون سلطة التقرير.
5 ـ لا أحد من غير ذوي الاختصاص يزاحم “العلماء” في اختصاصهم بشأن استحضار النصوص، وضوابط التصحيح والتضعيف لأخبار الآحاد من الأحاديث، وقواعد تفسير النصوص الخاصة المفصلة في أصول الفقه.
6 ـ أكثر ما نحتاج إليه اليوم من تشريع في تنظيم المجتمـع لن يعتمد على النصـوص الخاصـة التي تطبق عليها ضوابط التفسير المفصلة في أصول الفقه. وإنما يؤسس على كليات الشريعة ومبادئها العليا الجارية ” على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس من كل ما هو معروف في محاسن العادات، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات”.()
والاجتهاد الذي يحتاج إلى التخصص ومعرفة قواعده في أصول الفقه هو الاجتهاد في النصوص الجزئية أو الخاصة، ” وأما المعاني مجردة [كليات الشريعة] فالعقلاء مشتركون في فهمها”.()
” فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء”.()
إذا استحضرنا هذه الحقائق، تأكد أن المجتمع كله مطلوب منه قراءة نصوص الشريعة، وهو ما يزكيه التكليف الشخصي لكل مسلم بالإلمام بأحكام دينه. وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا().
وبعبارة أخرى كل التخصصات المعرفية مؤهلة وملزمة بالمساهمة في إعادة قراءة نصوص الشريعة واستخلاص الأحكام الواجبة التطبيق على الواقع الذي يحياه الناس ويعيشونه بكل ظروفه وملابساته.
نعود فنكرر السؤال:
لماذا نقول بضرورة إعادة قراءة نصوص الشريعة التي سينتج عنها حتما اختلاف في الرأي، ثم الانتقال إلى البحث عن وسائل تدبير هذا الاختلاف؟
قبل الجواب عن السؤال نؤكد أن إعادة القراءة لا تعني الانتهاء حتما إلى مخالفة كل الآراء السابقة، فهي تخضع أساسا لنفس قواعد وضوابط التفسير، كل ما في الأمر أن واقع العلاقات الاجتماعية وملابساتها وما تجدد منها تختلف كثيرا عن ظروف وملابسات هذه العلاقات قديما، وهو ما يقتضي تغير نسبة مهمة من أحكامها.
ويتأكد هذا من الملاحظات التي نوردها جوابا عن السؤال أعلاه:
أولا: أن المناقشات الفقهية الموروثة اقتصرت أساسا على العلاقات بين الأفراد، وفي حدود ما كانوا يعيشونه فعلا في حياتهم اليومية.
أما ما نسميه اليوم بالمرافق العامة للمجتمع، فلم تحظ باهتمام كبير، وحتى القليل جدا الذي قيل بشأنها لم يتجاوز التنظير إلى التطبيق.
ثانيا: التوجه العام في الفقه ركز على الحقوق الفردية، ويمكن القول إنه في تنظيم هذه الحقوق قصر في الجانب المتعلق بأمن المجتمع وسلامته، مثلا تصرفات المالك في ملكه بما في ذلك ملكيته للماء، والغابات، والمعادن (ينسب إلى مالك القول باعتبار المعادن ملكا للامة، لكن الفقه جرى على غير ذلك)، وإحداث ما يقلق أو يؤذي الجيران. وصناعة الأسلحة وبيعها والتجنيد الإجباري، والاختلاف الذي لم يحسم فيه بعد حول حق ولي الأمر (الدولة) في فرض ضرائب أو إتاوات لتسيير الشئون العامة … في هذه المجالات وكثير غيرها نجد الحقوق الفردية هي الحاضرة بوضوح على حساب أمن المجتمع وسلامته.
ثالثا: التفسيرات السابقة ارتكزت على قواعد “أصول الفقه” التي تقتصر أساسا على ضبط الدلالة اللغوية للنصوص، أي النصوص الخاصة، أما كليات الشريعة ومبادئها العليا، فنادرا ما تؤسس عليها أحكام جزئية بصورة مباشرة مثل جلب المصلحة، ودرء المفسدة، ورفع الحرج.
بينما تعتبر هذه الكليات والمبادئ اليوم المصدر الأساسي الذي يتعين اعتماده في البحث عن أحكام الشريعة للمجالات الكثيرة المطلوب تنظيمها في المجتمع الحديث.
رابعا: كثير من الأحكام المختلف فيها قديما لم تبق فائدة في الوقوف مع حكاية الاختلاف بشأنها، لأن الوقائع أو العلاقات التي كانت تتعلق بها اختفت نهائيا، أو تغيرت ظروفها وملابساتها في الحياة الاجتماعية المعيشة، ولا يحتاج هذا إلى أمثلة فهي موجودة في كل باب أو عقد في الكتب الفقهية، ويكفي الرجوع إلى أي باب أو عقد منها بدون استثناء.
خامسا: مع كل ما سبق نورد أمثلة لعلها تقنع من لا يريد الاقتناع بضرورة إعادة قراءة نصوص الشريعة.
أصدر البرلمان المغربي عدة نصوص تشريعية، منها مثلا القانون رقم 95.3 المنظم لتدبير الماء الذي ألغى الملكية الفردية للماء كان سطحيا أو جوفيا، بينما الفقه ناقش الموضوع بإسهاب وبنى ما وضعه من أحكام على أساس أن مالك الأرض يملك بالتبعية ما فيها من ماء سطحي أو جوفي، وأن الفرد يملك كذلك كل ما يجره من النهر العمومي في شكل ساقية أو قناة أو حتى في شكل نهر حيث يمثل الفقه بـ “نهر يزدجرد” الفارسي.
ـ القانون رقم 95.15 المكون لمدونة القانـون التجـاري الذي تضمـن كثيـرا من المقتضيـات لم يناقشها الفقه، كشروط اكتساب صفة التاجر وآثارها، والسجل التجاري والأصل التجاري، والأوراق التجارية، والإجراءات الخاصة بالوقاية من صعوبات المقاولة ومعالجتها.
ـ القانون رقم 95.17 المتعلق بشركات المساهمة التي لم يتعرض لها الفقه في مناقشاته.
بالنسبة لموضوعات هذه القوانين وأمثالها:
هل نكتفي بالحل الخادع والمضل، وهو أن هذه القوانين “وضعية” و”الأحكام الشرعية” هي المسطرة في الكتب الفقهية؟ أم يتعين عرض مضمون القوانين السالفة الذكر على قراءة جديدة لنصوص الشريعة ومبادئها الكلية، فما لا يخالفها يعتبر من أحكام الشريعة، وما قد يكون مخالفا لتلك النصوص والمبادئ يجب بيان هذه المخالفة واقتراح البديل الذي يحل محله؟ ووصفنا الحل الأول بالخادع والمضل:
لأنه من ناحية يربط أحكام الشريعة بآراء فقهاء لو عاشوا في الواقع الاجتماعي الذي نحياه اليوم لغيروا الكثير من الأحكام التي دونوها في كتبهم وفتاواهم.
ومن ناحية ثانية، يضل عامة المسلمين الذين يعتقدون أن “القانون الوضعي” لا علاقة له بالدين، وبالتالي يباح التهرب من مقتضياته، والتحايل على تنفيذه، وهو ما يشاهد في السلوك الفعلي لكثير من المواطنين، ويلحق أضرارا فادحة ببناء المجتمع وحماية مصالحه، الأمر الذي لا تقره الشريعة قطعا.
–  مرحلة تدبير الاختلاف :
أكدنا في الفقرة السابقة على ضرورة إعادة قراءة نصوص الشريعة لاستخلاص الأحكام الخاصة بالتنظيم الاجتماعي بمختلف فروعه ومرافقه.
هذه القراءة سينتج عنها قطعا اختلاف في الرأي في عدد غير قليل من الجزئيات، وربما حتى في بعض المبادئ والقواعد العامة. وهو ما يحتاج إلى تدبير ينتهي عن طريق إجراءات يتفق عليها الجميع إلى تحديد الحكم الواجب التطبيق دون إكراه ولا مصادرة للحق في إبداء الرأي.
وأول الشروط الواجب توفرها لتحقيق ذلك اعتبار الرأي تفسيرا شخصيا للنص ينحصر الدفاع عنه في المبررات التي أسس عليها، وليس بوصفه “حكما شرعيا” أو “حكم الله” الذي ما بعده إلا الضلال.
الأسلوب الذي تصاغ به “الفتاوى” والآراء ما يزال يبعد الصفة الشخصية أو الاجتهادية، ويركز على نسبة الحكم إلى الشارع مباشرة، وما المفتي إلا ناطق باسمه وناشر لشريعته.
إذا استمرت هذه الثقافة لن يتحقق تدبير للاختلاف. لكن فسحة الأمل قائمة في أن يتم الوعي بالماضي والحاضر وأخذ العبرة منهما للشعور بثقل الأمانة، وبخطورة المسؤولية أمام الله والعباد، فيستبدل الفهم والتحليل والخلق والإضافة بالركون إلى الحفظ، والحكاية والتقليد وتعطيل نور العقل.
إذا استفاقت الأمة من سباتها، وهداها الله إلى سبيل الرشاد، ستجد الطريق أسهل من ذي قبل إلى تدبير الاختلاف، فالمجتمع الآن منظم في مؤسسات، وتيسرت فيه وسائل التواصل والحوار، وهو مستقر على الاحتكام إلى مؤسسة “البرلمان” في تقرير القواعد الأساسية لتنظيمه، وكثير من هذه القواعد إن لم تكن كلها تختلف حولها الآراء، ولكن عندما يصادق عليها البرلمان يلتزم الجميع باحترامها وتطبيقها .
وحقيقة أخرى وهي أنه ليس صحيحا ما يقال عن القوانين التي يصدرها البرلمان من أنها “ليست شرعية” وبالتالي مخالفة للشريعة.
صحيح أنها في مجملها لا تصاغ بناء على تفسير فعلي لنصوص الشريعة، كما أن إجراءات إقرارها تختلف عن تلك الواردة في أصول الفقه لتقرير “الحكم الشرعي”.
لكن من حيث المضمون يمكن التأكيد على أن أغلبيتها المطلقة على الأقل لا تخالف الشريعة، والمطلوب هو انتفاء هذه المخالفة، وليس ضرورة إسناد كل حكم إلى نص شرعي دلالة أو قياسا.
ومن ناحية ثانية أعضاء البرلمان يمثلون المجتمع بكل شرائحه، ويعبر كل فريق منهم عن رأي حزبه الذي من المفروض أن يكون لديه متخصصون في جميع المجالات التي يتدخل التشريع بتنظيمها، وفي مقدمة التخصصات التي يتعين الحرص على توفرها في بلد مسلم معرفة أحكام الشريعة والاجتهاد فيها، حتى لا تصدر تشريعات تناقضها، سيما أننا نجد الآن في عدد من برلمانات الدول الإسلامية أعضاء أو فريقا أو أكثر يمثل الأحزاب التي تصف نفسها بالإسلامية، فينبغي أن تكون هذه الأحزاب في مقدمة من يعنى بعدم صدور قوانين تعارض الشريعة.
لكن ليس بنقل رأي فقهي وتقديمه على أنه الشريعة التي لا نقاش فيها، وإنما يجب أولا أن يكون الرأي قائما على اجتهاد ناتج عن قراءة نصوص الشريعة على ضوء واقع الحياة الاجتماعية وملابساتها، وثانيا أن يقدم الرأي بصفته اجتهادا قابلا للمناقشة مع الآراء المخالفة إن وجدت، وثالثا الالتزام بنتيجة المناقشة التي يبنى عليها النص القانوني الملزم للجميع.
إن تدبير الاختلاف سهل ميسر إذا غيرنا ما بأنفسنا، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن أهم ما يجب تغييره مما بأنفسنا:
1  ـ الإخلال بالمسؤولية فرديا وجماعيا:
والقصد مسئولية التكليف التي تفرض على كل فرد الإلمام بشؤون دينه عن طريق المعرفة والإدراك، وليس عن طريق السماع والتقليد، وتفرض كذلك على كل جيل الرجوع إلى نصوص الرسالة وتطبيقها على الواقع الذي يعيشه بكل ظروفه وملابساته، بدل الاكتفاء بتفسير الآباء والأجداد الذي له ظروفه الخاصة به.
2 ـ التمسك بالمفهوم الخاطئ لعبارتي: “الأحكام الشرعية” و”القانون الوضعي”:
المفهوم المتداول للعبارتين هو أن الأولى تعني أحكام الشريعة الواجب على المسلم احترامها وتطبيقها، وهي موجودة في الكتب الفقهية، وبالأخص القديمة منها، وأن الثانية وضعها الناس خارج الشريعة، والمسلم غير ملزم دينيا بتنفيذها، ولا يلحقه وزر عن مخالفتها، وهي التي تصدر وفقا للنظام الدستوري الحديث. أي إن المفهوم مرتبط بالشكل وحده مع الاستبعاد الكلي للمضمون. وفي هذا يكمن الخطأ الذي لا يدركه الكثير من الناس.
فوصف أي حكم بالشرعي أو بالوضعي ينبغي أن يرتبط بالمضمون وليس بالشكل، خصوصا وأن الشريعة لم تفرض شكلا محددا لاستنباط الأحكام ما عدا ما يقضي به العقل السليم من استعمال ضوابط الفهم القويم لنصوصها.
وإذا تتبعنا أحكام “القانون الوضعي” يتأكد أن أغلبها لا يخالف الشريعة، نعم قد نجد فيها ما تتحقق فيه هذه المخالفة، لكن إلى جانب هذين القسمين يمكن أن تتضمن أحكاما هي الأجدر بوصفها بالشرعية من تلك الأحكام الاجتهادية التي اختفت ملاءمتها بسبب تغير الظروف التي صدرت فيها.
مثلا: عقد البيع ينعقد لدى الفقه في جميع الأشياء بكل ما يدل على الإيجاب والقبول، وهو ما عبر عنه مختصر خليل بقوله:”ينعقد البيع بما يدل على الرضى وإن بمعاطاة”.
بينما يشترط “القانون الوضعي” في بيوع خاصة: الكتابة العرفية أو الكتابة الرسمية أو إجراءات خاصة للإشهار، مثل بيوع السيارات والسفن، والأصل التجاري والعقارات المحفظة. فهل يعتبر هذا الاشتراط خارجا عن الشريعة، وأن الحكم الشرعي هو الاكتفاء بالإيجاب والقبول في جميع أنواع البيوع؟.
وعقد الزواج اشترط الفقه لانعقاده مجرد الإشهار بالوليمة وما شابهها أو بحضور شاهدين عدلين أو من مطلق الناس، ولم يشترط أحد من الفقهاء السابقين ـ فيما أعلم ـ توثيق العقد كتابة.
فإذا راعى “القانون الوضعي” ظروف الحياة الاجتماعية المتسمة بحركة التنقل وعدم الاستقرار فاشترط توثيق عقد الزواج. أي الحكمين يكون أقرب إلى الشريعة ومقاصدها؟.
والفقه يقول بإخضاع عقد العمل لإرادة الطرفين في تحديد الأجر وساعات العمل، ولكل منهما إنهاؤه متى شاء، فهل نقول الآن إن هذه هي “الأحكام الشرعية” لعقد العمل، وإن تدخل “القانون الوضعي” لصالح الطرف الضعيف (العامل) غير شرعي؟. ومثل الأحكام المتعلقة بملكية الماء والغابات والتصرف فيها …
3 ـ “الفتاوى” بنقل رأي من عدة آراء تحرم وتحلل باسم الدين:
هذه الفتاوى المؤسسة على النقل والحكاية يصوغها الناقل بأسلوب الحقيقة المطلقة غير قابلة للنقاش، وبنفس الوصف يتلقاها الكثير من القراء الذين قد يسترخصون حياتهم دفاعا عنها، وفي ذات الوقت لا تعيرها الدولة وقوانينها شيئا من قوة الإلزام والنفاذ.
ونتائج هذه الوضعية أدت في أكثر من دولة إسلامية إلى العنف والعنف المضاد، وأضاع المجتمع بسبب ذلك الكثير من الوقت والطاقات هو في أمس الحاجة إليها للحاق بقطار التنمية وركب الحضارة.
4 ـ نبذ الحوار ونزعة الإقصاء:
المتتبع للسلوك العام فيما يعبر عنه من آراء وما يجري من مناقشات، يتأكد من غياب الحوار الذي يقوم على قبول الإصغاء للمخالف، والدفاع عن الرأي بأسلوب الإقناع انطلاقا من المقولة المنسوبة للشافعي ولآخرين:” رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي مخالفي خطأ، يحتمل الصواب”.
وتبرز نزعة الإقصاء من ناحية في النيل من شخص المخالف بدل الاقتصار على مناقشة الأفكار، ومن ناحية ثانية في العنف المادي، وكذلك العنف المعنوي بالرمي بالتحجر والجمود، أو العمالة والإلحاد …
إذا أقلعنا عن هذه النواقص والمثالب وعن الغرور بالوصاية وفرض الرأي واستبدلنا بها الشعور بمسؤولية التكليف أفرادا ومجتمعا، وآمنا بأنه لا خيار:
إما التمييز بين حق الفرد في إبداء الرأي والدفاع عنه بالحسنى، وبين حق المجتمع في تقرير ما يراه صالحا من بين مختلف الآراء، وهو ما يشجع على الخلق والإبداع ويحقق وحدة الأمة وعزتها.
وإما التعصب للرأي ونبذ الآراء المخالفة، ونتيجة ذلك كما أكد القرآن هي: النزاع، والفشل، وذهاب ريح الأمة ووحدتها وشوكتها.
إن فعلنا هذا نكون قد غيرنا بعض ما بأنفسنا، فعسى الله أن يغير ما حاق بنا حتى تكالب علينا القوي والضعيف، والقريب والبعيد، ويعلم الله وحده ما هو آت، وهو الغالب على أمره، وله الأمر من قبل ومن بعد.