الرئيسية / رسالـة العلمـاء : تـوظيف آلـيات الاجتهاد لإغـناء الفقـه والمساهمة في تطوير المجتمعات الإسلامية وإصلاح أوضاعها.

عدد المشاهدات 13

عدد التحميلات 1

عنوان المقال : رسالـة العلمـاء : تـوظيف آلـيات الاجتهاد لإغـناء الفقـه والمساهمة في تطوير المجتمعات الإسلامية وإصلاح أوضاعها.

الكاتب(ة) : . عبد الهادي بوطالـــــب

تلتقي الديانات الموحدة الثلاث على جامع مشترك هو توحيد خالق السماوات والأرض وما بينهما، ونشر رسالة الخير والفضائل ومكارم الأخلاق، وسيادة قيمها الخيرة الفاضلة في المجتمعات بما يجعل حظوظ تحلي البشر بالفضائل والحسنات أوفر من حظوظ الوقوع في الراذائل والسيئات، وما يساعد على إيجاد تواصل وتواد وتعاون بين المجتمعات التي تصبح أكثر تآلفا وتساندا واستقرارا، وحتى تعايشا وتساكنا هادئين، وما يقوي ويعزز التعاون المشترك بين البشرية التي كرمها الله بجميع فصائلها في المطلق، بصرف النظر عن اختلاف هويتها وتغاير مواقعها فوق الأرض، ودون تفريق بين دياناتها وحتى كفرها ومروقها عن النهج الإلهي، ليقوم البشر كله في وحدة شاملة بمسؤولية الخلافة أو النيابة عن الله في إدارة الأرض إدارة جيدة يرضى الله عنها وتفيد عباده: ﴿والأرض يرثها عبادي الصالحون﴾()، ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾().
ولنتوقف عند هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء: ﴿من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما يشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يلقاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا﴾().
إن الله بمقتضى هذه الآية الكريمة يكرم البشر كله ويتكرم على المؤمنين والكافرين على السواء في هذه الدنيا بدون تمييز، وقد يغدق على الكافرين أكثر من فيض الثروات، والتقدم في العلم، وبلوغ أوج التطور، والتنمية والرفاهية ليعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، أما الحساب فمؤخر إلى الدار الآخرة ﴿ولا يظلم ربك أحدا﴾() بصيغة استغراق النفي الدالة على العموم.
وقد عهد الله بهذه الرسالة إلى رسله الكرام في طليعتهم موسى، وعيسى ابن مريم عليهما السلام، ومحمد بن عبد الله المصطفى خاتم النبيئين والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم. والرسل الثلاثة جاءوا برسالة ألهمها الله في البدء إلى أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام: ﴿ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل﴾(). رسالة إسلام الوجه والإرادة إلى الله الحي القيوم الذي تعنو إليه الوجوه، ويعبده ويسجد له ويسبح بحمده الكون كله، رسالة التوحيد والإذعان لما أنزله الحق، والتقيد الكامل بما أمر به وما نهى عنه، والإيمان بقدره خيره وشره، حلوه ومره، واليقين باليوم الآخر الذي يبدأ من البعث من القبور ويعيش فيه موتى هذه الدنيا حياة الخلود: ﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى﴾() ﴿وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون﴾(). وما أعظم آياته المقروءة وما أعظم آياته المرئية في السماوات والأرض وما بينهما من أجرام وكواكب وعوالم!
ولأن الرسالات الثلاث منزلة من الله الرحمن الرحيم الكريم الوهاب فقد التقت على مبادئ مشتركة لأنها جاءة من الإله الواحد، واتفقت على تمجيد أخلاق الرحمة والعدل والإنصاف وفضائل التعاون بين البشر والتسامح والتكافل والتراحم، وحثت على المودة، ونهت عن الكراهية والبغضاء… وكفلت للإنسان حقوقه، واشتهر بعض هذه الرسالات بأنه دين الرحمة، فقد شهد الله في القرآن بهذا لرسالة موسى في قوله تعالى: ﴿أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة﴾() وهي شهادة لموسى بأنه قدوة، ولدينه بأنه رحمة. وجميع ما جاء في الوصايا العشر وما كتب في صحف موسى والألواح التي ألقي بها إليه مما نهى عنه الله وكلم به موسى فيه رحمة. وأكدتها بعده رسالتا عيسى ومحمد عليهما السلام. وبمقتضى ذلك فما جاء بعد موسى في كتب اليهود (كالتلمود) من حض على قتل الأغيار، وكراهية لغير اليهود، والتحريض على إذايتهم يوحي بأنه من صنع أحبار اليهود الذين أخرجوا ديانة موسى عن سماحتها ورحمتها.
أما الديانة المسيحية فقد جاءت منسجمة في تعاليمها الأخلاقية مع دين موسى الذي اكتفى بالحث على فضيلة العدل. لكن المسيح أضاف إلى ذلك قوله: “إن العدل وحده يحجر القلوب إذا لم تصاحبه دفقة من محبة”.
وجاء عن المسيح في خطبة الجبل قوله: “أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى بعضكم. وباركوا لاعينكم، وصلوا واستغفروا للمسيئين منكم. ومن ضربك على خدك فحول له الآخر. ومن أخذ رداءك فلا تمنع عنه ثوبك. ومن طلب منك شيئا فاعطه. ومن أخذ ما هو لك فلا تطالبه به. وعاملوا الناس كما تريدون أن يعاملوكم. إن أحببتم من يحبونكم فأي فضل لكم؟ كونوا رحماء كما أن الله رحيم”.
أما رسالة الإسلام طبق ما جاء به القرآن والسنة النبوية فإن تراثنا الخالد حافل بأخلاقيات المحبة والتراحم وتعايش المسلم مع ذاته وأخيه والآخر، والتكافل بين فصائل المجتمع ببذل عطاء الزكوات والصدقات والإسعاف والتعاون حتى يكون كل عضو في المجتمع من ذكر أو أنثى نافعا ومفيدا، ووجوب قيام الإنسان بمسؤولية نفع أخيه، والتسابق إلى نجدته والتضامن معه، والاعتدال في الموقف وإبداء الرأي بدون غلو، والبعد عن التعصب والتشدد، واحترام الرأي الآخر، والدين الآخر، ليكون الإنسان الذي يرقى بالإسلام متحركا غير جامد، ومنتجا غير عقيم، ومعبأ في خدمة البشرية من أقرباء وأباعد.
والإسلام أوجب على من يريد الالتحاق به أن يتعمق فهم الدين حتى لا ينخرط فيه مقلدا، فأحكام الدين كله معقولة المعنى وإن خفي منها شيء فإنما مرده لقصور العقول عن فهم عمقها. ولا يطعن هذا القصور في صدقيتها وأحقيتها، خصوصا ما يخص الغيبيات التي قد لا تدرك بحواس عالم الشهادة. وعلى المؤمن عندما يستعصي عليه فهمها أن يخضع فهمه للإيمان بما جاء عن الله على وفق مراد الله.
في القرآن آية كريمة جاءت في سورة الأعراف كنت أقول لطلبتي عنها إنها ورقة تعريف وهوية لنبي الهدى محمد عليه السلام ومن ورائها هوية رسالته وطبيعتها: هي قوله تعالى ﴿فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم﴾().
إنها رسالة التيسير ورفع الحرج والإنصاف، وليس فيها تكليف بما لا يطاق:
﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾() ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾() وفي الحديث: “رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه”().
جاءت الرسالة الإسلامية ثورة تحريرية للإنسان، ونظاما عالميا جديدا حرر الإنسان من سلطة الأرض وأخضعه فقط لسلطة السماء واتخذ الإسلام لذلك شعار الله أكبر. فالله ليس له أب ولا ولد ﴿لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد﴾(). هو غير مشخص لا في ابن ولا في صنم منحوت أو صليب مصنوع، أو كهنوت بشري يحكم فوق الأرض باسم الله. والناس جميعا متساوون. فهم عباد الله أو عبيده. ولا يوجد في الإسلام رجال دين كما لا توجد تراتبية الكنيسة، ولا بشر يغفر ذنوب نظيره. وإنما يوجد علماء الشرع الفقهاء المتخصصون في فقه الدين وتأويله واستنباط أحكامه. وكان أولهم عبد الله بن عباس الذي دعا له نبينا دعوته المستجابة فقال: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”(). وهذا التوحيد الكامل لله، وإبعاده عن التجسيم والتشخيص هما اللبنتان الأساسيتان في صرح تكريم الله للإنسان ورفع قيمته. إذ ارتقى به عن عبادة نظيره، أو ما صنعت يداه، أو ما تشخصه الأبصار في عالم الشهادة ﴿لا تدركه الأبصار. وهو يدرك الأبصار. وهو اللطيف الخبير﴾().
وللإسلام تجاه حقوق الإنسان تنظير خاص، فهو يعتبرها حقوقا للبشرية وحقوق الله أيضا. إن تخويلها لعباده كافة وبدون تمييز بينهم ولا تفريق ممارسة من الله لحقوقه. وممارستها منهم ممارسة لواجب مصدره الحق الإلهي. واحترامها وصونها وعدم المس بها واجب على الإنسان. والإخلال بها إخلال بالحق الإلهي، إذ الله هو مالك هذه الحقوق وواهبها للبشر طبقا لمبدأ تكريمه للبشر ولتخويله الإنسان حق استخلافه والنيابة عنه في الأرض.
وإذا كان وصف الغرب لهذه الحقوق بالطبيعية يترتب عليه ـ تشريعا وممارسة ـ بقاء هذه الحقوق مصونة، فإن وصفها في الإسلام بالإلهية وإطلاق اسم حقوق الله عليها يعطيانها ضمانة أقوى وأرسخ، إذ ما يعطيه البشر لنفسه بإرادته قابل للتغيير بنفس الإرادة.
أما ما يمنحه الله بإرادته للبشر فله صبغة الدوام. وهو من الثوابت التي لا يمسها التغيير.
وهذا ما يشكل الضمانة الكبرى لاستمرارية تمتع الإنسان بهذه الحقوق. أما حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها اليوم في المجتمع الدولي فما تزال تفتقد الضمانات القانونية لحمايتها من المس بها إذا استثنينا بعض الآليات التي أخذ المجتمع الدولي يستحدثها لمعاقبة من يخلون بها كمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي فظائع ضد الإنسانية.
ولقد وقع المس بهذه الحقوق رغم توثيقها في المواثيق الدولية بعد الحادي عشر من شتنبر عام 2001 عندما لم يعد القطب الأمريكي الأعظم يتقيد بها في تعامله مع أسرى حرب أفغانستان، وعندما لم يعد المجتمع الدولي يمارس الضغوط على النظم التي لا تحترمها وتخل بها.
ولقد بلغ التنظير الإسلامي لربط حقوق الله وحقوق الإنسان برباط واحد إلى حد التحام الحقين وتشابكهما مما يصعب معه إقامة حدود فاصلة بينهما. إن كفالة حق الله لضمان هذه الحقوق لا تنفصل عن كفالة حق عباده بممارستها.
كفل الإسلام حقوق الإنسان منذ تصوره جنينا بجسد وروح في بطن أمه. وقد منع الإخلال بحقوقه. فالإنسان يولد متمتعا بها منذ التكوين. وتبتدئ بحقه في الحياة وهو جنين. فإجهاضه حرام. وهو من باب قتل النفس التي حرم الله قتلها. وأعطى الإسلام الجنين حق العناية به والمحافظة عليه، ووضع عقوبات على أمه إذا أخلت بحسن تعهده وتربيته. وإلى أن تضع الأم حملها لا تقسم تركة أب الجنين إلا بعد وضعه ليأخذ نصيبه المحدود من تركة أبيه. ثم أعطاه منذ الولادة حق إرضاعه وعلاجه والنفقة عليه من والديه إلى أن يبلغ. وأوجب على والديه في مختلف مراحل العمر تربيته وتعليمه وتدريبه على الشعائر الدينية كأداء الصلاة، لكن لا يصح من والديه إكراهه على الصوم والحج قبل أن يكتمل نموه. وتظل حقوق الإنسان تلازم حياة الإنسان في جميع مراحل عمره. فمن حقوقه على المجتمع كفالته اجتماعيا عند العجز والمرض والشيخوخة. وقد حرم الإسلام قتل النفس دون تحديد لذلك لا بقيد الدين ولا بقيد الجنس أو العرق، وبالأحرى لم يفرق في ذلك بين جنسي الذكر والأنثى، بل ندد القرآن بما كان يقوم به بعض العرب قبل الإسلام من وأد البنات خوفا من الفقر والعار. وهو ما يفهم من كلمة إذا الفجائية الواردة في آية ﴿وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت﴾().
ومنع الإسلام الانتحار احتراما لحق الإنسان في الحياة وندد به. وأطلق على المنتحر وصف المدبر، أي الذي خسر دينه ودنياه. وحرم الصلاة على جنازته ودفنه في مقابر المسلمين وصنفه بعض علماء الدين الإسلامي في المشركين لأنه أشرك بالله نفسه عندما تولى بنفسه قبض روحه. وهذا شأن خاص بالله نافخ الأرواح وقابضها في أجلها المسمى المقدﱠر لها.
ويموت الإنسان ولا تموت حقوقه، فالإسلام ضمن الحقوق للإنسان طيلة الحياة وحتى بعد الموت بحقه في الكفن الطاهر وغسله وتشييع جنازته والصلاة عليه ودفنه واحترام قبره. وحبـﱠـسه عليه فلا يجوز دفن ميت آخر عليه، ومنع الكشف عليه بعد الدفن والتصرف في أعضائه وجسده.
وضمن الإسلام حق الحريات بجميع أنواعها. ومن بينها حرية العقيدة، فـ ﴿لا إكراه في الدين﴾(). وأمر تبعا لذلك أن يبقى كل من يوجد في ديار الإسلام على دينه إن شاء: ﴿وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾(). وطلب من رسوله محمد أن يقول لمخالفيه في الدين: ﴿قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين﴾(). ولم يثبت عن الرسول ولا عن صحابته أنهم بعثوا لكافر من يغتاله هدرا. فروح الكافر عند الله لا يجوز المس بها، لأنها داخلة في عموم النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، أي في حرب القتال المشروعة.
والإسلام يعترف بالآخر : يعترف بالديانات السماوية كلها كما قال القرآن على لسان المسلمين: ﴿لا نفرق بين أحد من رسله﴾(). وقد تعايش الإسلام مع مختلف الديانات في المجتمع الإسلامي من اليهود والنصارى والمشركين وضمن لهم حقوقهم الدينية (حرية العبادة) والسياسية والاجتماعية في الدستور الذي أعلنه الرسول عندما استقر بالمدينة وسمي بالصحيفة. وهو أول دستور مدوﱠن في العالم.
وبمقتضى احترام حرية العقيدة لغير المسلمين جاء في وصية الخليفة الأول أبي بكر الصديق إلى الطليعة العسكرية التي أرسلها للفتح الإسلامي قوله: “وستجدون أقواما فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له”.
ومن حقوق الإنسان التي أسسها الإسلام الحقوق المتصلة بالسلام والحرب. فمهما أمكن الوصول إلى السلام تحرم الحرب التي لا تشنﱡ في الإسلام إلا لرد عدوان بمثله: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾() الإسلام يجيز القتال (على وزن فعال) (والصيغة تفيد المشاركة كوزن مفاعلة)، ويحرم القتل غيلة وغدرا، ويقتصر على رد العدوان بمثله ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾().
وحث الإسلام المسلمين على الأخذ بخيار السلام كلما أظهر العدو جنوحا إليه: ﴿وإن جنحوا للسلم فاجنح لها﴾(). مما يعني أن لا يعتمد خيار الحرب إلا عند الضرورة القصوى. فالحرب في الإسلام استثناء وليست القاعدة.
وأنصف الإسلام المرأة وكرمها وخولها حق المساواة بالرجل في الأحكام. فجميع أحكام الشريعة الواردة في القرآن والسنة موجهة إلى الذكر والأنثى بدون تمييز بينهما. ويقول الرسول في ذلك: “النساء شقائق الرجال” -وفي رواية- “في الأحكام”. والأحكام حقوق وواجبات. وقد مارست المرأة في الإسلام حقوقها السياسية والاجتماعية، فكانت مفتية في أمر الدين، ومفسرة للقرآن، وراوية للحديث، ومعلمة ومربية، ومستشارة للرسول (أم سلمة زوجته) وضابطة شرطة، ومشرفة على مرفق اقتصادي هو تدبير شؤون السوق وشؤون الحسبة، وخطيبة في محافل السلم وجحافل الحرب.وكانت عائشة زوجة النبي عليه السلام في ذلك أصدق مثال. ويمكن القول عنها أنها كانت زعيمية حزب سياسي بتعبير العصر حيث رفضت بيعة علي بن أبي طالب وحرضت على التمرد عليه).()
وقد مارست المرأة حق الانتخاب الذي كان يتشكل في بيعة الحاكم بدءا من عقد النبي عليه السلام بيعة النساء إياه بجانب بيعة الرجال. وجاء ذلك صريحا في القرآن. وبذلك سبق الإسلام الغرب إلى تخويل النساء الحقوق السياسية ومنها حق الاقتراع واختيار الحاكم وحق الولاية التي سوﱠى الله فيها بين الجنسين فقال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾(). وناهض الإسلام العنصرية وأبطل التمييز العنصري عندما أعلن الرسول أن لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود. وعندما عهد بوظيفة الأذان ـ وهي من أهم الوظائف الدينية ـ إلى حبشي أسود هو بلال بن رباح. وكان من بين صحابته المرموقين منحدرون من أعراق مختلفة: كان من بينهم صهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وعندما أجاز زواج المسلم من نساء أهل الكتاب، وأعطى القدوة من نفسه فتزوج يهودية ونصرانية أسلمتا وأصبحتا من أمهات المؤمنين، وعندما جاء في القرآن إباحة تناول المسلمين طعام أهل الكتاب: ﴿وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم﴾()، وعندما أذن الرسول عليه السلام لوفد نصارى نجران بالدخول إلى مسجده النبوي والصلاة فيه وعرض عليهم الإسلام فقبلوه باقتناع.
هذا غيض من فيض رسالة الإسلام السمح المعتدل المتعايش مع الغير، والذي تتشكل منظومته ـ بوصفه الدين الوسط للأمة الوسط ـ على جملة من المبادئ الخلقية والمثل الخيـﱢرة التي تصنع مجتمعات الخير والفضيلة والتكافل والتراحم وتسمو بالإنسان إلى مراقي الحضارة الإنسانية. وهي تترجم على أرض الواقع طبيعة الرسالة المحمدية: رسالة الرحمة والرفق والعدل والإنصاف مصداقا لقوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾(). وأقتصر على ذكر هذه المبادئ المتصلة بالمعاملات ـ والدين المعاملة ـ للقول: إنه من أجل كمال تلك المبادئ وسموها كانت رسالة نبينا محمد عليه السلام رسالة الكمالات، وخاتمة الرسالات. وعن قصد لم أثر في هذا العرض إلا القليل مما يهم العبادات التي هي قدر مشترك من الديانات الموحـﱢدة، لأركـﱢز على أن رسالة الإسلام كانت دعوة للتجديد وإصلاح المجتمعات وقطيعة مع ماضي الجاهلية، (وفي كل مجتمع من العالم كانت توجد جاهلية)، أي المجتمع الضال وليس فقط في المجتمع العربي. وقد خلق الإسلام هذه المجتمعات الجديدة خلقا جديدا بما حمله إليها من هدي الرسالة: رسالة التنوير والإصلاح والتقويم. ومن أجل تهذيب البشر وتخليقهم بالفضائل الإلهية جاءت الرسالات السماوية حتى لا يبقى الإنسان يعيش حالة العبث والفوضى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾().
ولنذكر هنا ما اختصره عن هذه الرسالة جعفر بن أبي طالب رئيس الجماعة الإسلامية التي هاجرت من مكة إلى الحبشة بإشارة من النبي الرسول ونزلت في حمى النجاشي وقال الصحابي الجليل مخاطبا الإمبراطور: “أيها الملك، لقد كنا قوما في جهالة جهلاء نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونرتكب الفواحش، ونقطع صلة الرحم، ونسيء الجوار، ويظلم منا القوي الضعيف. ومكثنا كذلك حتى بعث الله منا رسولا نعرف صدقه وأمانته فدعانا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى التراحم والتآخي، وترك الفواحش والمخازي”.
وهذا التصريح الجامع المانع يعني أنه كانت في عدد من أجزاء العالم أزمة حضارة تدنـﱠت فيها الأخلاق وكانت تفتقد البعد الروحي والخلقي الذي يذرؤها عن التدني في المخازي، لشيوع الجهل والتدهور الفكري، وأنها وجدت في النظام الإسلامي نظاما جديدا متحضرا ومحققا للإنسان سعادته المفتقدة.
وقد انطلق نظام التغيير والتجديد هذا من تراث إلهي ونبوي وبشري كامل شامل. وكانت مرجعيته الوحي القرآني، وأقوال النبي وهو ما يسمى الحديث، وأفعاله وسلوكاته وإقراره لما شاهد دون اعتراض عليه، وهو ما يسمى بالسنة. كما كان وراءه جهد فكري بشري هو ما قدمه الرسول وصحابته وعلماء الدين والشرع من اجتهاد لإغناء رصيد الوحي القرآني وإثراء خطاب السنة النبوية التي كانت تبيـﱢن وتقرب إلى الأذهان نصوص القرآن على لسان الذي لا ينطق عن الهوى ﴿إن هو إلا وحي يوحى﴾(). كما ساهم فيه اجتهاد الرسول بما علمه الله: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبيـﱢن للناس ما نزﱢل إليهم﴾() ﴿وعلـﱠمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما﴾(). وقد كان الوحي الإلهي يتابع اجتهادات النبي فيقرر الكثير منها، ويعاتب الله رسوله على بعض ما يخطئ فيه وهو قليل بل نادر. وهذا العتاب الذي جاء في القرآن أحد الأدلة الشاهدة بصدق نبينا عليه السلام فيما جاء به من الوحي عن ربه. وأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة وقال الحق ولو على نفسه.
إلى هذه الرسالة الأخلاقية أو المنظومة الزاخرة بالفضائل أشار نبينا بقوله: “بعثت لأتمـﱢم مكارم الأخلاق”(). وهو أيضا ما تشير إليه الآية القائلة: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾(). إنها رسالة الإيمان والعلم والحكمة والتنمية الشاملة دينا ودنيا، في هذه الدار الفانية، وفي تلك الدار الآخرة الباقية.
لقد بلغت الرسالة الإسلامية تمامها وكمالها بانقطاع الوحي وانتقال الرسول عليه السلام إلى الملأ الأعلى بعد نزول الآية القرآنية الواردة في سورة المائدة: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾(). ويقال إنها آخر آية نزلت من القرآن عندما كان الرسول يخطب خطبة الوداع يوم الجمعة وهو واقف على جبل عرفة (أو ما بين منى وعرفات) يؤدي مناسك الحج. وقد أدرك النبي منها أنه آن أجله وسيرجع إلى ربه. فتوجه بالخطاب إلى من حجوا برفقته وقد بلغوا مائة ألف قائلا: “لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا”() وصدقت نبوته فتوفي بعد أشهر معدودات لم يتـﱠفق على مدتها. ويقول الصحابي الجليل عبد الله بن عباس: “إن آخر ما نزل من القرآن هو قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفـﱠـى كلﱡ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون﴾(). ويزيد ابن عباس “إن النبي توفي بعدها بثلاثة أيام”. أما آية ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾() فيقول عنها ابن عباس أنه لم يبق بعد نزولها نسخ للأحكام. وأضاف: “لم ينزل على النبي من يوم نزولها تحليل ولا تحريم ولا فرض”.
ومن القرآن نعلم أن الذكر محفوظ إلى أبد الآبدين. (والذكر من أسماء القرآن أو هو الدين). كما جاء في سورة الحجر: ﴿إنا نحن نزﱠلنا الذﱢكر وإنـﱠـا له لحافظون﴾.
وعلى ذلك يكون الرسول عليه السلام قد ترك لأمته وللعالم الذي بعث إليه إرثا كاملا خالدا. فماذا يعني هذا الإرث؟ وما هي مسؤولية إرثه؟
إنه لا يعني أنه لا يمكن أن يضاف إليه من الأحكام رصيد فقهي بشري في حالة حاجة المجتمعات إليه لاحتواء المستجدات، والإجابة على ما يطرحه وجودها من تساؤلات. وأعتقد أن هذا الفهم هو الذي أخذ به المجتهدون الذين زادوا في إكمال الدين بما استنبطوه من أحكام، وما أغنوا به التشريع الإسلامي من بحث علمي عن أحكام الجزئيات الفرعية التي لم يأت عنها حكم قاطع في الكتاب والسنة والإجماع. وبما اختلف فيه مفسرو القرآن الكريم عبر العصور ولم يتوحدوا معه على قراءة واحدة لما اختلفوا فيه.
وأفهم هذه الآية ـ كما يفهمها غيري وهم كثير ـ على أن أحكام الدين الأساسية اكتملت بانقطاع الوحي ووفاة الرسول، لكن رسالة الدين يجب أن تظل تتدرج على سلـﱠم الكمال في جميع العصور والعهود بإعمال الفكر الشرعي واستعمال آلية الاجتهاد التي استعملها الرسول وصحابته والخلفاء الراشدون والمجتهدون الذين قال عنهم الرسول: “إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للأمة أمر دينها”(). وعلى ذلك فإن الدين يزداد كمالا بممارسة الاجتهاد ويتوقف عن النمو بتوقفه. وقد سن النبي سنة الاجتهاد ليقتدي به بعده العلماء القادرون على الاجتهاد.
وفي الحديث “نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة” لكن هذا إنما ينطبق على الأموال والممتلكات وليس على علم الشرع والهدي النبوي فالعلماء هم ورثة الأنبياء كما في الحديث الذي رواه في السنن أبو داود والترمذي: “إن العلماء ورثة الأنبياء. وإن الأنبياء لم يورﱢثوا دينارا ولا درهما وإنما ورﱠثوا العلم”.
ولا مفهوم لعدد 100 عام، فالمراد هو تجديد أمر الدين في دورات تاريخية عندما تقتضي الحاجة ذلك. كما أن المراد ليس هو اجتهاد الفرد بل الاجتهاد الجماعي الذي جاءت الإشارة إليه بصيغة الجمع في أحاديث أخرى ومن بينها حديث “إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم (وفي رواية لم يبق عالما) اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم”(). ويؤكد ذلك أيضا الحديث: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون”() ويستنبط من هذا الحديث أن الاجتهاد مستمر ولا يجوز أن يتوقف.
وأجدني ـ وقد انتهيت إلى هذه التوطئة ـ مدعوا إلى أن أتحدث قليلا عن الاجتهاد لتسليط الأضواء أكثر على مفهومه الذي لا يعرفه إلا المتخصصون في الفقه وأصول الفقه. وأرى ضروريا أن أبين فيما يأتي ماذا يراد بالاجتهاد؟ وكيف كانت نشأته؟ وكيف تطور؟ وما هو دوره في تطوير المجتمعات؟ ودوره في إكمال أحكام الدين باستنباط أحكام تضبط المستجدات وتجعل الإسلام حيا في كل عصر وصالحا لكل زمان ومكان.
مؤسسة الاجتهاد:
يعرﱢف الفقهاء والأصوليون الاجتهاد بأنه “بذل المجتهد وسعه في طلبه العلم بأحكام الشريعة” كما يقول الغزالي، أو يعرفونه بأنه “استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية” كما يقول القاضي البيضاوي. وأقول عنه إنه مؤسسة إلهية إسلامية مستمرة إلى نهاية الدنيا فرضها الله على القادرين عليها من عباده ليتيح بها إعمال الفكر البشري لإغناء التشريعات والتنظيمات التي جاءت بها مصادر التشريع الإسلامي التي عنيت بأصول الأحكام وبعض فروعها، ولمواجهة التطورات المستجدة في كل عصر ومكان بالإجابة الشرعية عليها باستنباط أحكامها من المصادر الشرعية، حتى لا تبقى في التشريع الفقهي ثغرات، وحتى لا تطرح على المجتمعات المتعاقبة عبر القرون تساؤلات تظل بدون جواب، أو مشاكل تضيق عن الحلول، ليبقى الإسلام بهذا الجهد الفكري المتواصل صالحا لكل زمان ومكان.
إن صلاح الإسلام لكل زمان ومكان وقدرة علمائه على التوصل إلى معرفة أحكام المستجدات شرعا لا تضمنها بعد ختم الرسالة وانتهاء الوحي إلا مؤسسة الاجتهاد التي هي مؤسسة تعبدية للمجتهد فيها أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ. وهي ضمن استخلاف الله لعبده الإنسان في الأرض ليقوم بالحفاظ عليها وإصلاحها وتطويرها، وتهذيب سلوك المخلوقات الموجودة فوقها، وتربيتهم على المنهج الإسلامي المرتكز على نمط سلوك وقيم يرضى الله عنها ويثيب عليها.
إن المجتهد إذا أصاب فقد قام بدور النيابة عن الله فيما استنبط من أحكام شرعية بهدي من الله وتوفيقه. ﴿فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام﴾() إيمانا واعتقادا واجتهادا واستنباطا، ﴿ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا﴾() كفرا وغواية وضلالا وتحجرا فكريا وتقليدا واتباعا أعمى.
ولقد جاء الإسلام بتعاليم تسائل وتجيب، وقرنها بتقبل الفكر لها وإيمان القلب بها حتى وصل اجتهاد بعض العلماء إلى حد تكفير المقلد. كما حفل القرآن بتمجيد الفكر والعقل والاستنجاد بهما للتدليل على وجود الله والإيمان بانفراده بالخلق والأمر. كما فتح آفاق التفكير واسعة للنظر في ملكوت الله من أرض وسماء وفضاء بحثا عن الحقيقة واكتشافا للمجهول، واهتداءا إلى الأرشد والأنفع. ولم يحفل كتاب سماوي بمثل ما حفل به القرآن الكريم من حث على فك الفكر من عقاله، واستعماله وتنشيطه وحفزه على إثراء المعلومات الحسية والمعنوية، وإخصاب مشارب المعرفة والعلم، وانطلاقه للاجتهاد الدؤوب البناء، لتستمر قيم الإسلام مدى الدهر صالحة غضـﱠـة نقية.
وإن علم ونظر وبصر وعقل وفكر ومشتقاتها قد بلغت في القرآن عددا هائلا من الأفعال والأسماء والنعوت مفردات وجموعا، ووردت جميعها في سياق الإشادة بالعقل والفكر وحسن البصيرة ودقة التبصر في ملكوت السماوات والأرضين، وترويض ملكات الإنسان على الفهم والاستنباط الاستنتاج. والقرآن كله دعوة إلى البحث العلمي في الدين والإنسان وآفاق الكون والأجرام والكواكب والفضاء. وقد اعتبر بعض مفسري القرآن أن الآيات الممجدة للعقل والحاثة على استعماله إشارة إلى الأخذ بالاجتهاد، ومنها آية ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾()، لأن الاعتبار هو قياس الأشياء على نظائرها. وهذه هي قاعدة الاجتهاد الأساسية. واستدلوا بها على تحريم قطع الاجتهاد وإيقاف مؤسسته عن العمل.
الرسول مؤسس الاجتهاد:
رغم الخلاف الذي ثار بين علماء الأصول والتشريع حول وقوع الاجتهاد من الرسول عليه السلام وعدمه، فإن الواقع يشهد بأنه قد اجتهد فيما لم ينزل به عليه وحي من القرآن، ولا ألهم إياه بالسنة. وذلك لسن القدوة به للمسلمين للأخذ بالاجتهاد واستنباط الأحكام للفروع، وإرجاع الجزئيات إلى قواعدها الكلية. وهذا هو ما عليه جمهور العلماء.
إن الرسول نفسه هو الذي سن مؤسسة الاجتهاد ووضع قواعدها الأولى. وكانت تعمل مواكبة لنزول الوحي، وذلك بالنسبة للقضايا الفرعية الدنيوية، حتى يكون الإسلام مكتمل التشريع بالنسبة للدين والدنيا. أي أن مؤسسة الاجتهاد نشأت مع نشأة الدعوة.
وكان النبي يربي في مدرسة الاجتهاد الصحابة المحيطين به، وخاصة من كان من بينهم قادرا على إبداء الرأي. كان يستشيرهم في بعض المستجدات فيشيرون عليه. فالله أمره بطلب مشورة المؤمنين في قوله: ﴿وشاورهم في الأمر﴾(). وكان يرجح بين آراء صحابته ويعتمد منها ما يظهر له أفضل وأنسب وأقرب إلى المنهج الإسلامي أو ما يلبي حاجة المسلمين الظرفية. وكانت زوجته أم سلمة مستشارته في عدد من القضايا.
ولا نحتاج إلى القول إن اجتهاد الرسول كان مقتصرا على شؤون دنيوية، فالوحي كان يغنيه عن الاجتهاد في أحكام الشرع التي جاء بها القرآن وأحصاها بعض العلماء وحصروها في خمسمائة آية، ورفعها بعضهم إلى تسعمائة أو تزيد. كما كانت السنة تغنيه عن الاجتهاد. وقد أوصل العلماء أحكام السنة الشرعية إلى خمسة آلاف حديث.
والواقع أن الأحكام الشرعية في القرآن والسنة تتجاوز الأعداد التي أشرنا إليها. فهذا الإحصاء يصح بالنسبة للأحكام التي جاءت صريحة في نصوص الأحكام الواردة في القرآن والسنة، لكن مصدري التشريع هذين تضمنا أحكاما أخرى لم ترد بالمنطوق ولكن بمفهومها، ويتوصل إلى معرفتها باستعمال آليات الاجتهاد من استنباط وقياس النظير على النظير، والبحث في الحكم عن مقاصده.
وقد ثبت أن الرسول اجتهد أحيانا بدون مشورة وأحيانا أخرى بعد استشارة أصحابه. فقد شاور النبي أصحابه في مصير أسرى بدر، وأخذ برأي أبي بكر وغيره في فدائهم بالمال لحاجة المسلمين إليه. ولم يأخذ برأي عمر الذي أشار عليه بقتلهم. وقد عاتبه الله على الأخذ بالفداء في الآية التي نزلت للتصحيح قائلة: ﴿ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة﴾().
واجتهادات الرسول فيما لم ينزل به وحي كثيرة ومفصلة في مراجعها المتعددة. وقد سجلت السيرة النبوية وقائع حية عن تشجيع الرسول للصحابة على ممارسة الاجتهاد بحضوره وغيابه والتفويض لبعضهم فيه. وكل ذلك مشروط بما يقبل الاجتهاد مما لم ينص عليه بالوحي في القرآن ولم يرد في السنة.
أثر عن الرسول أنه كان يقول لأبي بكر وعمر: “قولا فإني لم يوح إلي مثلكما”. وثبت عنه أنه أقر حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حتى لقد قال له: “لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات”(). وهذا إقرار منه لاجتهاده، هذا الإقرار الذي تكرر منه في وقائع أخرى.
وكان النبي يفوض لبعض أصحابه الاجتهاد عند الضرورة كوجودهم بعيدين عنه. ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في حواره مع معاذ بن جبل عندما عينه قاضيا على اليمن وسأله: “بم تقضي يا معاذ؟ فقال معاذ: “بما في كتاب الله” فسأله النبي: “فإن لم تجد في كتاب الله؟ فقال معاذ: “أقضي بما قضى به رسول الله”. فسأله النبي: “فإن لم تجد فيما قضى به رسول الله؟ فقال معاذ: “أجتهد برأيي ولا آلو”. فقال عليه السلام: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله”().
ولنلاحظ هنا أن معاذا استعمل تعبير أجتهد الذي يشير إلى مصدر الاجتهاد الذي أصبح مصطلحا للبحث عن استنباط الحكم الشرعي من أصوله.
الاجتهاد في عصر الخلفاء الراشدين:
أصبح الاجتهاد بعد وفاة الرسول ضرورة ملحة، ولم يعد عنه مناص لزوال مرجعية الاعتماد على الوحي والسنة، ولكون الفتح الإسلامي أخذ يمتد خارج الجزيرة العربية وكان عليه أن يستوعب حضارات مختلفة لها قضاياها ونوازلها ومستجداتها، ولشعوبها أعراف وتقاليد وأنماط حياة مختلفة، مما لا عهد به لمسلمي البعثة النبوية من قبل، ولا للأجيال العربية الإسلامية الصاعدة في كنف الخلافة الراشدة. وقد وضع كل ذلك على الحكم الإسلامي تساؤلات كان عليه أن يجيب عليها بإغناء التشريع والتنظيم وسد الثغرات حتى لا يبقى في المنهج الإسلامي فراغ.
وفي مواجهة ذلك كله اعتمد المسلمون منهجية مضبوطة لمؤسسة الاجتهاد تحقق غاية سد الثغرات مع التقيد بأصول التشريع من كتاب وسنة وإجماع وعمل الصحابة وآرائهم مع التزام البحث عن مقاصد الشريعة بتعميق فهم النصوص حتى يطلعوا على خلفياتها، فتأتي أحكامهم متفقة مع المقاصد، وليس مع ظاهر النصوص.
وبمقتضى ذلك كانت هذه المنهجية تقوم على عهد الخلفاء الراشدين على مسلسل رباعي: هو البحث أولا في كتاب الله عن أحكام المستجدات، فإن لم يوجد فيه نص لجأ المجتهد إلى نصوص السنة النبوية الثابتة، فإن لم يجد فيها لجأ إلى ما قاله أو عمله صحابة رسول الله العارفون بالأحكام الشرعية، فإن لم يجد عندهم الأجوبة اعتمد رأيه الذي كان يجب أن يكون محققا لمقاصد الشريعة. وقد أضاف عمر إلى هذا المسلسل بعد أن أصبح الخليفة الثاني النظر في أقضية سلفه أبي بكر الصديق، بعد النظر في الكتاب والسنة، وقبل أن يستشير ويجتهد.
ونقرأ في تاريخ الإسلام أنه كان بجانب الخليفة مجلس شورى نطلق عليه اسم مجلس الاجتهاد. وكان أبو بكر أول من أسسه إثر تولية الخلافة، وفعل عمر ذلك أيضا.
جاء في تاريخ التشريع الإسلامي للخضري: “كان الشيخان أبو بكر وعمر إذا استشارا في حكم أشارت به هيئة الشورى تبعه الناس ولا يسوغ لأحد أن يخالفه”. وذلك يعني أن مجلس الاجتهاد هذا كان هيئة تشريعية تنظيمية تقريرية نافذة الأحكام والقرارات. وبهذه الطريقة قلـﱠت الخلافات في الأحكام على عهد هذين الخليفتين.
وعلى القياس اعتمد أبو بكر في العهد إلى عمر بالخلافة معتبرا أن العهد يساوي عقد البيعة (وبه تولى هو الخلافة) ويقاس عليه. وكتب: “هذا ما عهد به أبو بكر” ولم ينكر عليه أحد ذلك.
على الاجتهاد والقياس وإعمال الفكر تركزت وصية عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء بالبصرة. ومما خاطبه به قوله: “الفهم ثم الفهم فيما أدلي إليك به مما ليس فيه قرآن ولا سنة. ثم قايس بين الأمور عند ذلك. واعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور برأيك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق”. فالمجتهد لا يمكن أن يعتمد حكما فيه قسوة على مسلم ومسلمة أو حرج وضرر للمسلم والمسلمة، ولا حكما يتنافى مع عدل رسالة الإسلام ورحمتها ويسرها ووسطيتها.
وحفل عصر الخلفاء الراشدين بالاجتهادات التي اهتدى إليها مجتمعهم بقيادتهم لاستنباط الأحكام للمستجدات وحل المشاكل الطارئة. فلنتعرض لبعضها كأمثلة باقتضاب شديد.
وكان أولها حكم الصحابة بخلافة أبي بكر الصديق في غياب وصية نبوية تقضي أو توصي بذلك. وقاسوا خلافته على عهد النبي له بالنيابة عنه في الصلاة في مرضه الأخير قبيل وفاته عندما: “مروا أبا بكر ليصلي بالناس”(). وقالوا: “رضيه رسول الله لأمر ديننا أفلا نرضاه لأمر دنيانا؟” (استعملوا هنا القياس).
وما يعرف بأولويات أبي بكر الصديق، جميعها من اجتهاداته. فهو أول من جمع القرآن بعد مراجعة عمر له في ذلك. وهو أول من سماه مصحفا، وهو أول من اتخذ بيت المال، (وولى عليه أبا عبيدة بن الجراح). واجتهد في قتال مانعي الزكاة قائلا: “والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة”. “ولو منعوني عقالا مما أعطوا النبي لقاتلتهم عليه”. وقد قال في الكلالة برأيه، وقسم بعض المواريث برأيه، وسوى في العطاءات باجتهاده.
وللخليفة عمر بن الخطاب اجتهادات وآراء اهتدى إليها بإعمال الفكر كذلك. ومنها قراره بدء التاريخ من حادث الهجرة، لا من ميلاد النبي أو وفاته، وضربه شارب الخمر ثمانين جلدة، ولم يرد نص بذلك، ورصده مرتبات لحفظة القرآن، وجمعه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح هو أبي بن كعب. ومن اجتهاداته إناطته اختيار الخليفة بعده بقرار ستة من الصحابة جعل الشورى في هذا الشأن بينهم. فوسع بذلك دائرة الشورى واختيار الأصلح. ومن ذلك أيضا قطعه الزكاة والعطاء عن المؤلفة قلوبهم مراعيا في ذلك تغير المصلحة بتغير الزمان وهو ما يوجب مراجعة القاعدة الأصولية القائلة: “لا اجتهاد مع وجود النص”، علما بأنه لم يعطل نصا قرآنيا بل نظر إلى علة النص لا إلا ظاهره. واعتبر أن النص كان ملائما لظروف ضعف الإسلام ويمكن تجاوزه بعد قوة الإسلام وامتداده. وعليه فلا يجوز الاجتهاد في النصوص القطعية ولكن يجوز الاجتهاد بالنص أي داخله. وفي هذا النطاق أيضا يدخل اجتهاده لإيقاف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة، نظرا لكون السرقة أصبحت تتم في ظروف المجاعة بدافع الحاجة والضرورة وليس بقصد الإجرام. وهذا التغيير الحاصل في المجتمع يشكل على الأٌقل شبهة تدرأ بها الحدود. وقد أثر عنه قوله: “لأن أعطل الحدود في الشبهات خير من أقيمها في الشبهات”. هذه الأمثلة تؤكد أن على المجتهد أن يكون متفتحا على آفاق رحبة ومعقولة فيما يستنبطه من أحكام، وأن تكون لديه الجرأة العلمية على اقتحام النصوص لقراءتها قراءة جديدة. وقد جاء اختلاف المفسرين للقرآن الكريم اختلافا في قراءة القرآن كما سبق لنا ذكره.  
ومن اجتهاداته أنه أمضى الطلاق الثلاث على من نطق بطلاق زوجته ثلاثا في كلمة واحدة خلافا لما كان معمولا به قبله من التطليق مرة واحدة، وذلك عندما لاحظ أن الناس أكثروا من التلفظ بالثلاث. وخالف اجتهاد أبي بكر فلم يسوﱢ في العطاءات عندما تدفقت في عهده الأموال على بيت المال بسبب امتداد الفتح الإسلامي فوزع الأموال حسب مقاييس الأسبقية في المراتب، ونوعية الأعمال المبذولة، والحاجة إلى المال.
واجتهد عمر بن الخطاب فقدر دية القتل نقدا بعد أن كانت على عهد البعثة والرسالة إبلا، وذلك اجتهادا منه بعد أن غلت أسعار الإبل. واجتهاداته في مجالات القانون ـ حسب تعبير العصر متعددة سواء في الميدان المدني أو الميدان الجنائي أو الميدان الإداري وأفردت لها كتب يرجع إليها.
ومن اجتهادات عثمان بن عفان جمعه القرآن في مصحف واحد وحرقه لما سواه. وهو اجتهاد زكاه علي بن أبي طالب بقوله: “لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل”، ومن اجتهاداته إتمامه الصلاة أربع ركعات في منى. وقيل في ذلك إنه أتم الصلاة بمنى أربعا من أجل الأعراب الذين قدموا للحج لأنهم كثروا عامئذ فعلمهم أن الصلاة أربع، وخشي أن يفهموا أنها ركعتان دائما، حتى لا تشتبه عليهم عدد الركعات. ومن اجتهاداته تركه الناس يدفعون زكاتهم تلقائيا بدون استحصال لها من السعاة مؤولا آية ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾() على أنها إنما تؤكد حق الإمام في أخذها ولا توجب عليه جمعها. وقيل عن ذلك إن هذا لا يسقط طلبها من لدن الإمام إذا ما تبين له أن بلدا من بلاد الإسلام لا يؤديها.
والخلاصة أن اجتهادات عمر (رضي الله عنه) كانت بداية ظهور مدرسة الاجتهاد المنفتح المتسم بالمرونة لتحقيق المصلحة، وتطبيقا لما قاله الفقهاء فيما بعد: “حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله”.
واجتهادات علي بن أبي طالب وفيرة حتى لا تكاد تحصى. فقد كان يجيل فكره الثاقب في معالجة المستجدات والمشاكل فتيا وقضاء. وقد جاء عن الإمام النووي في كتابه “تهذيب الأسماء واللغات”: “وسؤال كبار الصحابة له ورجوعهم إلى فتاويه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلة مشهور”. وهذا ما جعل الناس يقولون عنه: “قضية ولا أبا حسن لها”. وهي مقولة أصبحت مثلا.
ومن اجتهاداته ـ الآخذة بالتيسير ـ أنه كان لا يحبس المدين في دين ويقول إن حبس العاجز عن أداء الدين ظلم. وكان لا يحبس إلا القادر على الأداء والغني المماطل. ومن اجتهاداته قياس حد شرب الخمر على القذف، وتحديده عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بأبعد الأجلين: وضع الحمل ومضيﱢ أربعة أشهر، بينما كان الأمد قبله محصورا في وضع الحمل.
وقد تجمَّع في فترة الخلافة الراشدة رصيد اجتهادي حافل نتج عن قيام المجتهدين وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة باقتحام المستجدات واستنباط أحكامها الشرعية. وذلك بآليات محكمة هي: إما قيام المجتهد بقراءة متفحصة لنصوص الكتاب والسنة الثابتة عن الرسول وتفسيرها بعد قراءتها قراءة جديدة، أو بفهم تلك النصوص على ضوء المصلحة العامة التي هي غاية التشريع، أو بطريق إعمال القياس على الأشباه والنظائر التي ورد عليها التنصيص في الكتاب والسنة، أو باستعمال الرأي بعد الاستشارة مع ذوي الاختصاص والمعرفة،
أو باستعمال الرأي مباشرة ـ وبدون مشورة ـ من لدن القادر على الاجتهاد والمؤهل له عندما لا يوجد نص ولا قياس ولا إجماع. وقد برزت خلال هذا العصر طائفة من الصحابة كانوا مؤهلين وقادرين على اقتحام شعب الاجتهاد قسمهم الإمام ابن حزم الظاهري في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” إلى ثلاثة أصناف: المكثرون في الفتيا، والمتوسطون، والمقلون، على غرار التقسيم الوارد في رواية الحديث.  
الاجتهاد في العصر الأموي:
يتميز هذا العصر بتفرق المجتمع الإسلامي سياسيا على مذاهب وأحزاب بين سنة وشيعة وخوارج وغيرهم. وكان لكل من المذاهب والفرق منهجه، فافترقت آراء المسلمين بسبب هذا الاختلاف. وبسبب تفرق المجتهدين في الأمصار وتعذر التنسيق والتوفيق بين اجتهاداتهم تعددت الفتاوي واختلفت بتعدد مواقع المجتهدين. فكان لكل من المكيين، والمدنيين، والمصريين، والبصريين، والكوفيين فتاويهم. وزاد في الاختلاف دخول الموالي حلبة الاجتهاد.
وساعد على الاختلاف في الاجتهاد كثرة رواية الحديث، وظهور وضع الأحاديث أي اختلاقها كذبا على النبي الرسول. وفي ذلك قال حماد بن زيد: “وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث ليفسدوا على الناس دينهم”. وكل ذلك كان يحمل المجتهدين على التأني والتروي قبل إصدار الأحكام، علما بأن وضع الأحاديث قد عولج بواسطة تطبيق آليات علم الجرح والتعديل الذي ظهر قبل هذا العصر، ولكن شيوع الوضع في العصر الأموي فجر الحاجة إلى تركيز قواعده وتنظيم آلياته حتى تسلم أحكام الشرع من استنباطها من أحاديث موضوعة، وعلما كذلك بأنه قد نبغ من بين الموالي جمهرة من العلماء المؤهلين للفتوى والاجتهاد كان من بينهم من اقتعد مكانة المجتهدين العرب بل فاقهم.
وفي العصر الأموي تقوﱠت كلتا النزعتين اللتين ظهرتا على عهد الخلافة الراشدة: أهل الحديث، وأهل الرأي. وكان أكثر علماء الحجاز من الفريق الأول، وأكثر علماء الكوفة من الفريق الثاني. وجميع أئمة المذاهب واكبوا استعمال الرأي مع اللجوء إلى النصوص لاستنباط الأحكام الجديدة.
عصر التقليد والاتّباع:
في منتصف القرن الرابع الهجري طوي العصر السابق عصر المجتهدين والتدوين وعصر الفقه الذهبي، ودخل المسلمون في عهد تقليد المذاهب الفقهية التي كانت في العصر المتقدم، فاقتصروا على العمل بها ولا سيما المذاهب الأربعة التي انتشرت على طول دار الإسلام وساد كل منها قطرا أو أقطارا إسلامية.
وقد ورد في “كتاب الإنصاف في بيان سبب الاختلاف” للدﱠهلوي وصف لما آل إليه وضع التقليد في زمانه مما حدث بعد المائة الرابعة واستمر بعدها فقال: “ثم بعد هذه القرون كان أناس آخرون ذهبوا يمينا وشمالا، وحدثت فيهم أمور، منها الجدل والخلاف في علم الفقه. ومنها أنهم اطمأنوا بالتقليد ودبﱠ التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون. ومنها إقبال أكثرهم على التعمقات في كل فن، فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل، ثم خرج من ذلك إلى التاريخ قديمه وحديثه. ومنهم من تفحـﱠص عن نوادر الأخبار وغرائبها. ومنهم من أكثر القيل والقال في أصول الفقه واستنبط كلﱞ لأصحابه قواعد جدلية، وأورد فاستقصى، وأجاب فتقصـﱠـى، وعرﱠف وقسـﱠم فحرﱠر، وطوﱠل الكلام وتارة اختصر. ومنهم من ذهب يفرض الصور المستبعدة التي لا يتعرض لها عاقل”.
إن هذا الحد الجامع المانع ـ كما يقول المناطقة ـ المشخـﱢص لوضع التقليد في عالم الإسلام تغني شهادته الحية عن كل إضافة أو تعليق، لكنه يغنى ويتعزز بشهادة أخرى جاءت من المؤرخ الاجتماعي الكبير عبد الرحمان ابن خلدون في مقدمته حيث كتب ما يلي: “ووقف التقليد في الأمصار عند الأئمة الأربعة، وسدﱠ الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم، ولما عاق الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرحوا بالعجز والإعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كل بما اختص به من المقلدين، وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب، ولم يبق إلا نقل مذاهبهم وعمل كل مقلد بمذهب من قلد منهم. لا محصول اليوم للفقه غير هذا. ومدﱠعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده “. وهذه العبارة تشخيص وصفي لما آل إليه المجتمع الإسلامي من تدهور بتوقف الاجتهاد والانغمار في التقليد.
الحاجة إلى اجتهاد إسلامي معاصر:
انتكست الحضارة الإسلامية بانتكاسة مؤسسة الاجتهاد وجمدت بجمود الفكر، وتخلت عن مكانتها للحضارة الغربية التي استعمل الفكر الغربي لصنعها تقنيات الاجتهاد الاسلامي من استنباط واكتشاف وتجديد، مما جعلها تمضي في طريق التقدم مخلفة فكر المسلمين وراءها، ومما جعل مسافة الخلف بين الحضارتين تتباعد، حيث سادت في العالم الإسلامي ثقافة القشور، وسادت الحضارة الغربية ثقافة اللباب والجوهر والعمق.
وإذا كان المسلمون في عصر ازدهار الاجتهاد قد اعترضتهم في زحفهم عبر امبراطوريتين عظميين مستجدات اقتحموها وأوجدوا لها حلولها وأحكامها الشرعية، فإن عالم الإسلام اليوم يجد نفسه في المجتمع العالمي الراهن في نفس موقع السلف أمام مستجدات وتساؤلات مطروحة على الفكر للبحث عن أجوبتها، وأمام قيم جديدة فيها السليم الصالح الذي يفرض على الناس الأخذ به. وفي مواجهة هذه القيم يتجزأ الفكر الإسلامي في تصنيفها إلى ما لا يتعارض مع قيم الإسلام فيتبناه للحاجة إليه، وإلى صنف آخر يحار في شأن مطابقته أو مخالفته للدين، فيقف منه موقف الحذر والتهيب ولا يقتحم غمرته بقوة الاجتهاد وإعمال الفكر.
وشبابنا اليوم وقد انغمس في غمار الحضارة المادية من أخمص قدميه إلى قمة رأسه يتوجه إليه بعض دعاة الإسلام بخطاب إسلامي لا يستسيغه الشباب ولا يقنعهم ولا يطمئنون إليه، خطاب التطرف والغلو البعيد عن وسطية الإسلام، إما لأن فيه حرجا مزعجا، أو لأنه يتجافى مع الفكر السليم، أو لأن بعض الدعاة يؤوﱢلون فيه تعاليم الدين على حرف وتطرف يمضيان على غير هدى، فيبدو تأويلهم في صورة متقوقعة في ماض جامد في مقابلة منظومات معاصرة كلها حركة وتجديد وعقلانية.
واليوم والعالم ـ كما قيل عنه ـ أصبح قرية كونية، فإن المستجدات تظهر كل يوم وتطرح على المسلمين تساؤلاتها فيكون جواب ثلة من شبابنا الذين شبوا على ثقافة الغرب هو الانغلاق على حضارة الغرب والارتماء الكامل في أحضان ثقافته ونبذهم لنداء الإسلام الذي لا يقنعهم خطابه بأحقية رسالة الإسلام أو لا يعطيهم البديل، بينما طائفة أخرى من شبابنا تنتابها الحيرة، ويخترقها الشك، وتظل تتساءل دون أن تهتدي إلى ما تريد.
أغراض الاجتهاد الإسلامي المعاصر :
لذا أصبحت الحاجة أكثر إلحاحا اليوم إلى اجتهاد مجامعنا العلمية ومؤسساتنا الاجتهادية التي يجب دعم الموجود منها وتأسيس غيرها لقيادة تصور إسلامي صحيح، ينطلق من قراءة لنصوص الإسلام قراءة جديدة من لدن العارفين بأصول الشرع وأحكامه في سعي إلى الأخذ بالتيسير في الأحكام، وفي غير تحجر وانغلاق، حتى يظهروا حقيقة الإسلام المبني على اليسر، القائم على السماحة، المجاري للفطرة والعقل.
ولعلنا قد وصلنا ـ والحضارة المادية الملحدة تغزونا على جميع الواجهات ـ إلى العهد الذي تحدث عنه الحديث الشريف القائل: “يأتي على الناس زمان القابض على عشر دينه كالقابض على الجمر”(). فإذا ضاعت التسعة أعشار، فلنيسـﱢر الأخذ بالعشر الباقي لنجعله سهل التناول. ولعل هذا اليسر يعود بالضالين إلى القبض على دينهم كاملا غير منقوص.
إن رسالة الاجتهاد اليوم تبدو في نظرنا في أمس الحاجة إلى رسم أهداف مضبوطة محكمة للاجتهاد نقتصر على ثمانية أهداف رئيسة هي:
(1) ـ تيسير الدين كما أمر به النبي مبعوثيه في حديث يسـﱢرا ولا تعسـﱢرا، بالأخذ بما لا يكلف ويرهق، وفاقا لـقوله تعالى: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾()، وقـوله: ﴿لا يكلف الله نفسا
إلا وسعها﴾().  وتطبيق قاعدة: “لا ضرر ولا ضرار”.
(2) ـ الابتعاد بالدعوة الإسلامية ما أمكن عن أسلوب الترهيب إلا ما جاء الترهيب به في نص ثابت. وفي هذا الصدد يحسن في مجالي الدعوة والاجتهاد تغليب جوانب التيسير والترغيب والتسديد وحسن المقاربة، واستبعاد أضدادها عملا بالحديث: “يسـﱢروا ولا تعسـﱢروا، وبشـﱢروا ولا تنفـﱢروا”()، وما جاء في حديث آخر: “سدﱢدوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يدخل أحدا الجنة عمله”().
(3) ـ قيام الاجتهاد بالنظر الفاحص في التنظيمات الحديثة المعاصرة في جميع مجالات الحياة وإخضاع الحكم عليها لمقاييس الشرع، وإعلان تبني ما لا يتخالف منها مع قواعد الإسلام وتعاليمه، على أن يكون قصد المجتهدين ـ ما أمكن ـ الوصول إلى هذا التبني في نطاق مبادئ الإسلام من سماحة وتعايش وانفتاح وتحقيق مقاصد الشريعة التي ضمنت للإنسان تحقيق مصالحه وحمايتها.
(4) ـ اعتبار كل ما جاء في الاجتهادات الفقهية على عهد السلف عملا بشريا قابلا للنظر والمراجعة، خاصة عندما يظهر في تلك الاجتهادات ما يشوش على صورة الإسلام المشرقة أو يعطي عنها صورة غير مقبولة، انطلاقا من أن ثوابت الإسلام هي الكتاب والسنة والإجماع، وأن الاجتهادات الفقهية خارج ذلك تدخل في المتغيرات التي تقبل إعادة النظر فيها ومراجعتها وتصحيحها، وانطلاقا كذلك من مبدأ أن الإسلام الحق لا يجافي الفطرة ولا يعارض العقل السليم ولا يكون إسلاما معتـﱠم الصورة فاقدا صلاحيته لكل عصر، غير قادر على استيعاب التطور البشري والتأقلم ما أمكن مع مستجداته. وما قلناه عن التمييز بين قدسية النصوص القرآنية والسنة الثابتة من جهة وقابلية الاجتهادات الفقهية البشرية للمراجعة والتصحيح من جهة أخرى هو ما قاله الإمام أبو حنيفة: “قولنا هو الرأي. وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا”. وسئل مرة أهذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه فقال في تواضع العلماء: “والله لا أدري لعله هو الباطل الذي لا شك فيه”. وروي عن الإمام مالك قوله: “كل قول جاء به مجتهد يمكن رده إلا قول صاحب هذا القبر” وأشار بيده إلى قبر الرسول المعصوم بالمسجد النبوي. ورويت هذه المقولة عن أئمة مجتهدين آخرين.
(5) ـ الأحكام التي سيقوم الاجتهاد الجماعي باستنباطها لمعالجة المستجدات المعاصرة ينبغي للمجتهدين أن يستحضروا بشأنها القاعدة الشرعية في ضبط الأحكام من أن الأصل في الحكم الشرعي هو الحلية فيما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة والثبوت بالتحريم من الكتاب والسنة أو عن طريق الإجماع. وبذلك يترك المجال واسعا لمنطقة العفو، عملا بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزﱠل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور رحيم﴾() وطبقا لما جاء في الحديث الذي رواه الدارقطني: “إن الله فرض فرائض فلا تضيـﱢـعوها، وحدﱠ حدودا فلا تعتدوها، وحرﱠم أشياء فلا تنتهكوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها”().
(6) ـ الأمة الإسلامية من أندونيسيا إلى المغرب محتاجة إلى المجتهدين الجماعيين فــ “لا تجتمع أمتي على ضلال”، لا المجتهد الفرد سواء منه المجتهد المطلق المستقل، أو المجتهد المطلق المنتسب أي مجتهد المذهب. وعن مجتهد المذهب قال الإمام ابن قيم الجوزية: “مجتهدو المذهب هم مقلدون وليسوا مجتهدين”، إنه يطلق على مجتهدي المذهب المقلدين لأن أبواب الاجتهاد واسعة “والحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها”. وعلى الفقهاء المغاربة أن ينفتحوا على المذاهب الإسلامية التي أنشأها علماء قادة كبار كلهم متساوون في درجات المعرفة ومشهود لهم بالفضل والعلم والتقوى. وحينما يقر علماؤها ما اجتهدوا فيه يصبح شرع المغرب ويتوحد المغرب عليه، فوحدة المذهب لا تعني الوحدة على مجتهد، بل وحدة البلاد على اجتهاد واحد يصبح شرعا واحدا للأمة الواحدة.
(7) ـ ونرى ضروريا أن يقوم علماء المذاهب الإسلامية الصحيحة مجتمعين بالحركة الاجتهادية الجماعية المطلوبة، وأن تتضافر الجهود لإصدار فتاوي واجتهادات مشتركة مكتوبة ومعلـﱠلة تقرها سلطة إسلامية عليا، لتوحيد الإسلام على وجهة واحدة. وحتى تصبح الأحكام موحدة بوصفها أحكام الإسلام، لا بوصفها أحكام مذهب أو آخر، أو أحكام منطقة دون أخرى.
(8) ـ يجب أن يضاف إلى شروط المجتهد المعروفة توفره على الكفاءة اللازمة لفهم نصوص القرآن والسنة فهما جيدا ومعرفة أسباب نزولها، وفي الطليعة امتلاك اللغة العربية ومعرفة قواعدها، علما بأن سبب النزول لا يخصص، وينبغي بالأخص معرفة مقاصد الشرع منها والتي يمكن تلخيصها في كلمة واحدة هي تحقيق مصلحة العباد. عملا بالمقولة “حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله”.
أمثلة عن القضايا الملحة المطروحة للاجتهاد اليوم:
نقترح أن يعالج الاجتهاد الجماعي القضايا الملحة في المجالات السياسية، والاقتصادية والمالية، والشؤون الاجتماعية، والشؤون الصحية المعاصرة. وسنعطي أمثلة محدودة لبعض هذه القضايا في الميادين التالية ولا يمكن تفصيل ذلك في محاضرة مهما اتسعت فإنها تضيق عن الاستيعاب، و”ما لا يدرك كله لا يترك كله”.
حكم التعامل مع البنوك وتحديد المحرم من أنواع الربا :
لقد انقسم اجتهاد علماء السلف إلى فريقين في تحريم الربا. فأكثرهم حرمه بجميع أنواعه. وبعضهم فرق بين الربا الخفي فأحله وهذا هو ربا الفضل. وقال بهذا علماء معاصرون حرموا من الربا فقط الربا الجلي أو ربا النـﱠسأ. والمطلوب من الاجتهاد المعاصر أن ينظر في التعامل مع البنوك التي تعمل بنظام الفوائد وبنسبة لا تصل إلى درجة الاستغلال المجازف، لمعرفة ما هو المحرم منه وما هو المباح؟ وأن يرجع المجتهد إلى الآيات المحرﱢمة للربا ويتوقف عند آية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة﴾()، ولماذا هذا القيد الذي جاء في موضع الحال؟ أو لا يعني ذلك أن الربا الذي ليس مضاعفا لا حرج فيه؟ وهو ما أفتى به أخيرا علماء الأزهر بشأن التعامل مع البنوك وقال عنه شيخ الأزهر باسم علماء مصر: “فوائد البنوك حلال، حلال، حلال”.
وينبغي استحضار المجتهدين حقيقة أصبحت تفرض نفسها وهو أن لا غنى لاقتصاد المسلمين عن التعامل مع هذه البنوك التي يدعوها البعض بالربوية، والتي توفر لزبنائها خدمات لا تتوفر لهم بدونها مقابل عمولات تتقاضاها منهم كأجرة. والاقتصاد الذي يتحاشى التعامل مع هذه البنوك ويتباعد عنها يجمد ولا ينمو. والبنوك الإسلامية تبدو غير قادرة على تعويض هذه البنوك، ومجال نشاطها ما يزال محدودا. وأكثرها مقتصر على المرابحة وهي مصارف غير موجودة في جميع المعمور وحتى داخل العالم الإسلامي كله.
الشؤون الاجتماعية :
ــ الزكاة والضرائب والرسوم :
فرض الإسلام الزكاة على الموسرين وحدد الله مصارفها بنفسه في القرآن الكريم. وقرنها بالصلاة في الوجوب وجعلها أحد أركان الإسلام الخمسة. وسوﱠى أبو بكر الصديق في القتال بين تاركي الصلاة ومانعي الزكاة. وكانت الزكاة على عهد النبي  تجبى إلى بيت المال بواسطة السعاة إلى أن ترك عثمان بن عفان إلى من تجب عليهم الزكاة شأن دفعها لبيت المال تلقائيا مؤولا آية: ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾() على أنها تنص على حق الإمام في أخذ الزكاة ولا تلقي عليه مسؤولية وجوب أخذها وجمعها. فالناس يدفعونها نيابة عنه. والقصد من الآية هو استحصال الزكوات لا قيام السلطة العليا نفسها بجمعها.
واليوم استحدثت الدول في العالم (ومنها دول الإسلام) نظام الضرائب المباشرة بالنسبة للأفراد والشركات، والرسوم غير المباشرة على الاستهلاك والمعاملات التجارية. وتصرف الدولة من ضرائبها على بعض مصارف الزكاة بتأويل مصرف “سبيل الله” على معناه الواسع فتبني المدارس والمطارات وتشيد الطرقات وتقيم السدود وتجيـﱢش الجيوش وتفتح السفارات في العالم وتنمي الاقتصاد وتبتعد به عن الركود.
إن الاجتهاد المعاصر مطلوب منه النظر في مصارف الزكاة طبقا لما جرت عليه أعراف صرف الضرائب، والوصول إلى الحكم الشرعي بالجواب على التساؤلات التالية:
هل يعفي استخلاص الضرائب الدولة من جمع الزكوات؟ وهل يترك للواجب عليهم أداء الزكاة صرفها تلقائيا على مصارفها جامعين بين أداء الزكوات وأداء الضرائب؟
أو هل تأخذ الدولة الزكاة من أصحابها وتضيفها للضرائب وتدمجها في بيت المال ويعفي بذلك المسلم من أداء الزكاة لإدماجها في الضرائب؟ وما هي مصارف الزكاة التي يمكن شرعا أن تكون من مصارف الضرائب والرسوم؟ ومن يتكفل بالفقراء والمساكين والأقارب المحتاجين إذا ما جمعت الدولة الزكاة وصرفتها على شؤون الدولة؟ وأسئلة أخرى لا بد أن يطرحها الاجتهاد بعد أن ينظر المختصون في شؤون الضرائب والزكاة في طريقة الملاءمة بين نظاميهما: الشرعي بالنسبة للزكاة والمدني بالنسبة للضرائب.
ــ شؤون الأسرة :
يتهم خصوم الإسلام ديننا الحنيف بأنه دين متخلف في مجال شؤون الأسرة، وخاصة في معاملته للمرأة وحرمانها من الحقوق. ويمثلون لذلك بإعطائه للرجل حق القوامة على المرأة، وجواز تعدد الزوجات، وضرب الزوج زوجته، وقبول الشهادة من رجل في مقابل امرأتين. والمطلوب من الاجتهاد توضيح دور المرأة المذكـﱢرة المشار إليها في القرآن القائلة: ﴿فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكـﱢر إحداهما الأخرى﴾()، والنظر فيما إذا كان لا بد من إضافة المرأة المذكورة ـ وهي ليست شاهدا بالنسبة لجميع النساء، أو إن وجود المرأة المذكـﱢرة إنما هو بالنسبة لنوع غير قادر ولا كفء منهن يخشى بسببه أن تضل إحداهما فتحتاج إلى تذكيرها من الأخرى.
كما يمثلون لهضم حقوق المرأة بترك حرية التطليق للرجل، وبالاختلاف القائم بين العلماء حول إعطاء المرأة متعة الطلاق أهي واجبة أو مندوبة فقط أم لا حق لها فيها بالمرة كما هو معمول به في بعض المجتمعات الإسلامية، وفرض الحجاب الغليظ على المرأة بما يجعلها محرومة من المساهمة بجانب الرجل في بناء المجتمع، وما يترتب على ذلك في فهوم بعض الفقهاء من إجحاف بحق المرأة واعتبارها أقل قيمة وكرامة ودون الرجل. ومن ذلك قول بعض من يجهلون السياق اللغوي أن الله أمر المرأة بالحجاب في قوله تعالى: “﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبيء إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه. ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث. إن ذلكم كان يؤذي النبيء فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق. وإذا سألتموهن فاسألوهن من وراء حجاب﴾() بينما هذا الخطاب موجه للرجال لا النساء. وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب قال للرسول: “إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن” وهذا يعني أنه إلى حين وصول النبي للمدينة وزواجه لم تكن زوجاته محجبات والآيات التي نزلت في مكة قبل الهجرة لا تنص على الحجاب الغليظ، وإنما على إدناء النساء عليهن من جلابيبهن تمييزا للمؤمنات من المومسات، وعلى الضرب بخمرهن على جيوبهن، وعلى نبذ تبرج الجاهلية. فأنزل الله: ﴿وإذا سألتموهن فاسألوهن من وراء حجاب﴾: أي أن يقف الرجال وراء حجاب. والواو وهم للذكور العقلاء كما تقول قواعد اللغة العربية. وهذا نموذج لما وقع فيه الجاهلون بالعربية من أخطاء ناشئة عن سوء فهم النص.
والملاحظ أن أغلبية العالم الإسلامي تجاوزت في ممارساتها على أرض الواقع العوائق المجحفة بمساواة الرجال والنساء في الأحكام، وأعطت للمرأة حقوق الرجل أو كادت تسوﱢي بينهما فيما لم ينص الشرع على اختلافهما فيه بسبب اختلاف الأدوار والطبائع. ومن هنا يحسن النظر في موضوع القوامة والبحث عن حكم الشرع فيما إذا لم تتوفر شروطها في الزوج كأن يكون الزوج جاهلا والزوجة مثقفة عالمة وأكثر رشدا للسهر على حسن التصرف في شؤون البيت، أو كان الزوج لا ينفق على البيت والزوجة هي التي تنفق.
وقد أجاز الفقهاء أن تتزوج المرأة بالمعتوه إذا رضيت فهل في هذه الحالة يبقى المعتوه قيما على المرأة وشؤون البيت؟ إذا كان الجواب لا فإن ذلك يعني أن قضية القوامة لها شروطها وظروفها وان حكمها قابل للنظر على حسب توفر أسبابه أو عدمه.
كذلك ينبغي النظر في الحجاب المؤدي إلى حرمان المرأة من التعلم والتعليم والعمل في مكاتب الدولة لتسيير الإدارة، والنظر في حرمانها من الولاية الخاصة والولاية العامة. مع ملاحظة أن المرأة ارتقت اليوم في بعض أقطار الإسلام إلى مكانة مرموقة في المعرفة والعلم تتفوق بها أحيانا على أخيها الرجل، ولم تعد تلك المرأة الجاهلة الضعيفة المحتاجة إلى سند الرجل.
فالتطور دفع بالمجتمعات الإسلامية إلى تبني إكراهات المجتمع العصري، لكن بقي علماؤنا ينظرون إلى ذلك على أنه انحراف وفسوق. فما هو الحق في كل ذلك؟ أصحيح أن الحجاب الإسلامي هو الحجاب الذي يغطي جميع جسد المرأة بما في ذلك الوجه واليدان؟ أو أنه حجاب لا يعوق المرأة عن الحركة ولا يفرض عليها لزوم الخلوة في البيت، ولا يحول بينها وبين التعاطي مع ما استجد في العصر من المباحات؟
نعم في القرآن آيات أخرى تحدد شكل الحجاب ومداه وأسباب تكليف المرأة به، وأن الحجاب المطلوب هو اللباس المحتشم المانع من التبرج وإبداء مفاتن المرأة وليس هو الحجاب الموجه إلى الذكور في الآية السالفة. وما حقيقة الأمر الموجه في سورة الأحزاب إلى نساء النبي بالوقر في بيوتهن ﴿وقرن في بيوتكن﴾() أهو خاص بهن كما قال به أكثرية المفسرين أم هو عام؟ والواجب رفع اللبس، ليقصر على زوجات النبي ضمن خصوصياتهن. ويقع بعض الفقهاء في خطأ عندما يقولون بحرمة اختلاط الرجال بالنساء في السوق والإدارة والمعمل، في حين أن المحرﱠم هو اختلاء (وليس اختلاط) الرجل بالمرأة. أما الاختلاط فلم يرد به نص شرعي. ألا يختلط الرجال بالنساء في مناسك الحج طوافا وسعيا ووقوفا بعرفة؟ ألم يختلط الرجال بالنساء في غزوات الرسول؟ ألم تقف السيدة عائشة خطيبة في الرجال والنساء في موقعة الجمل؟
أصحيح كذلك أن آية النشوز التي نصت على ضرب الزوجة على أنه خيار ثالث بعد الموعظة والهجر في المضاجع أعطت للرجل حق ضرب زوجته كما يشاء ويهوى؟ أو أنها ـ كما يقول البعض ـ إنما جاءت لإقرار عرف كان عند بعض العرب، وأن الضرب يصبح حراما شرعا إذا لم يوجد هذا العرف أو إذا لم يبق معمولا به؟ خصوصا وأن أحاديث نبوية استنكرت أن “يضاجع الرجل زوجته بالليل ويضربها كالعير في النهار”.
ونقول مثل ذلك بالنسبة لتعدد الزوجات الذي لم يقره النبي من صهره علي بن أبي طالب الذي عرضت عليه قبيلة بني هشام بن المغيرة أن يتزوج بإحدى بناتها ضرة على السيدة فاطمة فلم يأذن النبي بذلك قائلا: “لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يطلق علي ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما يؤذيها”. وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يشرع لأمته ما لا يشرعه لابنته.
ونقف عند هذه الأمثلة علما بأن اجتهاد اليوم مطالب بإعمال الفكر لاستنباط أحكام شرعية لا تمس بصورة الإسلام المشرقة في العدل والسماحة وعدم التكليف بالحرج، وإقرار ما جاءت به السنة من أن النساء شقائق الرجال في الأحكام، وتبديل كل حكم فيه ضرر للمرأة عملا بقاعدة لا ضرر ولا ضرار. والابتعاد عن تقرير كل تشريع يرغم فيه الرجل المرأة على ما لا تقدر عليه فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أو يخلق فيه تسلط الزوج على الزوجة ما يحدث في بيت الزوجية شقاقا وخصاما يفرغان البيت من طبيعته بوصفه بيت التساكن والتراحم والمودة، وعدم العمل بكل فقه يقر الإكراه في العلاقة بين الزوجين ويخضع البنت لإكراه وليها على الزواج بمن يريد هو. فلا إكراه في الدين. والزواج شعيرة دينية للتحصين من الفواحش.
أقول هذا وأنا أعلم أن المجالات التي أشرت إليها وقعت فيها المجازفة تطبيقا وممارسة. ونتج عن ذلك سيادة عادات وأعراف ترسخت بالتكرار وابتعدت به عن سماحة الإسلام ويسره وعدله، وخالفت أحيانا حتى نصوصه الشرعية الثابتة. ومن واجب الاجتهاد الإسلامي أن يرفع هذه المجازفات ويرجع أحكام المجالات المذكورة على ما جاء به الكتاب والسنة، لا إلى ما انتهى إليه تطبيقها من جمود ومبالغة وتعسف كانت لها أسبابها في ظروف اجتماعية اندثرت.
وأعتقد أنه لو روعي في إصلاح مدونة أحكام الأسرة هذه المقاربة التي أدعو إليها لأمكن تلبية كثير من مطالب المرأة لأن في إرضاء الكثير فيها ما لا يتنافى مع تعاليم الإسلام وأخلاقه الكريمة السمحة. خاصة إذا شمل إصلاح المدونة إصلاح مساطر القضاء التي ينتج عنها الحيف والظلم.
نذكر في ختام هذه الدراسة أن الاجتهاد المعاصر مطوﱠق برسالة تجديد الأحكام الفقهية بالإبقاء على ثوابت الكتاب والسنة ومراجعة قراءتها لفهمها أكثر، والقيام باجتهاد يستوعب المستجدات ويأخذ بأحسن وأفضل ما فيها، ويهدف إلى تلميع صورة الإسلام حتى تعود إلى إشراقها، والعمل ما أمكن على مجاراة الاجتهاد مقتضيات العصر التي لا تتناقض مع روح الشريعة، والتأقلم مع المستجدات السليمة التي أصبح بعضها من الأعراف السائدة التي يثبت بها الشرع كما يثبت بالنص. وهي قاعدة أصولية تعامل معها المجتهدون في عهود ازدهار الاجتهاد.
وبذلك يضمن لديننا الحنيف المزيد من الانتشار عبر المعمور، وتقبل المسلمين أحكامه بالرضى والإذعان، وإقبال شبابنا الحائر المتردد على إسلام العدل والسماحة والانفتاح والتيسير والوسطية. ولا شيء يحول دون ذلك أكثر من تعطيل الاجتهاد وتوقفه والاقتصار على نقل أقوال السابقين أو سوء استعمالها فيما لا يحقق مصلحة ولا يرفع ضررا، مما يعطي عن الإسلام صورة ظلامية لا تعكس حقيقة إسلام التنوير الذي قال عنه القرآن الكريم في سورة المائدة: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتـﱠبع رضوانه سبل السـﱠـلام ويخرجهم من الظﱡلمات إلى النـﱡور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾().